Skip to main content

Full text of "مكتبة أبي حامد الغزالي"

See other formats




5 -ظ كن 





سير 
يما 


سال 


ليمي 
3 
1 





2 ص 4 
متام تت الإسلككامرٌ 
لو حاو ع1 ود نك جتن عَسَاا اوت 
هه 5 هما » 0 0 و 


لضم 


ه معتراي السّالكيت 


دارالكتب العلميةقة 
هلإلا “اق نمامكا'لة عدم 
© 

لا 

أسسها رك قات بوضك ستنة 1971 بَيرّوت - لبنَاد 
«ممقطع | - أسملع8 1971 منملزة8 ألم همس ةطماا] برط .غوع 
هط - طأأنتمويزء8 1971 مناملتزقظ8 ألم دس قطهق] مهم عتاطماع 





الكتاب : مجموعة رسائل 


الإمام الفزالي 


التقكه: غق*نامزدالا : 11016 
؟اقعة ت)-أة صحقما-اح 
( القعةذان-اة 33 1ءاة أه كو متأهاءء 5د أل 156 ) 


التصنيف : فقه وتصوف 








ترم . حأ ت مراص أذ -ات © منمل بوط 


2 
موأ أنا5 300 ع06060نام5أننال :013551116811011 3 
ع 
المؤلف : أبوحامد محمد بن محمد الغزالي 5 
2 
آاق632-|3 0ق نمث : 007نم 
1 
الناشر :دار الككب العلمية-بيروت 0 
ألماع8 - طهلزتصااداخ طماهكا-اخ روم : ,ع5 أ اطنط َّ 
© 
ص 
ع 
عدد الصفحات 5976 لت “تا 
قياس الصفحات 1724 52 5 
ب 
سئة الطباعة .1434 .م 2013 نكا 8 
: 1 - 
بلد الطباعة : لبنان ممموطع ا :صا لمأمامص ح 
الطبعة :السادسة "م : ملاع 78 
: 
- 
0 
1-5 
2 
32 
2110100 0 لةلزأتمأاءاق طه]م)اءاة 36" © زط كأذوة علاأونالرع 
30 ]511 1" 6 لزقم نملأقء اطلام ذأطا أه )دم واطا مممواع-أبماع8 
111/00ا عاق /0ة لاط ,0 0مه؟ لإمة مأ لعاناطؤ5أل,لعءنلمعمع؟ ,130513160 
الكتتكتتت 2 صمل ردن نلك فيدطاد 0019 966 إن ورئ رو ووعاورد إقيهاناء؟ /ه عكدط قال 3 10 6مك ]0 كتدعم 
تحتتإىي كعحاذاأطنم عط أه ممأككاسمعم مغانت ,ملام عا 
هه 
حىحلآسٍ اه دأ دلززه للق ططه)ه) لمق عد © ذ كغمع5ث: رعرع زدنانءية كاأمل كاه 


طقبزاساأ-اذ ممؤم»ا-الة 032 
2 804 5 961+ هآ 
3 065+ 6 
بمممةطعا١)نمأع8‏ 11-9424 :عرم8.ومم 
0 1107 أإدماء8 طماهك-اة لورز8 


عرمون: القبة. مبنى دار الكتب العلمية 
هاتف 7١/ا١/ ١18٠١‏ 0 اآحد 
/ 65١ل‏ 4 اأحد 
بيروت-لبنان 
لعفف ل 


978-2-7051-22-8 لا158 
4 -2--2-7451 لاق15 
| 15248 782705 


ص.ب:11-51714 
رياض الصلح-بيروت. 


9 


80 له0 00,2000 200,61 معد 6مع) عأنا10 قطنا طأنامارزع8 
مناة 5305 عأأة].كازةم كناما 60 ,5ة0660)م كلام قمع أأءن3م عمقم 
أمقمعنع امم عا غأدرعددوت اع عان )| اندع سملل" تدم عمو عانادا 6م 

,031765 ناز كع أناكالامم 065 


جميع حقوق الملكية الأدبية والفنية محفوظة لدارالكتب العلمية 
بيروت-لبنان ويحظر طبع أو تصوير أو ترجمة أو إعادة تنضيد الكتاب 
كاملاً أو مجزأ أو تسجيله على أشرطة كاسيت أو إدخاله على الكمبيوتر 
أو برمجته على أسطوانات ضوئية إلا بموافقة الناشر خطيا. 


الجكمّة فى مَخلوقات الله عر وجلّ 


سلا إن لمن اليم 
وصلّى الله على سيّدنا محمد وآله وصحبه وسلّم 
خطبة الكتاب : 


الحمد لله الذي جعل نعمته في رياض جنان المقربين. وخص بهذه الفضيلة من 
عباده المتفكرين». وجعل التفكر في مصنوعاته وسيلة لرسوخ اليقين في قلوب عباده 
المستبصرين, استدلوا عليه سبحانه بصنعته فعلموه وتحققوا أن لا إله إلا هو فوحدوه. 
وشاهدوا عظمته وجلاله فنزهوه. فهو القيم بالقسط في جميع الأحوال» وهم الشهداء 
على ذلك بالنظار والاشتداء ليرا انه النتلم القاكر المليمم بكاوك ىقال الخريم . 
لِشَهِدَ الله أنهُ لا إِلَهَ إلا هُوّ وَالمَلابْكَةٌ وأولو الجلم قائماً بالقِسطٍ لآ إِلَّهَ إلا هُوَ العزيرٌ 
الحكيم4<. والصلاة والسلام على سيد المرسلين وإمام المتقين. وشفيع المذنبين 
محمد خاتم النبيين» وعلى آله وصحبه وشرف وكرم إلى يوم الدين. 

أما بعد: يا أخي وفقك الله توفيق العارفين, وجمع لك خير الدنيا والدين» إنه لما 
كان الطريق إلى معرفة الله سبحانه والتعظيم له في مخلوقاته والتفكر في عجائب 
مصنوعاته . وفهم الحكمة في أنواع مبتدعاته. وكان ذلك هو السبب لرسوخ اليقين» وفيه 
تفاوت درجات المتقين. وضعت هذا الكتاب منبهاً لعقول أرباب الألباب بتعريف وجوه 
من الحكم والنعم التي يشير إليها معظم آي الكتاب. فإن الله تعالى خلق العقول وكمل 
هداها بالوحي وأمر أربابها بالنظر في ل د ا 
في مضتوغاته إكوله يانه :اوقل انْظروا ماذًا في السَّمواتِ والأرْضٍ #<"). و 
«ِوَجَعَلنا من نّ الماءٍ كل شيءٍ حي حي أقلا يُؤْمِنُونَ م#©) . إلى غير ذلك من الآيات 28 


١4 سورة آل عمران: الآية‎ )١( 
,١١١ (؟) سورة يونس : الآية‎ 
صورة الأنبياء : الآية و‎ (7 


والدلالات الواضحات التي يفهمها متدبرهاء والمترقي في اختلاف معانيها يعظم 
المعرفة بالله سبحانه التى هى سبب السعادة. والفوز بما وعد به عباده من الحسنى 
وزيادة. 00 

وقد بوبته أبواباً يشتمل كل باب على ذكر وجه الحكمة من النوع المذكور فيه من 
الخلق. وذلك حسب ما تنبهت له عقولنا فيما أشرنا إليه. مع أنه لو اجتمع جميع 
الخلائق على أن يذكروا جميع ما خلق الله سبحانه وتعالى. وما وضع من الحكم في 
مخلوق واحد من مخلوقاته لعجزوا عن ذلك وما أدركته الخلائق من ذلك ما وهب الله 
سبحانه لكل منهم وما سبق له من ربه سبحانه . 

والله المسؤول أن ينفعنا به برحمته وجوده . 

باب 
التفكر في خلق السماء. وفي هذا العالم 

قال الله تعالى : ٍَأقلَمْ ينْظُرُوا إلى السّماءٍ فوَْهُمْ كَل ينها وَريْنهَاوَمَا لا مِنْ 
فُرُوجٍ 2204. وقال سبحانه وتعالى : < اللَّهُ الْذِي حلّقَ سَبْمَ سَمَواتِ204. اعلم 
رحمك الله اذا تأملت هذا العالم بفكرك وجدته كالبيت المبني المعد فيه جميع ما يحتاج 
إليه. فالسماء مرفوعة كالسقف, والأرض ممدودة كالبسط. والنجوم منصوبة كالمصابيح 
والجواهر مخزونة كالذخائرء وكل شىء من ذلك معد مهيأ لشأنه, والإنسان كالمالك 
لبيك المخرل لها افيه «فضروب البات لمازينة» وأصناف الحيدوانات: مصر وفة ف 
مصالتعت فشان يانه السماء وهل ستتيحانه لزئها اعد الألوات مرافقة للا بضار وتقؤية 
لها ولوكانت أشعة أو أنواراً لأضرت الناظر إليها. فإن النظر إلى الخضرة والزرقة موافق 
للأبصار. وتجد النفوس عند رؤية السماء في سعتها نعيماً وراحة لا سيما إذا انفطرت 
نجومها وظهر نور قمرهاء والملوك تجعل في سقوف مجالسها من النقش والزينة ما يجد 
الناظر إليه به راحة وانشراحاً. لكن إذا داوم الناظر إليه نظره وكرره مله وزال عنه ما كان 
يجده برؤيته من البهجة والانشراح . بخلاف النظر إلى السماء وزينتها فإن الناظر إليها من 
الملوك فمن دونهم إذا ضجروا من الأسباب المضجرة لهم يلجئون إلى ما يشرحهم من 


.5 صورةق: الآية‎ )١( 
(؟) سورة الطلاق: الآية ؟1.‎ 


النظر إلى السماء وسعة الفضاء. وقد قالت الحكماء: يحذوك عندك من الراحة والنعيم 
في دارك بمقدار ما عندك فيها من السماء. وفيها أنها حاملة لنجومها المرصعة ولقمرها 
وبحركتها تسير الكواكب فتهتدي بها أهل الآفاق وفيها طرق لا تزال توجد آثارها من 
المغرب والمشرق ولا توجد مجردة ولا مقبلة صورة نور. وقيل: إنها أنجم صغار متكائفة 
مجتمعة يهتدي بها على السير من ضل وبحثر في أي جهة كانت فيقصدهاء وقيل: إنها 
المشار إليها في قوله تعالى : «والسَّماءٍ ذاتٍ الحُبّكِ»2"». قيل: الحبك الطرقء وقيل 
ذات الزيئة فهي دلائل واضحة تدل على فاعلها وصنعته محكمة صمدية تدل على سعة 
علم بارثها وأمور ترتييها كما تدل على إرادة منشئها فسبحان القادر العالم المريد. وقيل : 
في النظر إلى السماء عشر فوائد: تنقص الهم. وتقلل الوسواس. وتزيل وهم الخوف. 
وتذكر بالله, وتنشر في القلب التعظيم لله وتزيل الفكر الرديئة» وتنفع لمرض السوداء. 
وتسلي المشتاق وتؤنس المحبين» وهي قبلة دعاء الداعين . 
باب 
في حكمة الشمس 

قال الله سبحانه: طوَجَمَلَ الشّمْسَ سِرَاجاً4». اعلم أن الله سبحانه خلق 
الشمس لأمور لا يستكمل علمها إلا الله وحده. فالذي ظهر من حكمته فيها أن جعل 
حركاتها لإقامة الليل والنهار في جميع أقاليم الأرض . ولولا ذلك لبطل أمر الدين» 
أو لولاه كيف كان يكون الناس يسعون في معايشهم ويتصرفون في أمورهم والدنيا مظلمة 
عليهم؛ وكيف كانوا يتهنون بالعيش مع فقدهم لذة النور ومنفعته ولولا ضياء نورها 
ما انتفع بالأبصار ولم تظهر الألوان. وتأمل غروبها وغيبتها عمن طلعت عليهم وما في 
ذلك من الحكمة, ولولاه لم يكن للخلق هدوء ولا قرار مع شدة حاجتهم إلى الهدوء 
وراحة أبدانهم وخمود حواسهم وانبعاث القوة الهاضمة لهضم طعامهم وتفنيد الغذاءء 
ثم كان الحرص لحملهم على مداومة العمل ومطاولته على ما يعظم مكانته في أبدانهم . 
فإن أكثر الحيوانات لولا دخول الليل ما هدأوا ولا قروا من حرصهم على نيل ما ينتفعون 
به. ثم كانت الأرض تحمى بدوام شروق الشمس واتصاله حتى يحترق كل ما عليها من 
الحيوانات والنباتات. فهي بطلوعها في وقت غروبها في وقت في النور بمنزلة سراج 
(؟) سورة نوح: الآية .1١<‏ 


لأهل بيت يستضاء به وقتأ ويغيب وقتاً ليهتدوا ويقرواء وهي في حرها بمنزلة نار يطبخ بها 
أهل الدار حتى إذا كمل طبيخهم واستغنوا عنها أخذها من جاورهمء وهو يحتاج إليها 
فينتفع حتى إذا قضى حاجته سلمها لآخرين» فهي أبدا منصرفة في منافع أهل الأرض 
تاد لعزي والطلمة على تصاد فا متعار عن يتظافرين على يها يه لاح الغالم وقوافةء 
وإلى هذه القضية الإشارة بقوله : لِثُلْ ْنم إنْ جَعَلَ الله عَليكُمُ اللّيلَ سَرْمَدا إلى يوم 
القيَامَة274. ثم بتقدمها وتأخرها تستقيم الفصول فيستقيم أمر النبات والحيوان» ثم انظر 
إلى مسيرها في فلكها في مدة وهي تطلع كل يوم وتغرب بسير آخر سخر لها بتقدير 
خالقها فلولا طلوعها وغروبها لما اختلف الليل والنهار ولما عرفت المواقيت. ولو انطبق 
الظلام على الدوام لكان فيه الهلاك لجميع الخلق, فانظر كيف جعل الله الليل سكناً 
ولباسا والنهار معاشاء وانظر إلى إيلاجه الليل في النهار والنهار في الليل وإدخاله الزيادة 
والنقصان عليهما على الترتيب المخصوص. وانظر إلى إمالة سير الشمس حتى اختلف 
بسبب ذلك الصيف والشتاء. فإذا انخفضت من وسط السماء برد الهواء وظهر الشتاء , 
وإذا استوت وسط السماء اشتد القيظ. وإذا كانت فيما بينهما اعتدل الزمان فيستقيم 
بذلك أمر النبات والحيوان بإقامة هذه الأزمنة الأربعة من السنة وأما ما في ذلك من 
المصلحة. ففي الشتاء تعود الحرارة ذ في الشجر والنبات فيتولد فيه مواد الثمار ويستكئف 
الهواء. فينشأ منه السحاب والمطرء وتشتد أبدان الحيوان وتقوى أفعال الطبيعة» وفى 
الربيع تتحرك الطبائع في المواد المتولدة في الشتاء فيطلع النبات بإذن الله وينور الشجرء 
وتهيج أكثر الحيوانات للتناسل. وفي الصيف يخمد الهواء فينضج الثمار. وتنحل فضول 
الأبدان. ويجف وجه الأرض فتتهيا لما يصلح لذلك من الأعمال. وفي الخريف يصفو 
الهواء فترتفع الأمراض ويمتد الليل فيعمل فيه بعض الأعمال وتحسن فيه الزراعة.» وكل 
ذلك يأتي على تدريج » وبقدر حتى لا يكون الانتقال دفعة واحدة إلى غير ذلك مما يطول 
لوذكر. 

فهذا مما يدلك على تدبير الحكيم العليم وسعة علمه. ثم تفكر في تنقل الشمس 
في هذه البروج لإقامة دور السنة؛ وهذا الدور هو الذي يجمع الأزمنة الأربعة: الشتاء 
والصيف والربيع والخريف وتسير فيها على التمام وفي القدر من دوران الشمس يدرك 
الغلات والثمار وتنتهي غاياتهاء ثم تعود فتستأنف وقت السير وبمسيرها تكمل السنة 


.ا/١ سورة القصص: الآية‎ )١( 


ويقوم حساب السنة على الصحة على التاريخ بتقدير الحكيم العليم . 

تأمل إشراق الشمس على العالم كيف دبره تبارك وتعالى» فإنها لو بزغت في 
موضع واحد لها لا تعدوه لما وصل شعاعها إلا إلى جهة واحدة وخلت عنها جميع 
الجهات فكانت الجبال والجدران تحجبها عنهاء فجعلها سبحانه تشرق بطلوعها أول 
النهار من المشرق فيعم شروقها ما يقابلها من جهة المغرب. ثم لا تزال تدور وتغشى 
جهة بعد جهة حتى تنتهي إلى الغرب على ما استتر عنها أول النهار. فلا يبقى موضع 
حتى يأخذ بقسطه منهاء ثم انظر إلى مقدار الليل والنهار كيف وقتهما سبحانه على ما فيه 
صلاح العالم فصارا بمقدار لو تجاوزاه لأضرا بكل ما على وجه الأرض من حيوان 
ونبات» أما الحيوان فكان لا يهدأ ولا يقرما دام يجد ضوء النهار وكانت البهائم لا تمسك 
عن الرعي فيؤول أمرها إلى تلفهاء وأما الناث فتدوم عله خبرارة الحيس وتوقجها 
فيجف ويحترق, وكذلك الليل لو امتد مقداره أيضا لكان معوقا لأصناف الحيوان عن 
الحركة والتصرف فى طلب المعاش. وتجمد الحرارة الطبيعية من النبات فيعفن ويفسد 
كالذي يحدث على النبات إذا كان الموضع لا تقع الشمس عليه . 

باب 
في حكمة خلق القمر والكواكب 

قال الله سبحانه وتعالى : ظتَبَارَكَ الذي جَعَلَ في السّماءِ بُرِوٌجاً وجَعُلَ فيها سِرَاجاً 
وقَمَرأ مُِير174). اعلم وفقك الله أن الله سبحانه وتعالى لما جعل الليل لبرد الهواء 
وهدوء الحيوان وسكونه. فلم يجعله سبحانه ظلمة داجية لا ضياء فيها البتة فكان 
لا يمكن أن يعمل عملا فيه. وربما احتاج الناس إلى بعض أعمالهم في الليل إما 
لضرورة أو لضيق وقت عليهم من النهارء وقد يقع ذلك لشدة حرارة أو لغيره من 
الأسباب. فكان ضوء القمر في الليل من جملة ما نحتاج إليه في المعونة على ذلك 
فجعل طلوعه في بعض الليالي» وينقص نوره عن نور الشمس وحرها لثلا ينشط الناس 
في العمل نشاطهم في النهار فينعدم ما به يتمتعون من الهدوء والقرار فيضر ذلك بهم. 
وجعل في الكواكب جزء من النور يستعان به إذا لم يكن ضوء القمر؛ وجعل في 
الكواكب زينة السماء وأنسا وانشراحا لأهل الأرض شيئا ما ألطف هذا التدبيرء وجعل 


.3١ سورة الفرقان: الآية‎ )١( 


الظلمة دولة ومدة للحاجة إليها. وجعل خلالها شيئاً من النور ليكمل به ما احتيج إليه ثم 
في القمر علم الشهور والسنين وهو صلاح ونعمة من الله. ثم في النجوم مآرب اخرى 
فإن فيها دلائل وعلامات على أوقات كثيرة لعمل من الأعمال كالزراعة والغراسة 
والاهتداء بها في السفر في البر والبحر وأشياء مما يحدث من الأنواء والحر والبردء وبها 
يهتدي السارون في ظلمة الليل وقطع القفار الموحشة واللجج المائلة كما قال تعالى : 

وهو الذي جَمَلَ لَكُمُ النجُوم لتَهتدوا بهَا في ظَلْمَاتِ ابر والبَحر204. مع مافي 
ترددها في السماء مقبلة ومدبرة ومشرقة ومغربة من البهجة والنضارة» في تصريف القمر 
خاصة في استهلاله ومحاقه وزيادته ونقصانه واستنارته وكسوفه . كل ذلك دلالات على 
قدرة خالقها المصرف لها هذا التصرف ا لإصلاح العالم. ثم انظر دوران الفلك بهذه 
الكواكب في كل يوم وليلة دوراتاً ريا وسيرها معلوم مشاهد فإنا نشاهدها طالعة 
وغاربة» ولولا سرعة سيرها لما قطعت هذه المسافة البعيدة في أربعة وعشرين ساعة. 
فلولا تدبير الباري سبحانه بارتفاعها حتى خفي عنا شدة مشيرها في فلكها لكانت 
تتخطيه عرههها لنبوعة خركنيا كالذى يدت احيانا من النرواق :]ذا دوالك قن التهوه 
فانظر لطف الباري سبحانه في تقدير سيرها في البعد البعيد لكيلا يحدث من سيرها 
حادث لا يحتمل فهي مقدرة في جميع الأحوال على قدر الحاجة. وانظر في هذه التي 
تظهر في بعض السنة وتحتجب في بعضها مثل الثريا والجوزاء والشعرى. فإنها لو كانت 
كلها تظهر في وقت واحد لم يكن لشيء منها دلالة على جهالة تعرفها الناس ويهتدون 
بها. فكان في طلوع بعضها في وقت دون الآخر مايدل على ما ينتفع به الناس عند 
طلوعه مما يصلحهم, ولذلك جعلت بنات نعش ظاهرة لا تغيب لضرب من المصلحة 
فإنها بمنزلة الاعلام التي يهتدي بها الناس للطرق المجهولة في البر والبحر فإنها لا تغيب 
ولا تتوارى. ثم انظر لو كانت واقفة لبطلت الدلالات التي تكون من تنقلات المتنقلة منها 
ومصيرها في كل واحد من البروج كما يستدل على أشياء تحدث في العالم بتنقل 
الشمس والقمر في منازلهما ولوكانت متنقلة كلها لم يكن لمسيرها منازل تعرف ولا رسم 
يقاس عليه لأنه إنما يعرف مسير المتنقلة منها بتنقلها في البروج الدانية» كما يعرف سير 
سائر على الأرض بالمنازل التي يجتاز عليها. فقد صار هذا الفلك شمسه وقمره ونجومه 
وبروجه تدور على هذا العالم بهذا دوراناً دائماً في الفصول الأربعة من السنة لصلاح 


.41/ سورة الأنعام : الآية‎ )١( 


ما فيه من حيوان ونبات وغير ذلك بتقدير العزيز العليم» ومن عظيم الحكمة خلق الأفلاك 
التي بها ثبات هذا العالم على نهاية من الإتقان لطول البقاء وعدم التغيرء فقد كفى الناس 
التغير في هذا الأمر الجليل الذي ليس قدرة ولا حيلة في إصلاحه لو نزل به تغير يوجب 
ذلك التغير أمراً في الأرض . إذ قوام الأرض مرتبط بالسماء. فالأمر في جميع ذلك ماض 
على قدرة الباري سبحانه لا يختل ولا يعتل ولا يتخلف منه شيء عن ميقاته لصلاح 
العالم: فسبحان العليم القدير. 
باب 
في حكمة خلق الأرض 

قال تعالى : «والآرْض فَرَشْنَاها قَبعُمَ المَاهِدُونَ04©. ثم انظر كيف جعل الله 
الأرض مهادا ليستقر عليها الحيوان, فإنه لا بد له من مستقر ولا غنى له عن قوت فجميع 
الأرض محل للنبات لقوته. ومسكن يسكنه من الحر والبرد. ومدفن يدفن فيه ما تؤذي 
رائحته . والجيف والأقذار من أجسام بني آدم وغيرهاء. كما قال سبحانه «آلم نَجْعْلٍ 
الآرْض كِفاتا أحياءً وأمُواتاًه” . قيل في تفسير هذه الآية هذا القول وغيرهء 5 ثم ذلل 
طرنها سحل فيا لك :لطي حاريم لون .روط نه السال عن ممع اد 
الحيوان والحرث والنبات. وجعل فيها الاستقرار والشبات كما نبه على ذلك سبحانه 
وتعالىٍ بقوله: «أخرّج منهًا مَاءَهَا ومُرْعَاهًَا * والجبّال أَرْسَامًا * متاعاً لَكُمْ 
ولأنْعَابكمْ 04 . فأمكن الخلائق بهذا السفر فيها في مآربهم والجلوس لراحتهم والنوم 
لهدوئهم والانتقال لأعمالهم. فإنها لوو كانت رجراجة متحركة لم يستطيعوا أن يتقنوا شيئاً 
من النبات وجميع الصناعات وكانوا لا يتهنون بالعيشن والأرض ترج بهم من تحتهم» 
واعتبر ذلك بما يصيب الناس ة في الزلازل ترهيباً للخلق وتخويفاً لهم لعلهم يتفون الله 
وينزعون عن الظلم والعصيان. فهذا أيضاً من الحكمة البالغة ثم إن الأرض طبعها الله 
بإردة باسة قدو مخسوصن» أرأيت لو أفرط اليبس عليها حتى كرن بعوانيا هرا 
صلداً لما كانت تنبت هذا النبات الذي به حياة الحيوانات» ولا كان يمكن فيها حرث 
ولا بناء فجعل لينها لتتهيأ لهذه الأعمال. ومن الحكمة في خلقها ووضعها أن جعل مهب 
)١(‏ سورة الذاريات: الآية 14 . 
(؟١)‏ سورة المرسلات: الآيتان 6؟ و7 . 
(9) سورة النازعات : الآيات الا 7ل #7 


الشمال أرفع من الجنوب لينحدر الماء على وجه الأرض فيسقيها ويرويها ثم يصير إلى 
البحر في آخر الأمر. فأشبه ذلك ما إذا رفع أحد جانبي السطح وخفض الآخر لينحدر 
الماء عنه. ولولا ذلك لبقي الماء مستبحراً على وجه الأرض فيمتنم الناس من أعمالهم 
وتنقطع الطرق والمسالك بسبب ذلك . انظر إلى ما خلق الله فيها من المعادن وما يخرج 
منها من أنواع الجواهر المختلفة في منافعها وألوانها مثل الذهب والفضة والياقوت 
والزمرد والبسنف ش١2‏ وأشياء كثيرة من هذه الأحجار الشفافة المختلفة في ألوانها. وأنواع 
أخر مما يصلح للأعمال والجمال كالحديد والنحاس والقصدير والرصاص والكبريت 
والزرنيخ والتوتيا والرخام والجبس والنفط وأنواع لوعددت لطال ذكرها وهومما لا ينتفع 
به الناس وينصرف فيما يصلحهم . فهذه نعم يسّرها سبحانه لهم لعمارة هذه الدار. ثم 
انظر إلى إرادة إجادته من عمارتها وانتفاع العباد بها يجعلها هشة سهلة بخلاف مالو 
كانت على نحو خلق الجبال فلو يبست كذلك لتعذرت,. فإن الحرث لا يستقيم إلا مع 
رخو الأرض لزراعة الأقوات والثمر وإلا فلا يتعدى ‏ إذا صلبت ‏ الماء إلى الحب مع 
أن الحب لا يمكن دفنه إلا بعد أن تلين الأرض بالنداوة ويأخذ الورق وهي ضعيفة في 
ابتدائها في الأرض التربة. ويمكن إذ ذلك عملها وتحريكها حتى تشرب ما ينزل عليها 
من الماء فيخلق الله سبحانه عند ذلك العروق ملتبسة بالثرى حتى يقف الشجر والنبات 
على ساقه وجعل ما يخلق من العروق يوازن ما يخلق من الفروع . ومن رحمته في لينها 
أن 0 للناس حفر الآبار ة في المواضع المحتاجة إلى ذلك إذ لو حفرت في الجبال 
لصعب الأمر وشق. ومن الحكمة في لينها تيسير السير للسعادة فيها إذ لو صلبت لعسر 
السير وام تظهر الطرق. وقل نبه الله ارك وتغالى على ذلك بقوله: :مو الَذِي جَمل لَكُم 
الأرض ذَلُويٌ فامُشُوا في مُناكبها»9) . وقال تعالى : ا9وَجَعَلْنا فِيهَا فِجَاجَا سبلا لَعَلَهُمْ 
يَهْتدُونَ2094. ومن ذلك ما يستعين به العباد من ترابها ولينها في البناء وعمل اللبن 
وأواني الفخار وغير ذلك» والمواضع التي ينبت فيها الملح والشب والبورق والكبريت 
أكثرها تربة رخوة. وأيضا أجناس من النبات لا يوجد إلا في التراب والرمل دون الأرض 
المحيلة ويخلق فيها كثير من الحيوان لسهولة حفرها فيتخذون فيها مسارب وبيوتاً يؤوى 
إليها. ومن الحكمة فيها خلق المعادن كما ذكرناء فقد امتن سبحانه على سليمان كلِدٍ 
)١(‏ هكذا الأصل ولم أجده في اللسان. 
(0) سورة الملك: الآية ١6‏ . 
(*) سورة الأنبياء : الآية .7١‏ 


بقوله : ؤِوأْسَلْنَالهُ عيْنَ القطره27©. اي سهلنا له الاتغاعبالتبخاس واطلعاء ه على معدنه 
ب امتناناً على عباده : «وَئْرَلنا الحديذ فيه 0 شديدٌ وَمَنَاِعٌ للناس 24" . والنزول 

بمعنى الخلق كما قال سبحانه : : «وَانْيَلَ لَكُمْ مِنْ نْ الأنعام 246" أي خلق. والهمهم 
ادر نع نافيا ويطك وق عر لانة اب بديه وما يح طون له فى عاك ول زفي 
اتخاذ أوانيهم. وفي ضبطها ما يحتاجون إلى ضبطه وتقويته واتخاذ أنواع من الحجارة 
النفيسة لتبقى فيها كالزجاج ويتخذون منها أواني لحفظ ما يحصل فيها من الأمور النفيسة 
لتبقى فيها سليمة لوقت الاحتياج إليها إذ لا غنى لهم عنهاء وكذلك يستخرج من المعادن 
الأكحال مثل : (الدهبخ(؟» والمرفنعنا) والسادن والتوتيا وغير ذلك من أصناف ينتفعون 
بها فسبحان المنعم الكريم. ومن الحكمة البالغة فيها خلق الجبال. قال الله تعالى : 
«والجبَالَ أرْسَامَا 0*) . وقال تعالى : «وألقى في الأزض, روا سي أنْ تَمِيدَ بكم 94 . 
وقال سبحانه : : «وائْرَلنا من السّماءِ ماءًّ ِقَدَرٍ فأسكتاهُ في الأزض 4"). فقد خلق 
سبحانه فيها الجبال لمنافع متعددة لا يحيط بجميعها إلا الله فمن ذلك أن الله تعالى 
أنزل من السماء المياه ليحيي بها العباد والبلاد. فلو كانت الأرض عارية عن الجبال 
لحكم عليها الهواء وحر الشمس مع رخو الأرض. فكانوا لا يجدون المياه إلا بعد حفر 
وتعب ومشقة. فجعل سبحانه الجبال لتستقر في بطونها المياه ويخرج أولآً فأولاً فتكون 
منها عيون وأنهار وبحار يرتوي بها العباد في أيام القيظ إلى أوان نزول غيث السماءء» ومن 
الجبال ما ليس في باطنها محل للمياه. فجعل الثلج محفوظا على ظاهرها إلى أن يحله 
حر الشمس فيكون منه أنهار وسواق ينتفع بها إلى أوان نزول الغيث أيضاً. 

ومنها ما يكون فيه برك يستقر فيها الماء فيؤخذ منها وينتفع به. ومن منافع الجبال 
ما يثبت فيها من أنواع الأشجار والعقاقير التي لا توجد إلا فيهاء وما يثبت فيها من أنواع 
الأخشاب العظيمة فيعمل منها السفن وتعمر منها المساكن. وفيها الشعارى التي لا يوجد 


.١1 سورة سبا: الآية‎ )١( 

هم سورة الحديد: الآية 56 . 

(5) سورة الزمر: الآية 5 , 

(4) هكذا في الأصل ولم أجده في اللسان. 
(6) سورة النازعات: الآية ؟75. 

() سورة النحل: الآية 18. 

7 سورة المؤمنون: الآية 14. 


ما يعظم من الأخشاب إلا فيهاء وكذلك العقاقير أكثرها لا يوجد إلا بهاء وفيها وهاد تنبت 
مزارع للأنعام ومزارع لبني آدم ومساكن للوحوش ومواضع لأجناح(22 النحل » ومن منافع 
الجبال ما يتخذه العباد من المساكن تقيهم الحر والبرد ويتخذون مدافن لحفظ جدث 
الموتى. وقد ذكر الله ذلك فقال: ©وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الجبّال بِيُوتاً آمنينَ #4 250. ومن 
فوائدها أن جعلت أعلاماً يستدل بها المسافرون على الطرقات في نواحي الأرض 
ويستدل بها المسافرون في البحار على المين والسواحل», ومن فوائدها أن الفئة القليلة 
الضعيفة الخائفة من عدوان من لا تطيقه تتخذ عليها ما يحصنهم ويؤمنهم ويمنعها ممن 
تخافه فتطمئن لذلك. وانظر كيف خلق الله فيها الذهب والفضة وقدرهما بتقدير 
منصوص ولم يجعل ذلك ميسراً ة في الوجود والقدر مع سعة قدرته وشمول نعمته كما 
جدل ها السبحة فى الحياة وما دلت |10 لها عي فر لم لوقه جما قو الا ملح كما 
أشار إلى ذلك بقوله : وَإِنْ مِنْ شيء إلا عِنْدنَا حَرَائئَهُ ومَا نُْرلهُ إلا بقدَرٍ مَعْلوم 04 . 
فسبحان العليم الحكيم . 
باب 
في حكمة البحر 

قال الله تبارك وتعالى : ظطوَهو الذي سَحْرَ البْحرَ اكوا مِنهُ لَحماً طر يَأ 9 , 
اعلم رحمك الله : أن الله سبحانه وتعالى خلق البحار وأوسع فيها لعظم نفعها . فجعلها 
مكتنفة لأقطار الأرض التي هي قطعة من الأرض المستورة بالبحر الأعظم المحيط 
بجميع الأرض. حتى أن جميع المكشوف من البراري والجبال عن الماء بالإإضافة إلى 
الماء كربوة صغيرة في بحر عظيم . فاعلم أن ما حلق في الأرض من الحيوان بالإضافة 
إلى ما خلق فى البحر كإضافة الأرض إلى البحرء وقد شاهدت عجائب فيها ماهو 
مكشوف منهاء فتأمل عجائب البحر فإن فيه من الحيوان والجواهر والطيب أضعاف 
ما تشاهده على وجه الأرضء كما أن سعته أضعاف سعة الأرض. ولعظم سعته كان فيه 
من الحيوانات والدواب العظيمة» ما إذا أبدت ظهورها على وجه البحر ‏ ظن من يراها 
)١(‏ الأجناح: جمم جانح كشاهد وأشهاد أراد به موائلها. 
(؟) سورة الحجر: الآية 87. 
(7) سورة الحجر: الآية ١؟.‏ 
(+:) سورة النحل: الآية .١8‏ 


أنها حشاف 2١‏ وجبال أو جزائر. وما من صنف من أصناف حيوان البر من إنسان وطائر 
وفرس وبقر وغير ذلك إلا وفي البحر أمثالها وأضعافهاء وفيه أجناس من الحيوانات لم 
تعهد أمثالها في البرء وكل منها قد دبره الباري سبحانه وخلق فيه ما يحتاجه ويصلحه. 

ولو استقضصى ذكر ما يحتويه بعضه لاحتاج إلى وضع مجلدات». ثم انظر كيف خلق الله 
اللؤلؤ مدوراً في صدف: تخت الماء وأثبت المرجان في جنح صخور في البحر. فقال 
سبحانه : :. «ِيخرجٌ مِنْهُمَا اللَولُوٌ وَالمَرْجَانٌ 94) . وذلك في معرض الامتنان. وقيل : 

المرجان المذكور في القرآن هو الرقيق من اللؤلق ثم قال: «قبأي آلاء رَيَكُمَا 
ُكَذَبَانِ 04 . وآلاؤه تفضله ونعمه. ثم انظر ما يقذفه من 00 من المنفوع. ثم 
انظر إلى عجائب السفن وكيف مسكنها على وجه الماء تسير فيها العباد لطلب الأموال 
واحصيل ها ليع من اللأغرامن وجعلها بن ابانه ونيكه . فقال : «والفُلكِ الي تجري في 
البْحْرِبِمَا يَنَْعُ الثاس 24. فجعلها بتسخيره تحملهم وتحمل أثقالهم وينتقلون بها من 
أقاليم إلى أقاليم لا يمكن وصولهم إليها إلا بالسفن, ولو راموا التوصل بغيرها لأدى إلى 
أعظم المشقات وعجزوا عن نقل ما ينقل من المنقولات إلى ما بعد البلاد والجهات. 
فلما أراد الله سبحانه وتعالى أن يلطف بعباده ويهون ذلك عليهم خلق الأخشاب 
ملحا اعرد بالوراء الصتماةا جاه رركن ادها ع النقياة عن تعسيها ها بعال ب 
الأثقال وألهم العباد اتخاذها سفناً. ثم أرسل الرياح بمقادير في أوقات تسوق السفن 
وتسيرها من موضع إلى موضع آخر. ثم ألهم أربابها معرفة أوقات هبوبها وفترتها حتى 
يسيروا بالرياح التي تحملها شراعهاء وانظر إلى ما يسره سبحانه في خلقه الماء. إذ هو 
جسم لطيف رقيق سيال متصل الأجزاء كأنه شيء واحد لطيف التركيب سريع القبول 
للتقطع حتى كأنه منفصل مسخر للتصرف قابل للاتصال والانفصال حتى يمكن سير 
السفن فيه. فالعجب ممن يغفل عن نعمة الله في هذا كله. وفي بعضه متسع للفكر. 
وكل ذلك شواهد متظاهرة ودلائل متضافرة وآيات ناطقة بلسان حالها مفصحة عن جلال 
بارئهاء معربة عن كمال قدرته وعجائب حكمته. قائلة: أما ترى تصويري وتركيبي 


)١(‏ الحشاف: جمع حشفة وهي الجزيرة في البحر لا يعلوها الماء أو الصخرة الرخوة في سهل من 
الأرض أه. لسان. 

(؟) سورة الرحمن: الآية 71 . 

(5) سورة الرحمن: الآية 37 . 

(8) سورة البقرة: الآية ١164‏ 


وصفاتي زمنا واختلاف حالي وكثرة فوائدي؟ أيظن ذو لب سليم وعقل رصين أني تلونت 
باب 
في حكمة خلق الماء 


قال الله تبارك وتعالى : (وَجَعلنا مِنَ الماءِ كل شيء حي ألا يُوْمِنُونَ2004. ونا 
سبحانه !لاب ذا نات بجوم كذ لك نميه مجر لم اله ل م 
قوم مُ يَعْدِلُونَ م290 انظر وفقك الله إلى ما منّ به سبحانه وتعالى على عباده بوجود الماء 
العذب الذي به حياة كل من على وجه الأرض من حيوان ونبات. فلو اضطر الإنسان إلى 
شربة منه ومنع منها لهان عليه أن يبذل فيها جميع ما يمكنه من خزائن الدنياء والعجب 
من غفلة العباد عن هذه النعمة العظيمة. وانظر مع شدة الحاجة إليها كيف وسع سبحانه 
على العباد فيهاء ولو جعلها بقدر لضاق الأمر فيها وعظم الحرج على كل من سكن 
الدنياء ثم انظر لطافة الماء ورقته حتى ينزل من الأرض ويخلخل أجزاءها فتتغذى عروق 
الشجر ويصعد بلطافته بواسطة حرارة الشمس إلى أعالي الشجر والنبات وهو من طبعه 
الهبوط. ولما كانت الضرورة تدعو إلى شربة لإماعة الأغذية في أجواف الحيوان 
ليتصرف الغذاء إلى موضعه جعله لشاربه في شربه لذة عند حاجته إليه وقبوله له ويجد 
شاربه فيه نعيماً وراحة: وجعل مزيلا للأدران عن الأبدان والأوساخ عن الثياب وغيرهاء 
وبالماء يبل التراب فيصلح للبناء والأعمال. وبه يرطب كل يابس مما لا يمكن استعماله 
يابساً. وبه ترق الأشربة فيسوغ شربهاء وبه تطفأ عاذبة(" النار إذا وقعت فيها فلا تلتهب 
فيه وأشرف الناس منها على ما يكرهون وبه تزول الغصة إذا اث شرف صاحبها على 
الموت. وبه يغتسل التعب الكل فيجد الراحة لوقته» وبه تستقيم المطبوخات وجميع 
الأشياء التي لا نستعمل ولا تصلح إلا رطبة إلى غير ذلك من مارب العياد التي لا غنى 
لهم عنهاء فانظر في عموم هذه النعمة وسهولة تناولها مع الغفلة عن قدرها مع شدة 
الحاجة إليها. فلو ضاقت لكدرت الحياة في الدنياء فعلم بهذا أن الله تبارك وتعالى أراد 


.7١ سورة الأنبياء: الآية‎ )١( 
1 )2س( سورة النمل: الآية‎ 


15 


بإنزاله وتيسيره عمارة الدنيا بما فيها من حيوان ونبات ومعدن إلى غير ذلك من المناقع 
التي يقصر عنها الوصف لمن يروم حصرهاء فسبحان المتفضل العظيم . 
باب 
الحكمة في خلق الهواء 

قال الله تعالى : ؤِوَأرْسَلْنَا الرّياحَ لَوَاقِحَ فَائْرَلنَا مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَا كُمُوهُ وَمَا 
نتم لَهُ بخَازِنِينَ 2074. اعلم رحمك الله أن الهراء في حلقه(2 تتخلخله الرياح ولولا 
ذلك لهلك جميع حيوان البرء وباستنشاقه تعتدل الحرارة في أجسام - جميع الحيوانات 
لأنه لهم مثل الماء لحيوان البحر: فلو انقطع عن الحيوان استنشاقه 08 الحرارة 
التي فيها إلى قلبها فكان هلاكها بسبب ذلك. ثم انظر إلى الحكمة في سوق السحاب به 
فيقطع المطر بانتقال السحاب في موضع يحتاج إلى المطر فيها للزراعة؛ فلولا لطف 
الباري بخلق الرياح لثقلت السحاب وبقيت راكدة في أماكنها وامتنع انتفاع الأرض بهاء 
ثم انظر كيف تسير السفن بها وتنتقل بحدوثها وهبوبها فتحمل فيها من أقاليم إلى أقاليم 
ممالا يخلق تلك الأشياء فيها فينتفع أهلهاء فلولا تنقلها بالهواء لم تكن تلك الأشياء إلا 
بمواضغها التي خلقت فيها خاصة. ولعسر نقلها بالدواب إلى غيرها من الأقاليم. وللعباد 
ضرورات تدعو إلى ما ينقل إليهم مما ليس يخلق عندهم , ومنافع يكثر تعدادها من طلب 
أرباح لمن يجلها ويعلم فوائدها. ثم انظر إلى ما في الهواء من اللطافة والحركة التي 
تتخلل أجزاء العالم فينقي بحركته عفن الأرض . فلولاه لعفنت المساكن وهلك الحيوان 
بالوباء والعلل؛ ثم انظر إلى ما يحصل منه من النفع في نقل السوافي والرمال إلى 
البساتين وتقوية اافعاني بما ينتقل إليها من التراب بسبب حركة الهواء وتستر وجوه جبال 
بالسافي(2 فيمكن الزراعة فيه وما فصل إلى السواحل مما ينتفع الناس بسببه » وكل ذلك 
بحركة البحر بالهواء فيقذف البحر العنبر وغيره مما ينتفع به العباد في أمورهم . ثم انظر 
كيف يتفرق المطر بسبب حركة الهواء فيقع على الأرض قطرات, فلولا حركة الهواء 
لكان الماء عند نزوله ينزل انصبابة واحدة فيهلك ما يقع عليه ثم يجتمع بلل القطرات 


.7١ سورة الحجر: الآية‎ )١( 

(؟) الحلق: الأهوية بين السماء والأرض واحدها حالق. والهواء: الفراغ . قال تعالى «وأفئدتهم 
هواء» . 

6( السافي : التراب الذي تسفيه الريح . 


فيجتمع أنهاراً وبحاراً على وجه الأرض من غير تضرر ويحصل بذلك مقصودهم على 
أحسن وجه. فانظر إلى أثر رحمة الله. فسبحان اللطيف بخلقه المدبر لملكه. ثم انظر 
عموم هذه الرحمة وعظر نفعها وشمول هذه النعمة وجليل قدرها كما نبه العقول عليها 
بعرله تغالي : 9هُوَ الَذِي انرَلَ مِنَ السُماءِ مَءُ لَكمْ منْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فيه تُسِيمُونَ * 
يبت لَكُم بو الرّرعَ والُْْونَ والنّخبلَ والأعْتَابَ وَمِنْ كل الّمراتِ إن في ذَلِكٌ لآية 
قوم يتَفَكْرُوَن» 200 تر نيام اله وعطلم الحكم تود يجان الضحر تخا 
نزول الغيث فصارا يتعاقبان لما فيه صلاح هذا العالم» فلو دام واحد منهما عليه لكان 
فساداً. ألا ترى إلى الأمطار إذا توالت وكثرت عفنت البقول والخضراوات وهدمت 
المساكن والبيوت وقطعت السيل ومنعت من الأسفار وكثير من الحرف والصناعات ولو 
دام الصحو لجفت الأبدان والنبات. وعفن الماء الذي : فى العيون والأودية. فأضر ذلك 
بالعباد. وغلب اليبس على الهواء فاأحدث ضرراً آخر من الأمراض. وغلت بسبيه 
الأسعار من الأقوات. وبطل المرعى وتعذر على النحل ما يجده من الرطوبة التي يرعاها 
على الأزهار. وإذا تعاقبا على العالم اعتدل الهواء ودفع كل واحد منهما ضرر الآخر 
فصلحت الأشياء واستقامت. وهذا هو الغالب من مشيئة الله . 

فإن قيل: قد يقع من أحدهما ضرر في بعض الأوقات . قلنا: قد يكون ذلك لتنبيه 
الإنسان بتضاد الأشياء على نعمة الله تعالى وفضله ورحمته أنه هو الغالب فيحصل لهم 
بتلك انزجار عن الظلم والعصيان, ألا ترى من سقم جسمه احتاج إلى ما يلائمه من 


همودصم 


ا سن . قال الله تعالى : «ولكن ينل 
باب 
في حكمة خلق النار 
قال الله تعالى :اكرام الار التي نُورون » أأكم أنشَأئم عَجَرْتَها أم ني 
المُنْشِنُونَ * نحن جَعَلَامَا تَذْكرَة وَمتاعا لِلْمُقَوينَ * فَسَبْحْ باسم ريك العظيم 278 . 
)١(‏ سورة النحل : الآيتان ٠١‏ و١١.‏ 


2( سورة الشورى: الآية /ا؟ . 
(*) سورة الواقعة : الآيات 74-'/١‏ 


اعلم وفقنا الله وإياك: أن الله خلق النارء وهي من أعظم النعم على عباده. ولما علم 
سبحانه وتعالى ‏ أن كثرتها وبئها في العالم مفسدة جعلها الله بحكمته محصورة حتى إذا 
احتيج إليها وجدت واستعملت في كل أمر يحتاج إليها فيه. فهي مخزونة في الأجسام. 
ومنافعها كثيرة لا تحصى . فمنها ما تصلحه من الطبائخ والأشربة التي لولاها لم يحصل 
فيها نضج ولا تركيب ولا اختلاط. ولا صحة هضم لمن يستعملها في أكل وشرب. 
فانظر لطف الباري سبحانه في هذا الأمر المهم ثم انظر فيما يحتاج الناس إليه من الذهب 
والفضة والنحاس والحديد والرصاص والقصدير وغير ذلك, فلولاها لم يكن شيء من 
الانتفاع من هذه الأشياء. فبها يذاب النحاس فتعمل منه الأواني وغيرها. وقد نبه الله 
تعالى على مثل ذلك بأنها نعمة توجب الشكر. فقال تعالى: اْمَلُوا آلَ دَاوَة 
شْكْراً274. وبه يلين الحديد فيعملون به أنواعاً من المنافع والآلات للحروب مثل 
الدروع والسيوفت إلى غير ذلك مما يطول تعداده. وقد نبه الله تعالى على مثل هذاء. 
فقالٍ : لِوَائرلنَ الحَدِيدَ فيه بَاسٌ شَديدٌ وَمَنَافِعُ للنّاس 2076© . وقال تعالى : (ِلِتخْصِتَكُمْ 
مِنْ بَأسِكُمْ فَهِل أنْنُمْ شَاكِرُونَ»04) . ومنه يعمل آلات للحرث والحصاد وآلات تتأثر بها 
النارء وآلات يطرق بهاء وآلات لقطع الجبال الصمة, وآلات لنجارة الأخشاب مما يكثر 
تعدادها. فلولا لطف الله سبحانه بخلق النار لم يحصل من ذلك شيء من المنافع. 
ولولاها لما كان يتهيأ للخلق من الذهب والفضة نقود ولا زينة ولا منفعة. وكانت هذه 
الجواهر معدودة من جملة الأتربة؛ ثم انظر إلى ما جعل الله تعالى في النار من الفرح 
والترح عندما تغشى الناس ظلمة الليل كيف يستضيكون بها ويهتدون بنورها في جميع 
أحوالهم من أكل وشرب وتمهيد مراقد. ورؤية ما يؤذيهم ومؤانسة مرضاهم وقصدها 
والعمل عليها برأ وبحرا فيجدون بوجودها أنساً حتى كأن الشمس لم تغب عن أفقهم. 
ويدفعون بها ضرر الثلوج والرياح الباردة ويستعينون بها في الحروب ومقاومة حصون 
لا تملك إلا بهاء فانظر ما أعظم قدر هذه النعمة التي جعل سبحانه حكمها بأيديهم إن 
شاءوا خزنوها وإن شاءوا أبرزوها. 


.١ سورة سباً: الآية‎ )١( 
. سورة الحديد: الآية ه»‎ )1١( 
.4 سورة الأنبياء : الآية‎ )9( 


باب 
في حكمة خلق الإنسان 

قال تعالى : طوَلَقَدْ حَلَفنَا الإنْسَانَ مِنْ سّلالَةٍ مِنْ طِين274 إلى آخر ما وصفه 
سبحانه. اعلم وفقك الله تعالى : أن الله عرّ وجل لما سبق في علمه خلق الخلق وبثهم 
3 هذه الدارء وتكليفهم فيها للبلوى والاختبار. خلقهم سبحانه متناسلين بعضهم من 
ض. فخلق سبحانه الذكر والأنثى وألقى في قلوبهم المحبة والدواعي حتى عجزوا 
ا وعدموا الحيلة في اجتناب الشهوة. فساقتهم الشهوة المفطورة في خلقهم إلى 
الاجتماع وجعل الفكرة تحرك عضواأ مخصوصاً به إلى إيداع الماء في القرار المكين 
الذي يخلق فيه الجنين» فاحتميت في النظقة مق سائر البلان رصرجك ماء:ؤافقا مندفعا 
من بين الصلب والترائب بحركة مخصوصة. فانتقلت بسبب الإفلاج من باطن إلى 
باطن . فكانت مع انتقالها باقية على أصلها. لأنها ماء مهين أدنى شيء يباشرها يفسدها 
ويغير مزاجهاء فهي ماء يختلط جميعه مستوية أجزاؤه لا تفاوت فيها بحال. فخلق 
سبحانه منه الذكر والأنثى بعد نقلها من النطفة إلى العلقة إلى المضغة إلى العظام» ثم 
كساها اللحم وشدها بالأعصاب والأوتار ونسجها بالعروق. وخلق الأعضاء وركبها فدور 
سبحانه الرأس وشق فيها السمع والبصر والأنف والفم وسائر المنافذ. فجعل العين 
للبصر. ومن العجائب سر كونها مبصرة للأشياء. وهو أمر يعجز عن شرح سره. وركبها 
من سبع طبقات لكل طبقة صفة وهيئة مخصوصة بهاء فلو فقدت طبقة منها أو زالت 
لتعطلت عن الابصار, وانظر إلى هيئة الأشفار التي تحيط بها وما خلق فيها من سرعة 
الحركة لتقي العين مما يصل إليها مما يؤذيها من غبار وغيره» فكانت الأشفار بمنزلة باب 
يفتح وق اتناف ويغلق في غير وقت. ولما كان المقصود من الأشفار جمال العين 
والوجه جعل شعرها على قدر لا يزيد زيادة تضر بالعين ولا تنقص نقصاً يضر بهاء وخلق 
في مائها ملوحة لتقطيع ما يقع فيهاء وجعل طرفيهما منخفضين عن وسطهما قليلا 
لينصرف ما يقع في العين لأحد الجانبين» وجعل الحاجبين جمالا للوجه وسترا للعينين 
وشعرهما يشبه الأهداب في عدم الزيادة المشوهة. وجعل شعر الرأس واللحية قابل 
للزيادة والنقص. فيفعل فيهما ما يقصد به الجمال من غير تشويه. ثم انظر إلى الفم 


.١5؟ سورة المؤمنون: الآية‎ )١( 


واللسان وما في ذلك من الحكم. فجعل الشفتين ستراً للفم كانهما باب يغلق وقت 
ارتفاع الحاجة إلى فتحه. وهوستر على اللثة والأسنان مفيد للجمال. فلولاهما لتشوهمت 
الخلق. وهما معينان على الكلام واللسان للنطق والتعبير عما في ضمير الإنسان وتقليب 
الطعام وإلقائه تحت الأضراس حتىٍ يستحكم مضغه. ويسهل إبتلاعه. ثم جعل الأسنان 
أعدادا متفرقة ونم تكن عظما واحداء فإن أصاب بعضها ثلم انتفع بالباقي. وجمع فيها 
بين النفع والجمال. وجعل ما كان منها معكوسا زائد الشعب حتى تطول مدته مع الصف 
الذي تحتهء وجعلها صلبة ليست كعظام البدن لدعاء الحاجة إليها على الدوام. وفي 
الأضراس كبر وتسريف لأجل الحاجة إلى درس الغذاء. فإن المضغ هو الهضم الأول. 
وجعلت الثنايا والأنياب لتقطيع الطعام وجمالاً للفم فاحكم أصولهاء وحدد ضروسهاء 
وبيض لونها مع حمرة ما حولهاء متساوية الرؤوس متناسبة التركيب, كأنها الدر 
المنظوم . ثم انظر كيف خلق في الفم نداوة محبوسة لا تظهر إلا في وقت الحاجة إليها, 
فلو ظهرت وسالت قبل ذلك لكان تشويهاً للإنسان. فجعلت ليبل بها ما يمضغ من 
الطعام حتى يسهل تسويغه من غير عنت ولا ألم. فإذا فقد الأكل عدمت تلك النداوة 
الزائدة التي خلقت للترطيب؛ وبقي منها ما يبل اللهوات والحلق لتصوير الكلام ولثلا 
يجف. فإن جفافه مهلك للإنسان, ثم انظر إلى رحمة الله ولطفه. إذ جعل للآكل لذة 
الأكل فجعل الذوق في اللسان وغيره من أجزاء الفم ليعرف بالذوق ما يوافقه ويلائمه من 
الملذوذ فيجد في ذلك راحة في الطعام والشراب إذا دعت حاجة إلى تناوله وليجتنب 
الشيء الذي لا يوافقه» ويعرف بذلك حد ما تصل الأشياء إليه في الحرارة والبرودة. ثم 
إن الله تعالى شق السمع وأودعه رطوبة مرة يحفظ بها السمع من ضرر الدود ويقتل أكثر 
الهوام الذين يلجون السمع. وحفظ الأذن بصدفة لتجمع الصوت فترده إلى صماخها. 
وجعل فيها زيادة حس لتحس بما يصل إليها مما يؤذيها من هوام وغيرهاء وجعل فيها 
تعويجات ليتطرد فيها الصوت, ولتكثر حركة ما يدب فيها ويطول طريقه فيتنبه فيتاثر 
ويتنبه صاحبها من النومء ثم انظر إلى إدراكه المشمومات بواسطة ولوج الهواء. وذلك 
سر لا يعلم حقيقته إلا الباري سبحانه إلى غير ذلك, ثم انظر كيف رفع الآأنف في وسط 
الوجه. فأحسن شكله. وفتح منخريه. وجعل فيها حاسة الشم ليستدل باستنشاقه على 
روائح مطاعمه ومشاربه. وليتنعم بالروائح العطرة ويجتنب الخبائث القذرة» وليستنشق 
أيضاً روح الحياة غذاءٌ لقلبه وترويحا لحرارة باطنه. ثم خلق الحنجرة وهيّاها لخروج 
الأصوات. ودور اللسان في الحركات والتقطيعات. فيقطع الصوت في مجاري مختلفة 


19 


تختلف بها الحروف ليشع طرق النطق؛. وجعل الحنجرة مختلف الأشكال في الضيق 
والسعة والخشونة والملاسة وصلابة الجوهر ورخاوته والطول والقصرء. حتى اختلف 
بسبب ذلك الأصوات . فلم يتشابه صوتان» كما خلق بين كل صورتين اختلافاً فلم تشتبه 
صورتان» بل يظهر بين كل صورتين فرقان. حتى يميز السامع بعض الناس عن بعض 
بمجرد الصوت. وكذلك يظهر بين كل شخصين فرقان» وذلك لسر التعارف فإن الله 
تعالى لما خلق آدم وحواء خالف بين صورتيهماء فخلق منهما خلقاً جعله مخالفاً لخلق 
أبيه وأمه. ثم توالى الخلق كذلك لسر التعارف ثم انظر لخلق اليدين تهديان إلى جلب 
المقاصد ودفع المضار وكيف عرض الكف وقسم الأصابع الخمس» وقسم الأصابع 
بأنامل. وجعل الأربعة في جانب والإبهام في جانب فيدور الوبهام على الجميع. فلو 
اجتمع الأولون والآخرون على أن يستطيعوا بدقة الفكر وجها آخر عن وضع الأصابع 
سوى ما وضعت عليه من بعد الإبهام عن الأربعة. وتفاوت الأربعة في الطول وترتيبها في 
صف واحد لم يقدروا على ذلك. وبهذا الوضع صلح بها القبض والإعطاء. فإن بسطها 
كانت طبقا يضع عليه ما يريد وإن جمعها كانت آلة يضرب بهاء وإن ضمها ضما غير 
تام كانت مغرفة له. وإن بسطها وضم أصابعه كانت مجرفة,. ثم خلق الأظفار على 
رؤوسها زينة للأنامل وعمادا لها من ورائها حتى لا تضعف بها ويلتقط الأشياء الدقيقة 
التى لا تتناولها الأنامل لولاها. وليحك بها جسمه عند الحاجة إلى ذلك, فانظر أقل 
الأشياء في جسمه لو عدمها وظهرت به حكة لكان أضعف الخلق وأعجزهم عن دفع 
ما يؤلمه. وجلب ما ينتفع به في ذلك ولم يقم له غير الظفر مقامه في حك جسده. لأنه 
مخلوق لذلك ولغيره فهو لا صلب كصلابة العظام ولا رخو كرخاوة الجلد يطول ويخلق 
ويقص ويقصر لمثل ذلك. ثم جعله يهتدي به إلى الحك في حالة نومه ويقظته ويقصد 
المواضع إلى جهتها من جسده. ولو احتاج إلى غيره واستعان به في حكمها لم يعثر الغير 
على مواضع الحاجة إلا بعد طول وتعب, ثم انظر كيف مد منه الفخذين والساقين وبسط 
القدمين ليتمكن بذلك من السعي. وزين القدمين بالأصابع. وجعلها زينة وقوة على 
السعي . وزين الأصابع أيضا بالأظفار وقواها بهاء ثم انظر كيف خلق هذا كله من نطفة 
مهينة. ثم خلق منها عظام جسده فجعلها أجساماً قوية صلبة لتكون قواماً للبدن وعماداً 
له. وقدرها تبارك وتعالى بمقادير مختلفة وأشكال متناسبة؛ فمنها صغير وطويل ومستدير 
ومجوف ومصمت عريض ودقيق» ثم أودع في أنابيب هذه العظام المخ الرقيق مصوناً 
لمصلحتها وتقويتها ولما كان الإنسان محتاجا إلى جملة جسمه. وبعض أعضائه لتردده 


9) 


في حاجاته لم يجعل الله سبحانه عظامه عظماأ واحداً بل عظاماً كثيرة» وبينها مفاصل 
حتى تتيسر بها الحركة فقدر شكل كل واحد منها على قدر وفق الحركة المطلوبة بها. 


ثم وصل مفاصلها وربط بعضها ببعض بأوتاد أثبتها بأحد طرفي العظم وألصق 
الطرف الآخر كالرباط. ثم خلق في أحد طرفي العظم زوائد خارجة منهاء ومن الآخرة 
نقرا غائصة فيها توافق لأشكال الزوائد لتدخل فيها وتنطبق. فصار الإنسان إذا أراد أن 
بحرك شيئاً من جسده دون غيره لم يمتنع عليه؛ فلولا حكمة خلق المفاصل لتعذر عليه 
ذلك؛» ثم انظر كيف جعل خلق الرأس مركباً من خمسة وخمسين عظماً مختلفة الأشكال 
والصور. وألف بعضها إلى بعض بحيث استوت كرة الرأس كما ترى. فمنها ستة تختص 
بالقحف. وأربعة وعشرون للحي الأعلى, واثنان للحي الأسفل» والبقية من الأسنان 
بعضها عريض يصلح للطحن. وبعضها حاد يصلح للقطع, ثم جعل الرقبة مركز 
الرأس. فركبها من سبع خرزات مجوفات مستديرات وزيادات ونقصان لينطبق بعضها 
على بعض ويطول ذكر الحكمة فيهاء ثم ركب الرقبة على الظهر من أسفل الرقبة إلى 
منتهى عظم العجز من أربعة وعشرين خرزة وعظم العجز ثلاثة أخرى مختلفة ووصل به 
من أسفله عظم العصعص وهو مؤلف من ثلاثة أخرى. ثم وصل عظام الظهر بعظام 
الصدر وعظام الكتف وعظام اليدين وعظام العانة وعظام العجز وعظام الفخذين 
والساقين وأصابع الرجلين, فجملة عدد العظام في بدن الإنسان مائتا عظم وثمانية 
وأربعون عظماً سوى العظام الصغيرة التي حشى بها خلل المفاصل. فانظر كيف خلق 
الباري سبحانه وتعالى ذلك كله من نطفة رقيقة سخيفة, والمقصود من ذكر أعدادها 
تعظيم مدبرها وخالقها وكيف خلقها وخخالف بين أشكالها وخصها بهذا القدر المخصوص 
بحيث لو ازداد فيها واحد كان وبالا. واحتاج الإنسان إلى قلعه ولو نقص منها واحد 
لاحتاج الإنسان إلى جبره فجعل سبحانه وتعالى في هذا الخلق عبرة لأولي الأيصار 
وآيات بينات على عظمته وجلاله بتقديرها وتصويرها. 

ثم انظر كيف خلق سبحانه آلات لتحريك العظام وهي العضلات. فخلق في بدن 
الإنسان خمسمائة وتسعة وعشرين عضلة؛ والعضلة مركبة من لحم وعصب ورباط 
وأغشية وهي مختلفة المقادير والأشكال بحسب اختلاف مواضعها وحاجتها. فأربعة 
وعشرون منها لحركة العين وأجفانها بحيث لو نقصت منها واحدة اختل أمر العين» 
وهكذا لكل عضو عضلات بعدد يخصه وقدر يوافقه؛, وأما أمر الأعصاب والعروق 


1 


والأوردة والشرايين ومنابتها وسعتهاء فأعجب من هذا وشرحه يطول. ثم عجائب ما فيه 
من المعاني والصفات التي لا تدرك بالحواس أعظم, ثم انظر إلى ما شرف به وخص في 
خلقه بأنه خلق ينتصب قائماً ويستوي جالساً ويستقبل الأمور بيديه وجوارحه ويمكنه 
القلاع والعدل ولم يان مكبوبا على بوجهه سداس النتيوانات» إذ لوكان كذلك لما 
استطاعٍ هذه الأعمال. ثم انظر من حيث الجملة إلى ظاهر هذا الإنسان وباطنه فتجده 
مصنوعاً صنعة بحكمة تقضى منها العجب. وقد جعل سبحانه أعضاءه تامة بالغذاء 
والغذاء منوال عليها. لكنه تبارك وتعالى قدرها بمقادير لا يتعداهاء بل يقف عندها 
ولا يزيد عليهاء فإنها لوتزايدت بتوالي الغذاء عليها لعظمت أبدان بني آدم وثقلت عن 
الحركة. وعطلت عن الصناعات اللطيفة ولا تناولت من الغذاء ما يناسبها. ومن اللباس 
كذلك؛ ومن المساكن مثل ذلك. وكان من بليغ الحكمة وحسن التدبير وقوفها على هذا 
الحد المقدر رحمة من الله ورفقا بخلقه. فإذا وجدت هذا كله صنعه الله تعالى من قطرة 
ماء. فما ظنك بصنعته في ملكوت السموات والأرض وشمسها وقمرها وكواكبها 
وما حكمته في أقدارها وأشكالها وأعدادها وأوضاعها واجتماع بعضهاء وافتراق بعضهاء 
واختلاف صورهاء وتفاوت مشارقها ومغاربها. فلا نظن أن ذرة في السموات والأرض 
وسائر عالم الله ينفك عن حكم ٠‏ بل ذلك مشتمل على عجائب وحكم لا يحيط بجميعها 
إلا الله سبحانه وتعالى . ألم تسمع قوله سبحانه وتعالى > «األثم أشَدُ حَلْقاً أم السَمَاءُ 
بَناها04 . إلى آخر ما نبه به» وتأمل لو اجتمع الإنس والجن على أن يخلقوا للنطفة 
سمعا وبصرا وحياة لم يقدروا على ذلك. فانظر كيف خلقها سبحانه في الأرحام. 
وشكلها فأحسن تشكيلهاء وقدرها فأحسن تقديرهاء وصورها فأحسن تصويرهاء وقسم 
أجزاءها المتشابهة إلى أجزاء مختلفة. فأحكم العظام في أرجائها وحسن أشكنال 
أعضائهاء ورتب عروقها وأعصابها ودبر ظاهرها وباطنهاء وجعل فيها مجرى لغذائها 
ليكون ذلك سببا لبقائها مدة حياتها. 

ثم كيف رتب الأعضاء الباطنة من القلب والكبد والمعدة والطحال والرئة والرحم 
والمثانة والأمعاء كل عضو بشكل مخصوص ومقدار مخصوص لعمل مخصوص ء فجعل 
المعدة لنضج الغذاء عصبا معيناً شديدا لحاجتها وبذلك يمكن تقطيعه وطحنه» وجعل 
طحن الأضراس أولاً معيناً للمعدة على جودة طحنه وهضمه وجعل الكبد لإحالة الغذاء 


. سورة النازعات : الآية /ا؟‎ )١( 


نف 


إلى الدم فيجتذب منه إلى كل عضو من الغذاء ما يناسبه. فغذاء العظم خلاف غذاء 
اللحم وغذاء العروق خلاف غذاء الأعصاب. وغذاء الشعر خلاف غذاء غيره. وجعل 
الطحال والمرارة والكلية لخدمة الكبد فالطحال لجذب السوداء. والمرارة لجذب 
الصفراء. والكلية المائية عنه والمثانة لقبول الماء عن الكلية. ثم يخرجه في مجرى 
الإحليل والعروق والكبد في اتصال الدم منه إلى سائر أطراف البدن. وجعل جوهرها 
أتقن من جوهر اللحم ليصونه ويحصره فهي بمنزلة الظروف والأوعية» ثم انظر كيف دبره 
في الرحم ولطف به ألطافاً يطول شرحها ولا يستكمل العلم بجملتها إلا خالقها ويعجز 
الواصف عن وصف ما وصل إليه نظره من ذلك. فمن ذلك جعله فيهما لا يحتاج إلى 
استدعاء. ولا يحتاج المولود إلى ما يبين ذلك لا بوعظ ولا تنبيه. بل ذلك في الطباع إلى 
وقت حاجة المولود إلى الإغاثة فى غذائه. ولولا ذلك لنفرت الامهات عنه من شدة 
التعب وكلفة التربية حتى اشتد جسمه وقويت أعضاؤه الظاهرة والباطنة لهضم الغذاءء 
فحينئذ أنيت له الأسنان عند الحاجة إليها لا قبل ذلك ولا بعده. 


ثم انظر كيف خلق الله فيه التمييز والعقل على التدريج إلى حين كماله وبلوغه. 
وانظر وفكر في سر كونه يولد جاهلاً غير ذي عقل وفهم. فإنه لو كان ولداً عاقلا فيهما 
لأنكر الوجود عند خروجه إليه حتى يبقى حيران تائه العقل. إذ رأى ما لا يعرف. وورد 
عليه ما لم يره ولم يعهد مثله؛ ثم كان يجد غضاضة أن يرى نفسه محمولاً وموضوعا 
معصباً بالخرق ومسجى في المهد مع كونه لا يستغني عن هذا كله لرقة بدنه ورطوبته 
حين يولد. ثم كان لا يوجد له من الرقة له والحلاوة والمحبة في القلوب ما يوجد للصغير 
لكثرة اعتراضه بعقله واختياره لنفسه. فتبين أن ازدياد العقل والفهم فيه على التدريج 
أصلح به. أفلا يرى كيف أقام كل شيء من الخلقة على غاية الحكمة وطريق الصواب 
وأعلمه تقلب الخطأ في دقيقه وجليله؛ ثم انظر فيما إذا اشتد خلق فيه طريقاً وسبباً 
للتناسل وخلق في وجهه شعراً ليميزه عن شبه الصبيان والنسوان ويجمله ويستر به غضون 
وجهه عند شيخوخته, وإن كانت أنثى أبقى وجهها نقيا من الشعر لتبقى لها بهجة ونضارة 
تحرك الرجال لما في ذلك من بقاء النسل . 

فكر الآن فيما ذكرناه ودبره سبحانه في هذه الأحوال المختلفة؛ هل ترى مثل هذا 
يمكن أن يكون مهلاء أرأيت لو لم يجر له الدم غذاء وهو في الرحم ألم يكن يذوي 
ويهلك ويجف كما يجف النبات إذا انقطع عنه الماء. ولو لم يزعجه المخاض عند 


ازفا 


استكماله, ألم يكن يهلك ببقائه في الرحم هو وأمه؟ ولولم يوافه اللبن عند ولادته. ألم 
يكن يموت جوعاً وعاشاً أو يغذى بما لا يوافق ولا يصلح عليه بدنه؟ ولو لم يخلى له 
الأسنان في وقتهاء ألم يكن يمتنع عليه مضغ الطعام وازدراده ويقيم على الرضاع 
ولا يشتد جسمه؟ ولولم يخرج شعر الوجه لبقي في هيئة النساء والصبيان فلا ترى له هيبة 
ولا جلالة ولا وقاراء ومن ذا الذي يرصده حتى يوفيه بكل هذه المارب في وقتها إلا 
الذي أنشأه بعد أن لم يكن شيئاً مذكوراً وتفضل عليه ومرعٌ عليه بكل هذه النعم . 

فكر في شهوة الجماع الداعية لإحيائه, والآلة الموصلة إلى الرحم النطفة 
والحركة الموجبة لاستخراج النطفة وما في ذلك من التدبير المحكم, ثم فكر في جملة 
أعضاء البدن وتهيئة كل عضو منها للأرب الذي أريد منها فالعينان للاهتداء بالنظرى 
واليدان للعلاج والحذف والدفع والرجلان للسعي , والمعدة لهضم الطعام. والكبد 
للتخليص والتمييزء والفم للكلام ودخول الكلام ودخول الغذاء. والمنافذ لدفع 
الفضلات . وإذا تأملت كذلك مع سائر ما في الإنسان وجدته قد وضع على غاية الحكمة 
والصواب فكر في وصول الغذاء إلى المعدة حتى ينضجه ويبعث صفوه إلى الكبد في 
عروق دقاق قد جعلت كالمصفاة الغذاء. ولكيلا يصل إلى الكبد منه شيء غليظ خشن 
فيتكؤها فإنها خلقت دقيقة لا تحمل الغث فتقلبه بإذن الله دما وتنفذ إلى سائر البدن في 
مجار مهيأة لذلك فيصل إلى كل شيء من ذلك ما يناسبه من يابس ورخو وغير ذلك : 
لِفتَبَارَكَ اللَهُ رَتٌ العَالَمِينَ274. ثم ينفذ ما يكون من خبث وفضول إلى معابض 
وأعضاء أعدت لذلك كما ذكرنا قبل هذاء فكونها كالأوعية تحمل هذه الفضلات 
لكيلا تنتشر في البدن فتقسمه . 

ثم انظر هل تجد في خلق البدن شيئاً لا معنى له. هل خلق البصر إلا ليدرك 
الأشياء والألوان. فلو كانت الألوان ولم يكن بصر يدركهاء هل كان في الألوان منفعة؟ 
ولولم يكن لخلق الأبصار نور خارج عن نورها ما كان ينتفع بالبصر؟ وهل خلق السمع 
إلا ليدرك الأصوات؟ فلو كانت الأصوات ولم يكن سمع يدركها لم يكن في الأصوات 
منفعة؛ وكذلك سائر الحواس., فكر في أشياء جعلت بين الحواس والمحسوسات لا يتم 
الحس إلا بها: منها الضياء والهواء. فلو لم يكن ضياء تظهر فيه المبصرات لم يدركها 
البصرء ولو لم يكن هواء يؤدي الصوت إلى السمع لم يكن السمع يدرك الصوت. 


.584 سورة غافر: الآية‎ )١( 


3 


فكر فيمن عدم البصر والسمع وما يناله من الخلل فإنه لا ينظر أن يضع قدمه 
ولا يدري ما بين يديه ولا يفرق بين الألوان ولا يدري بهجوم آفة أو عدو ولا سبيل له أن 
يتعلم أكثر الصناعات, وأما من عدم السمع فإنه من يفقد روح المخاطبة والمحاضرة 
ويعدم لذة الأصوات المستحسنة والألحان المطربة وتعظم المؤونة على من يخاطبه حتى 
ينصرم منه ولا يسمع شيئاً من أخبار الناس وأحاديثهم حتى يصير كالغائب وهو شاهد. 
وكالميت وهو حي ., وأما من عدم العقل فهو أشر من البهائم» فانظر كيف صارت هذه 
الجوارح وهذه الأوصاف التي بها صلاح الإنسان محصلة ومبلغة لجميع مآربه ومتممة 
لجميع مقاصده. وإذا فقد شيئاً اختل أمره وعظم مصابه. ومن بلي بفقد شيء منها فهو 
تأديب وموعظة وتعريف بقدر نعمة الله في حقه وحق أمثاله ولينال بصبره على ذلك حظا 
في الآخرة. فانظر إلى رحمة الله كيف توجد في العطاء والمنع . 

ثم فكر في الأعضاء التي خلقت أفراداً وأزواجاً. ومافي ذلك من الحكمة 
والضوات» فالرامن مماخيلق فزداء وإن كير امن الحواش قد سواه رأس واحد ولو زاد 
عليه شيء كان ثقلا لا يحتاج إليه » فإن كان قسمين فإن تكلم واحدهما بقي الآخر معطلا 
لا حاجة إليه. وإن تكلم منهما جميعاً بكلام واحد كان أحدهما فضلة لا يحتاج إليهاء 
وإن تكلم من أحدهما بخلاف ما يتكلم به من الآخر لم يدر السامع مراده من ذلك. وأما 
الذي يأخذ به السامع هو ما كان واضحاً. واليدان خلقتا أزواجاً ولم يكن للإنسان خير 
في أن يكون يلم بيد واحدة لاختلال ما يعالجه من الأمور. فإنك ترى من شلت إحدى 
يديه ما يكون عنده من النقص, وإن يكلف بشيء لم يحكمه ولا يبلغ ما يبلغ صاحب 
اليدين وحكمة الرجلين ظاهرة . 

فكر في تهيئة آلات الصوت. فالحنجرة كالأنبوبة لخروج الصوت واللسان 
والشفتان والأسنان لإصاغة الحروف والفم. ألا ترى أن من سقطت أسنانه أو أكثرها 
كيف يحصل الخلل في كلامه. ثم انظر إلى ما في الحنجرة من المنفعة لسلوك النسيم 
منها إلى الرئة فتروح على الفؤاد بهذا النفس المتتابع» وما في اللسان من تقليب الطعام 
وإعانته على تسويغ الطعام والشراب,. ومافي الأسنان من المعونة أيضاء ثم هي 
كالمسند للشفتين تمسكهماوتدعهما من داخل الفم. وبالشفتين يرتشف الشراب حتى 
يكون ما يدخله إلى الجوف بقصد وبقدر ما يختاره الإنسان, ثم هما على الفم كالباب . 

فقد تبين أن كل عضو من هذه الأعضاء ينصرف إلى وجوه من المآرب وضروب 


"6 


من المصالح إن زاد أفسد وإن نقص أفسد. فذلك تقدير العزيز العليم. فكر في الدماغ 
إذا كشف عنه فإنك تجده قد لف بعضه فوق بعض ليصونه من الأعراض وأطبقت عليه 
الجمجمة والشعر ستر لها وجمال ولتبعد عنها ما يؤذيها من حر وبرد وغير ذلك فحصن 
سبحانه وتعالى الدماغ هذا التحصين لعلمه بأنه معهم وأنه مستحق لذلك لكونه ينبوع 
الحس. ثم انظر كيف غيب الفؤاد في جوف الصدر وكساه المدرعة التي هي غشاؤه 
وأتقنها وحصنه بالجوانح وما عليها من اللحم والعصب لشرفه وأن ذلك اللائق به. ثم 
انظر كيف جعل في الحلق منفذين : أحدهما للصوت وهو الحلقوم الواصل إلى الرئة 
والآخر للغذاء وهو المريء الواصل إلى المعده. وجعل على الحلقوم طبقاً يمنع الطعام 
أن يصل إليه. ثم جعل الرئة مروحة الفؤاد لا تفتر ولا تخل تأخذ وترد بغير كلفة لشلا 
تنحصر الحرارة في القلب فتؤدي إلى التلف, ثم ملأ الجوهواءً لهذه المصلحة ولغيرها. 
ثم انظر كيف جعل منافذ البول والغائط إسراحا يضبطها لكي لا يجري جريانا دائما 
فيفسد على الإنسان عيشته. ثم انظر كيف جعل لحم الفخذين كثيرأ كثيفا ليقي الإنسان 
من ألم الجلوس على الأرض كما يألم من الجلوس من نحل جسمه وقل لحمه إذا 
لم يكن بينه وبين الأرض حائل . 


انظر لوكان ذكر الرجل مسترخياً أبداً كيف يصل الماء إلى موضع الخلق ولو كان 
منعظاً أبدأ كيف يكون حاله في تصرفاته وهو كذلك؟ بل جعله مستوراً كانه لم تخلق له 
شهوة, ثم انظر أليس أنه من حسن التدبير في البناء أن يكون الخلاء في أستر موضع في 
الدار. فلهذا اتخذ المنفذ المهيأ لقضاء حاجة الإنسان في أستر موضع من جسده مغيب 
فيه تلتقي عليه فخذاه بما عليهما من اللحم فتواريه به ويخفي ذكره. وذلك مخصوص 
بالإنسان لشرفه. ثم انظر في خلق الشعر والأظفار لما كانا يطولان. وفي تقصيرهما 
مصلحة جعلا عديمي الحس حتى لا ينال الإنسان ألم عند التزيين بقصهماء ولولا هذه 
الحكمة لكان بين أمرين: إما أن يدعهما على حالهما فيتشوه خلقه, أو يزيل ذلك فيتألم 
بإزالته» ثم'تفكر في الشعور لو نبتت في العين لأعمت البصر, أو في الفم لنغصت الأكل 
والشرب, أو في راحة الكف لنفدت لذة اللمس وبعض الأعمال, أو في الفرج لكدرت 
لذة الجماع مع قبول هذه المواضع لنباتها فيها. فسبحان المدبر المنعم بهذه النعم . 

فانظر كيف تصد بهذا الخلق طريق الصواب وتجنب الخطأ والضرر ثم فيما جبل 
عليه الإنسان من الاحتياج إلى المطعم والنوم والجماع ومافي ذلك من التدبير 


١ 


المحكم . فقد جعل في طبعه محركاً يقتضيه ويستحثه . فالجوع والعطش يقتضي طلب 
الطعام الذي به حياته. وكذلك الشراب الذي به قوامه والنوم فيه راحة اليدن وعموم 
القوى. والشبق يقتضي الجماع الذي به دوام النسل وبقاؤه. فلو كان الإنسان إنما يتناول 
الطعام والشراب لمعرفته بالحاجة إليه ولم يجد من طباعه ما يلجئه إليه لاشتغل بأسباب 
ضرورته فينحل قواه ويهلك كما أنه قد يحتاج إلى دواء يكرهه. وفيه صلاحه وليس في 
جبلته داعية له فيدافع عن تناوله فيمرض أو يموت فكذلك لو كان يفعل النوم ويدخله 
على جسمه باختياره لتشاغل عنه ببعض مهماته فيهلك جسمه بالتعب والنصب. وكذلك 
لو كان إقدامه على الجماع إنما هو لرغبة حصول الولد لانقطع النسل لما يعارضه من 
الأسباب المشغلة . فانظر كيف جعل فيه بالطبع ما يضطره إلى حصول هذه الفوائد. انظر 
كيف رتبت هذه القوى بهذا الترتيب المحكم العجيب. فصار البدن بما فيه بمنزلة دار 
لملك فيها حشم وقوم موكلون بالدار فواحد لإمضاء حوائج جح الحشم وإيراد ماء لهم . وآخر 
لقبض ما يرد خزنه إلى أن يعالج ويهيأء وآخر لإصلاح ذلك وتهيئته وإصلاحه أخص مما 
قبل. وآخر لكسح ما في الدار من الأقذار وإخراجه. فالملك في هذا المثل هو الخالق 
العليم سبحانه . والدار هي البدن. والحشم هي الأعضاء. والقوم في هذه القوى الأربع 
التي هي النفس وموقعها من الإنسان , بمعنى الفكر والوهم والعقل والحفظ والغضب وغير 
ذلك. أرأيت لو نقص من الإنسان من هذه الصفات الحفظ وحده كيف يكون حاله. 
وكان لا يحفظ ما له وما عليه وما أصدر وما أورد وما أعطى وما أخذ ومارأى وما سمع 
وما قال وما قيل له ولم يذكر من أحسن إليه ولا من أساء له ولا من نفعه ممن ضره. وكان 
لا يهندي لطريق ولو سلكه. ولا لعلم ولو درسه. ولا ينتفع بتحريره. ولا يستطيع أن 
يعتبر بمن مضى , فانظر إلى هذه النعم كيف موقع الواحدة منهاء فكيف جميعها وأعجب 
من نعمة الحفظ نعمة النسيان . فلولا النسيان ما سلا الإنسان عن مصيبة فكان لا ينقص له 
حسرة ة ولا يذهب عنه حقد ولا يستمتع بشيء من لذات الشهوات الدنيوية ب بدن 
الآفات والفجائع المغضبات, وكان لايمكن أن يتوقع غفلة من ظالم ولا فترة 39 ذهولا 
من حاسد أو قاصد مضرة. فانظر كيف جعل الله فيه سبحانه الحفظ والنسيان وهما 
متضادان. وجعل للإنسان في كل منهما ضروباً من المصالح . 


لم الطر الى اها حص به دون غيره من الوان سن الحياء فلولاه لم تقل العثرات 
ولم تقض الحاجات ولم يقر الضيف ولم يثمر الجميل فيفعل ولا يتجافى عن القبيح 


7/ 


فيترك حتى أن كثيراً من الأمور الواجبة. إنما تفعل لسبب الحياء من الناس» فترد 
الأمانات وتراعى حقوق الوالدين وغيرهماء. ويعف عن فعل الفواحش إلى غير ذلك من 
أجل الحياء. فانظر ما أعظم موقع هذه النعمة في هذه الصفة. وانظر ما أنعم الله به من 
النطق الذي يميز به عنه البهائم. فيعبر بما في ضميره ويفهم عن غيره ما في نفسه. 
وكذلك نعمة الكتابة التي تفيد أخبار الماضين للباقين» وأخبار الباقين للآتين» وبها تخلد 
في الكتب العلوم والآداب؛ ويعلم الناس ذكر مايجري بينهم في الحساب 
والمعاملات» ولولا الكتابة لانقطعت أخبار بعض الأزمنة عن بعض. ودرست العلوم 
وضاعت الفضائل والآداب وعظم الخلل الداخل على الناس في أمورهم بسبب عدمها . 

فإن قلت: إن الكلام والكتابة مكتسبة للإنسان وليست بأمر طبيعي. ولذلك 
تختلف الخطوط بين عربي وهندي ورومي إلى غير ذلك وكذلك الكلام هو شيء 
يصطلح عليه. فلذلك اختلف. 

قلنا: مابه تحصل الكتابة من اليد والأصابع والكف المهيأ للكتابة والذهن والفكر 
الذي يهتدي به ليس بفعل الإنسان, ولولا ذلك لم يكن ليكتب أبداء فسبحان المنعم 
عليه بذلك, وكذلك لولا اللسان والنطق الطبيعي فيه والذهن المركب فيه لم يكن ليتكلم 
أبداً. فسبحان المنعم عليه بذلك. 


ثم انظر إلى حكمة الغضب المخلوق فيه يدفع عن نفسه به ما يؤذيهاء وما خلق 
فيه من الحسد فبه يسعى في جلب ما ينتفع به غير أنه مأمور بالاعتدال في هذين 
الأمرين. فإن جاوز الحد فيهما التحق برتبة الشياطين» بل يجب أن يقتصر في حالة 
الغضب على دفع الضرر. وفي الحسد على الغبطة وهي إرادة ما ينفعه من غير مضرة 
تلحق غيرهء ثم انظر ما أعطى وما منع مما فيه أيضا صلاحه. فمن ذلك الأمل فبسببه 
تعمر الدنيا ويدوم النسل ليرث الضعفاء عن الأقوياء منافع العمارة. فإن الخلق أول 
ما يخلق ضعيف فلولا أنه يجد آثار قوم أحلوا وعمروا لم يكن له محل يأوي إليه ولا آلة 
ينتفع بهاء فكان الأمل سببا لعمل الحاضرين ما يقع به انتفاع الآتين. وهكذا يتوارث إلى 
يوم الدين, ومنع الإنسان من علم أجله ومبلغ عمره لمصلحة, فإنه لو علم مدة حياته 
وكانت قصيرة لم تهن الحياة ولم ينشرح لوجود نسل ولا لعمارة أرض ولا لغير ذلك. ولو 
علمها وكانت طويلة لانهمك في الشهوات وتعدى الحدود واقتحم المهلكات, ولعجز 
الوعاظ عن إيقافه وزجره عما يؤديه إلى إتلافه فكان في جهله بمدة عمره مصلحة حصول 


58 


الخوف بتوقع هجوم الموت. ومبادرة صالح الأعمال قبل الفوات . 

ثم انظر إلى ما ينتفع به مما فيه مصالحه وملاذه من أصناف الأطعمة على اختلاف 
طعومها. وأصناف الفواكه مع اختلاف ألوانها وبهجتهاء وأصناف المراكب ليركبها 
ويحصل منافعها وطيور يلتذ بسماعهاء. ونقود وجواهر يقتنيها ويصل بها إلى أغراضه 
رعدم في مهماته. وعقاقير يستعملها لحفظ صحته. وبهائم لمأكله ولغير ذلك من 
أموره من حرث وحمل وغير ذلك وأزهار وغيرها من العطريات يتنعم بروائحها وينتفع بها 
وأصناف من الملابس على اختلاف أجناسها وكل ذلك ثمرة ما خلق فيه من العقل 
والفهم. فانظر ماذا ركب الله فيه من العجائب. ومن الحكمة البالغة اختلاف العباد في 
تملك ما ينتفع به بنوآدم ليتميز منهم الفقير من الغني» فيكون ذلك سببا لعمارة هذه الدار 
ويشتغل الناس بسبب ذلك عما يضرهم في غالب الأحوال. فمثالهم فيما اشتغلوا به مثال 
الصبي فإنه يشتغل لنقص عقله فيما يضر به نفسه ولا يتفرغ فيكون فراغه وبالاً عليه 
وكم عسى أن يعد العاد من الحكم واللطائف التي يقصد بها قوام العالم وعبادته إلى 
الأجل المعلوم وهي مما لا تدخل تحت حد ولا يحصرها عد., ولا يعلم منتهى حقائقها 
وإحصاء جملتها إلا الحكيم العليم الذي وسعت رحمته وعلمه كل شيء وأحصى كل 
شيء عددا . 

خاتمة لهذا الباب 

اعلم أن البارئ سبيتكانه وتغالى شرف هذا الأضمي وكرمة؛ فقال سبحانه «ولقذ 
كَرَمْنا بي آدمَ وَحَمَلَْاهُم في الب والبَحرٍ ورَرْفنَاهُمْ مِنّ الطيّباتِ وَفَضَلْنَاهُمْ عَلَى كثيرٍ 
مَمْنْ خلقنا تفضيلاً204. فكان من أعظم ما شرفه به وكرمه العقل الذي تنبه به على 
البهخة والحفة ينه بعالم الملائكة. حتى تأهل به لمعرفة بارئه ومبدعه بالنظر في 
مخلوقاته واستدلالاً له على معرفة صفاته بما أودعه في نفسه من حكمة وأمانة. قال الله 
العظيم +وني الْفيِكُمْ أفلا يُنْصِرونَ26. فكان نظره في نفسه. وفيما أودع الباري 
سبحانه فيه من العقل الذي يقطع بوجوده فيه ويعجز عن وصفه من أعظم الدلاللات عنده 
على وجود بارئه ومدبره وخالقه ومصوره. فإنه ينظر في العقل كيف فيه التدبير وفنون 


)1غ( سورة اللإسراء : الآية 16 
(؟) سورة الذاريات: الآية 7١‏ . 


>39 


العلم ومتعير المعرفة وبضائر البحكمة والتصيين: ل وهومع القطع بوجوده 
لا يرى له شخصاً ولا يسمع له حساً ولا يحس له مجلساً ولا يشم لفاريجا ولا يدرك اله 
صورة ولا طعماء وهو مع ذلك آمر ومطاع زيادة وراج ومفكر ومشاهد الغيوب ومتوهم 
للأمور اتسع له ما ضاق عن الأبصار ووسع له ما ضاقت عنه الأوعية يؤمن بما غيبته 
حجب الله سبحانه مما بين سمواته وما فوقها وأرضه وما تحتها. حتى كأنه شاهد أبين من 
رأى العين فهو موضع الحكمة ومعدن العلم كلما ازداد علماً ازداد سعة وقوة يأمر 
الجوارح بالتحرك فلا يكاد أن يميز بين الهمة بالحركة. وبين التحرك بسرعة الطاعة أيهما 
أسبق. وإن كانت الهمة قبل وهو مع تدبيره وعلمه وحكمته عاجز عن معرفة نفسه إذ 
لا يمكنه أن يصف نفسه بنفسه بصفة وهيئة أكثر من الإقرار بأنه مسلم للذي وصفه للعلم 
به ومقر بالجهل بنفسه وهو مع جهله بنفسه عالم حكيم يميز بين لطائف التدبيرء ويفرق 
بين دقائق الصنع. وتجري الأمور على اختلافهاء فدل جهله بنفسه وعلمه بما يدبر ويميز 
أنه مركب مصنوع مصور مدبر مقهور, لأنه مع حكمته واتقاد بصيرته عاجز مهين يريد أن 
يذكر الشيء فينساه ويريد أن ينساه فيذكره. ويريد أن يسر فيحزن. ويريد أن يغفل 
فيذكرء ويريد أن يتنبه ويتيقظ فيسهو ويغفل دلالة على أنه مغلوب مقهور وهو مع ما علم 
جاهل بحقائق ما علم, ومع مادبر لاا يدري كم مدى مبلغ صوته ولا كيف خروجه 
ولا كيف اتساق حروف كلامه, ولا كم مدى مبلغ نظره؛ ولا كيف ركب نوره ولا كيف 
أدرك الأشخاص» ولا كم قدر قوته ولا كيف تركبت إرادته وهمته؟ فاستدل بعلمه وجسده 
عن حقيقة ما علم أنه مصنوع بصنعة متقنة وحكمة بالغة تدل على الصانع الخالق المريد 
العليم عز وجل. ثم إنه خلق في الإنسان الهوى موافقا لطباعه فإن استعمل نور العقل 
فيما أمر به ورد مورد السلامة وفاز غداً بدار الكرامة» وإن استعمله في أغراض نفسه 
وهواها حجب عن معرفة أمور لا يدركها غيره مع ما هو متوقع له في الدار الآخرة من 
الثواب والحجاب والعقاب. وهو الآلة له في عمل الصنائع وتقديرها على نحوما قدرها 
ودبرها في ذهنه وتخيله واستنباط ما يستنبط بدقيق الفكر ومعرفة مكارم الأخلاق الموجودة 
في كل أمة زمان. واستحسان ما يحسن في عوائد العقلاء والفضلاء وتقبيح ما يقبح 
عندهم بحكم الاعتياد. فانظر ما شرف هذا الإنسان أن خلق فيه ما يفيده هذه المعارف. 
فإن الأواني تشرف بشرف ما يوضع فيهاء ولما كانت قلوب العباد هي محل للمعرفة بالله 
سبحانه شرفت بذلك. ولما سبق في علم البارىء سبحانه وإرادته وحكمته بمصير الخلق 
إلى دار غير هذه الدار ولم يجعل في قوة عقولهم ما يطلعون به على أحكام تلك الدارء 


0 


بل كمل لهم سبحانه هذا النور الذي وهبهم إياه بنور الرسالة إليهم. فأرسل الأنبياء 
صلوات الله عليهم مبشرين لأهل طاعته ومنذرين لأهل معصيته. فمدهم بالوحي وهيأهم 
لقبوله وتلقيه. فكانت أنوار ما جاء به بالوحى من عند الله بالنسبة إلى نور العقل كالشمس 
بالإضافة إلى نور النجم. فدلوا العباد على مصالح دنياهم فيما لا تستقل بإدراكه عقولهم 
وأرشدوهم إلى مصالح أخراهم التي لا سبيل للعباد أن يعرفوها إلا بواسطتهم. وأظهر 
لهم سبحانه من الدلائل على صدق ما جاؤوا به ما أوجب الإذعان والانقياد لصدق 
أخبارهم . فتمت بذلك نعمة الله على عباده. وظهرت كرامته وثبت حجته عليهم. فانظر 
ما أشرف الآدمي ونسله الذين ظهرت منهم هؤلاء الفضلاء الذين هم قابلون لهذه 
الزيادات الفاضلة. ثم تضافرت أنواع الشرائع التي هي كالشمس. وأنوار العقول التي 
هم كالنجم. فتمت سعادة من سبق له من الله الحسنى . وشقاوة من كذب ولم يرد إلا 
الحياة الدنياء ثم إن الله تبارك وتعالى منّ على الإنسان بأن خصه برؤيا يراها في منامه أو 
في عينه كشبه المنام يمثل له فيها بأمثلة معهودة من جنس ما يعرفه وهي مبشرة أو منذرة له 
لما يتوقعه بين يديه. كل ذلك مواهب وكرامات من وجود الله سبحانه. وجعل الله 
استقامته على الطاعة في قلبه وجوارحه سبباً لصدقها في غالب الأمر ليتعظ أو يقدم على 
الأمور أو يحجم عنهاء وهي الأمور التي انفرد الله بعلم العاقبة فيها وأطلع على بعض 
الأمور منها من شاء . 
باب 
في حكمة خلق الطير 
قال الله سبحانه وتعالى : «ألم يَرَوَا إلى الطبِرٍ مُسَحْرَاتِ في جو السَّماهِ ما 

يُمْسِكهُنٌ إل اللّه20 © . اعلم رحمك الله : أن الله تعالى خلق الطير وأحكمه حكمة 
تقتضي الخفة للطيران ولم يخلق فيه ما يثقله., وخلق فيه ما يحتاج إليه وما فيه قوامه 
وصرف غذائه. فقسم لكل عضو منه ما يناسبهء فإن كان رخحواً أويابساً أو بين ذلك 
انصرف إلى كل عضو من غذائه ماهو لائق به. فخلق للطير الرجلين دون اليدين 
لضرورة مشيه وتنقله وإعانة له في ارتفاعه عن الأرض وقت طيرانه واسعة الأسفل ليثبت 
في موطن على الأرض وهي خف فيه أو بعض أصابع مخلوقة من جلد رقيق صلب من 


.1/8 سورة النحل : الآية‎ )١( 


دن 


نسبة جلد ساقيه. وجعل جلد ساقيه غليظاً متقناً جداً ليستغني به عن الريش في الحر 
والبرد. وكان من العكمة خلقه على هذه الصفة لأنه في رعيه» وطلب قوته لا يستغني 
عن مواضع فيها الطين والماء فلو كسيت ساقاه بريش لتضرر بباله وتلويثه فأغناه سبحانه 

عن الريش في موضع لا يليق به حتى يكون مخلصاً للطيران؛ وما خلق من الطير ذا 
أرجل طوال جعلت رقبته طويلة لينال غذاءه من غير حرج بها إذ لو طالت رجلاه وقصر 
عنقه لم يمكنه الرعي لا في البراري ولا في البحار حتى ينكب على صدره وكثيراً ما يعان 
بطول المنقار أيضاً مع طول العنق ليزداد مطلبه عليه سهولب ولو طال عنقه وقصرت 
رجلاه أثقله عنقه واختل رعيه. وخلق صدره ودائره ملفوفاً مربياً على عظم كهيئة نصف 
دائرة حتى يخرق في الهواء بغير كلفة وكذلك رؤوس أجنحته مدورة إعانة لهعلى الطيران 
وجعل لكل جنس من الطير منقاراً يناسب رعيه ويصلح لما يتغذى به من تقطيع ولقط 
وختروعي دللفي: فيه محلب الفط خض يها الكو امير وما قوته اللحم. ومنه عرض 
مشرشر جوانبه تنطبق على ما يلتقطه انطباقاً محكماً. ومنه معتدل اللقط وآكل الخضرء 
ومنه طويل المنقار للحصر وجعله صلباً شديداً شبه العظم وفيه ليونة ما هي ة في العظم 
لكثرة الحاجة إلى استعماله وهو مقام الأسنان في غير الطير من الحيوان؛ وقوى سبحانه 
أصل الريش. وجعله قصباً منسوباً فيما بناسبه من الجلد الصلب في الأجنحة لأجل كثرة 
الطيران» ولأن حركة الطيران قوية فهو محتاج إلى الإتقان لأجل الريش. وجعل ريشه 
وقاية مما يضره من حر أو برد ومعونة متخللة الهواء للطيران وخمص الأجنحة بأقوى الريش 
وأنبته وأتقنه لكثرة دعاء الحاجة إليه؛ وجعل في سائر بدنه ريشاً غيره كسوة ووقاية وجمالا 
له وثبت أصل جميعه لأنه جبيرته وجمله. وجعل في ريشه من الحكمة أن البلل 
لا يفسده والأدران لا توسخه. فإن أصابه ماء كان أيسر انتفاض يطرد عنه بلله فيعود إلى 
خفته» وجعل له منفذاً واحداً للولادة وخروج فضلاته لأجل خفته. وخلق ريش ذنبه 
معونة له على استقامته في طيرانه, فلولاه لما مالت به الأجنحة في حال الطيران يمينا 
وشمالاً . فكان له بمنزلة رجل السفينة الذي يعدل بها سيرها وخلق فى طباعه الحذر وقاية 
لسلامته . ١‏ 

ولما كان طعامه يبتلعه بلعاً بلا مضغ جعل لبعضه منقاراً صلباً يقطع به اللحم 
ويقؤة له مقام با يقطع بالهدية ؛ وصار يزدرد ما يأكله صحيحاً وأعين بفضل حرارة في 
جوفه تطحن الطعام طحنا يستغني به عن المضغ ول الأسنان. واعتير ذلك بحب 
العنب وغيره فإنه يخرج من بطون الحيوان صحيحاً وينسحق في أجواف الطيرء ثم إنه 


نض 


خلقه يبيض ولا يلد لثلا يثقل عن الطيران» فإنه لو خلقت فراخه في جوفه حتى يكمل 
خلقها لثقل بها. وتعوق عن النهوض للطيران» أفلا ترى كيف دبر كل شيء من خلقه بما 
يليق به من الحكمة . انظر إلى من أنزله وألهمه الرقاد على بيضه فيحضنه مدة الحضانة» 
من ألهمه أن يلتقط الحب. فإذا ماع في باطنه غذى به أفراخه وهذا نوع من الطيرء لم 
انظر مع هذا كيف احتمل هذه المشقة. وليست له رؤية ولا فكر في عاقبة» ولا له أمل 
يأمله في أفراخه كما يأمل الإنسان في ولده من العز والرفد وبقاء الذكر. فهل هذا قطعاً 
إلا إلهام إلهي من فعل الله سبحانه . 

انظر كيف ألهم معرفة حمل الأنثى منه بالبيض. فألهموا حينئذٍ حمل الحشيش 
وتوطئته في موضع التحضين والولادة لتكون الرطوبة والتوطئة تحفظ البيض ويكون 
البيض محفوظاً في المهاد الذي يمهدونه ويستحسنونه في حال تحضيئه. 


انظر إلى الحمام كيف ألهم معرفة كمال الفرخ وانتهاء تحضينه للبيض حتى 
يكشف عن الفرخ ويخرجه. وإن اتفق في البيض فساد بسبب عرق قام وتركه. ثم انظر 
إلهامه بما يزق به فرخه فإنه أولا يزقه بالريح لتستعد حوصلته لقبول ما يوضع فيها. ثم بعد 
ذلك يزقه من أول هضم. ثم إذا ماع الغذاء في حوصلته يزقه به حتى يدرجه يفعل مراراً 
حتى يولى حوصلته. فإنه لو أرسله إليه حباً صحيحاً لعجز عن هضمه لضعف جسده. 
فانظر إن كان هذا من فعل الطير وحكمته. ثم انظر عند خروج الفرخ من البيضة كيف 
يسنده إلى جنبه لثلا يفقد الحرارة دفعة واحدة فيضر ذلك بهء ومن الطير مما يخلق على 
هيئة أخرى لحكمة أخرى ولتعلم أن قدرة الله لا تتحصر في نوع واحدء بل كل حال له 
حكم يقوم بمصلحة ذلك الشيء. وذلك أن الدجاج ما فيهم أهلية الزق» بل جعلت 
أفراخهم يلتقطون غذاءهم عند خروجهم من البيضة, ثم انظر في الحمام الذكر والأنثي 
كيف يتداولان على التسخين خوف أن يفسد بيضهم فيعقب هذا صاحبه كأن لهم علما 
بأن عدم هذا التدبير يفسد به بيضهمء ثم انظر إلى خلق البيضة وما فيها من الحكم لله 
ففيها المح الأصفر الحابر والماء الأبيض الرقيق فبعضه لينشأ منه جسده. وبعضه يغتذي 
به إلى أن تنشق عنهء وما في ذلك من التدبير المحكم العجيب؛ وكيف جعل معه غذاءه 
في بيضة مغلقة تتنقى به إلى حين كماله فيها وخروجه منهاء ثم انظر في حوصلة الطائر 
وما في حلقها من التدبير فإن مسلك طعامه إلى القانصة ضيق لا ينفذ إليه إلا قليلا قليلاء 
فلو كان لا يلتقط حبه حتى تصل الأولى إلى القانصة لطال الأمر عليه مع ما فيه من شدة 


3 


الحذر وتجنبه ما يؤذيه» فصار ما يحتكره احتراسا لشدة حذرهء فجعلت له الحوصلة 
كالمخلاة المعلقة أمامه ليؤدي فيها ما أدرك من الطعام بسرعة ثم ينفذه إلى القانصة على 
مهل. وفيها حكمة اخرى». فإن الطير الذي يزق أفراخه يكون رده الطعام من قرب أسهل 
عليه ثم تأمل ريش الطائر فإنك تجده منسوجاً نسج الثوب من سلوك رقاق» وفيها من 
اليبس مايمسك ما حولها. ومن اللين ما لا ينكسر معه وهي حاوية. قد ألف بعضها إلى 
بعض ., كتأليف الخيط إلى الخيط والشعر إلى الشعرء ثم تجده إذا فتحته أعني النسيج 
ينفتح قليلاء ولا ينشق ليدخله الريح فتثقله عن طيرانه. وتجد في وسط الريشة عموداً 
غليظاً يابسا مثبتاً قد نسج عليه كهيئة الشعر ليمسكه بصلابته, فلو عدم ذلك وعرضت 
الريشة دونه لفسخها ما يقابلها من الهواء وهي مع صلابته مجوفة ليخف عليه طيرانه . 

انظر إلى الطائر الطويل الساقين والحكمة في طولهما أنه يرعى أكثر رعيه في 
صحصاح كأنه فوقه مراقب يتأمل ما يدب في الماء. فإذا رأى شيئاً من حاجة خطا خطواً 
رفيقاً حتى يتناوله» فلو كان قصير الساقين لكان حين يخطو إلى الصيد يصل بطنه إلى 
الماء فيهزه فيذعر منه الصيد فيبعد عنه . 

انظر إلى العضافير وغيرها فإنها تطلب رزقها في طول نهارها فلا هي تفقده 
ولا هي تجده مجموعا محله. وهو أمر جار على سنة الله في خلقه. فإن صلاحهم في 
السعي في طلب الرزق؛ فإن الطير لووجده مسيراً أكب عليه ولا يقلع عنه حتى يمتلىء 
فيثقل عن الطيران ولا يستطيع رده أعني قذفه من بطنه مثل طير الماء الكبير فإنه يأكل 
السمك. فإذا امتلأ منه وأزعجه مزعج تقايأه حنى يخف للطيران» وكذلك الناس أيضاً لو 
وجدوه بلا سعي لتفرغوا إفراغا يوقعهم في غاية الفساد. 

انظر إلى هذه الأصناف من الطير التي لا تخرج إلا ليلا مثل البوم والهام 
والخفاش . فإن عيشها يتيسر في الجو. وكالبعوض والفراش وشبهه فإنها منبثة في هذا 
الجوء فجعل عيشه في موضع أقرب إليه من الأرض» ولعل نوره لا يعينه أن يلتقط من 
الأرض بدليل أنه لا يظهر في نور الشمس إلا مختفياء فالهم أن يعيش في الجو من 
الفراش وغيره. انظر إلى الخفاش لما خلق بغير ريش كيف خلق له ما يقوم مقامه. 
وجعل لهفم وأسنان وكل ما في البهائم الأرضية من الولادة وغيرها وأقدره على 
الطيران. فأظهر سبحانه فيه أن قدرته على الطيران لا تقصر على ما خلق له الريش 
ولا تنحصر في نوع واحدء لأنه خلق هذا النوع » وخلق من السمك جنساً يطير على وجه 


3: 


البحر مسافة طويلة» ثم ينزل الماء فسبحان القاضي العليم . 

انظر إلى الذكر والأنثى من الحمام كيف يتعاونان على الحضانة. فإذا احتاج 
أحدهما إلى قوته ناب الآخر إلى آخر وقت الحضانة, ثم ألهمهما الحرص على الحضانة 
فلا يطيلان الغيبة على البيض إذا خرجا لنيل القوت حتى أنهما يجتمع في أجوافهما 
البراز للحرص على الرقاد. فإذا اضطر إلى خروج البراز أخرجه دفعة واحدة. ثم انظر 
إلى حرص الذكر حين تحمل الأنثى بالبيض ويقرب أوان وضعها كيف يطردها وينقرها. 
ولا يدعها تستقر خارجاً عن الوكر خشية أن تضع البيض في غير الموضع المهيا لوضعه . 
انظر كيف يزق أفراخه ويعطف عليها ما دامت محتاجة إلى الزق حتى إذا كبرت واشتدت 
ولقطت واستغنت عن أبويها صارت إذا تعرضت له لنيل ما اعتادت ضربها وصرفها عن 
نفسه واشتغل بغيرهاء ثم انظر ما خلق الله تعالى في الكواسر من شدة الطيران حتى 
لا يسبق له من يطلبه. ومن قوة المخلب وجدته في المنقار والأظفارء فكأن مخلبها مدية 
للقطع. وكان مخلب أرجلها خطاطيف يعلق فيها اللحم حتى يصل ما يحتاجه من 
قوتها. انظر إلى طير الماء لما جعل قوته في الماء كيف جعل فيه قوة السباحة والغطس 
ليأخذ من جوف الماء رزقه. فجعل سبحانه وتعالى لكل صنف من الطيور ما يليق به في 
تحصيل قوته . 

باب 
في حكمة خلق البهائم 

قال الله سبحانه وتعالى : «والْخَيْلَ والبغَالَ والحَمِيرَ لِتَرَكَبُوهَا وَزِيئة2©. اعلم 
وفقك الله وإيانا: أن الله خلق البهائم لمنافع العباد امتناناً عليهم كما نبهت على ذلك 
هذه الآية.» فخلقها الله بلحم مثبت على عظام صلبة تمسكه وعصب شديد وعروق 
شداد. وضم بعضها إلى بعض ولم يجعلها لينئة رخوة ولا صلبة كصلابة الحجارة. 
وجعل ذلك تجلداً اشتمل على أبدانها كلها لتضبطها وتتقنها لأنها أريد منها القوة للعمل 
والحمل ثم خلقها سبحانه سميعة بصيرة ليبلغ الإنسان حاجته., لأنها لو كانت عمياء 
صماء لم ينتفع بها الإنسان ولا وصل بها إلى شيء من مآربه. ثم منعت العقل والذهن 
حكمة من الله لتذل للإنسان فلا تمتنع عليه إذا أكدّها عند حاجته إلى إكدادها في الطحن 


)1غ( سورة النحل : الآية م , 


هم 


وحمل الأثقال عليها إلى غير ذلك . 
وقد علم الله أن بالناس حاجة إلى أعمالها وهم لا يطيقون أعمالها ولا يقدرون 
عليهاء ولوكلف العباد القيام بأعمالها لأجهدهم ذلك واستفرغ قواهم فلا يبقى فيهم 
فضيلة لعمل شيء من الصناعات والمهن التي يخصون بعملها وخلقتهم قابلة لها 
ولا غنى لهم عنها وتحصيل الفضائل من العلوم والآداب, ولكان ذلك مع إتعابه لأبدانهم 
يضيق عليهم معائشهم . فكان قضاؤه على هذا وتسخيرها لهم من النعم العظيمة؛ انظر 
في خلق أصناف من الحيوان وتهييئها لما فيه صلاح كل صنف منهاء فبنوآدم لما قدروا 
أن يكونوا ذوي علاج للصناعات واكتساب العلوم وسائر الفضائل ولا غنى لهم عن البناء 
: والحياكة والتجارة وغير ذلك خلقت لهم العقول والأذهان والفكر. وخلقت لهم الأاكف 
ذوات الأصابع ليتمكنوا من القبض على الأشياء ومحاولات الصناعات . وآكلات اللحم 
لما قدر أن يكون عيشها من الصيد ولا تصلح لغيره خلقت لها مخالب وسرعة نهضة 
وأنياب. وآكلات النبات لما قدر أن تكون غير ذات صنعة ولا صيد. خلقت لبعضها 
أظلاف كفتها خشونة الأرض إذا جالت في طلب المرعى ولبعضها حوافر مستديرة ذات 
قعر كأخمص القدمين لتنطبق على الأرض وتتهيأ لحمل والركوب . 
تأمل التدبير في خلق آكلات اللحم من الحيوان كيف خلقت ذوات أسنان حداد 
وأضراس شداد وأفواه واسعة وأعينت بسلاح وأدوات تنال بذلك ما تطلبه؛ فإن ذلك كله 
صالح للصردء فلو كانت البهائم التي عيشها النبات ذوات مخالب وأنياب كانت قد 
أعطيت ما لا تحتاج إليه» لأنها لا تصطاد ولا تأكل اللحم. ولو كانت السباع ذوات 
أظلاف كانت قد منعت ما تحتاج إليه من السلاح الذي به تصطاد. فانظر كيف أعطى 
سبحانه كل واحد من أصناف الحيوان ما يشاكله وما فيه صلاحه وحياته انظر إلى أولاد 
ذوات الأربع كيف تجدها تتبع الأمهات مستقلة بنفسها لا تحتاج إلى تربية وحمل كما 
يحتاج الآدميون. إذ لم يجعل في أمهاتها ما جعل في أمهات البشر من العقل والعلم 
والرفق في أحوال التربية والقوة عليها بالفكر والأكف والأصابع المهيأة لذلك ولغيره 
فلذلك أعطيت النهوض والاستقلال بأنفسها . ولذلك ترى فراخ بعض الطير مثل الدجاج 
ل وما كان منها ضعيفاً لا نهوض له مثل 
فراخ الحمام واليمام جعل في الأمهات عطفاً عليهاء فصارت تعين الطعام في 
حواصلهاء ثم تمجه في أفواه فراخها ولا يزال كذلك حتى ينهض وتستقل. فكل أعطي 


دا 


من اللطف والحكمة بقسط. فسبحان المدبر الحكيم . 


انظر إلى قوائم الحيوان كيف ينتقل أزواجاً لتنهيا للمشي» فلو كانت أفراد 
لم تصلح لذلك». لأن المائي منها ينقل منها بعضه ويعينه على مشيه اعتماده على 
مالم ينقله منها. فذو القائمتين ينقل واحدة ويعتمد على الأخرى وذو الأربع ينقل اثنتين 
ويعتمد على اثنتين » وذلك من خلاف لأنه لو كان ينقل قائمتين من أحد جاتبيه. ويعتمد 
على قائمتين من الجانب الآخر لم يثبت على الأرض كالسرير ولو كان يرفع يديه ويتبعها 
برجليه لفسد مشيه. فجعل ينقل اليمنى من مقدمه على اليسرى من مؤخرهء ويعتمد 
الآخرين من خلاف أيضا فتثبت على الأرض ولا تسقط إذا مشى لسرعة التحاقهما فيما 
بين المشي والاعتماد. 


أما ترى الحمار يذل للحمولة والطحن. والفرس مردعاً منهاء والبعير لا تطيقه عدة 
رجال لو استعصى . وينقاد لصبي صغيرء والثور الشديد يذعن لصاحبه حتى يضع النير 
على عنقه ليستحرثه. والفرس تركب ويحمل عليها السيوف والأسنة في الحروب وقاية 
لراكبهاء والقطيع من الغنم يرعاها صبي واحد فلو تفرقت فأخذت كل شاة منها جهة 
لنفورها لتعذرت رعايتهاء وربما أعجزت طالبهاء. وكذلك جميع الحيوان المسخر 
للإنسان. وما ذلك إلا لأنها عدمت العقل والتروي. فكان ذلك سبباً لتذليلها فلم تلتو 
على أحد من الناس. وإن أكدها في كثير من الأحوال. وكذلك السباع لو كانت ذوات 
عقل وروية لتواردت على الناس وأنكتهم نكاية شديدة عظيمة ولعسر زجرها ودفعها, 
ولا سيما إذا اشتدت حاجتها في طلب قوتها ويشتد خللهاء ألا يرى إذا أحجمت عن 
الخلق وصارت في أماكنها خائفة تهاب مساكن الناس وتحجم عنها حتى صارت لا تظهر 
ولا تنبعث في طلب قوتها في غالب أحوالها إلا ليلاء فجعلها مع شدة قوتها وعظم 
غذائها كالخائفة من الاإنس» بل هي ممنوعة منهم» ولولا ذلك لساورتهم في منازلهم 
وضيقت عليهم في مساكنهم . 

ألا ترى الكلب وهو من بعض السباع كيف سخر في حراسة منزل صاحبه حتى 
صار يبذل نفسه ويترك نومه حتى لا يصل إلى صاحبه ما يؤذيه» ثم إنه أعان صاحبه بقوة 
صوته حتى يتنبه من نومه فيدفع عن نفسه ويألفه حتى يصير معه على الجوع والعطش 
والهوان والجفاء. فطبع على هذه الخلال لمنفعة الإنسان في الحراسة والاصطياد. ولما 
جعله الباري سبحانه حارساً أمده بسلاح» وهي الأنياب والأظفار واللهث القوي ليذعر به 


7 


السارق والمريب» وليجتنب المواضع التي يحميها. 


ثم انظر كيف جعل ظهر الدابة سطحاً مثبتاً على قوائم أربع لتمهيد الركوب 
والحمولة وجعل فرجها بارزاً من ورائها ليتمكن الفحل من ضرابهاء إذ لوكان أسفل 
باطنها كالآدمي لم يتمكن الفحل منهاء ألا ترى أنه لا يستطيع أن يأتيها كفاحأ كما يأني 
الرجل المرأة فتأمل هذه الحكمة والتدبيرء ولما كان فرج الفيلة تحت بطنهاء فإذا كان 
وقت الضراب ارتفع وبرز للفحل حتى يتمكن من إتيانها فلما لم يخلق في الموضع 
المخلوق في الأنعام والبهائم خلقت فيه هذه الصفة ليقوم الأمر الذي به دوام التناسل. 
وذلك من عظيم العبرء ثم انظر كيف كسيت أجساد البهائم الشعر والوبر ليقيها ذلك الحر 
والبرد وغيره من الآفات. وحملت قوائمها على الأظلاف والحوافر ليقيها ذلك من 
الحفاء. وما كان منها بغير ذلك جعلت له أخفاف تقوم مقام الحافر في غيره. ولما كانت 
البهائم لا أذهان لها ولا أكف ولا أصابع تتهيأ للأعمال. كفيت مؤنة ما يضربها بأن 
جعلت كسوتها في خلقتها باقية عليها ما بقيت فلا تحتاج إلى استبدال بها ولا تجديد 
بغيرها بخلاف الآدمي , فإنه ذو فهم وتدبير وأعضاء مهيأة لأعمال ما يقترحه وله في 
إشغاله بذلك صلاح وفيه حكمة؛ فإنه خلى على قابلة لفعل الخير والشر وهو إلى فعل 
الشر أميل إلى فعل الخيرء فجعلت الأسباب التي يحصل بها ما هو محتاج إليه ليشتغل 
بها عما فيه فساده وهلاك دينه فإنه لو أعطي الكفاية في كل أحواله أهلكه الأشر والبطر. 
وكان من أعظم الحيوانات فساداً في الأرض ولتصرف بعقله الذي هو مخلوق 
لينال به السعادة إلى ما فيه شقاوته. ثم إن الآدمي مكرم يتخير من ضروب الملابس 
ما شاءء فيلبس منها ما شاء ويخلع منها ما شاء ويتزين بها ويتجمل ويتلذذ منها بما يشاء 
ويكمل بها زينته وجماله وبهاءه في عين من يصحبه ويحب قربه ويطيب بذلك رائحته 
وينعش نفسهء وهذا من باب النعمة عليه والكرامة له بخلاف البهائم فإنها غنية عن هذا 
كله. انظر فيما ألهم الله البهائم والوحوش في البراري» فإنها تواري أنفسها كما يواري 
الناس موتاهم فما أحس منها بالموت توارى بنفسه إلى موضع يحتجب فيه حتى يموت 
وإلا فأين جثث السباع والوحوش وغيرهاء فإنك لو طلبت منها شيثاً لم تجده وليست 
قليلة فيخفى أمرها لقلتهاء بل لو قال قائل إنها أكثر من الإنس لم يبعد. لأن الصحاري 
قد امتلآت من سباع وضباع وبقر وحمير ووعل وإبل وتخنازير وذئاب وضروب من الهوام 
والحشرات وأصناف من الطير وغير ذلك مما لا يحصى عدده. وهذه الأصناف في كل 


١ 


يوم يخلق منها ويموت منها ولا يرى لها رمم موجودة. والذي أجرى الله به عادتها أن 
تكون في أماكنهاء فإذا أحست بالموت أتت إلى مواضع خفية فتموت فيهاء فانظر هذا 
الأمر الذي ألهمت له هذه الأصناف في دفن جئثها بما فطرت عليه وشخص لبني آدم 
بالفكر والتروي . 

تأمل الدواب كيف تخلق أعينها شاخصة أمامها لتنظر ما ؛ بين يديها فلا تصدم حائطاً 
ولا تتردى في حفرة. وإذا قربت من ذلك نفرت منه وأبعدت نفسها عنه وهي جاهلة 
بعاقبة ما يلحقها منه. أليس الذي جبلها على ذلك أراد صلاحها وسلامتها لينتفع بها؟ ثم 
انظر إلى فمها مشوقا إلى أسفل الخطم لتتمكن من نيل العلف والرعي . ولو جعل كفم 
الونسان لم تستطع أن تتناول شيئا من الأرض وأعينت بالحجفلة لتقصم بها ما قرب 
منهاء فألهمت قصم ما فيه صلاحها وترك ما لا غذاء لها فيه ولا صلاحء انظر ما كان من 
البهائم كيف يمز الماء في شربه مزاً. وكيف خلقت فيه شعرات حول فمه يدفع بها ما في 
شربها ما كان على وجه الماء من القذى والحشيش ويحركها تحريكا يدفع به الكدر عن 
الماء حتى يشرب صفوه, فتقوم لها هذه الشعرات مقام فم الاإنسان. ثم انظر إلى ذنب 
البهيمة وحكمته. وكيف خلق كأنه غطاء في طرفه شعرء فمن منافعه أنه بمنزلة الغطاء 
على فرجها ودبرها ليسترها ومنها أن ما بين دبرها وطرق بطنها أبدا يكون فيه وضر يجتمع 

بسيبه الذباب والبعوض ويجتمع أيضا على مؤخرهاء فأعينت على دفع ذلك بتحريك 
ذنبها فصار كأنه مدية في يدها تذب بها وتطرد عنها ما يضر بهاء ثم إنها تعطف برأسها 
فتطرد به ما في مقدمها من الذباب أيضاء ثم إن الدابة أيضاً أعينت بحركة مختصة. 
وذلك أن الذباب إذا وقع عليها في مواضع بعيدة من رأسها وذنبها حركت ذلك الموضع 
من جلدها تحريكاً تطرد به الذباب وغيره عنها. وذلك من عجيب الحكمة فيما لا ينتفع 


بيدين . 


ومن الحكمة فيه أيضاً أن الدابة تستريح بتحريكه يمنة ويسرة لأنها لما كان قيامها على 
أربع اشتغلت يداها أيضاً“بالحمل لبدنها والتصرف», فجعل فا في تحريك ذنبها منفعة 
وراحة» وأعينت بسرعة حركته حتى لا يطول ألمها بما يعرض لهاء ومن الحكمة فيه أن 
البهيمة إذا وقعت في بركة أو مهواة أو وحلت في طين أو غيره. فلا تجد شيئاً أاهون على 
نهرضها وخلاصها منه من الرفع بذنبهاء ومن ذلك إذا خيف على حملها أن ينقلب على 
رقبتها عند هبوطها من مكان مصبوب أو ليسبقها رأسها فتتكب على وجههاء فيكون 


78 


مسكها بذنبها في هذه المواضع يعد لها ويعينها على اعتدال سيرها وسلامتها مما خيف 
منه عليها إلى غير ذلك من مصالح لا يعلمها إلا الحكيم العليم . 

انظر إلى مشفر الفيل. وما فيه الحكمة والتدبير فإنه يقوم مقام اليد في تناول 
العلف وإيصاله إلى فمه. فلولا ذلك ما استطاع أن يتناول شيئاً في الأرض إذ لم يجعل 
له عنق يمده كسائر الأنعام. فلما عدم العنق في هذا الخلق جعل له هذا الخرطوم يمده 
فيتناول به ما يحتاجه فسبحان اللطيف الخبيرء انظر كيف جعل هذا الخرطوم وعاء 
يحمل فيه الماء إلى فمه ومنخراً يتنفس منهوآلة يحمل بها ما أراد على ظهره أو يناول من 
هوراكب عليه: انظر إلى خلق الزرافة لما كان منشؤها في رياض شاهقة خلق لها 
عنقاً طويلا لتدرك قوتها من تلك الأشجار. 


تأمل في خلق الثعلب فإنه إذا حفر له بيت في الأرض جعل له فوهتين إحداهما: 
ينصرف منهاء والأخرى: يهرب منها إن طلب ويرفق مواضع في الأرض في بيته. فإن 
طلب من المواضع المفتوحة ضرب برأسه في المواضع التي رفقهاء فخرج من خير 
المنافذ وهي المواضع التي تحتهاء انظر ما خلق الله تبارك وتعالى في جبلته لصيانة 
نفسه. وجملة القول في الحيوان: أن الله تبارك وتعالى خلقه مختلف الطباع والخلق. 
فما كان منه ينتفع الناس بأكله خلق فيه الانقياد والتذلل وجعل قوته النبات, وما جعل منه 
للحمل جعله هادىء الطبع قليل الغضب منقادا منفعلا على صور يتهيأ منه الحمل» 
وما كان منه ذا غضب وشر إلا أنه قابل للتنظيم إذا نظم خلق فيه هذا القبول للتعليم 
ليهسعين العباد بصيده وحراسته وأعين بآلات قد تقدم ذكرهاء ومن جملة ذلك الفيل فإنه 
ذوفهم مخصوص به وهو قابل للتانس والتعلم فيستعان به في الحمل والحروب. ومنها 
ماله غضب وشر إلا أنه متأنس بالإنسان لمنفعته كالهرة. ومن الطير ما للناس به انتفاع 
لما فيه من الإلفة والتأنس». فمن ذلك الحمام يألف موضعه فشغل بسببه في الإخبار 
بسرعة إذا دعت الحاجة إلى ذلك. وجعله الله سبحانه وتعالى كثير النسل فيكون منه 
طعام ينتفع به. ومن ذلك البازي » فإن طباعه تنتقل إلى التأنس. وإن كان في طبعه مباينا 
إلا أنه لما علم الله أنه ينتفع بصيده جعل فيه القبول للتنظيم حتى خرج عن عادته وبقي 
يعمل ما يوافق أصحابه وقت الصيد. وما خفي من الحكم في خلق الله تعالى أكثر مما 


علم . 


5 


باب 
في حكمة خلق النحل والنمل والعنكبوت 
ودود القز والذباب وغير ذلك 

قال الله سبحانه وتعالى :وما مِنْ داب في الأرْض, وَل طائر يَطِير اَي لمم 
أمَالُكُمْ ما فَرَطَنَا في الكتاب مِنْ شيء ثم إلى رَبْهُمْ يُحُشَرُونَ204©. انظر إلى النمل 
وما ألهمت له في احتشادها في جمع قوتها وتعاونهم على ذلك وإعداده لوقت عجزها عن 
الخروج والتصرف بسبب حر أو بردء وألهمت في تقلب ذلك من الحزم ما لم يكن عند 
من يعرف العواقب حتى تراها في ذلك إذا عجز بعضها عن حمل ما حمله أو جهد به 
اهاعري وضارت فاو على الكل كنا عار امسن على العمل لضن /1 م إل 
بالتعاون. ؛ ثم إنها ألهمت حفر بيوت في الأرض تبتدىء في ذلك بإخراج ترابها وتقصد 
إلى الحب الذي منه قوتها فتقسمه خشية أن ينبت بنداوة الأرض فمن خلق هذا فى 
جبلتها إلا الرحمن الرحيم. ثم إذا أصاب الحب بلل أخرجته فنشرته حتى يجفء ثم 
إنها لا تتخذ البيوت إلا فيما علا من الأرض خوفاً من السبل أن يغرقها. 

ثم انظر إلى النحل وما ألهمت إليه من العجائب والحكم, فإن الباري سبحانه 
جعل لها رئيساً تتبعه وتهتدي به فيما تناله من أقواتهاء فإن ظهر مع الرئيس الذي تتبعه 
رئيس آخر من جنسه قتل أحدهما الآخر. وذلك لمصلحة ظاهرة وهو خوف الافتراق» 
لأنهما إذا كانا أميرين وسلك كل واحد منهما فجا2” افترق النحل خلفهماء ثم إنها 
ألهمت أن ترعى رطوبات من على الأزهار فيستحيل في أجوافها عسلاً. فعلم من هذا 
التسخير ما فيه من مصالح العباد من شراب فيه شفاء للناس كما أخبر سبحانه وتعالى» 
وفيه غذاء وملاذ للعباد. وفيه من أقوات فضلات عظيمة جعلت لمنافع بني آدم. فهي 
مثل ما يفضل من اللبن الذي خلق لمصالح أولاد البهائم وأقواتها وما فضل من ذلك. 
ففيه من البركة والكثرة ما ينتفع به الناس, ثم انظر ما تحمله النحل من الشمع في أرجلها 
لتوعي فيه العسل وتحفظه. فلا تكاد تجد وعاء أحفظ للعسل من الشمع في الأجناح . 
فانظر في هذه الذبابة: هل في عملها وقدرتها جمع الشمع مع العسل أو عندها من 


(؟) طريقا. 


المعرفة بحيث رتبت حفظ العسل مدة طويلة باستقراره في الشمع وصيانته في الجبال 
والشجر في المواضع التي تحفظه ولا يفسد فيهاء ثم انظر لخروجها نهارا لرعيها 
ورجوعها عشية إلى أماكنها. وقد حملت ها يقوم. بقوتها ويفضل: غنهاء ولها في ترتيب 
بيوتها من الحكمة في بنائها حافظ لما تلقيه من أجوافها من العسل. ولها جهة اخرى 
تجعل فيها برازها مباعدا عن مواضع العسل. وفيها غير هذا مما انفرد الله بعلمه. 

انظر إلى العتكبوت ونا خلق فيها من الججيةة فإن الله خلق في جسدها رطوية 
تنسج منها بيتا لتسكنه وشركا لصيدها فهو مخلوق من جسدها, وجعل الله غذاءها من 
أقواتها ينصرف إلى تقويم جسدهاء وإلى خلق تلك الرطوبة المذكورة فتنصبه أبدأ مثل 
الشرك وفي ركن الشرك بيتها وتكون سعة بيتها بحيث يغيب شخصهاء وللشرك من خيوط 
رقاق تلتف على أرجل الذباب والناموس وما أشبه ذلك. فإذا أحست أن شيئا من ذلك 
وفع في شركها خرجت إليه بسرعة وأخذته محتاطة عليه ورجعت إلى بيتها فتقتات بما 
يتيسر لها من رطوبة تلك الحيوانات. وإن كانت مستغنية في ذلك الوقت شكلته وتركته 
إلى وقت حاجتها. فانظر ما جعل الله فيها من الأسباب لحصول قوتهاء فبلغت في ذلك 
ما يبلغه الإنسان بالفكرة والحيلة» كل ذلك لإصلاحها ولنيل قوتها ولتعلم أن الله هو 
المدبر لهذا . 


ثم انظر من العجائب دود القزء وما خلق فيه من الأشياء التي يتحير منها وتذكر الله 
عند رؤيتهاء فإن هذا الدود خلق لمجرد مصلحة الإنسان ومنافعه. فإن هذا الحيوان 
الذي يخلق من جسمه الحريرء وذلك أن صورة البزر تحضن حتى إذا حمى عاد دوداً 
كالذر فيوضع هذا الدود على ورق التوت فيتغذى منه. فلا يزال يرعى منه حتى يحفر 
جسمه فينبعث إلى غزل نفسه جوزة الحريرء فلا يزال كذلك حتى يفنى جسمه وتعود 
جوزة الحرير ويصير هو جسماً ميت لا حياة فيه» ثم انظر فإن الباري سبحانه لما أراد حفظ 
هذا الجنس ببقاء نسله فعندما ينتهي من غزل الحرير ويعفى ذلك الجسم يقلبه الله إلى 
صورة طائر صغير قريب من صورة النحل فيجمع على بساط أو غيره وهو في رأي العين 
جنس واحد لا يتميز منه الذكر من الأنثى » فيعلو الذكر منه على ظهر الأنثى ويقيم لحظة 
على ظهرها فتحبل لوقتها مثل ذلك البزر الذي حضن أولاء ثم يطير فيذهب فلا يبقى بها 
انتفاع إذ قد حصل منها المقصود وهوذلك البزر. فانظر من ألهمها الرعي من ذلك الورق 
حتى يرتب منه. ومن ألهمها إلى غزل أجسادها حريراً حتى تفنى فيما غزلته» ومن ربى 


يه 


لها أجنحة وقلب صورتها حتى صارت على هيئة تمكن فيها اجتماع الذكر والانثى 
لتناسلهاء ولو بقيت على صورتها الأولى لم يأت منها تناسل ولا هذا الاجتماع. ثم انظر 
ما يسره الباري سبحانه من عمل ماغزلته هذه الدودة على من يعمله من بني آدم حتى 
يكون منه أموال كثيرة وملابس عظيمة وزينة. وانظر هذا التسخير العجيب في هذا 
الحيوان اللطيف وما أظهر فيه سبحانه من بديع الصنم وعجيب الفعل وعظيم الاعتبار, 
وما جعل فيه من البرهان والآيات على بعث الأموات وإعادة العظام الرفات سبحانه لا إله 
إلا هو العلي العظيم . 

ثم انظر الذبابة وما أعينت به في نيل قوتهاء فإنها خلقت بأجنحة تسرع بها إلى 
موضع تنال فيه قوتها وتهرب بها عما يهلكها ويضر بها وخلق لها ستة أرجل تعتمد على 
أربع وتفضل اثنتين» فإن أصابها عثار مسحته بالرجلين اللذين تليهماء وذلك لرقة 
أجنحتهاء ولأن عينيها لم يخلق لهما الهداب. لأنهما بارزتان عن رأسهاء وجعل هذا 
الحيوان وما جرى مجراه مما يتعلق ببني آدم ويقع عليهم دائماً وينفص عليهم عيشهم 
ليعرفهم الباري سبحانه هوان الدنيا حتى تصغر عندهم ويهون أمر فراقها وهو وجه من 
وجوه الحكمة عليهم . 


تأمل كثيراً من الحيوان الصغير عندما تلمسه يعود كأنه جماد لا حراك به ويبقى 
على ذلك ساعة. ثم يتحرك ويمشي ‏ وهل ذلك إلا لأن ما يصطاد إذا دلت هيئته على 
عدم حياته. فإذا كان شبيهاً بالجماد ترك كما تترك سائر الحجارة . تأمل العقاب عندما 
يصطاد السلحفاة يجدها كأنها حجر ولا يجد فيها موضعاً لأكله. فيصعد بها في مخالبه 
حتى إذا أبعد من الأرض اعتدل بها على جبل أو حجارة وأرسلها فتهشمها الوقعة فيسقط 
عليها فيأكلها. فانظر كيف ألهم الطريق في نيل قوته من غير عقل ولا روية . 

انظر إلى الغراب لما كان مكروهاً خلق في طبعه الحذر لصيانة نفسه حتى كأنه 
يعلم الغيب فيمن يقصده. وألهم الاحتيال في إخفاء عشه لصون تراه وقل احتفاله 
بالأنئى خشية أن تشغله عن شدة حذره» ولذلك قل أن يرى مجتمعاً مع انثى » فهذا أبداً 
دأبه وحاله مع من له عقل وفطنة وتراه مع البهائم على خلاف ذلك فيقف على ظهورها 
ويأكل من دم البعير» ومن أرواث الدواب وقت تبرزهاء وإذا وجد شيئاً من قوته وأكل منه 
وشبع دفن باقيه حتى يعاوده وقتا آخرء فما خلق هذا في طبعه ودبره بهذا التدبير العجيب 
إلا اللهء لانه لا عقل له ولا روية. 


و 


انظر إلى الحدأة لما كانت مكروهة حفظت نفسها بقوة طيرانها وتعاليها وحفظت 
في أمر قوتها بقوة بصرهاء فإنها ترى ما تقتات به في الأرض مع علوها في الجو فتنحط 
نحوه بسرعة. وألهمت معرفة من هو مقبل. ومن هو مدبر فتخطف ما تخطفه من الناس 
من ورائهم. ولا تخطف مما يستقبلها لثلا يمنعها المستقبل بيديه. وأعينت لما كان 
غذاؤها من هذه الوجوه بأن جعلت لها مخالب كأنها السنانير لا يكاد يسقط منها 
ما ترفعه. فسبحان المدبر الحكيم . 


انظر إلى الحيوان المسمى حرباء وما فيه من التدبير» فإنه خلق بطيئاً في نهضته» 
وكان لا بد له من قوته. فخلق على صورة عجيبة» فخلقت عيناه تدور لكل جهة من غير 
حركة في جسده ولا قصد إليه ويبقى جامداً كآنه ليس من الحيوان» ثم أعطي مع 
السكون وهو أنه يتشكل في لون الشجر التي يكون عليها حتى يكاد يختلط لونه بلونها, 
ثم إذا قرب منه ما يصطاده من ذباب أو غيره أخرج لسانه فيخطف ذلك بسرعة خفوق 
البرق. ثم يعود على حالته كأنه جزء من الشجرة. وجعل الله لسانه بخلاف المعتاد 
ليلحق به ما بعد عنه بثلاثة أشبار أو نحوه. فقد سخر له ما يصطاد به على هذه المسافة. 
وإذا رأى ما يريعه ويخيفه شكل على هيئة وشكل ينفر منه من يصطاد من الحيوان 
ويكرهه . فانظر هذه الأشياء التي خلقت فيه لأجل قلة نهضته فأعين بها. 

انظر إلى الحيوان الذي يسمى سبع الذباب وما أعطى من الحيلة والرفق فيما 
يقتات به 'فإنك تجده يحس بالذباب قد وقع قريباً منه فيركد ملياً حتى كأنه ميت أو جماد 
لا حراك به. فإذا أحس أن الذباب قد اطمان دب دبيباً دقيقاً حتى لا ينفره حتى إذا صار 
قريباً منه بحيث يناله بوثبة وثب عليه فأخذه. فإذا أخذه اشتمل عليه بجسده كله خشية أن 
يتخلص منه الذباب فلا يزال قابضاً عليه حتى يحس ببطلان حركته فيقبل عليه فيتغذى 
منه بما يلائمه . فانظر إلى هذه الحيلة من فعله أو هي مخلوقة من أجل رزقه فسبحانه 
اليارىء الحكيم . 

انظر إلى الذر والبعوض الذي أوهن الله قوتها وأصغر قدرها وضرب بها المثل في 
مرضي لا لهي ا ع 0 
تقصد به موضعاً تنال فيه قوتها وآلة لهضم غذائها وإخراج فضلته. وانظر هل يمكن أن 
يعيش من غير قوت وهل يمكن أن يكون القوت في غير محل واحد. وإخراجه فضلته من 
غير منفذ. ثم انظر كيف دبرها العزيز الحكيم, فسواها وقدر أعضاءها واستودعها العلم 


5 


والمعرفة بمنافعها ومضارهاء وكله دليل على علمه وقدرته وحكمته البالغة فهي بعوضة 
صغرت في النظرء ومع هذا فلوأن أهل السموات والأرض من الملائكة؛ فمن دونهم من 
العالمين وسائر الخلق أجمعين أرادوا أن يعرفوا كيف قسم الخالق سبحانه أجزاءها 
وحسن اعتدال صورتها في أعضائها لما قدروا على ذلك إلا تظاهراً لمنظر العجز منهم 
على عدم علم حقيقة الخبر» ولو اجتمعوا ثم تفكروا كيف ركبت معرفتها حتى عرفت أن 
ما بين الجلد واللحم دما وهو الذي منه غذاؤهاء ولولا معرفتها به لم تدم على مصه 
تطعمه وكيف همتها التي قصدت بها أن تطير إلى الموضع الذي ألهمها ربها أن فيه 
غذاءهاء وكيف خرق سمعهاء وكيف سمعت حس من يقصدها وكيف عرفت أن نجاتها 
في الفرار إذا ولت هاربة ممن قصدها فلن يدرك ذلك منها الخلائق أجمعون. ولو 
جرّءوها ما ازدادوا في أمرها إلا عمى وبعداً عن المعرفة؛ فهذه الحكمة والقدرة في 
بعوضة» فما ظنك بجميع مخلوقاته سبحانه وتعالى علوا كبيراً. 
باب 
في حكمة خلق السمك وما تضمن خلقها من الحكم 

قال الله تعالى : 9وَهُوَ الذي سَخُرَالْبَحرَلِتَكلُوا مِنّْهُ َحَما طَرِيَأ04'©. انظر واعتبر بما 
لق الله تعالى فى البحار والأنهار من الحيوان المختلف الصور والأشكال, وما فيه من 
الآيات البينات: فإنه تعالى لما جعل مسكنه في الماء لم يخلق له قوائم ولم يخلق فيه 
رئة. لأنه لا يتمشى وهو منغمس في لجة الماء. وخلقت له مكان القوائم أجنحة شداد 
يحركها من جانبه فيسير بها حيث شاء. وكسا جلده كسوة متداخلة صلبة تخالف لحمه 
متراصة كأنها درع لتتقيه ما يعتدي عليه وما يؤذيه» ومالم يخلق له من السمك تلك 
الكسوة وهي القشر المتداخل المخلوق على ظاهره خلق له جلدا غليظأ متقنا يقوم له 
مقام تلك الكسوة لغيره» وخلق له بصراأً وسمعاً وشماً ليستعين بذلك على نيل قوت 
والهرب مما يؤذيه. وانظر كيف أعطى في قعر البحر ما يناسبه في نيل القوت والهرب 
مما يضره» ولما علم الله سبحانه أن بعضه غذاء لبعض كثره. وجعل أكثر أصناقه 
يحملء ولم يجعل الحمل منه مخصوصاً بالأنثى دون الذكر كحيوان البر. بل جعل 
الذكر والأنئى جنساً واحداً يخلق في بطونها مرة واحدة في وقت معلوم ذريعة مجتمعة 


. ١8 سورة النحل: الآية‎ )١( 


5: 


مشتملة على عدد لا ينحصرء لخاد عرق واحلة عندا لآ يدي وذلك من كل 
بزرة حوتاً من الجنس ومن جنس آخر يخلق في الأنهار وغيرها بغير توالد فيخلق منها 
أعداداً لا تحصر دفعة واحدة. ومنه صنف يتوالد بالذكر والآنئى , وهذا الجنس يخلق له 
يدان ورجلان مثل السلحفاة والتمساح وما شاكلهما فيتولد منهما بيضء. فإذا فقس 
البيض بحرارة الشمس خرج من كل بيضة واحد من الجنس, ولما علم الله سبحانه 
وتعالى أن السمك في البحر لا يمكن أن يحضن ما يخرج من بزره ألقى الروح في بزر 
جميعه عندما يولد فيجد فيه جميع ما يحتاجه من الأعضاء عند إلقاء الروح فيه فيستقل 
ولا يفتقر إلى أحد في كمال خلقه . فانظر هذه الحمكة واللطف حيث لم يمكن حضانته 

في البحر ولا تربيته ولا معونته البتة جعله مستقلا بنفسه مستغنيا عن ذلك كله ثم إن الله 
سبحانه كثره. لأن منه قوت جنسه وقوتاً لبي آدم والطير فلذلك كان كثيراًء * ثم انظر إلى 
سرعة حركته وإن لم تكن له آلةكغيره من الحيوان وانظر إلى حركة ذنبه وانقسامه. وكيف 
يعتدل بذلك في سيره كما تعتدل السفينة برجلها في سيرها. وخلقت أرياشه ألواحاً من 
جانبيه ليعتدل بهما أيضاً في سيره فهو بمنزلة المركب. وانظر إلى عظامه كيف خلقت 
مثل العمد يبنى عليها. ففي كل موضع منه ما يليق به من صورة العظم المشاكل لذلك 
العضو. فهو كإنشاء المركب يمتد العظم الجافي الذي هو قوته ويخرج من أضلاع إلى 
مراقي البطن والظهر وعظام الرأس يحتاج إليه من الأمر وبه قوامه . وانظر إلى ما كان منه 
كاسرا كيف أعين على نيل قوته لصلابة اللحم وقوة النهضة وكثرة الأسنان حتى انه لكثر 
أسنانه تكون العضة الواحدة تجزيه عن المضغ . 


انظر إلى ما خلق الله في البحر ضعيفاً قليل الحركة مثل أصناف الصدف 
والحلزون كيف حفظ بأن خلق عليه ذلك الحصن الذي هو صلب كالرخام ليصونه 
ويحفظه. وجعل له بيتا وسكناء وجعل ما يولى جسده ناعماً أنعم ما يكون. وربما ضر 
بييت بعض أصناف الحلزون حتى لا يكون فيه مطمع البتة» وأصناف منه خلقت في 
محائز مفتوحة لا يمكن صيانتها لنفسها لتغلقها ولا يضيق مسلكهاء فجعل الله لها من 
الجبال والحجارة مغطى » وجعل لها أسباباً تلتصق بها في الجبل فلا يستطاع [خراجها إلا 
بغاية الجهد. وجعل لها قوتاً من رطوبة الجبل تتأتى حياتها بذلك . 

وأما الحلزون الذي بينه كأنه كوكب فإنه يخرج رأسه يرعى » فإذا أحس بما يؤذيه 
أدخل رأسه في بيته وختم عليه بطابع صلب يقرب من صلابة بيته فيغيب أثره بالجملة . 


ك5 


فانظر هذا اللطف وأن الله لم يهمل شيئاً. واعلم أن الله حافظ لما في البحار وما في 
الأكام والجبال. فتبارك الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى. 

وانظر إلى أنواع من السمك يرعى قرب البر الصغير منها والجأ في الأعماق. 
وخلق الله فى جوفه صبغا كأنه حبر وهو يخلق له فيه من فضلة غذائه كما يخلق اللبن فى 
الضرع . فإذا أحس ما يؤذيه أخرج من جوفه ما يعكر موضعه. ثم يذهب في الماء الذي 
تغير فلا يعرف كيف ذهت ولا كيف طريقه من تغيبر الماء فعل الله ذلك له وفاية لنفسه 
وفعل فيه مصالح أخرى لا يعلمها إلا خالقها. انظر إلى نوع آخر من السمك أعين 
بأجنحة مثل أجنحة الخفاش ينتقل بها من موضع إلى موضع في الهواء من وجه الماء 
يظهر لمن لا يعرف ذلك أنه من طيور البر. انظر إلى نوع آخخر من أنواع السمك 
ضعيف وكثيراً ما يكون في الأنهار, وجعل الله فيه خاصية تصونه إذا اقتربت منه يد من 
يأخذه وفيه الروح تخدر البدن واليد فيعجز قاصده عن أخذه بذلك السببء» فلو ملثت 
الكتب بعجائب حكم الله في خلق واحد لامتلات الكتب وعجز البشر عن استكمالها 
وما هو المذكور في كل نوع تنبيه يشير إلى أمر عظيم. 


باب 
في حكمة خلق النبات وما فيه من عجائب حكمة الله تعالى 


قال الله تعالى : «أْمَنْ خلقٌ السْمَُواتِ والأرْض وائْرْلَ لَكُمْ مِنَ السّماءٍ مَاءً نيتنا 
به حَدَائْقَ قَ ذَاتَ بَهجَةٍ ما كَانَ َكُمْ أنْ يوا شَجَرَهَا لَه ممَ الل َلْ هُمْ قَوْميعْدِلُونَ004©. 
انظر وفقك الله وسددك إلى ما على وجه الأرض من النبات وما في نظره من النعم في 
حسن منظره وبهجته ونضارته التي لا يعد لها شيء من مناظر الأرضء ثم انظر إلى جعل 
البارىء فيه من ضروب المنافع والمطاعم والروائح والمآرب التي لا تحصى . وخلق فيه 
الحب والنوى مخلوقاً لحفظ أنواع النبات. وجعل الثمار للغذاء والتفكه والإتيان منها 

للعلف والرعي. والحطب للوقود. والأخشاب للعمارة وإنشاء السفن ولغير ذلك من 
الأعمال التي يطول تعدادهاء والورق والأزهار والأصول والعروق والفروع والصموغ 
لضروب من المصالح لا تحصى . أرأيت لووجدت الثمار مجموعة من الأرض ولم يكن 
تنبت على هذه السوق الحاملة لها ما كان يحصل من الخلل في عدم الأخشاب والحطب 


)2 سورة النمل: الآية بك 


/ع 


والإتيان بالعلف وسائر المنافع. وإن وجد الغذاء بالثمرات والتفكه بها. ثم انظر 
ما جعل الله فيها من البركات حتى صارت الحبة الواحدة تخلف مائة حبة وأكثر من ذلك 
وأقل. والحكمة في زيادتها وبركتها حصول الاقتيات وما فضل ادخر للأمور المهمة 
والزراعات. وذلك في المئال كملك أراد عمارة بلدة فأعطى أهلها من البذر ما يبذرونه 
وفضلة يتقوتون بها إلى إدراك زرعهم. فهذه هي الحكمة التي أعم الله بها البلاد وأصلح 
بها العباد. وكذلك الشجر والنخل يزكو وتتضاعف ثمراتها حتى تكون.من الحبة الواحدة 
الشيء العظيم ليكون فيه ما يأكله العباد ويصرفونه في مآربهم ويفضل ما يدخر ويغرس 
فيدوم جنسه ويؤمن انقطاعه, ولولا نموه وبقاء ما يخلفه لكان ما أصابته جائحة ينقطع فلا 
يوجد ما يخلف. 


تأمل في هذه الحبوب فإنها تخرج في أوعية تشبه الخرائط لتصونها وتحفظها إلى 
أن تشتد وتستحكم كما تخلق البشيمة على الجنين» فأما البزر وما أشبه من الحبوب. 
فإنه يخرج من قشور صلبة على رؤوسها أمثال الأسنة ليمنع من الطير. فانظر كيف 
حصنت الحبوب بهذه الحصون وحجبت لثلا يتمكن الطير منها فيصيب بهاء وإن كان 
يناله منها قوته إلا أن حاجة الآدمي أشد وأولى . تأمل الحكمة في خلق الشجر وأصناف 
النبات» فإنها لما كانت محتاجة إلى الغذاء الدائم كحاجة الحيوانات ولم يخلق فيها 
حركات تنبعث بها ولا آلات توصل إليها غذاءها جعلت أصولها مركوزة في الأرض 
لتجذب الماء من الأرضء» فتتغذى بها أصولها وماعلا منها من الأغصان والأوراق 
والثمار. فصارت الأرض كالأم المربية لهاء وصارت أصولها وعروقها كالأفواه الملتقمة 
لهاء وكأنها ترضع لتبلغ منها الغذاء كما يرضع أصناف الحيوان من أمهاتها . ألم ترى إلى 
عمد الخيم والفسطاط كيف يمتد بالأطناب من كل جانب ليثبت منصته فلا يسقط 
ولا يميل. فهكذا أمر النبات كله له عروق منتشرة فى الأرض ممتدة إلى كل جانب 
وتمسكه وتقيمه, ولولا ذلك لم تثبت الأشجار العالية, لا سيما في الرياح العاصفة. 
فانظر إلى حكمة الخالق كيف سبقت حكمة الصناعة واقتدى الناس في أعمالهم 
بحكمة الله في مصنوعاته» وتأمل خلق الورق فإنك ترى في الورقة شبه العروق مبثوثة» 
فمنها غلاظ ممتدة في طولها وعرضهاء ومنها دقاق تتخلل تلك الغلاظ منسوجة نسجاً 
دقيقاً عجيباً. لوكان مما يصنع بأيدي البشر لما فرغ من ورق شجرة واحدة إلا في مدة 
طويلة, وكان يحتاج فيه إلى آلات وطول علاج . فانظر كيف يخرج منه في المدة القليلة 
مايملا السهل والجبال وبقاع الأرض بغير آلة ولا حركة إلا قدرة البارىء وإرادته 


14 


وحكمه. ثم انظر تلك العروق كيف تتخلل الورق بأسره لتسقيه وتوصل إليه المادة وهفي 
بمنزلة العروق المبثوثة في بدن الإنسان لتوصل الغذاء إلى كل عضو منه, وأما ما غلظ 
من العروق فإنها تمسك الورق بصلابتها وقوتها لكلا ينتتهك ويتمزق . 

ثم انظر إلى العجم والنوى والعلة فيه فإنه جعل في جوف الثمرة ليقوم مقامة إذا 
عدم ما يغرس أو عاقه سبب. فصار ذلك كالشيء النفيس الذي يخزن في مواضع شتى 
لعظم الحاجة إليه فإن حدث على الذي في بعض المواضع من حادث وجد منه في 
موضع آخرء ثم في صلابته يمسك رخاوة الثمار ورقتهاء ولولاه لسرحت وسرح الفساد 
إليها قبل إدراكهاء وفي بعضها حب يؤكل وينتفع بدهنه ويستعمل في مصالح . ثم انظر 
إلى ما خلق الله تعالى فوق النواة من الرطب وفوق العجم من العنبة والهيئة التي تخرج 
عليها. وما في ذلك من الطعم واللذة والاستمتاع للعباد. ثم تأمل خلق الحب والنوى 
وما أودع فيه من قوة وعجائب كالمودع في الماء الذي يخلق منه الحيوان وهو سر لا يعلم 
حقيقته إلا الله سبحانه وما علم من ذلك يطول شرحه. 


ثم انظر كيف حفظ الحب والنوى بصلابة وخلقت في ظاهره قشرة حتى أنه بسبب 
ذلك إن سقط في تراب أو غيره لا يفسد سريعاً. وإذا ادخر لوقت الزراعة بقي محفوظاء 
فصار قشره الخارج حافظاً لما في باطنه بمنزلة شيء نفيس عمل له صندوق يحفظهء 
وعندها يوضع في الأرض ويسقى يخرج منه عرق في النوى وغصن في الهواء. وكلما 
ازداد غصنا ازداد عرقا تتقوى به أصل الشجرة وينصرف الغذاء منه إلى الغصن فهي 
كذلك إذ يتم غصنها قوتها فتكون الفروع محفوظة عن السقوط بالهواء والانكسار بالنقل 
أو بغيره ويصعد الماء في جذورها إلى أعالي الشجرة فيقسمه الله سبحانه بالقسط وميزان 
الحق. فينصرف للورق غذاء صالح له وللعروق المشتبكة في الأوراق لاتصال الغذاء 
إلى جوانب الورق ما يليق بغذائهاء وللثمار غذاء صالح لهاء وللأقماع واللحا والأزهار 
غذاء صالح لكل من ذلك ما يليق به ويصلحه. فهو كذلك حتى يكمل في الثمار نموها 
وطعمها ورائحتها وألوانها المختلفة وحلاوتها وطيبهاء ثم انظر كيف جعل الله سبحانه 
خروج الأوراق سابقاً لخروج الثمار لأن الشمرة ضعيفة عند خروجها تتضرر بحر الشمس 
وبرد الهواء. فكانت الأوراق ساترة لها. وصار ما بينها من الفرج لدخول أجزاء من 
الشمس والهواء لا غنى للثمرة عنها فيحفظها ذلك من المن والعفن وغير ذلك من 
الفساد. 


: 


ثم انظر كيف رتب البارىء سبحانه الأشجار والثمار والأزهارء وجعلها مختلفة 
الألوان والأشكال والطعوم والروائح . فأشكالها ما بين طويل وقصير وجليل وحقير. 
وألوانها ما بين أحمر وأبيض وأصفر وأخضر, ثم كل لون منها مختلف إلى شديد وصاف 
ومتوسط. وطعومها ما بين حلو وحامض ومز وتفه ومر. وروائحها إلى عطرات لذيذات 
مختلفات. وقد أوضح الكتاب العزيز من ذلك ما ذكرناه بما يشرح الصدور ويكشف 
للمتامل منه كل مستور. فانظر ما أودع البارىء سبحانه فيها من السر عند النظر إليهاء 
فإنها تجلى عن القلوب درنها عند مشاهدتها وتنشرح الصدور برؤيتها وتنتعش النفوس 
لرونق بهجتهاء وأودع الله سبحانه فيها منافع لا تحصى مختلفة التأثير. فمنها ما تقوى به 
القلوب, ومنها أغذية تحفظ الحياة, وجعلها مطعومة لذيذة عند تناولهاء وخلق فيها 
بزوراً لحفظ نوعها بورع عند جتانها وانفصال وقت نضارتها. انظر وتأمل ما في قوله 
عز وجل : ووَشَجْرَةٍ تَخْرُجُ مِنْ طورٍ سيناء نت الدّمْنِ وَصِبٍْْ للآكلين 2'74. فأخرج 
سبحانه فيما بين الحجر والماء زيتاً صافياً لذيذاً نافعاً كما أخرج اللبن من بين فرث ودم» 
ومن أخرج من النخل شراباً عسلا مختلفاً ألوانه فيه شفاء للناس» ولوجمعت هذه الأشياء 
في مستقر لكانت مثل الأنهار وكل ذلك لمنافع العباد. فانظر ما فيه من العبرة لذوي 
الأفكار. ثم انظر إلى الماء الصاعد من العروق الراسخة الحافظة للأعلى من الشجرة» 
وكيف قسم البارىء في غذاء النخلة. فقسم للجذر ما يصلح لها وللجريد, وما فيه من 
السل ما يصلح لها ويناسب جريدها ويرسل للثمرة ما يليق بهاء وكذلك الليف الحافظ 
للأصول مع الثمرة وجعل الثمرة لما كانت ضعيفة في أول أمرها متراصة متراكمة بعضها 
فوق بعض مجموعة في غلاف متقن يحفظها مما يفسدها ويغيرها حتى إذا قويت صلحت 
أن تبرز للشمس والهواءء فشق عنها غلافها على التدريج» وهو الذي كان حافظاً لها 
فيصير يفترق شيئاً بعد شيء على قدر ما تحتمله الثمرة من الهواء والشمس حتى تكمل 
قوتهاء فتظهر جميعها حتى ما يضر بها ما يلقاها من حر وبردء ثم تراها في النضج 
والطيب إلى بلوغ الغاية المقصودة منها فيلتذ حينئذٍ بأكلها ويمكن الانتفاع بادخارهاء 
وتصرف في المآرب التي هيئت لهاء واعتبر ذلك في جميع الأشجار, فإنك ترى فيها من 
أسباب الحفظ ولطائف الصنع ما يعتبر به كل ذي فهم ولب. فمن ذلك خلق الرمانة 
وما فيها من غرائب التدبيرء فإنك ترى فيها شحماً مركوماً في نواصيها غليظ الأسفل رقيق 


. ؟١ سورة المؤمنون: الآية‎ )١( 


الأعلى كأمثال التلال في تلوينه أو البناء الذي وسع أسفله للاستقرار ورقق أعلاه حتى 
صار مرصوفاً رصفاً كأنه منضد بالأيدي. بل تعجز الأيدي عن ذلك التداخل الذي نظم 
حبها في الشحم المذكور, وتراه مقسوماً أقساما. وكل قسم منه مقسوم بلفائف رقيقة 
منسوجة أعجب نسج وألطفه لتحجب حبها حتى لا يلتقي بعضه ببعض فيفسد ولا يلحق 
البلوغ والنهاية» وعليها قشر غليظ يجمع ذلك كله ومن حكمة هذه الصنعة أن حبها لو 
كان حشوها منه صرفاً بغير حواجز لم يمد بعضه بعضاً في الغذاء. فجعل ذلك الشحم 
خلاله ليمده بالغذاء. ألا ترى أصول الحب كيف هي مركوزة في ذلك الشحم ممددة منه 
بعروق رقاق توصل إلى الحب غذاءها. وإلى حبة حبة غذاءها ومن رقها وضعفها 
لا تكدر على الأقل ولا تعرف بهاء ثم انظر ما يصير من الحلاوة في الحب من أصول مرة 
شديدة المرارة قابضة , ثم تلك اللفائف على الحب تمسكه على الاضطراب وتحفظه. 
ثم حفظ الجميع وغشاه بقشر صلب شديد القبض والمرارة وقاية له من الآفات. فإن هذا 
النوع من النبات للعباد به انتفاعات وهو ما بين غذاء ودواء وتدعو الحاجة إليه في غير 
زمانه الذي يجني فيه من شجره فحفظ على هذه الصفة لذلك . 


انظر إلى عود الرمانة الذي هي متعلقة به كيف خلق مثبتاً متقئاً حتى تستكمل 
خلقها فلا تسقط قبل بلوغها الغاية المحتاج إليها وهي من الثمرة المختصة بالانسان دون 
غيره من الحيوان. انظر إلى النبات الممتد على وجه الأرض مشل البطييخ واليقطين 
وما أشبه ذلك وما فيه من التدبير. فإنه لا كان عود هذا النبات رقيقا ريانا ذا احتياج إل 
الماء لا ينبت إلا به جعل ما ينبت به منبسطا على وجه الأرض. فلو كان منتصبا قائما 
كغيره من الشجر لما استطاع حمل هذه الثمار مع طراوة عودها ولينهاء فكانت تسقط قبل 
بلوغها وبلوغ غاياتهاء فهي تمتد على وجه الأرض لبلوغ الغاية وتحمل الأرض عودها 
وأصل الشجرة والسقي بمدها. وانظر هذه الأصناف كيف لا تخلق إلا في الزمن الصالح 
لها ولمن تناولهاء فهي له معونة عند الحاجة إليها ولوأتت في زمان البرد لنفرت النفوس 
عنها ولأضرت بأكثر من يأكلها. 

ثم انظر إلى النخل لما كانت الأنثى منه تحتاج إلى التلقيح خلق فيها الذكر الذي 
تحتاج إليه لذلك حتى صر الذكر في النخل كأنه الذكر في الحيوان» وذلك ليتم خلق 
ما بزراعته تحفظ أصول هذا النوع. ثم انظر ما في النبات من العقاقير النافعة البديعة» 
فواحد يفور في البدن فيستخرج الفضلات الغليظة» وآخر لإخراج المرة السوداءء وآخر 


اآه 


للبلغم . وآخر للصفراء. وآخر لتصريف الريح . وآخر لشد البطن في الطبيعة. وآخر 
للاسهال. وآخر للقيء. وآخر لروائحه. وآخر للمرضى والضعفاء, وكل ذلك من 
الماء. فسبحان من دبر ملكه بأحسن التدبير. 


باب 
ما تسته تستشعر به القلوب من العظمة لعلام الغيوب 

قال الله العظيم : 9تسَبّحُ لَهُ السْمَواتُ السْبْعُ والأض وَمَنْ فين وَإِنْ مِنْ شيءٍ 
إلا يبح بِحَمْدمِ ولكِنْ لا تَفْقهُونَ تَبيحَهُمْ إَهُ كانَ حَليما خَفورأ24. وقال تعالى : 
ونَكَادُ السَمٌوات ث يَعفطرْنَ مِنْ فَوْقِهن وَالمَلاِعَُيسبَحُونَ بِحَمْدٍ بهم وَيستففِرونَ لمن 
في الأرّض 4”©. وقال تعالى: لوَيْسَبّحُ الرَعْدُ بِحَمْده وَالْمَلدْكَةٌ مِنْ خيفته04©. 
اعلم وفقنا الله وإياك أن جميع ما نقدم ذكره في هذا الكتاب من بدائع الخلق وعجائب 
الصنع وما ظهر في مخلوقاته من الحكم آيات بينات. وبراهين واضحة., ودلائل داللات 
على جلال بارثها وقدرته ونفوذ مشيثته وظهور عظمته. فإنك إذا نظرت إلى ما هو أدنى 
إليك وهي نفسك رأيت فيها من العجائب والآيات ما سبق التنبيه عليه وأعظم منه. ثم 
إنك إذا نظرت إلى مستقرك وهي الأرض وأجلت فكرك فيها وأطلت النظر في استرسال 
ذهنك فيما جعل فيها وعليها من جبال شامخات, وما أحيط بها من بحار زاخرات. وما 
جرى فيها من الأنهار. وما انبث فيها من «أصناف النباتات والأشجار. وما بث فيها من 
الدواب إلى غير ذلك مما يعتبر به أولو الألباب. ثم إذا نظرت إلى سعتها وبعد أكنافهاء 
وعلمت عجز الخلائق عن الإحاطة بجميع جهاتها وأطرافهاء ثم إذا نظرت فيما ذكرته 
العلماء من نسبة هذا الحق العظيم إلى السماءء وأن الأرض وما فيها بالنسبة إلى السماء 
كحلقة ملقاة فى أرض فلاة وما ذكره النظار من أن الشمس في قدرها تزيد على قدر 
الأرض مائة ونيفا وستين جزءاً. وأن من الكواكب ما يزيد عن الأرض مائة مرةء ثم إنك 
ترى هذه النيرات كلها من شمس وقمر ونجوم قد حوتها السموات وهي مركوزة فيها. 
ففكر في السماء الحاوية لهذا القدر العظيم كيف يكون قدرهاء ثم انظر كيف ترى 


)غ0( سورة الإسراء: الآية 44 . 
2( سورة الشورى: الآية 6. 
(5) سورة الرعد: الآية ١9‏ . 


ردك 


الشمس والقمر والنجوم والسماء الجامعة لذلك في حدقة عينك مع صغرهاء وبهذا 
تعرف بعد هذا كله منك وعظم ارتقائه. ولأجل البعد ترى هذه النيرات صغيرة ة في رأي 
العين, 5 ثم انظر إلى عظم حركتها وأنت لا تحس بها ولا تدركها لبعدهاء ثم إنك لا تشك 
أن الفلك يسير في لحظة قدر الأرض مائة مرة وأكثر من ذلك وأنت غافل عن ذلك», ثم 
فكر في عظم قدر هذه الأشياء. واسمع قسم الرب سبحانه بها في مواضع من الكتاب 
العزيز. فقال عز وجل : «والسّماءٍ ذْاتِ الببروج 6 «إوالسماءٍ والطارقٍ * وَما أدرَاكَ 
مَا الطارِقٌ © النجم الْاتِبُ2”6. وقال: طفَلا اقْسِمْ بمُواقِع. النجُوم * وإنه لَقَسَمْ لَو 
تَعْلَمُونَ عَظِيم 4" . إلى غير ذلك من الآي. ثم ترق بنظرك إلى ما حواه العالم العلوي 

من الملائكة وما فيها من الخلق العظيم وما أخبر به جبريل عليه السّلام النبي ول عن 
إسرافيل عليه السّلام. يقول جبريل: فكيف لو رأيت إسرافيل» وإن العرش لعلى 
كاهله. وإن رجليه لفي تخوم الأرض السفلى. وأعظم من هذا كله قوله عر وجل: 
دِوَسِعَ كُرْسِيْهُ السّمَواتِ والآرْضٌ76». فما ظنك بمخلوق وسع هذا الأمر العظيم» 
فارفع نظرك إلى بارىء هذا العظيم واستدل بهذا الخلق العظيم على قدر هذا الخالق 
العظيم. وعلى جلاله وقدرته وعلمه. ونفوذ مشيثته وإتقان حكمته في بريته؛ وانظر كيف 
جميع هذا الصنع العظيم ممسوك بغير عمد تقله, ولا علائق من فوقه ترفعه وتثبته» فمن 
نظر في ملكوت السموات والأرض ونظر في ذلك بعقله ولبه. استفاد بذلك المعرفة بربه 
والتعظيم لأمره. وليس للمتفكرين إلى غير ذلك سبيل» وكلما ردد العقل الموفق النظر 
والتفكر في عجائب الصنع وبدائع الخلق ازداد معرفة ويقينا وإذعانا لبارئه وتعظيماء ثم 
الخلق في ذلك متفاوتون , فكل مثال من ذلك على حسب ما وهبه له من نور العقل ونور 
الهداية . وأعظم شيء موصل إلى هذه الفوائد المشار إليها تلاوة الكتاب العزيزء وتفهم 
ما ورد فيه وتدبر آياته مع ملازمة تقوى الله سبحانه . 

فهذا هو باب المعرفة بالله واليقين بما عند الله. ثم انظر وتأمل ما نشير إليهء فإنك 

علمت على الجملة أن رسول الله كَلعِ أسري به إلى أن بلغ المنتهى ورأى من آيات ربه 
)١(‏ سورة البروج: الآية .١‏ 
(؟) سورة الطارق: الآيات 1١‏ --”. 


5) سورة الواقعة: الآيتان هلاو5/. 
)0( سورة البقرة : الآية 566 , 


7م 


الكبرى. واطلع على ملكوت ربه وتحقق أمر الآخرة والأولى. ودنا من ربه حتى كان 
كقاب قوسين أو أدنى . فما ظنك بعلم من شرف بهذا المعنى ثم أمر بأن يقول: «وفل 
رَتُ زذني عِلْما04 . علمك بمعرفته ومن عليك بئنور هذايته واستعملنا وإياك بطاعته . 
وجعلنا بكرمه أجمعين من أهل ولايته بمنه وكرمه وجوده إنه ولي ذلك . 


تم كتاب الحكمة في مخلوقات الله عز وجل 
ويليه كناب معراج السالكين 


.114 سورة طه: الآية‎ )١( 


0 


بسم الله الّحمن الرّحيم 

فاتحة معراج السالكين : 
الحاجات لكن النفوس المؤيدة تأبى إلا الشكر لمنعمها. سبحانك أيها الرب الرحيم 
حلمت مع نفوذ علمك وأمهلت مع شدة بطشك ولم تمنع الرزق من جاهر بعصيانك. 
تعاليت أنت القريب الظاهر الأول الآخر لا تستفزك سطرة العبيد وأنت أقرب إليهم من 
حبل الوريد. 

ونسألك اللهم صلاة زاكية مباركة على نبي الرحمة ومنقذ هذه الأمة.» محمد 
عبدك الدال عليك والهادي إليك. 

إخواني نصحت لكم فهل تحبون الناصحين. وتحريت رشدكم فهل علي إلا 
واعتيض من البصر بالعمى. وخبثت القلوب ورين عليها. وعطلت البصائر ونسب 
التقصير إليها. واتخذت آيات الله هزوا ولعباً. وصيرت أغراض الآجلة إلى العاجلة سبباً 
فلا موقظ من غفلة, ولا زاجر عن زلة: 
مَرَضى عن الخيرات في بحر الردى غرقى فلا" دع لهج أفوام 
شغفوا بكل رذيلة مذمومة ‏ صرفت وجوههم لوجه الدرهم 
ناموا عن المقصود لم يستيقظوا ستكون يقظتهم لخطب أعظم 

فنعوذ بالله أن تكون ممن رغب عن طريق هو لها سالك, وقال هلك الناس وهو في 
جملتهم هالك . 

اعلم أيها الأخ أن الباعث على اسعافك في مطلوبك غرضان مهمان. ولما 
اقتصرت في طلبك على موافقتهما ودارت رغيتك على تحصيل حقيقة مقصودهما. 


606 


واقتصرت همتك من بين العلوم على العلوم الإلهية وزعمت أن مقصودك طلب الخلاص 
من شر الاعتقادات الفاسدة. والهرب من الآراء المجانبة للحق المعاندة. رأيت تقديم 
التنبيه على الغرضين المذكورين لنستوجب العذر فيما انتدبنا إليه» وليكون ذلك المهم 
الأكبر الذي نبهنا عليه . 
الُرض الأول: أيها الأخ ماشاهدناه من فساد الزمان وأخذه في الازدياد وكثرة الآراء 

وفساد الاعتقاد. وعدم ذابٌ يبذل فيها الاجتهاد. ويمرها على كف الانتقاد. ولولا سياسة 
الملوك لعمت الخافقين ظلمهاء ولرسخ في كل الأقطار قدمها ليقضي الله أمرأً كان 
مفعولا . ويبقى رسما كان ابقاؤه عليه وعدا مسؤولا. ولكن تعاقب الزمان وطرو الحوادث 
وكثرة الصوارف وفتور الهمم داعية إلى الفساد. والداء يزداد كل يوم أغذية السوء 
كالذنوب فرأيت ابراز هذه النبذ لتكون مغنية للسائلين ومعينة للسالكين ومنفعة باقية في 
الآخحرين. 

والأهم من هذا الغرض التنبيه على غوائل الآراء البشعة التي استهوت عقول أكثر 
الناس وهم في ازدياد من هذا الفن. وهو سبب فتور الشرائع وهم عند الأنبياء على مر 
الأيام والنفوس مولعة بكل غريب لم تألفه وغامض لم تعهده فلا يسلم الغمز الجاهل من 
الوقوع فيه والفطن المتباطىء عن الاغترار بما يظهر من مبادثه . 

وقد كثرت ترهات هذه الطائفة لعلتين : 

إحداهما: الزهد في الرد عليهم . 

والثانية : بدار الجهال بمجادلة الرد على ما قرر لديهم كمقابلتهم بإنكار علوم 
التعاليم الأربعة من الهندسة والحساب والمنطق ومعرفة الكواكب وثبوتها. وهي مقدمات 
علومهم وعنوان كلامهم وعنصر براهينهم ولم يحكموا فيما حاولوا شيئاً كإحكامهم لها. 
والمنطق على مر الأيام وكر الدهور ينقحونه ويهذبونه إلى زمان أفلاطون فزاده ترتيباً وميز 
فيه السفسطة من الجدل. وحذا حذوه تلميذه أرسطو فرتب صناعة البرهان. وهذب 
الكتب الثمانية . وكذلك علم الهيئة والهندسة استخرجوهما من السند هند”"2 كتاب أيضاً 
تعاقبته الأيام وهو الذي يحصل منه الهندسة والهيئة فلا معنى لمناكرتهم في كليات هذه 
التعاليم. فليطالبوا بتصحيح مسائلها الجزثئية واستعمالها وتصحيح الأشكال والمقدمات 


. السند هند: اسم كتاب ألفه أرسطاطاليس في علوم الفلسفة‎ )١( 


كه 


في العلم الإلهي فإنهم تساهلوا فيها ولم يستعملوها البتة فهناك موضع المضايقة: وأما 
انكار كون الأرض كرية وأخذها المكان الأوسط من الفلك وارتفاع الأقاليم وانخفاضها 
وتحقيق الجهات والآفاق والكسوفات فلا معنى لإتكار ذلك ومناظرتهم في ابطاله. فهذا 
أحد الغرضين وتحته تنبيه على المواضع التي نتكلم على اختلافهم فيها ونورد ذلك 
متفرقا في الكتاب إن شاء الله تعالى . 

الغرض الثاني : أن الحق لا يعرف قدره وحده ما لم يعرف نقيضه وضده فبضدها 
تتميز الأشياء ومقصدنا التنبيه على الطريق الأسلم. والصراط الأقوم. ولا بد من ذكر 
الطريق المنحطة عنه لينصف في ذلك الناظر في هذا الكتاب فيعلم أنا لم ننتدب لضثيل 
ولا أضربنا عن سيرة الأوائل في سكوتهم إلا لخطب جليل. ولنضيف ذلك إلى الغرض 
الثاني فيتضح لديه العذر وليعرف مقدار النعمة فيطلبها بالشكر فنقول الناطقون بكلمة 
الشهادة سبع فرق. 

الفرقة الأولى: طائفة نطقوا بالشهادتين من غير التفات إلى ما تنطوي عليه من 
المعنى ولا احتفاء بالوظائف كأجلاف الأعراب والأعاجم لكنهم كالانعام بل هم أضل 
سبيل . فلهم حكم المشيئة وهم المرادون بقوله تعالى : ِكل لم تَؤْمِئوا وَلَكِنْ قُونُوا 
أُسْلَمْنَا« . والسيف عند هؤلاء أصدق أنباء من الكتب. وهو أحد ما يساسون به. 

الفرقة الثانية : طائفة نطقت بكلمتي الشهادة تقليداً مأخوذاً من الآباء والأمهات 
والمعلمين لكنهم مقبلون على وظائف الشرعء. فهؤلاء هم المسلمون على الحقيقة 
ولهم تقدمة على الفرقة الأولى وهم المرادون ا تعنالون ' : «إنْ المُسْلِمِينَ 
وَالمُسَْلِمَاتَ »2204 الآية. وبقوله سبحانه: هومن يسلم وَحَهَهُ الى الله » الآية . 

الفرقة الثالثة : قوم اعتقدوا الشريعة وصدقوا ولم يقتصروا على درجة المسلمين» 
بل استعملوا النظر والاستدلال وذبوا عن حرم الدين. وهؤلاء أكثر المتكلمين من أهل 
السنة وأصحاب الحديث وهم المؤمنون المسلمون. فهم أخص إذ الاسلام أعم. وقد 
فصل كك بين الإسلام والإيمان في حديث السائل وقال تعالى: ؤإِنْ المُسْلمِينَ 


.١84 صورة الحجرات: الآية‎ )١( 
.76 (؟) سورة الأحزاب: الآية‎ 
. 51 سورة لقمان: الآية‎ )9( 


لاه 


وَالمُسَلِمَاتَ والمؤْمِنِينَ والمُؤمِناتِ233074. وقال تعالى : «أوليِك هم المُؤْمِنُونَ 
حَقا90 . 

الفرقة الرابعة : فرقة ترقوا عن هذه الطريقة إلى درجة اليقين والثلج0". فإن 
مصدقاء ولكن التام هوالذي يصدق بالشيء عن برهان ومع قيام البرهان على أن ذلك 
البرهان لا يجوز أن يكون بخلاف ما تقرر عليه ولا في حين ما لا بالذات ولا بالعرض . 
ولا يجوز أن يبعث نبي صادق بضده أصلاً ولو بعث بنقيضه لاعتقد تكذيبه فإن قيل : 
فهذا تصريح بتفاضل المؤمنين في إيمانهم . قلت: فهو الصحيح , وقد قال النبي 5 : 
«الإيمان بضع وسبعون شعبة:(؟»2. وقال كك : يخرج من النار من في قلبه مثقال حبة من 
خردل من إيمانهم. والإيمان في اللفظ اللغوي هو التصديق وقد قدمنا أن التصديق 
العمل قلنا: أما أن الإيمان التصديق فهو مشهور في اللغة وهو الأصل وهو في الأعمال 
منقول والاستمساك بحقيقة اللغة أولى حتى يدل الدليل» وقد دل دليل الشرع على 
تفاضل الإيمان بما ذكرنا. فإن قيل: هب أنا سلمنا أن الإيمان هو التصديق فما الدليل 
على انقسام التصديق في نفسه؟ قلنا: التصديق عبارة عن الاعتقاد. والاعتقاد لفظ عام 
وحقيقته ركون النفس إلى متخيل اما في نفسه أو في اثباته؛ ثم المعتقدات إن كانت في 
النفس كما هي عليه من خارج فهو اعتقاد للشيء وتصور له وعلم به على ما هو عليه. 
ومتى كان من خارج على خلاف ما هوفي النفس فهو تصديق وتصور ناقص إذ من اعتقد 
زيدا أبييض فوجده أسود نقص اعتقاده . 

الفرقة الخامسة: أقوام اعتقدوا الإسلام وصحته, لكن اعتقدوا في الإله تعالى 
وصفاته ما نسبوا به إلى البدعة والفسق . 

الفرقة السادسة : أقوام أضافوا إلى ذلك ما نسبوا به إلى الكفر كمن صدق بالنبوة 
من الفلاسفة, واعتقد أن ذلك يرجع إلى ملك قائم ثم اقتضى له مولده أن يكون حسن 
)١(‏ سورة الأحزاب : الآية هلا. 
(؟) سورة الأنفال: الآية 4 . 
2 ثلج الصدر ببرد اليقين: درجة اليقين العليا. 
(4) رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه . 


مه 


السياسة فاضلا متنوعاً فهزلاء كفرة وهذا تصور لا ينفع . 

الفرقة السابعة: أقوام مظهرون للإسلام مبطنون للتعطيل المحض فهؤلاء شرار 
الفرق خالدون في الدرك الأسفل من النار. والأمم كلها على خلاف هذه الطائفة وهي 
يسمع بها وقل ما ترى إلا آحاداً يحملهم الاستخفاف على ذلك؛ والأمم مطبقة على 
المعبودات من الأحجار والأحياء والكواكب. وقد سميت هذا الكتاب: «بمعراج 
السالكين» والله سبحانه يحملنا على الرأي الحق بعزته . 


المعراج الأول: 
ليعلم أولاً أن ابتداءنا بهذا المعراج وتقديمنا له على أمثاله له ثلاثة أغراض : 
أحدها: استعمال الطوائف المذكورة له واقتصارهم عليه فنرقيهم عنه إلى سواه. 


الثاني : أنه مقدمة لما نذكره من معرفة النفس وقواها وبيان العوالم وأنها على 
مضاهاتها . 


الثالث : أن نبين فيه ألفاظاً واصطلاحات تغني عن تكرار بيانها وتمييز عالم الغيب 
عن عالم الشهادة. والحد المميز لهماء وما العالم الذي وقع الخلاف في حدوثه وقدمه. 
وكمية هذه المعارج سبعة . 

اعلم أن حقيقة العروج الصعود علواً تقول: عرجت في السلم أعرج. والألفاظ 
لها وجهان من الدلالة. فوجه في الدلالة على الأشياء الجسمانية كمفهوم السلم 
والعروج. والوجه الثاني : الدلالة على معاني الجسمانيات وأرواحها إما بطريق وضع 
اللغة وإما بالمجاز والاستعارة . 


ولما كان السالك الباحث إلى معرفة بارئه تعالى طالباً للترقي عن ظلمات الجهل 
وأسفل السافلين من حضيض البهائم والجهلة. وكانت البراهين والأدلة الموصلة إلى 
درجة العلوم شية السلم الجسماني الموصل إلى العلو الجسماني» وكانت مفردات 
البراهين ومقدمات القياس وأجزاؤه مادة له منها يتألف حاكت أضلاع السلم فإذا التسمية 
لا مشاحة فيها إذ هي مفيدة قال الله تعالى : للَيْسٌ لَهُ دَافِعّ * مِنَ اللهِ ذي المَعَارج * 


64 


تَعْرجٌ المَلابْكَةَ والروحٌ إليه2206, ومن قامْ عنده البرهان على استحالة وجهه للبارىء 
تعالى يعرج إليه فيها طلب معنى عقلياً ليحمل اللفظ عليه؛ وقد ذم الله تعالى فرعون في 
اعتقاد كون الآسبابه والمعارج جسمانية في فوله تعالى : وال فرْعَوْنَ ا مَامَاَ بن لي 
صرحا لَعلي بلع الأسباب»”37). وقال الله تعالى : لِوَكَذَلِكَ ريّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِه 
وَصَدَّ عَنٍ السّبيل 74». فالأدلة سلاليم الخلق إلى ربهم والذهول عنها هو المعبر عنه 
بالحجب . ركد ذقي اله تعالى ذلك في نعت الكافر» فقال عرّ من قائل : ذأؤ كَظَلُمَاتَ 
في بحر لحي 194 . الآية فعبر عن الاعتقادات الفاسدة بالظلمات وعن ترادف الشكوك 
بترادف الموج. وقال الرسول ككل : «إن لله سبعين جعانا من نور وظلمة لو كشفها 
لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره». وليس المراد بالحجب إلا الطرق الموصلة 
إليه . فلو كانت براهين فهي حجب نورء ولوكانت شبهاً فهي حجب ظلمة . 

والدليل على ذلك قوله : لأحرقت سبحات وجهه فإنها لوكانت جسمانية لاحترق 
وجهه بأولاها أو بآحادها ولم يشترط في الإحراق إلا مجموعها. والبرهان الحق على أن 
البارىء سبحانه لا يصح أن يكون محجوباً لعلتين: 

إحداهما: أن الحجاب ليس إلا للأجسام والبارىء تعالى ليس بجسم . 

والثانية : أن المحجوب يجب أن يكون فى جهة والبارىء سبحانه لا جهة له 
بوجه. وإنما أراد و أن هذا السالك الباحث لو انكشف إليه هذه الموانع المانعة من 
تحقيق معرفة معبوده لأحرقت الأشياء التي استدل بها ما انتهى إليه بصره. فعبر 
بالاحتراق عن الاضمحلال فهذا تحقيق هذه العبارات. ومضمون هذه الإشارات» 
والعالم هو السلم إلى معرفة البارىء سبحانه. فهو الخط الإلهي المكتوب المودع 
المعاني الإلهية. والعقاد - ء على اختلاف طبقاتهم يقرأونه ومعنى قراءتهم له فهمهم 
للممكسة التي وضع دالا عليها. قال تعالى ول انْظُرُوا مَاذًا في اللَّمَواتِ 
والأرْض »©) . وقال سبحانه: هسَئْرِيهِم آيَاتَنَا في الآفَاقٍ وفي نميهم 6 قال 
)١(‏ سورة المعارج: الآيات 7 - 4 . 
(؟) سورة غافر: الآية 7"5. 
(0) سورة غافر: الآية /ا. 
(4) سورة النور: الآية .5٠‏ 
(6) سورة يونس: الأية .١١ ١‏ 
(1) سورة فصلت: الآية 7م* 


5 


تعالى : «أفي اللَِّ ضَكُ فَاطِرٍ السّمَّواتِ والأرْض 20# . 

ولما كان الإنسان محجوباً مركباً من مواد مختلفة متضادة وكان محجوباً عن عالم 
الغيب» ونعني بعالم الغيب كل غائب عن ادراك الحس ولم يتوصل إلى معرفته إلا بجد 
وتيقظ وقوة مفكرة خصته الحكمة الالهية بأن جعلته دفترأً جامعاً مدبجاً فيكون في ذلك 
فائدتان : 

إحداهما: الونعام عليه بإلزام أمور عجيبة تكون له مفاتيح لما غاب عنه كما قال 
تعالى : «#وفي نيكم أفلا يُبْصِرُونَ 04 . فهو يستدل بما شاهد في نفسه على 
مالم يشاهد. 

ولما كانت الأدلة والحجج منقسمة إلى الأتم والأنقص وكان طريق البرهان وتأليفه 
على الشرائط الصحيحة وكانت الأدلة متعذرة على العوام . وكان الإقناع وقياس التمثيل 
والاستقراء أقرب إلى أكثر الأذهان خصت الحكمة الإلهية الصور الإنسانية بضروب من 
عجائب العوالم وغرائبها المستدل بها فيكون ضربا من التمثيل والاستقراء الذي يقاس به 
الشاهد على الغائب وأكثر ما عاملت الأنبياء عليهم السلام الخلق بهذا النوع من أصناف 
الحجة لأن مقابلتهم بغير هذا الطريق صعب قال تعالى : لادْعٌ إلى سَبيل رَبك بِالحِكْمَةٍ 
وَالموْعِظَةَ الحَسَنةٍ 204 . ولذلك جعلنا هذا المعراج أول وأحلنا العوام على الاقتصار 
عل تعلمه, وذكرنا انقسامهم إلى طبقتين فيما تقدم فهذه إحدى فوائده وحكمه. 

الحكمة الثانية: ولها فائدتان. إحداهما: يستحق بها العقوبة. وبالثانية: 
المثوبة . 

فالأولى: استعماله لما يثق به وهو محسوس عنده مشاهد فشرطه أن لا يتعداه 
ولا يحمل أكثر مما يحتمل. ة فمن البرما يكون عقوقاً والشيء ء متى جاوز حده انعكس إلى 
صده. 

والثانية : أن لا يستعمل الاستدلال به في مالا يصح ويقضى على الغائب بما 
لا يقطع به على الشاهد ويزعم القطع به. 
)١(‏ سورة إبراهيم: الآية .٠١‏ 
)٠0(‏ سورة الذاريات: الآية 7١‏ . 


(0) سورة النحل: الآية ١76‏ . 


5١ 


والفرق بينه وبين ما أمرنا استعماله أنه أمر باستعماله على جهة الحكمة وهوان 
يكون له مذكراً أو زاجراً من غير قاطع, وهذا المستدل يزعم أنه يقطع بما أخذ عنه من 
القياب كمن يزعم أن للبارىء سبحانه صورة كصورة الإنسان وأن علمه كعلمنا أو قدرته 
كاقتدارنا . وينتهي إلى ضرب من ضروب التجسم . قال الله تعالى : 9ما أَشْهِذَتهُمْ خَلقَ 
السّمُواتَ والأرْض وَل خَلِقَ أنفُسِهِمْ 274 وإنما نستعمل من ذلك ما أحسسنا أو شهدت 
التجربة به مما يزعمه المعتنون بالتشريح على طول الدهر فهذا مما لا يمتنع . 

وإذا فهمت هذا القدر وساعدت عليه وأنست لقوله عليه السلام: «إن الله خلق 
آدم على صورته»؛ وفهمت أن معنى ذلك خلقه خلقة على شبه العالم. فاعلم أن 
الإنسان عبارة عن حيوان ناطق مائت”"2 منتصب القامة ضحاك. فهذا حد يتناول نفسه 
وجسمه لضرورة الفصل بينه وبين الأشخاص الحية وإلا فقولنا حيوان ناطق يتناول نفسه 
فقط . ثم هذا الحيوان الناطق أعني الإنسان تنقسم جملته في التقسيم الكلي إلى ثلاثة 
أشياء : نفس وروح وجسم . 

فالجسم هو المؤتلف من المواد والعناصر الحاملة لروحه ونفسه وهو الشكل 
المنتصب ذو الوجه واليدين والرجلين الضاحك . 

وأما الروح : فهو الجاري في العروق الضوارب والشرايين 

وأما النفس : فهو الجوهر القائم بنفسه الذي ليس هو في موضع ولا يحل شيئاً 
وسنشبع الكلام عليه مقدار ما يحتمله الموضع فنتكلم على الجسم بمقدار ما يرشد إلى 
الغرض . ويكون معينا لما عسى أن نذكره من أمر النفس» نتقول قال تعالى : «ولقذ 
خَلَقَنَا الإنْسَانَ مِنْ سُلالَةِ من طينٍ74©. وقال تعالى : ظطفإذًا سَوَيْتُهُ وَنَفَْحْتُ فيهِ مِنْ 
روحي (4) فأخبر تبارك وتعالى عن ثلاثة امون جسمه وروحه ونفسه. وحقيقة الروح 
الحرارة الغريزية المنبعثة في الأعصاب والعضلات وهي موجودة للبهيمة وبها حياتها. 
والفصل بين الآدمي والبهيمة هي النفس التي أضافها الله تعالى إليه في قوله بعال 
«ونفخت فيه من روحي» فلو كانت للآدمي هذه النفس دون الروح المخلوقة للبهيمة 
)١(‏ سورة الكهف: الآية .0١‏ 
)١(‏ قابل للموت: فإن كل إنسان يموت: إذا جاء أجله: «إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر» . 
(؟5) سورة المؤمنون: الآية ١١‏ 
(4) سورة الحجر: الأية 79 . 


51 


لقصر عن أفعال البهيمة في الأكل والجماع والتصرف. ولو أن البهيمة أعطيت النفس 
التي أعطيها الإنسان لكانت عاقلة مكلفة فخرج من الجملة أن للإانسان وخا نقيأ 
سنا وللوونة حسما زررها لأغيري فأما آدم عليه السلامء فمخلوق من التراب 
والماء والهواء والنارء وقد قال تعالى ذلك في قوله سبحانه: من سلالة من طين©. 
وفئ قزل سيخانة : 9وَجَعَلْنَا مِنَ الماءِ كُلّ شيء حي .2276 . وأما النار فقوله تعالى : لمن 
صَلْصَال كَالْمَخارٍبم9) . فأول الدرجات التراب» فإذا مسه الماء قيل له طين فإذا مرت 
عليه دهور بكرور الشمس واكتسب منها يبساً وجفافاً قيل له صلصال كالفخار لنشوفته» 
ومعلوم ببرهان العقل أن مؤدي حر الشمس إليه هو الهواء. فصح بالبرهان الشرعي 
والعقلي كون آدم عليه السلام على الصورة التي تقدمت ليجعل الله تعالى تدريج بنيه من 
نطفة خرجت منه يتلقفها الإناث إلى انقطاعها وتمام القوى. وذلك حين الساعة وتمام 
الخلق . فأول الإنسان نطفة ثم علقة, ثم مضغة, ثم تنبت فيه العظامء وتكسى لحماء 
فالنطفة الخارجة من الإنسان مسلولة كقشر الحبة من الحبة لكي مياعة وكالنواة فإن 
النخلة السحوق فيها ولكن مدمجة. ولكن من شاهد عقد الثمان 7 تيقن هذاء فإن الرمانة 
لتر ل استرما يدك قر الك رى الشكل تعسخر لم اوها لانم سل جات 
بما يجانسها فتصرف تلك الأشكال الكاملة إلى انتهائها وما فيها . 

ومن أرسل النطفة وأبصر السقط تحقق ذلك فإنك ترى أشكاله كخطوط مكتوبة» 
وحدقتاه كحبات شونيز ووضوح ذلك لا يحوج إلى مزيد تأمل» فالنطفة مسلولة مائعة 
بالطبع لما انسلت عنه بذوبان فطري جبلي لا حيلة فيه. ولذلك يشبه الولد أباه في خلقه 
وتخلقه . 

فإن قيل: الأغذية تستحيل دماً في الكبد. ثم تستحيل منياً وكانت قبل ذلك نباتات 
انفعلت عن الطبائع الأربع» فلزم أن يكون غير الأب إذا انفعلت عن غيره. 

قلنا: الأمر كذلك ولكن الاعتبار بحين انفصالها عن الأب . فحين انفصالها تنبعث 
من عروقه وعصبه وكبده بحركة ماء فتكتسب حينئذٍ طبعه. وهذا الأمر متسلسل إلى 
آدم عليه السلام وعنده يقف الأمر فإن جسمه ونفسه ليسا مأخوذين عن آدم آخر فإن ذلك 
محال . وفيه إثبات أشخاص لا أول لها وهومحال. فإن الشخص بالضرورة ذو أولية وهو 


.٠ سورة الأنبياء : الآية‎ )١( 
.١4 (؟) سورة الرحمن: الآية‎ 
6 


تحت النوع وإذا ثبت هذا فاعلم أن الصورة الإنسانية تنقسم إلى أربعة أرباع . 

الأول: الرأس . والثاني : اليدان. والثالث: البدن. والرايع: الرجلان. 

ثم عظامه منقسمة إلى مائتي وثمانية وأربعين عظماً. ففي الرأس: اثنان وأربعون 
عظماً. وفي الربع الثاني : اثنان وثمانون عظماً. وفي الثالث: أربعون عظماً. وفي 
الرابع : اربع وثمانون عظمأء ثم خلق الله سبحانه لهذه العظام رباطات تمسكهاء فده 
عروق شكل الإنسان ثلاثمائة وستون عرقا. وبهذه العروق تكون الحركة والقبض 
والبسط. 

فرأس هذه العروق في الفؤاد. وهو العرق المسمى بالنياط والأبهر ومنزلته مع 
القلب بمنزلة الحاجب للملك يتلقف أمره ثم يخرجه إلى الخدمة. ثم هذه العروق 
متصلة بالمعدة تمتص منها قوة الطعام والشراب الذي يدخلها ثم تقسمه بين الكبد. 
والمرارة» والطحال؛ والرئة. وخلق الأبهر مستبطن الصلب., وهو آخذ من مجمع 
الكاهل؛ إلى مجمع الوركين» إلى مجمع الحالبين» إلى مجمع الصدر بين الترقوتين 
وهو نهر الجسد الأعظم وهو مقسوم لأربعة عروق لأجزاء الجسد الأربعة» لكل جزء منها 
عرق» فللرأس منها عرق يتفرق إلى ستين عرقاً ولليدين والرجلين عرق يتفرق إلى ماثني 
عرق. 

والجزء الأول من النهر الاول وهي أربعة أنهار يتفرق منه عرقان من مجمع الكاهل 
يسقيان العنق. ويتفرق من مجمع الصدر بين الترقوتين عرقان يصعدان إلى العنق وهما 
الوريدان, ثم ينفرق من كل واحد عرقان», ثم جميع هذه العروق ينبعث فيها الغذاء إلى 
كل عضوء من الرأس. من الشفتين وغيرهما. 


وأما عروق البدن من الربع الثاني وه وأحد الأنهار الاربعة من النهر الأعظم يتفرق 
منه عرقان لكل يد عرق من مجمع الصدر من الترقوتين إلى ما بين المنكبين وهما 
الاكحلان» ثم ينشعب من كل واحد منهما أربعة عروق سواهما فتسقي العضدين 
وأجزاءهماء فذلك عشرة عروق لكل يد خمس عروق ثم يتفرق من كل واحد من العشرة 
أربعة تسقي الساعدين» فذلك خمسون عرقا لكل ساعد منها خمسة وعشرونء ثم 
يتفرق من كل واحد من الخمسين عرقاً عروق أخرى فتسقي الكفين والأصابع . 

وأما الجزء الثالث؛ فالبطن يفترق منه عرقان من مجمع الحالبين إلى اليدين. 


5 


يفترق من كل واحد منهما تسعة وعشرون عرقاً سواهما يدفع إلى كل جزء حصته من 
الغذاء: للأضلاع أربعة وثلاثون. ولسائر أجزاء البطن ستة وعشرون: للعصعص 
عرقان. وأربعة للمذاكير, واثنان للكليتين» واثنان للمثانة» واثنان يسقيان المعدة, واثئان 
للكبد. وإثنان للطحال, واثنان للفؤاد. واثنان للمرارة واثنان للرئة» وإثنان للثديين» 
وثلاثون للأضلاع , لكل ضلع عرقان. 

وأما الجزء الرابع. وهما الرجلان. ففيهما الوتين عرق يفترق منه عرقان. وهما 
النسيان. وهما للفخذين لكل فخذ عرق من مجمع الوركين يسقيان الفخذين 
وأجزاءهماء ويفترق من كل واحد منها أربعة عروق» ثم يفترق من الاربعة خمسون عرقا 
تنتكس في الساقين لكل ساق خمسة وعشرون عرقاًء فقد صار جملة الإنسان جملة 
مناسبة للعوالم وجزئياتهاء فهو مشبه للعالم الأعلى بنفسه ومشبه للعناصر بما فيه من ماء 
وهواء ونار وتراب. ويضاهي الجواهر الأرضية . أما الحيوانية» فبروحه الحيواني . وأما 
النباتية» النامية فبما ذكرناه من عروقه ونموه وتغذيه. وأما الجمادية فبعظامه فهذه 
المشابهة الكلية . 


ثم تعرض أجزاءه على كل جزء من العالم فتجده يضاهيه. وشرح ذلك مما يطول 
ولو استوفينا فيه الأعمار الطويلة وآباد السئين لما نفد. وعليك أن تمتحن ذلك بكل 
ما تشاهده. وتبحث فتجد في عالم جسمك مثل ذلك بل فيه ما يضاهي قوى الحيوان 
كجرأة الأسد. وخبث الثعلب, وطيش القرد. وصلابة الخنزير وهكذا. 

ثم الغذاء إذا استقر في المعدة طبخته الكبد. وهي حارة رطبة لااصقة في المعدة 
من الجانب الأيمن. يمتص منها من صفو الغذاء وكل حار رطب لمشاكلتها له فتصفيه 
بجوهرها., وفيها أنابيب كالمصفى فتجذبه العروق وتنقله ويسير فيها على حسب 
ما قدمناه. وأما المرارة فهي معدة الخلط الذي يقال له المرارة الصفراء وهي حارة يابسة 
لاصقة بالمعدة من الجانب الأيمن مما يلي الكبدء يمتص منها من صفو الغذاء كل حار 
يابس للمشاكلة فتصفيه بجوهرها. ثم تحتلبه العروق كما ذكرناه. والخلط الثالث المرة 
السوداء ومعدته الطحال. وهو بارد يابس لاصق بالمعدة من الجانب الأيسر فيمص من 
الغذاء كل مشاكل له. والرابع البلغم وهو بارد رطب وله الرئة تمتص من الغذاء 
مايشاكلها. والحلقوم رأ س الرئة على طبيعة الطحال وهو معد للنفس وهو 
الحنجرة. ورأس الحلقوم مغطة بطبق واللهاة مدلاة عليه. والقلب في 


5160 


الجانب الأيسر تحت الثدي الأيسر. والرحم في الجانب الأيمن لاصق بعروق الفؤاد. 
وهومعدن الشهوة, والمعدة معتدلة المزاج وهي كالقدر وتلك الأوعية كلها لها كالأثافي . 
ولها فمان: مدخل وهو مسلك المريء إلى الفم . والفم الثاني يخرج منه الأثقال وتخدم 
المعدة. وللصرة أربع قوى : إحداها جاذبة, والثانية ممسكة., والثالثة هاضمة. والرابعة 
دافعة . 

فالجاذبة: حارة رطبة تقوي الدم وتجر الطعام والشراب من الفم إلى المعدة. 
وكل ما شاكلها تصيره دماً وهي منحدرة من أسفل المعدة إلى أسفل البطن فتخرج غير 
متغيرة الشم تشاكل ريح الجنوب . 

وأما الممسكة: فباردة يابسة تقوي المرة السوداء وتمسك الطعام والشراب في 
المعدة. ولا سبيل للمعدة أن تمسك شيئاً دونها وتخرج متغيرة الشم تضاهي ريح 
الشمال وهما على مضادة الجاذبة فبذلك يعتدلان. 

وأما الهاضمة: فتقوي المرة الصفراء. وتهضم الطعام بالحرء ويعينها الكبد 
فيصعد من المعدة إلى الفم غير متغير الشم وهي حارة يابسة كريح الدبور. 

وأما الدافعة: فباردة رطبة تقوي البلغم. وقد توقع الطعام والشراب من المعدة 
إلى الإمعاء إلى الاعفاج(2 إلى الأرض بذلك وكلت, وهي باردة رطبة معادلة للريح 
الهاضمة. وصلاح الأمزجة وفسادها تابع لهذه الأمور. والعلم الطبيعي معد لإصلاحها 
هو فائدته وغرضه. والنفس نكتسب بالمجاورة من هذه الطبائع ملكة عند غلبتها كالطيش 
والحخدة عند غلبة الصفراء, والهم والغم وقلة النشاط عند غلبة السوداء إلى غير ذلك كما 
يكتسبه الرفيق من رفيقه. ومتى كانت هذه الطبائع جارية على اعتدال كانت النفس 
أجرى إلى السلامة. وجميع هذا كله بتقدير الله تعالى وتدبيره لا إله إلا هو. فمتى تأمل 
هذا النضد المحكم والترتيب المنظم ومعادلة بعض القوى لبعض وكيف خلقت اليد 
للبطش واللسان للكلام. والحدقة للرؤية» وكيف خلقت على شكل ملائم للنور 
فجعلت جامدا فى أغشية لطيفة مكفنة بالأشفار وجعل للأشفار أهداب تقيها الغبرات 
والنور الكثيف أن يغشيها علم أن ذلك دال على أن لهذا الصنع العجيب والأمر الغريب 


مدبرا دبره.وعليما أتقنه 5 


)0( جمع عفج ما ينتقل إليه الطعام بعد المعدة. 


11 


وهذا لا يخفى على ذي بصيرة فإنا قد وجدنا هذا الشكل الإنساني على أتم 
الحكمة التي تقتضيها العقول فلا تخلو هذه الصنعة العجيبة؛ إما أن يكون صنعت نفسها 
أو صنعها جماد أو صنعها مخلوق حي أو صنعها بارئها وهو الله تعالى . وبطل أن تصنع 
نفسها لأن وجود الفاعل يجب أن يتقدم على المفعول. وبطل أن يكون الشيء مفعولا 
من حيث هو فاعل أو فاعلا من حيث هو مفعول . وبطل أن يصدر عن جماد . فإن الجماد 
لا يوصف بالفاعل. وبطل أن يصدر عن مخلوق حي طبيعة أوغيرهاء فإنا نقول: 
الطبيعة ما معناها فلا تخلو أن تكون جماداً أوحياً. فإن كان جماداً كان القول فيه 
ما تقدم, وإن كان حياً قلنا هذا الحي لا يخلو أن يكون له فاعل أو لا فاعل له. 

فإن قيل : له فاعل آخر فالطبيعة كآدم في افتقارها إلى محدث . وإن كانت الطبيعة 
حية لا فاعل لها ولا علة فهي الإله فأسقطوا لفظ الطبيعة وقولوا إله. فهو الذي نريد بيانه» 
فإن حوادث لا أولية لها محال إلا إذا قلنا فعلت الطبيعة طبيعة فذلك منتف فلا بدّ من 
استناد الحوادث إلى مبدأ لا علة له وليس بمعلول أصلاً . وهذا يبطل اعتقاد من يقول آدم 
من ادم آخر. 


قلنا: نتبعه فيلزمه التسلسل وهو محال فصح أن الشكل الإنساني تنتهض منه 
الدلالة على بارئه ومصوره مع ما فيه من العجائب الدالة على العالم فليس في العالم أمر 
غريب مشكل إلا وفيه مفتاح علمه . فالله تبارك وتعالى خلقه على مضاهاة العالم. فهو 
نسخة مختصرة منه . ومن تأمل أحوال الأنبياء ومعجزاتهم وكرامات الأولياء وما جعل الله 
سبحانه في قوى النفس بل يشاهده كل أحد من نفسه في المنامات التي تعلم بمغيبات 
الأمور وعاقبتها. وما يبصره الانسان في النوم من السماء والأرض والبحار وسعتها. وهو 
لا يتسع بمقدار ما يبصره كما أنه يبصر السماء على سعتها بعين وهي في دور الدرهم . 
وهذا من الأمر العجيب علم أن لهذه العجائب مدبرا دبرها وصانعا أتقنهاء وعجائب 
الإنسان لا تحصى بل فيه من الخواص عجائب مما يستعمله الأطباء منه. فسبحان 
الفاطر العليم . 
المعراج الثاني : 

ولما فرغنا في المعراج الأول من معاملة أصحابه بالسهل من الحكمة والقريب 
الظاهر من الدلالة التي لا يخفى نورها ولا يتلعثم فيها إلا من جعل له الرأي المعكوس 


5 


والمثل المنكوس ١‏ وَمَنْ يُضْلِلٍ الله فَمَالَهُ مِنْ هَاويه0©. 
فلنرتق إلى المعراج الثاني : وهذا المعراج لطبقتين: للمحققين الأذكياء 
والمتحذقين الأتقياء. وهو لتقرير النفس وهل هي باقية أم لا ؟ وهذا المعراج كالقطب 
لسائر العلوم وله يجتهد المجتهدون ويعمل العاملون ولا فائدة أعظم منهء. فإن نبوة 
الأنبياء والثواب والعقاب والجنة والنار وسائر أنباء الدنيا والآخرة المأخوذة عن الرسل 
لا تنبت متى أبطلت هذه المسألة, فإن النفس إذا لم يكن لها بقاء قجميع ما أخبرنا به 
امسا بد قاط وحديد ا شر ود المسألة نجتهد. وبحسب ما يغيب عنا 
ننظرء وبهذه المسألة كفرت الزنادقة فإنهم اعتقدوا أن حقيقة الإنسان مزاج معتدل 
كالبات فت اعتدلك قواه يقي ومتى غلب عليه حر أو برد فسد ودثر. ثم لا ترتجى بعد 
ذلك فون ولا حياة ولا ا فاستخفواٍ لذلك بالخلق واستهانوا بالأنبياء كقول امايق 
خلف لأحد الصحابة : لأوتين مال وولدا . وذلك لأنه استخف وقال أنتم تزعمون أنكم 
أصحاب أموال في الآخرة وسيكون لي هناك مال وسأقضيك منه . 


وعلى هذا المعراج يدور الناس فهو أس العلوم وإذا اضمحل فلا ثابت» ولذلك 
لم تبينه الرسل والله أعلم. لأن كلام غيرهم بين أن يقبل أو يرد أو يصدق أو يذكب». 
وكلام الرسل عليهم السلام ليس كذلك. فإن المسألة في نهاية الغموض والإذهان 
أكترها شبعيفة فرنما لم تفهم مقامد عع نتشترض من كولهم على تولقج فلم يورذوا يها 
إلا إشارات ورموزاً. وفي القرآن العزيز: 9وَيَسْأْنُونَكَ عن الروح قل الروح ص ن أمر 
رَبِي204. وقال تعالى في عيسى عليه السلام لوَكَلِمَتَهُ ألقامًا إلى مَرَيم وَرُوِحٌ 
نه 0 . وقال النبي َكل : «أرواح الشهداء في حواصل طيور خضر». وهذه كلها 
ظاهرة عند العلماء ء مكشوفة وعند غيرهم غير معقولة. وقد اختلف الناس فيها على مر 
السنين والأيام. فزعم أفلاطون أن النفس والروح واحدة وهي النفس الكلية وأنها مع 
الأبدان كالشمس مع الأرض تنثر شعاعها على المواضع فيأخذ كل موضع نصيبه على 
قدره. وزعم أنها تالف الجسم بضرب من المناسبة بالطبع فإذا حصلت فيه ألفته وشغفت 
به ولا تزال فيه وليس هي عنده حالة في الأجسام ‏ وإنما هي كالمغناطيس مع الحديد في 
)١(‏ سورة الرعد: الآية 7# , 
(؟) سورة الإسراء: الآية 6م. 


9) سورة النساء : الآية ١3/1‏ . 


1/4 


الملازمة والانفعال ومناسبة الطبيعة . وليس أحدهما حالاً في الثاني لكن ينفعل له بضرب 
من واسطة خفية هي الطبع ولا تزال فيه إلى أن يفسد البدن, كما أن الحديد يخلق مع 
طول المدة فلا يقبل تجاذب المغناطيس . 

وزعم آخرون أن النفس عرض وأن حقيقة الحياة معنى يكون عند اعتدال 
المزاج. فإذا مات الإنسان فنيت روحه وهؤلاء ذاهبون إلى أن النفس محدثة. وزعم 
لا تفنى . ومن حقق من الفلاسفة على هذا المذهب والأكثر على مذهب أفلاطون. 
وسنكشف إن شاء الله تعالى غائلة مذهبهم في المعراج الثالث: حدوث العالم الأعلى . 

الفصل الأول: في قوى النفس وعلة تحرك البدن بها. 

الفصل الثاني : في كون النفس جوهراً غير متحيز قائماً بنفسه مستغنياً عن المحل . 

الفصل الثالث: في أن النفس لا تعدم وأنها باقية. 


الفصل الأول 
في قوى النفس وعلة تحرك البدن بها: 


ربما اعتقد من لا تحقيق لديه أن الشرع يزجر عن التعرض لهذا القدر في تصحيح 
أو إبطال وليس في الشرع دليل يدل على ذلك وقوله سبحانه: «قل الروح من أمر 
ربي» جواب مقنع إذا فهم الأمر بما هو عليه ولو أراد تعالى الزجر لذكر الحكم عليه 
وقد كشفنا عن القوى الجسمانية وهذا الجسم يجري من النفس مجرى الشوب من 
الجسم. فإن الجسم يحرك الشوب بواسطة أعضائه. والنفس تحرك البدن 
بواسطة قوى خفية ومناسبة . وقوى النفس نظهر في:مواضع من البدن, وربما بلغت عشرا 
نذكرها والنفس في ذاتها واحدة وإنما ترجع التسمية إلى الآلة كقولنا سمع وبصر وشم 
وذوق ولمس . والنفس هي الذائقة الشامة المدركة فهذه خمس قوى ظاهرة» والدليل 
على أن النفس هي المدركة دون هذه الأعضاء أن العروق متى حدث بها سدد تمنع 
اتصال النفس بها بطلت كالحذر والموت وهذا مشاهد لا يفتقر إلى دليل . والقوى تنقسم 


34 


إلى قسمين إلى محركة وإلى مدركة, والمدركة قسمان: ظاهرة وباطنة. فالظاهرة 
ما ذكرناه والباطنة ثلاث: 

احدها: الخيالية والوهمية والفكرية» فالخيالية في مقدم الدماغ وراء القوة 
المبصرة خاصيتها بقاء صور الأشياء المرئية فيها بعد تغميض العين وانقطاع ما يدركه 
الحواس ويسمى الحس المشترك . 

الثانية: الوهمية وهي التي تدرك المعاني. فالأولى مختصة بقوى المعاني 
وصورها وموادها. وهذه تحفظ المعاني دون صورها وموادها إذ تدرك الشاة عداوة الذئب 
مجردة فتنفر عنه . والسخلة تدرك حنان الأم فتألفها ومحلها التجويف الأخير من الدماغ . 

الثالثة : القوة المفكرة وشأنها أن تركب الصور بعضها مع بعض. وهي في 
التجويف الأوسط بين حافظ الصور وحافظ المعاني فهي حائكة وهي المرادة برمز 
القائل : 
رجلان خياط وآخر حائكُ | متقابلان على الماك الأنحزّل 
ما زال ينسج ذاك خرقة مدبر ويخيط صاجبه ثياب المُقُبلٍ 

ومواضع هذه القوى مبرهنة بصناعة الطب, فإن الآفات متى نزلت بهذه المواضع 
عدمت هذه المدركات» وزعموا أن القوة التي تنطبع فيها صور المحسوسات تحفظ تلك 
الصور فتبقى فيها بعد قبولها بحسب الحواس الخمس إذا تكرر ذلك عليها والشيء 
يحفظ الشيء بغير القوة التي بها يقبل إذ الماء يقبل الانطباع ولا يحفظ بخلاف الشمع 
فإنه يقبل بالرطوبة ويحفظ باليبس والحافظة تصون المتخيلة كما أن القوى الذاكرة تصون 
الحافظة. والقوى المحركة إما باعثة على الحركة. وإما مباشرة للحركة . فالباعثة هى 
القوة النزوعية الشوقية ومتى رأت أمراً يترغب فيه أو يترهب منه بعثت القوة المحركة 
المباشرة على الفعل. فتنبعث في الأعصاب والعضلات والرباطات من القلب. إما 
ببسط عن جهة المبدأ وإما بقبض إليه إذ هي إذا فرحت نشرت الدماء في العروق فكان 
الفرح . وإذا حزنت انجذبت فانجذب الروح الحيواني إلى القلب فاغتم وحزن. ثم من 
شأن النفس إدراك المعلومات المغيبة. ولها قوتان إما عملية وإما علمية . فالعملية قوة 
هي مبدأ محرك لبدن الإنسان إلى الصناعات الإنسانية. واما العلمية فهي المدركة 
لحقائق العلوم مجردة عن المادة والصورة. وهي القضايا الكلية المجردة وهي للعقل 
وبهذه القوة تتلقف عن الملائكة العلوم. وبالقوة الثانية تصلح ما وكلت به من الأمور 


.و 


الجسمانية . وهذه الأمور كلها محسوسة يستند برهانها إلى الحس فلا نطول بتمهيده كما 
أن ما ذكرناه من الجسمانية أكثرها محسوس وما غاب فقلدنا فيه المعتنين بالتشريح على 
أنه أكثر ما يوصف. وإذا فهمت الجسم والقوى الحيوانية وأن النفس هي المحركة 
الباعئة وأن قواها باعتبار الإضافة إلى المواضم كان كالثوب الواحد يسمى موضع منه كما 
وموضع منه طوقاً وموضع منه جيباً . وقد قدمنا أن لها قوتين عملية وعلمية . وأن العلمية 
مستعدة لقبول العلوم إلى مالا يتناهى بالقوة وأن الجسم منفعل للقوى المحركة 
والمحركة العملية تحت هذه العلمية الشوقية النزوعية. ومنها مبدأ الفعل إلى أن يبرز 
ويظهر. 

فإن قيل: فلم لا ترى النفس فإن في رؤيتها مايدل على صحة وجودها وهلا 
تخيلناها . 

قلنا: فهاتان مسألتان أحدهما لم لا ترى. والثانية لم لا تتخيل. فالجواب عن 
أحدهما وهي لم لا ترى بثلاثة أجوبة : 


أحدها: أن كل موجود ليس من شرطه أن يرى. إذ صحة وجود الموجود 
لا تستدعي أن يكون مرئياً فإن الأحوال اللازمة للشيء إما أن تكون ذاتية وإما أن تكون 
عرضية, والموجود من الأحوال اللازمة ذاتي وكونه مرثياً عرضي له إذ يثبت وجود 
الموجود مع عدم من يراه. ومع ذلك يثبت الموجود ولا يبطل وجود عدم الرائي له 
والدليل على ذلك وجود البارىء سبحانه وتعالى في الأزل لا إلى نهاية ولم ير حتى الآن 
وذلك لا يبطل وجوده. نعم يستدعي الوجود أن يثبت له ما يصحح وجوده والشيء قد 
يستدل عليه إما بقضايا عقلية وإما بأثر يثبت للحس فيقضى عليه . وقد شاهدنا آثار النفس 
ووجود أنفسنا بالضرورة؛ وعلمنا أن في أجسامنا معنى يزيد عليها بالضرورة إذ يبقى 
الجسم ولا روح له ويكون الجنين تاماً في الشهر الرابع ولا روح له. 

الجواب الثاني : أن المرئي يجب أن يكون من الرائي في جهة وعلى مسافة 
ويكون قابلا للألوان إذ هي العلة في إظهار المبصرات . وإننا قلنا إن النفس لا تقبل 
الألوان إذ اللون مركب من أمور تجتمع . 

الجواب الثالث : أن المرئي لا بدّ أن يكون في حيز وسنقيم الدليل على أن القوة 
العقلية لا حيز لها. 


الا 


الفصل الثاني 

في كون النفس جوهرا: 

النفس جوهر قائم بنفسه ولا بدّ من كشف هذه العبارة. فنقول: النفس تطلق على 
جهات فيقال للقوة الغازية نفس وكذلك المنمية وكذلك النباتية. وهذه أنفس وليست 
المراد في هذا الغرض . فأول النفوس النباتية ثم الغازية ثم النامية ثم الحيوانية. وهذه 
أول مراتب خروج فعل النفس من القوة إلى الفعل. فالنفوس الحيوانية هي كمال جسم 
طبيعي بها يحس ويتحرك, والبهيمة والإنسان يشتركان في هذه النفس. وهذه النفسء 
هي حرارة مودعة في النطفة. ودم الطمث المجتمع في الرحم لها كالقالب. فإذا أسقط 
المني على بقية دم يجتمع في الرحم انتشر عليه كالنتق في اللبن وعقده بحره فسخن 
وامتد بالحر من خارج وتزايدت الحرارة الغريزية. فأول ما يتكون القلب ثم تنتشر من 
العروق والعصب وينتقش ذلك الجزء فيه إلى أن تكمل أعضاء الجنين» ومن يوم تسقط 
النطفة في الرحم إلى يوم خروجها مقدار ما تقطع الشمس ثلاثة أرباع الفلك. والنطفة 
تستمد الحر من جهة الأم والأم من الأغذية. فإذا دخلت في الشهر التاسع صارت 
كالمفتول الخشن المشرب بالزيت الصافي في شدة الملائمة والتأتي للاشتعال. وهذا 
مثل بل الأمر أغمض وأدق . 

فالنفس الحيوانية لباب الغذاء والنباتات والعناصرء فإذا بلغت هذه الرتبة 
استحقت من اكه الإلمي نفساً. فحينئذٍ يوجد الرب تعالى قوة من عام 0 
تعالى : «قُلٍ الوح بن أمر رَبِي204©. وقال تعالى : ؤرُوحاً مِنْ أمْرنا20. و 
تعالى : (فإذًا سَوْيتهُ نحت فِيهِ مِنْ رُوحي 94» د 
الصفحة التي تلي جهة فوق والتي تلي أقدامنا إلينا مملوءة جنوداً وملائكة: وما يَعْلَمُ 


,86 سورة الاسراء: الآية‎ )١( 
(؟) سورة الشورى: الآية ؟65.‎ 
. 79 سورة الحجر: الآية‎ )5( 


/ 


جُنُودَ رَبك إل هُوَ12©. وقد تبرهن في العلم الطبيعي أنه لا يجوز أن يكون عالم خارج 
الكرة التاسعة. وأن لا خلاء البتة وأن كل موجود للبارىء تعالى فهو داخل في جوف هذه 
الكرة. فأما الأجسام فهي تستحيل عن العناصر الأربعة فكل ما تحت مقعر فلك القمر 
مستحيل متغير. والعناصر يستحيل بعضها إلى بعض وماعدا ذلك فهو جواهر من 
حوادث اخرء والنفس من جنس تلك الجواهر لا من العناصر فهي روحانية محضة وهي 
نفس صغيرة موازية لنفس العالم الكبير. 

وقد تكرر منا أن الانسان موجود على مضاهاة العالم. ٠‏ فالنفس جوهر روحاني 
لطيف ولا يجب أن ينكر المنكر ذلك وهو يشاهد شعاع الشمس وروحانيته وبساطته. 
حتى أن مها رن بالمغرب وشعاعها بالمشرق فما هو إلا أن تغيب خلف جبل 
فينقطع الشعاع الذي بالمشرق يلازمان. ولو كان جسما لما انقطع ذلك آحاد السنين» 
وكذلك إذا أخذت مرآة وعكست بها الشعاع انعكس ذلك إلى حيث شئت, ثم تقطعه 
عن موضع عكسته إليه لا في زمان. وجوهر الشعاع بالإضافة إلى جوهر النفس كثيف 
فليس في العالم موضع بيت ولا زاوية إلا وهو معمور بما لا يعلمه إلا الله تعالى . ولذلك 
أمر النبي علد بالستر في الخلوة وهو أن يجامع الرجل امرأته عريانين» وقد قال تعالى : 
هما يَلْفِظ مِنْ قَوْل إلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيد2©. وقال تعالى في الإنسان > «وَنْحنٌ فْرَبُ 
إليهِ من خبل الوريدٍ »29 . فالأرواح مشحون بها العالم . وإنما نبهنا على ذلك تنبيهاً أن 
للنفس شبه عنصر تكون منه يناسب لطاقتها فإذا تأنت الروح الحيوانية أوجد الله تعالى 
نفساً جوهراً لطيفاً روحانيا عالماً بالقوة في طبائعه أن يعلم الأمور ويقل بارئه» فيتشبث 
بهذا الجسم ويشتغل به وينشأ معه حتى لا يعرف سواه ويشتد إلفه وحرصه عليه حكمة 
من الله تعالى فيحرك الأجسام . وذلك كمثل الحديد فإنه يكون جمادا لا يتحرك فإذا 
انضاف إليه أمر يقوي طبيعته وخاصيته قوي الأثر فيه. ويأتي المحل لفعل النفس الكلية 
فحركت الحدتد فجرى ودار وتراه كالحي فلا يزال على تلك الحال حتى ينخرم ذلك 
الفطام وتزول تلك الملائكة, فلا تزال هذه النفس مع هذا الجسم وتمدها الملائكة من 
خارج بنطق على أنه لا يعرفه إلا العلماء. وقد أخبر الشارع عليه السلام : أن الخير من 
الملائكة والشر من الشيطان فلا بد من أثر يحصل على الملائكة. 
)١(‏ سورة المدثر: الآية ."١‏ 
(؟) سورةق: الآية م١.‏ 
(؟*) سورة ق: الآية 1١‏ . 


ولما كانت النفس روحانية قبلت عن الروحانى وتأثئرت عنه . فلولا العقول المعبر 

عنها بالملائكة الممدة للنفوس من خارج لما عقلت معقولاً البتة فإن النفس عالمة بالقوة 
فقط والملائكة تخرج ما في القوة إلى الفعل حتى يصيرها عالمة بالفعل فأعلى طبقة في 

الاستمداد الأنبياء كل ثم من يليهم . وذلك بحست تهلوت النفس والعكوف على هذه 
الجنبة وهذا هو المعنى بقوله تعالى : «إذ أيذتكَ ع القدْسٍ 24" . وقال تعالى فى 
الأولياء : (أوليَِ كنب في قُلُوبهمُ الإيمانٍ وأيدَهُمْ بروح منهة04). الناس في 
الأخذ من الملك تفاوتا الا نهاية لهاومن الناسن من لا يأخذ شيئاً وهم المرادون بقوله 
تعالى : «إِنْ هم إلا كالانْعَام بَلْ هُمْ أضْلٌ أولَئِكَ هُمْ الغَافِلُونَ204. وإنما أوجد الله 
سبحانه النفس لامتحان الآدمي . ولو أوجدها مبرأة من المادة لم يكن منها عصيان 
فجعلها في مادة كما قال تعالى : 9لتنظر كَيِفَ تَعْمَلُو 94 . وذلك أن الملائكة عرفت 
أن الموجود في مادة يعصى فقالوا : ؤَانَجَعَلٌ فيهَا مَنْ يُفْسِدُ فيهًا وَيَسْفِكُ الدّماء »20 . 
فالنفس تكتسب في بدنها الكمال لكي تلحق بالملائكة أو بالشياطين إما بالأعلى 
أو بالأخس . ثم هي من بعد ذلك حية لأن كونها موجودة مع البدن لا يدل على عدمها 
بعدم البدن فإن عنصريهما مختلفان . 

والدليل على ذلك أن نفوس الملائكة وذوات الأفلاك لا تتغير إلا أن يريد بارئها 
والأفلاك تقبله بجواهرهاء ولآن الفناء هو انحلال التركيب والنفس بسيطة لا مركبة 
والدليل عليه علمها بالأمور العقلية والمغيبة كالنبوة والكهانة. ولا يصح البتة أن يعقل 
الجسم باتفاق العلماء والعقلاء والمزاج اج عبارة عن اعتدال الأخلاط في الجسم والأخلاط 
جسم فيستحيل أن تكون مدركة عاقلة. وإنما العاقل المدرك جوهر يناسب جوهر 
الملائكة وكل جنس فلا يلائم إلا جنسه. ولما كان الجسم كثيفاً صرف في الخدمة 
والحركات والأمور الجسمانية» ولما كانت النفس لطيفة أعدت للإرادات والقدر والعلوم 


.١١١ سورة المائدة: الآية‎ )١( 

(") سورة المجادلة: الآية 71 . 

)4 سورة الأعراف: الآية .١14‏ وتصويبها «أولئك كالأنعام . .»يدل دإن هم إلآء وفي سورة 
الفرقان, : الآية 45 . وصوايها : «إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا» . 

(4) سورة يونس: الآية .١4‏ 

(0) سورة البقرة: الآية ."١‏ 


7: 


حالة في النفس. والعلم لا ينقسم فمحله لا ينقسم ولأن الجسم لوكانت حركته منه للزم 
في الفلك أن تكون حركته منه. وقد تبرهن أن حركته من نفس محركة, وكل متحرك فلا 
يكون محركاً نفسه أصلاً ويبطل أن يحركه جسم آخر إذ لوحركه جسم لاستبد هو بالفعل 
فيبقى أن يحركه غير جسم وغير الجسم لا تركيب فيه» وما يفسد فإنما يفسد لاجتماعه 
من متنافرات فينحل . 

وقد تقدم أن النفس لا مركبة» فالنفس لا تنحل وما لا ينحل يبقى فالنفس تبقى . 
ثم نقول: جميع ما هو جوهر فهو إما قائم بنفسه. وإما على ما يعتقده المتكلمون فإن 
الجواهر عندهم متمائلة ولا فرق بين جوهر النفئس وجوهر الجسم . وإنما تختلف 
الجواهر عندهم بالأعراض ويستحيل أن يكون الجوهر عندهم يحل في الجوهر أو يقوم 
به فلو كان االجسم جوهرا والنفس جوهرا لم يصح أن تكون النفس صفة للجسم 
ولا أولى منه لتمائلهما في الجوهرية. وإذا بطل أن تكون جوهراً أو عرضاً لم يبق إلا أن 
تكون جوهراً قائما بنفسه ليست بعرض ولا بجوهر. 


فإن قيل: لا يعقل في العقل إلا جوهر أو عرض . وإما جوهر ثالث فلا يدري . 

قلنا: هذا إلا أن سخف بل ليس في العقل حصر يدل على ذلك» وإنما أوجب 
تلك القسمة المشاهدة من حيث لم تشاهد إلا عرضا وجوهرا وهذا قياس التمثيل وهو 
قياس باطل» وسنعد كتاباً لتقرير البراهين إن ساعدت الأقدار بحول الله تعالى . وإذا ثبت 
وجود معنى الث بالبرهان . 


قلنا: هذا المعنى لا يخلو أن يجب له المحل أو يجوز عليه أو يستحيل . وبطل أن 
يجب له. فإن الواجب العقلي لا يفتقر إلى مخصص وذلك يلزم أن تكون النفس أبداً غير 
خالية من محل ونحن نشاهد تركها للبدن فلا بد من مدة تمر عليها لا تكون فيها في 
محل . هذا لوقلنا إنها تنتقل من هذا الجسم إلى جسم. فنقول ما بين الانتقالين لا تكون 
في جسم والحكم الواجب لا ينتقض في زمان ما . ثم نقول: من زعم أنها تنتقل إلى 
محل فعليه الدليل وهذا لا يقوم عليه دليل البتة وإذا بطل أن يكون المحل واجبا لها بقي أن 
يقال جائز عليهاء وما جاز على الشيء افتقر إلى مخصص والمخصص لا يؤثر في محل 
إلا أن يكون المحل قابلا للتأثير» وقد قدمنا أن النفس يستحيل انطباعها في الجسم فصح 
وثبت أنها يستحيل عليها المحل . 


الفصل الثالث 


وقد قدمنا اختلاف الفرق في ماهية النفس وتقدم مذهب كل فريقء والذي نخص 
به الآن هذه المسألة أن نقول: تنحصر المذاهب في مذهبين: إما أنٍ يقال إن النفس 
قديمة على مذهب أفلاطون فإن البارىء تعالى عنده علة وجودها والمعلول عنده 

وذهبت طائفة من محققيهم أن النفس محدثة وهو مذهب ابن سينا» ولكن اتفق 
الكل على أنها لا تتعدم وبذلك أخبرت الأنبياء عليه السلام , . وقال تعالى «خالدينَ 
فبهَا أبدا رَضِيّ الله عَنهُمْ 0004 . وقال تعالى : ولا تحسبَن الْذِينَ قُِلُوا في سبيل الله 
أنواتا بل أخياة عند رَبهِمْ يُرْرَْونَ 204 . وقال سبحانه في نفس الكافر: ولا يَمُوتَ فِيها 
ولا يُحَبَى 026 , وقال تعالى في أهل الجنة: «لا يذوقون فيها المُوت أ المُونَةَ 
الأولى ») . فإذا هما طرفان: 

أحدهما: عدمها واتفق المؤالف والمخالف على أنها لا تنعدم حاشا طائفة من 
الدهرية لا التفات إليهم . 

الطرنف الثاني : وهو ابتداؤها. فذهب الإسلاميون والقائلون بالشرائع إلى أنها 
محدثة لها ابتداء لكنها جوهر لا يقبل العدم . وذهبت طائفة من الفلاسفة إلى أنها محدثة 
الجوهر كالماء إذا أشعل تحته النار ففنى فلم يفن عندهم تحقيقاً. لكن الماء عندهم 
استحال هواء وكذلك الهواء إذا استحال ناراً فالحدوث عندهم عبارة عن تغيير حال 
الجوهر. وإذا فهمت هذا من مذهبهم فحدوث النفس عندهم عبارة عن انتقال جوهرها 
)١(‏ سورة المائدة جزء من : الأية 1١١16‏ 
(؟) سورة آل عمران: الآية 156. 


(؟) سورة الأعلى : الآية .١7‏ وسورة طه: الآية 1/4. 
(4) سورة االدخان: الآية 5ه. 


ك/ 


من حالة إلى حالة كانتقال الماء إلى الهواء والذي يرجع إليه مذهبهم والله أعلم أن 
العناصر الحاصلة في مقعر فلك القمر المنفعلة عن الأفلاك تولد النفس منها. وحاصل 
ذلك راجع إلى أشعة الكواكب ولكن عندهم بين النفوس والأجسام مناسبة وعلاقة لا بد 
منها. وذلك يكون في ابتداء الجسم للكائن من الأغذية بأن تكون تلك الأغذية تنقسم 
ما بين البروج. فإذا انفعل الجسم وخرج إلى صفحة العالم من طالع مخصوص انجرت 
تلك الأشعة التي للكواكب إلى الجسم بمناسبة مختصة من جهة مختصة بالطبع. وعلى 
هذا بنوا آراء الطلسمات, فإن ابن آدم عندهم طلسم فيحتالون بأبخرة وعقاقير وجواهر 
مختصة من جواهر الأرض تلائم طبيعة الكواكب والحب والمنافرة عندهم على قدر 
تناسب الطبيعة ولهم في هذا كلام طويل. والذي يقوم عليه البرهان أن النفس حادثة إذ 
البارىء تعالى موصوف بالاقتدار على خلق جواهر لا تعدم . وسنورد إن شاء الله تعالى 
أصل مذاهبهم في المعراج الثالث في حدوث العالم العلوي فلا معنى لإيراد ذلك في 
هذه المسألة فلنتكلم على أنها لا تعدم . فنقول: الشيء لا يوصف بالعدم ما لم يقل إنه 
قابل للعدم . وإذا كانت النفس قابلة للعدم فلا تخلو أن يكون ذلك في طبعها ويكون 
العدم ذاتيا له. وإما أن تعدم لاختلال شرط في وجودها. وإما أن تعدم لإرادة بارئها أن 
تنعدم . وبطل أن يكون العدم من صفات ذاتها إذ ذلك يؤدي إلى أن تبقى زمانين وهو 
محال وبطل أن يقال هي باقية بشرط إذ قدمنا أن القائم بنفسه لا يفتقر إلى شرط . وبطل 
أن يقال تعدم لإرادة بارئها فإن إرادة بارئها لا يعلم إلا من جهة الرسل عليهم السلام. 
وقد أخبرت الرسل كَكَلِ أنها لا تعدم والله ولي الهداية . 
المعراج الثالث: 

لم يختلف أحد من ذوي العقول أن الصور الجسمانية الحادثة في عالم الكون 
والفساد حادثة مفتقرة إلى علة في وجودهما إما بارىء وإما طبيعة على ما قدمنا وعالم 
الحس والشهادة والكون والفساد كل ما حواه فلك القمر وحصل في مقعره. واختلف في 
العوالم العلوية وهي نفوس الأفلاك وعقولها وما فيها من الكواكب وغيرها. فأطبقت 
الفلاسفة على قدم ذلك بلا خلاف في الاعتقاد. واختلفت عباراتهم في التغيير عن 
حصولها عن البارىء تعالى وهو المبدأ عندهم ومجرى الميدأ الثاني الذي هو علة لما 
تحته من البارىء سيحانه فجرى النور من الشمس ونور الشمس ضروري الوجود معها 
فلا ينعدم. والبارىء سبحانه عندهم علة وهو معه كالمعنى الطبيعي وغير متقدم عليه 


/ا/ا 


التقدم الطبيعي. بل معنى تقدمه عليه بالمرتبة كتقدم الملك على الوزير والوزير على 
الحاجب» ثم سموه بعد ذلك حدوثاً وفعلا وفيضاً وكل ذلك على سبيل المجاز لا على 
الحقيقة . 


والعالم عندهم ينقسم إلى قسسين: قائم بنفسه وغير قائم بنفسه. فما ليس قائماً 
بنفسه هي الأعراض وحدوثها عندهم عن دوران الفنك والانتقالات فتسري الأدوار من 
شيء إلى شيء وتكتسب الجواهر بذلك أحوالاً وما هو قائم بنفسه منقسم إلى ثلائة 
أقسام : أجسام وهي أخس الجواهر وعقول أشرف الموجودات ونفوس وهي واسطة بين 
الأجسام والعقول وهي في حكم الرابطة بين العقول والأجسام كالحرف الرابط بين 
الاسم والفعل والكلمة وهي غير مؤثرات في الأجسام . ثم الأجسام عشرة تسم سموات 
والعاشر العناصر التي هي حشو فلك القمر. ثم السموات التسع حية عندهم ناطقة ولها 
ترتيب ودرجات وهو أن البارىء تعالى عن قولهم فاض عنه على الطريق التي ذكرناها 
العقل الأول وهو العلم. والكلمة عند أكثرهم وهو جوهر قائم بنفسه ليس بجسم ولا هو 
منطبع في جسم يعرف نفسه ويعرف بارئه وهو ملك . وربما زعموا أنه هو القلم. ثم لزم 
عن وجوده ثلاثة أشياء : عقل ونفس والفلك الأقصى وهوالتاسع وهوالسماء وجرمهاء ثم 
لزم من العقل الثاني عقل ثالث ونفس وفلك الكواكب الثابتة وجرمه. ولزم عن العقل 
الثالث عقل رابع ونفس فلك زحل وجرمه, ولزم عن العقل الرابع عقل خامس ونفس 
وفلك المشتري وجرمه هكذا إلى فلك القمرء ثم ما في حشو فلك القمر ثم المواد التي 
تسير في سبب حركات الكواكب امتزاجات مختلفة تنفعل منها المعادن والحيوانات 
والنباتات, فالعقول عشرة والأفلاك تسعة ومجموع ذلك تسعة عشر. وزعم بعضهم أن 
ذلك هو المراد بقوله تعالى : طِعَلَيْهَا تَسعَةَ عَشْرَ076©. وزعم بعضهم أن ذلك الاثني 
عشر برجا والسبع للداري وإلى هذا يرجع حقيقة مذهبهم وعليه مدار سائر مذاهبهم في 
كل فن. واتفقوا على أن الله تعالى واحد وحدانية لا تقبل الانقسام لا بالحس ولا بالعقل 
ولا غير ذلك., وأنه لا معنى له يزيد على ذاته من علم أو قدرة أو غير ذلك. هذا هو 
مذهب المحققين منهم الذي اتفقوا عليه . 

وما يظهر من الاختلاف في أقوالهم في العالم كتحير جالينوس حيث قال : لا أعلم 
قديماً أو حادثاً فقد قال الفارابي من محققيهم أو معنى ذلك أن العالم يتعارض عليه فهو 
)١(‏ صورة المدثر: الآية "9. 


>, 


ضربان لانقسامه في نفسه إلى القديم والحادث. فإذا انفرد الكلام ارتفع الغلط. فمعنى 
قولهم العالم محدث له معنيان: أحدهما حقيقة, والآخر مجاز. فأما ما هو حقيقة فهو 
تركيب الصور في عالم الكون والفساد من المادة. وأما المجاز فتسميتهم العلة الأولى 
حدوثاً وفيضا وذلك راجع إلى تسمية مجردة. فإنه لا يصح عندهم أن يصدر حادث من 
قديم البتة. ولنرسم فصلين أحدهما يقتضي الدلالة على أن العالم محدث, ويتضمن 
الثاني الكشف عن أدلتهم في أن السماء حية. 


الفصل الأول 


لهم على مذهبهم أدلة نوردها وننفصل عنها قالوا يستحيل أن يصدر حادث عن 
قديم حدوثا لا واسطة له لأن الإله إذا فرضنا وجوده في الأزل لا موجود معه البتة 
والموجودات لم تصدر منه لأن إيجادها لم يظهر به بل كان عنده في حيز الإمكان 
المجرد. ثم إنه أحدث العالم فإحداثه لا يخلو من حالين : إما أن يكون بقي على حالته 
الأولى . وإما أن يكون حدثت له صفة تقتضي الإحداث. وذلك يلزم السؤال. بلم؟ 
فيقال: لم خصص هذا الوقت بالفعل دون الوقت السابق أو يحال الأمر على فقد آلة 
ووجودهاء ويبطل أن يكون لإرادة حادثة فإن الحادث لا يحل التقديم ويبطل أن يخلقها 
في محل ثم يريد بها وكل هذا باطل . وأما قولهم إنه لم يفعل ثم فعل فذلك يوجب تغيير 
حال . 

قلنا: ذلك فإنه تعالى لم يزل عالماً ولا يزال» ومقتضى علمه إيجاد الخلق في 
المبدأ الذي أوجدهم فيه وقصد إلى خلقهم حين ابتدأ خلقهم. وذلك راجع إلى اظهار 
الفعل وليس من شرط العالم إذا كان قادراً أن يلازم المعلوم والمقدور. والبارىء تعالى 
لا يقال له لم . فيسقط ما موهوا به فإن قالوا: البارىء تعالى لا علم له. 

قلنا: بل هو عالم لا يتغير عما علم في وقت مالا في الماضي ولا في المستقبل 
كما يدل عليه ومن الدليل على حدوث هذا العالم أن في القول يقدمه إثبات حوادث 
لا نهاية لها. فلك الشمس يدور في سنة. وفلك زحل في ثلاثين سنةء فتقع أدوار 
الشمس في أدوار زحل في ثلث العشر. وتقع أدوار الشمس في أدوار المشتري في 

نصف السدس. فإنه يقع مدة اثنتي عشرة سنة» فإذا كانت دورات زحل ل نهاية لها 
ولا عداد. وكذلك الشمس وكذلك المشتري فذلك يبطل أن تقع الشمس لأاحدهما في 


378 


التكسير على ما وصفناء بل فلك الكواكب الذي يدور عندهم في ستة وثلاثين ألف سنة 
مرة. ثم نقول أعداد هذه الدورات لا تنفك أن تكون شفعاً أووتراً أو شفعاً ووترأ 
أولا شفع ولا وتر وبطل أن يقال لا شفع ولا وترء فإن العدد إما شفع وإما وترء وقد 
صححتم هذه المقدمة في المنطق. وكذلك إن قلتم شفعا ووتراء فإن قلتم شفعا فما 
لا نهاية له لا يعوزه واحد يصير العدد وترأ ومحال أن يعوزه وإن قيل وترأ ثبتت النهاية. 

فإن قيل : ما لا يتناهى لا يقبل الانصاف بالشفع والوتر. 

قلنا: هذا محال إذ جملته قامت من سدس وعشر تقبل ذلك بالضرورة وغاية 
كلامهم مطالبة البارىء سبحانه بما خص ووقت المبدأ من غيره. وهذا الاعتراض 
لا يعقل له مناسبة ولا يلزم بحال. فكل ما يهذون به يحمل على العلم والإرادة على أنا 
نقول ربما الأصلح بهم خلقهم في الوقت الذي وجدوا فيه. 


الفصل الثاني 


وهذا الفصل ينقسم إلى ثلاثة أقسام : 

القسم الأول: في ذهابهم إلى أن السماء حية. 

والثاني : قولهم أن السماء عالمة بجزئيات العالم. 

والثالث: في ترتيب الحركات. 

قالوا: السماء حية ولها نفس . نسبة نفسها إلى جسمها كنسبة أنفسنا إلى أجسامنا . 
وكما تنقسم حركاتنا إلى الطبيعية والإرادية كذلك حركة هذه إراديّها وطبيعيها 
قصدها عبادة رب العزة والتقرب منه إذ كل تحرك إرادي لغرض إذ بذلك يفارق العاقل 
سائر الحيوان. ثم قصد التقرب الغرض به عندهم التشبه بالبارىء تعالى في الصفات 
لا في الذات. فإن الكمال الأعظم والبهاء الآتم والجود الأفخم لله رب العالمين . وكل 
وجود بالإضافة إلى وجوده ناقص. والملك أقرب إليه ونعني بصفات البارىء تعالى 
العلم والحلم والجود والرحمة والنزاهة عن الظلم إلى غير ذلك . والإنسان متى استعمل 
هذه الصفات قرب من الملك فهو قرب مناسبة في الخلق والصفات لا في المكان 
وكذلك الملائكة مع بارئهم. قالوا: والمنتهى طبقة الآدميين التشيه بالملائكة. 


/ 


والملائكة عندهم عبارة عن النفوس المحركة للسموات. قالوا: وكمالاتها تنقسم إلى 
ما بالقوة وإلى ما بالفعل» فما هو بالفعل كونها على شكل كري وذلك بالفعل حاضر أبدا 
وما لها بالقوة الهيئة في الوضع والأين فكل وضع ممكن لهاء وما لم يمكنها فلعدم ثباتها 
تحركت تبغيها فلا تزال تطلب وضعا بعد وضع. وإنما قصده التشبه ببارئه في صفات 
الكمال فهو يتحرك لإفاضة الجود على ما تحته من العوالم إذ ليست تختلف في التثليث 
والتربيع والمقابلة واختلاف الطوالع. وهذا الكلام لا يقوم عليه برهان. فإن الحركة 
المشرقية هلا كانت مغربية وهلا كانت المغربية مشرقية . فأما عنوان أدلتهم في أنها حية 
فزعموا أن السماء متحركة. 

قالوا : وهذا معلوم بالحس والضرورة وكل جسم متحرك فله محرك ولا بد . وهذه 
مقدمة أخرى إذ لو تحرك الجسم تججرة كولة سما لكانكت الأجسام كلها متحركة. 
والمحرك لها إما أن يكون طبيعة لها كهري الحجر إلى أسفل . وإما أن يكون المحرك لها 
خارجاً عنها كرمي الحجر إلى فوق فيكون قاسراً له على ذلك . وإما أن تتحرك بإرادتها 
ويبطل أن تكون حركها قسرية. لأن محركها إما جسم فيلزم فيه ما لزم في هذاء وإما أن 
نقول يحركها الله تعالى بغير واسطة . قالوا: وذلك محال لأنه لوحركه من حيث إنه خالقه 
للزم أن يحرك كل جسم فلا بدّ من اختصاص الحركة بمزية, ولايمكن أن يقال تحركها 
بالإرادة لأن إرادته تناسب الأجسام نسبة واحدة فلم خصت هذه بالتحرك دون غيرها 
والحركة الطبيعية فيها محال لأن الطبيعة تلزم ضربا واحدا. ثم الحركة الدورية لاا يصح 
ذلك فيها فإن كلا مضروب عنه فلا يلزم عودها إليه فتتساوى الأماكن, ونحن نسلم جميع 
ماذكروا حاشا قولهم يبطل أن تتحرك لإرادة الله إذ يلزم ذلك في شكل السماء وتحركها 
على نقطتين؛ ولم اختصت بهذه الصورة . 

القسم الثاني : قالوا إذا صح أن السماء متحركة بالإرادة فهي عالمة مطلعة على 
جزئيات العالم. قالوا: والمراد باللوح المحفوظ نفوس السموات وأن انتقاش جزئيات 
المعلومات وما فيها كانتقاش المعلومات في القوة العاقلة في الإنسان, قالوا: والملائكة 
السماويات نفوس السماوات والكروبيون المقربون العقول المجردة التي هي جواهر 
قائمة لا تتحيز ولا تتصرف في الأجسام. واستدلوا على أن السماء عالمة بالجزئيات. 
بأن قالوا: الحركة الدورية إرادية والإرادة تتبع المراد. والمراد الكلي لا يتوجه إليه 
الإرادة الكلية والإرادة الكلية لا يصدر منها شيء, فإن كل ما خرج إلى الفعل موجود 


م 


وجزئي ونسبة الإرادة الكلية إلى الجزئيات على وتيرة واحدة فلا يصدر عنها شيء 
جزئي . بل لا بد من إرادة جزئية للحركة المعينة وذلك يلزم تصوره لتلك الحركات 
الجزئية بقوة جسمانية إذ من ضرورة كل إرادة تصور مرادهاء وإذا ثبت تصورها الجزئيات 
علمت مايلزم منها من اختلاف النسب من الأرض مع اختلاف أجزائه في الطلوع 
والغروب والاستواء. فإذا الحركات السببية للمسببات سلاسل تنتهى إلى الحركة 
السماوية الإرادية والإنسان إنما لا يعلم ما يقع في المستقبل بجهله بالأسباب, وهذا كله 
باطل في حق السماء فإنه موجود إلى تتابع حوادث لا نهاية لها وهذا محال. نعم يصح 
هذا في حق البارىء تعالى من حيث ان المعلومات عنده على وتيرة واحدة تابعة لإرادته 
وعلمه. وذلك لا يلزمه على شكل يوجب له ذلك أو دوران وما لزم عن شكل ودور افتقر 
إلى مريد موجد لذات الشكل والدور فمر يده بالعلم أولاً ويسطل تساوي الخالق 
والمخلوق في العلم. فإنه إذا علم الفلك لوازم الحركات إلى مالا نهاية له وعلم 
البارىء سبحانه لوازمها إلى ما لا نهاية له» فلا يخلوعلمهما لها إما أن يتطابقا أو يتضادا. 
ومتى تطابقا أو تضادا فهو نقصان لمن يستحق الكمال الأتم. وقد اتفقوا على أن البارىء 

القسم الثالث: ما ذكرناه في القسمين السابقين ينقسم إلى مالا يصح ولا يفقوم 
عليه برهان وإلى ما يقوم عليه برهان. كعلمنا أن السموات متحركة وأن الحركات ممختلفة 
في التغريب والتشريق واختلاف المطالع والمغارب وتعلق الحوادث بذلك. لكنا نزعم 
أن ذلك تابع لإرادة البارىء سبحانه وعلمه في كل دقيقة من الزمان وهم يزعمون أن 
السماء ونفوس الأفلاك مستقلة بذلك من جهة إرادتها وعلمهاء فنجعل هذا القسم ثلاثة 
فصول: 


الفصل الأول: في أن الله سبحانه عالم بالمعلومات . 
الفصل الثاني : أنه مريد للكائنات . 
الفصل الثالث: في غرض القسم في ترتيب الحركات. 


ذه 


الفصل الأول 

في أن الله سبحانه عالم بالمعلومات : 

اتفق المثبتون للصانعم على أن الله تعالى عالم. واختلفوا فيما هو به عالم وهل 
علمه زائد عليه أم لا. وهذا الاتفاق في إثبات العلم كاف ونزيده بياناً أن تقول لا يخلو 
العالم أن يكون له محدث أو لا محدث له فإن لم يكن له محدث بطل بما قدمناه. وإن 
كان له محدث لم يخل أن يحدثه وهو عالم به أو غير عالم به. فإن قيل: أحدثه ولا علم 
له به فهو إما مقهور أو ذاهل وهذا باطل إذ ذاك محال وقد تقدم ما ينفيه فلم يبق إلا أنه 
عالم. فإن قيل: هو عالم ولكن بالكليات, وأما بالجزئيات فذلك يوجب تجدد علمه 
بتجدد الوارد وذلك باطل . والذي يلزم في حدوث جزء منه. فإن الحدوث لا يختلف فلو 
صح أن تحدث خردلة دون علمه لجاز أن تحدث السماء دون علمه . 

فإن قيل: سلمنا أن محدثاً لا يحدث وهو لا يعلم به. بل للملائكة الموكلين 
بذلك في علمهم بالمعلومات استقلال وهذا منتهى شبههم . 

قلنا: ذلك محال فإن البارىء سبحانه عندكم عقل محض ومن شرط العقل 
المحض المبرأ عن المادة أن لا يجهل معلوماًء وإنما طرأ الجهل على الانسان من حيث 
هو في مادة فاشتغل بها عن غيرها. فنقول: قد علمتم أن السماء عالمة بالجزئيات فهلا 
أوجبتم ذلك ارب العزة على الوجه الذي أثبتموه للسماء؟ فإن قالوا: يلزم طروء الحوادث 
عليه . قلنا: لا يلزم لأن علمه قديم علم ما يكون من تركيبات العالم وانتقالاته إلى منتهى 
وعلى أصلكم من حيث علم الأسباب الأول يلزمه علمها وعلم توابعها وتوابع توابعهاء 
فإن من علم السبب علم المسبب ومامن سبب إلا وله مسبب هكذا إلى منقطع 
السلسلة . ثم الحدوث والتغير يطرآن على الحوادث وهي جارية على ما علم فعلمه 
واحد لا يتغير وإنما تغيرت هي من حيث علم تغيرها في علمه أنها يترتب بعضها على 

فإن قيل: فهل علمه زائد على ذاته أو هو عين ذاته؟ 

قلنا: ذهبت المعتزلة إلى أن ذاته عين علمه. وذهبت الأشعرية وأكثر الفرق إلى 
أن علمه غير ذاته . والذي اعتقده أن الله سبحانه عالم وقد قام الدليل على علمه. فهذه 


4 


مقدمة المقدمة الثانية أن ثبت إن إثبات كون العلم مغايراً للذات محال؛ وذلك أن نقول 
لا يخلو العلم أن يكون نفس الذات وهذا لا نعتقده. أو نقول إنه زائد عليها وهو 
مذهبكم . فإن كان زائداً عليها فلا يخلو أن يستقل دون الذات بأن يكون واجب الوجود 
أو تكون الذات شرطأ فيه. فإن استقل دون الذات وكان قديماً قائما بنفسه فهما إلهان 
الذات والعلم وذلك محال. 

فإن قيل: الذات من شرطه؟ 

قلنا: لا يخلو أن يكون قديماً أو محدثاً. فإن كان قديماً بطل أن يكون القديم 
شرط القديم, وإن كان محدثا فلا يخلو اما أن يقوم بذات البارىء تعالى أو بغيره» فإن 
قام به لزم قيام الحوادث بذاته وهذا باطل وإن كان بغيره فالعلم إذا ليس من صفات ذاته . 

فإن قيل: فهذا إذاً نفس اعتقاد المعتزلة . قلت: نفارقهم بفضل وهو أن مذهينا 
أن الله سبحانه عالم بالكليات والجزئيات ولا يطلق عليه لا علمه ذاته ولا غيرها لأن 
التحكم بإضافة اسم إلى البارىء تعالى وإطلاقه طريقة الشرع. وليس في حكم الشرع 
مايدل على أن العلم زائد بل ورد ذلك مطلقا وشهدت أدلة العقول على أن الله تعالى 
عالم. وأن العلم لا يصح أن يكون موجوداً قديماً قائماً بنفسه مستغنياً عن البارىء تعالى 
وبطل أيضاً أن يكون قديماً يفتقر إلى شرط . 


الفصل الثاني 
في أنه مريد للكائنئات : 


هذا الفصل معقود للإرادة. وهي مسألة مشكلة وعليها انبنى تعطيل المعطلة فلا 
بدّ من تفصيل القول فيها إن شاء الله تعالى. فنقول: الإرادة حقيقتها المفهومة إجماع 
النفس على الفعل عند انبساط القوة النزوعية. ويحركها إليه في القوة الخيالية شيء 
يرغب فيه أويهرب عنهء وهذا الوصف مستحيل في ذات البارىء تعالى» فإذاً الارادة 
الإلهية عبارة عن إيقاعه الفعل مع أنه غير ذاهل عنه فالقصد إلى احداث المحدث 
والعمد إليه سمي إرادة. وحقيقة ذلك تؤول إلى خروج الفعل من القوة إلى الفعل. وقد 
قام الدليل على أن الله تعالى عالم وأنه مبدىء العالم وثبت افتقار العالم إليه» واتفق على 
ذلك الكافة وإن سموه علة فقد أطبقوا على أن العالم لا قوام له دونه وثبت علمه به وعلمه 


4 


تعالى بالمعلومات فيما كان أو يكون على وتيرة واحدة لا يتغير ولا يجهل ولا يذهل . 
والعلم متى أضيف إليه فهو ة قبل الفعل أبداً ودائماً بعده ثم تعلق العلم بأنه سيكون إذا 
اضف إلى ججهة العنتلوقات تحقس المعاومات: في حقةا إلى قا يكوك والى فأ كان كل 
ما يكون فهو في القوة وما كان فقد خرج إلى الفعل فتغير حال المعلوم لا العلم. 

وهذه قاعدة عظيمة إذا فهمت على هذه الرتبة. وإذا تقرر هذا فكل ما هو في القوة 
سيكون فالرب سبحانه مريد لآن يكون من حيث رتب تعالى الأسباب على ما جرى به 
علمه فهي مطابقة على ما سبق به العلم. فإطلاق الإرادة في هذا الموضع على معنى أن 
المراد معلوم ونظم القياس كل مراد معلوم, وكل معلوم جار على ما أراد الله تعالى. وكل 
مراد جار على ما علم الله تعالى . وإذا صح أن يكون العلم علة المراد الذي في القوة فما 
هو بالفعل تابع لما في القوة والأمر ظاهر. فما خرج إلى الفعل فنفس حدوثه دليل على 
إيقاع الله تعالى له وإيقاعه له هو المطلوب بالإرادة تابعة للعلم . 

فإن قيل: فالمعلومات هل هي متناهية أو لا متناهية؟ 


قلنا: هذا السؤال يفتقر إلى تفصيل فلا يخلو السائل أن يضيف التناهي إلى 
المعلومات فمن ضرورة العقل أن يكون المعلوم محاطاً به. وكل محاط به فمحدود 
وكل محدود متناه فكل معلوم متناه كان المعلوم في القوة أو خرج إلى الفعل» فإذا العالم 
بأسره من الكرة التاسعة وما يحويه وتوابعها من أجناسها وأنواعها وأشخاصها وما يلزم عنه 
متناه محصور في علم الله تعالى . 

فإن قيل: هذا مسلم ولكن السؤال هل البارىء تعالى عالم بما لا يتناهى أم لا؟ 

قيل: هذا سؤال مستحيل من هذا الوجه فإن كل معلوم متناه فكان حاصل السؤال 
أن نقول كل غير متناه أم لا. وهذا انحراف عن صوب الصواب . 

فإن قيل: فهل يقال يصلح أن يكون العلم حاصراً لما يتناهى أو لا؟ 

قلنا: العلم في نفسه لا يصح الاتصاف به متى فرض إلا مضافاً إلى معلوم وإلا 
بطلت خاصية العلم فمتى أضيف كان المعلوم منحصرا. فبقي أن يقال ذلك على وجه 
واحد وهو أن يكون العلم القديم يتعلق بأن عوالم تتعاقب وهي متى أضيفت إلى نفسها 
انحصرت. ومتى أضيف الحصر والتناهي إلى علم الله تعالى بطل لأن العلم لا يقال فيه 
متناه أو غير متناه. وهذا أصل الغلط فربما ظن من لا حقيقة عنده أن المعلومات متى 


6 


كانت متناهية كان علم الله تعالى متناهياء وهيهات ما قدروا الله حق قدره» فالمعلومات 
هي المتصفة بالنهاية من حيث تقبل التناهي حتى زعم أكثر المتكلمين أن الكيفيات 
لا يقال متناهية أو غير متناهية» فكيف بعلم البارىء تعالى؟ فإنه ليس من قبيل الأعراض 
ولا من قبيل الجواهرء فكيفما أدرت المسألة رجع حكم النهاية إلى المعلوم لا إلى العلم 
وذلك لا نقص من قدر الله تعالى ولا يقال له بذلك عاجز. 


الفصل الثالث 
في ترتيب الحركات : 


لا خفاء على ذي بصيرة أحاط علماً بما قررناه من افتقار العالم إلى البارىء تعالى 

وإثبات العلم له. فإن المعلوم لا يخرج عن العلم إذ ذرة في السموات أو في الأرض 
لا تتحرك أو تسكن إلا وهي مفيدة في علم البارىء تعالى في كتاب لا يضل ربي 
ولا ينسى . ومامن حركة ولا قبض ولا بسط ولا وسوسة ولا هاجس إلا 
والبارىء تعالى عالم بذلك الآن بذلك الآن كعلمه في الأزل وكعلمه بعد انقضاء الفعل. 
وكيف لا وقد قدمنامأن أكثر المنتمين إلى الحذق والعلم بالإله جل جلاله برهنوا على أن 
الفلك عالم بجزئيات العالم. وقد أقروا بأن الفلك مسخر لمدبر عليم قاصد بحركته 
التقرب لبارئه تعالى. فمن أولى باتصاف الكمال السيد أو العبد فسبحانه ذي العرش ' 
المجيد والبطش الشديد ما يَلْفِظُ مِنْ َوْل إلا َدَيِْ رَقِيبٌ عَتيد74». وهو أدنى إلى 
ا ا و ل ا ولا حمْسَةٍ إلا مو 

ول أذني مِنْ ذْلِكَ ولا عير الا هُو مَعَهُمْ ْنَم كَانوا َم يبتهُمْبمَا عملوا و 
القِيامَة ة إن الله كل شَيءٍ عليم 274 . وقال تعالى لوَعِنْدَهُ فاح الغْيب لا َعْلمُهَا إلاهُو 
يلم ما في البرٌ والبَحرٍ وَمَا سقط بِنْ وَرَقٍ إلا َْلمُهَا ولا حب في ظَلَمَاتِ اررض ولا 
رَطب وَلايَابسٍ إلا في كتاب مبين 6( . وهذه الآية من الآي التي هي أم الكتاب. فذكر 


.١م4 سورةق: الآية‎ )١( 
سورة المجادلة: الآية لا.‎ )1( 
.06 سورة الأنعام: الآية‎ )5( 


كم 


تعالى أن عنده مفاتح الغيب. ومن قام عنده البرهان بما تقدم طلب معنى تحمل المفاتح 
عليه. وقد اهتدت الفلاسفة إليه لو أضافوا ذلك إلى رب العزة. فإن الأسباب ومسبياتها 
علمها عر وجل ولا يصح أن يعلمها أولا ثم لا يعلمها بعد حدوثها إذ ذاك يؤدي إلى 
تغيره » ويبطل أن يعلمها علما كليا ثم تستجد له علم عند حدوثها وذلك أيضاً باطل» 
وصح أن الله تعالى عالم بها قبل كونها علماً بدقائقها لا يعدوه. فلو صح أن يتعداه لخرج 
عن كونه عالماً بها. وإذا ثبت ذلك بحسب ما ترتب في العلم ترتب في الوجود فلا يعدو 
منها شيء علمه وإن أردت مثلاً فالخبز لا يخبز ما لم يكن عجيناً. ولا يصح أن يكون 
عجيناً ما لم يكون دقيقاً. ولا يصح أن يكون دقيقاً ما لم يكن قمحاً. ولا بدّ من طحنها 
ولا بد من حجر طحين ومن محرك للرحى وصفات المحرك. فهذه أسباب لازمة 
ضرورية لا بد منهاء فهكذا فافهم البارىء مع علله تبارك وتعالى؛ فالأسباب هي 
المفاتيح والمسببات هي المفتوحات بها, ولا يصح أن يستولى عليها غيره ومن علم 
بعضها فبتعلمه ومن علم بعضا لا يأتي عليه جميعا كائنا من كان نبيا مرسلا أو ملكا 
مقرباء وذكر تعالى الظلمة نهاية في تعظيم علمه بالأشياء الغامضة التي في غاية 
الغموض. وكذلك ذكر الرطب واليابس من حيث أن كل رطب يقتضي البارد والحار 
وكذلك لليابس إذ ذاك من ضرورته . 

فالسموات والأرض وما فيهما في علمه وله المثل الأعلى كسفرة بين يدي أحدنا 
يدير ما فيها بمايشاء وعلمه بجزئيات الأمور وما بينهما إلى علمه وقدرته أنزر وأحقر من 
نسبة السفرة إلى إحاطة علم بما لا يتقدر ولا يتناهى. وإنما هو ضرب مثل لكنه تعالى 
تقدس عن الجوارح والأدوات والمباشرة وكان اللائق بجلاله أن تنفعل له الأشياء بمجرد 
قصوده لكونهاء. ولكن خص بعلمه وحكمته أن يكون العالم على نظام وترتيب ليترتب 
بعضه على بعض »2 وهذا تعلمه بالضرورة ولا ينكر ولا يتمارى فيه ولا استحالة فيه. 
مالا يعلم في ملكه تعالى وتقدس عن ذلك سبحانه. وإذا حصلت ما تقدم علمت أن 
وأن علمه لا يتغيرء وتقدم لك أن العالم منفعل له وأنه غير مباشر لذلك إذ ليس بجسم 
مقدر ولا بعرض ولا جوهر والعالم منفعل له. وذلك لازم للعالم لزوما ضروريا وهو 
تعالى مختار والحديد منطبع للمغناطيس بخاصية فيه . وهذا في عالم الحس فما ظنك 
برب العزة ذي الجلال والكمال؟ 


4 


وإذا فهمت هذا فاعلم أن الحركات ثلاثة: إما على الوسط كتحرك الأفلاك, واما 
من الوسط كالهواء والأبخرة الصاعدة علواء وإما إلى الوسط كحركة الحجر إلى أسفل 
يطلب مركزه بطبع فيه. ثم هذه الحركة ضربان: ضرورية واختيارية. ولها نسبتان: نسبة 
نفسها ونسبة إلى بارئها فمتى أضيف فعلها إلى بارئها فهو مختار لها بأجمعها ليبس شيء 
منها إلا بتدبيره وحكمه وقضائه وحكمة له اقتضت كونها على جهة مخصوصة وزمان 
معين وشخص معين تقدمت تلك الحركة أو تأخرت كانت بالقوة أو بالفعل . وهذا مبرهن 
لازم ضرورة. 

وأما النسبة الثانية وهي نسبتها إلى المتحركين فتنقسم ثلاثة أقسام : إما مختارة 
وهذا يختص بالحيوان, وإما مضطرة وهذا يشمل الجماد والحيوان وهو إما ملازم وإما 
عرضي . 

فأما الأفعال المختارة فهي موقوفة على إشارة النفس وتحركها والأشياء التى تحت 
النفس طائعة لهأ انطياع النفس لبارئها جعل ذلك في طبيعة الخلقة والنفس منفعلة بإشارة 
العقل والعقل منفعل لبارئه تعالى . وأما نفوس الملائكة فحركتهم الاختيارية عن عقولهم 
وعقولهع عن بارثهم فلا عصان في افغالهم البنة كما قال الله تغالن : «لآ يَعْصُونَ الله مَا 
مَرَهُمْ وَيفْمَلُونَ ما يُْمَرُونَ227. فهم أبدا جارون على علم بارئهم تعالى وموافقون لما 
يرضاه. وأما غير ذلك من الحيوانات المركبة من المواد فلما لم تكن مجردة عن المادة 
وكان لها علوق بالأبدان وكان للنفس جنبتان : جنبة إلى الملا الأعلى وجنبة إلى العالم 
الأسفل. ونعني بذلك كونها بالفصل المشترك أي هي مأمورة بأن تراعي جهتين جهة 
الملائكة بأن تكون متشبهة في الفضائل بها وأن تكون عاكفة كعكوفهم على عبادة 
بارئهم , فهذه جنبة أمرت بمراعاتها . 

الجنبة الثانية: وهي الجنبة السفلى وهي علاقتها بالجسم المنفعل من المواد 
المركبة من الطباع وهي مولعة بإصلاحه وسياسته كالملك الذي عمر بلده وولع بسد ثغره 
وإصلاح رعاياه وعمارة أرضه ومقابلة عدوه وجلب المناقع إليه ودفع المضار عنه» 
وصارت النفس متحيرة تطالبها الجنبتان كل واحدة بأن توفيها من العدل فقسطها وتجريها 
على القانون العدل والسيرة الإلهية . ولما خلقها الله تعالى على هذا النسق والترتيب 
خصت الحكمة الإلهية الإنسان بأن أعانه وقواه وأعطاه أدوات ومكنه من الجنبتين وأيده 


)23 سورة التحريم : الآية 5 


44 


من جهة الجنبة العليا بالعقل ليتلقف به عن ملائكة الله ورسله ويفهم به مراد بارئه. فكان 
حاله مع النفس كعبد بعث إلى ثغر بعثه ملك مطاع الأوامر مخوف الزواجر قأمره بسد 
التغور وإدرار الأقوات ومقائلة الأعداء وان يطابق غرضه مع بعده عنه. ثم قال: قد 
مكنتك من ثلاثة أشياء: تكون عوناً لك ولا حجة لك على بعدها أحدها الثغر الذي 
بعثتك إليه. فقد اكملت قصوره ودوره وحصونه وجدرانه وأنهاره وأشجاره وثماره وآلاته 
ما تكررت وتناهت . 

الثاني : دفعت إليك عبيداً وأعواناً وخداماً وجعلت في طباعهم الانفعال لك فمر 
بما شئت فيهم تمتثل إن شئت من حق أو باطل. لا يخالفون رغبتك ولا يعصون إمرتك. 
فعليك بالسيرة الحسنة فيهم ولا تغتر بتمكيني فإني ذو بطش شديد وإن حلمت. 

الثالث: إني دفعت إليك وزيراً حكيماً عليماً متطلعاً على ما في العالم بأسره عالماً 
بالسيرة الحميدة والطرق الرشيدة. عارفا بعواقب الأمور وقد احللته من نفسي بمنزلة 
'الوزير واكرمتك بأن جعلته وزيرك فاحذر ان تنفذ أمرا دونه ولا تغتر بما جعلته في طباع 
العبيد من طاعتك ولا بما جعلت في نفسك من القوة فما غبن من استشارء وهذا الوزير 
الذي يستمد من آرائي في كل حين فقد تحققت ذلك منه لأنه لا يعصيني طرفة عين 
فصار العبد في الثغر بهذه الثلاثة أشياء. فمثال النفس مثال العبد. ومثال الثغر مثال 
الجسم , ومثال ما فيه من العدد والأقوات مثال ما في الجسم من الطبائع والقوى حسب 
ما ذكرناه في المعراج الأول. ومثال لوازم الثغر ونوائبه مئال ما يقوم به الجسم من الأغذية 
والمنافع. ومثال الوزير مثال العقل. ومثال الملك مشال البارىء تعالى وله المثل 
الاعلى . 

فإذا فهمت هذا فاعلم أن النفس منيثة القوى في الجسم كما قدمناه. وأن الله 
تعالى سخر الله الحواس الباطنة والأعضاء الظاهرة بالطبع فمتى تحركت إلى أمر ما تأتي 
هذا في طباعها ما لم د يمنع مانع من ذلك الأمر. فإن اعتبرنا جهة | لمنفعل فهي مضطرة» 
وإن اعتبرنا جهة النفس في نزوعها وانبعائها للمطلوب وسبب حركتها هل هو إرادي 
أو اضطراري, قلنا: هذا محل غموض عجز أكثر الخلق فيه عن النهوض وذلك لبعد 
غوره ودقة مسلكه. وهذه المسألة المعروفة بالقدر والنزاع فيها من خلق آدم عليه السلام 
إلى هلم جراء وحقنا لضعف قوانا وقلة استعمال عقولنا الموهومة لنا واشتغالنا بالرذائل 
الدنيوية والخداع الخزعبلاتية أن لا نتعرض لهذا المقام. فلكل مقام مقال ولكل طريقة 


/ 


رجال. ولكن نخوضها خوض الجبان الحذور لا خوض الشجاع الجسورء فتقول: قد 
قدمنا انقسام الحركات وإن بناء الكلام على حركات الإنسان ولا شك أن منها الضرورية 
والاختيارية . 

فأما الضرورية. فطبيعة لازمة سنتكلم عليها عند تكلمنا عليها إن شاء الله تعالى 
كلمة ولم يختلف أحد فيها أنه لا يتعلق بها ثواب وعقاب. وأما النزاع في الاختيارية فإن 
هذه مرتبطة بالتكاليف فلا بدّ من فهم المثال الأول فهو تمهيد قدمناه لهذا الموضع. 
فنقول قد قدمنا أن للنفس جنبتين مثلنا ذلك بالوزير والئغرء فالجنبة العالية جنبة الوزير 
والجنبة الخسيسة جنبة التغرء فمتى كانت النفس تحركت نحو الفضائل فذلك تلقف عن 
العقل والعقل عن بارئه فهي مثابة على تحركها ونزوعها إلى غرض مولاهاء. والمفعولات 
واقعة بفعل الله تعالى وتحركها نعني عند انبعاث الداعية عند إنصاتها إلى العقل وحقيقة 
الؤضراب عن الثغر ودواعيه واستعمال العلم بتنظيف المحل إذ لا يرد إلا على محل قابل 
له بإزالتها الصوارف والموانع بإشارة العقل. وتدبيره هي مثابة عليه من حيث إنها واسطة 
إلى انفعال الأجسام. وكثيرا ما قدمنا أن العالم منقسم إلى عقول فاعلة مجردة. وهي 
الشريفة. وإلى أجسام خسيسة وهي الكثيفة التي هي المفعولة كما أن العقول فاعلة. 
ولما استحال على العقول المجردة المباشرة وكانت في طرف من مضادة الأجسام كما أن 
العلم في طرف والجهل في طرف, وكان ضداً مطلقاً قضت الحكمة الإلهية لها بأن 
أظهرت تأثيرها بتدريج فجعلت نفساً ممتزجة تشبه العقول من وجه والأجسام من وجه. 
وذلك راجع إلى مناسبة والمناسبة راجعة إلى وجهين : إما إلى جنبة أسفل فبالرذائل. 
وإما إلى جنبة أعلى فبالفضائل . فالنفس معلقة بينهما والأجسام تنفعل للنفوس والنفوس 
للعقول والعقول للبارىء سبحانه؛ فالمبدأ الأول هو الإله فخروج الأمر من عنده كخروج 
الأمر من عند الملك إلى الوزير. ثم من الوزير إلى الحاجب. ثم إلى المضروب أو 
المكرم, والله المثل الأعلى فالرب سبحانه هو المبدأ والطاعات متى خرجت إلى حيز 
الفعل فهي من الله تعالى ‏ باتفاق الكافة متى خرجت إلى حيز الفعل فهي من الله تعالى 
والنفس مثابة على جهة التوسط من حيث انها آلة. وما مثل ذلك إلا مثل إكرام الشرع 
لأجسام الموتى بالتنظيف والأكفان والحنوط والقبور وتحريم إهانتها وإحراقهاء وإن كان 
لا لحسنة لها في ذلك بل الفضل الإلهي لا حد له. ولا يجري على مقدار. ولو كان 
البارىء تعالى لا يفعل شيئاً إلا باستحقاق الفاعل تحقيقاً لمثوبته لم يكن كريماً مطلقاً 
ولم يطلق عليه لكن من عدله, فإن العادل من قارع الحسنة بالحسنة والكريم من وهب 


046 


من غير يد متقدمة.» فخص تبارك وتعالى الأجسام بالمكرمة من حيث انها كانت آلات 
مستعملة في الطاعات مع اتفاق الخلق أن للفعل تحقيقاً للارواح. فكذلك النفس 
بالإضافة إلى العقل يكرمها البارىء سبحانه على جهة الوساطة وإن كانت لا فعل لها 
تحقيقاً للمشير بذلك والملهم إليه والمحرك هو العقل. إذ الحاجب وإن شكره المكرم 
من جهة الملك فالوزير أحق بالشكر من حيث بلغ إليه فليفهم أن العقل مشكور من جهة 
الوساطة وأن الشكر المجرد والحمد المؤبد لله وحده الذي كان المبدأء فلو لم يرد 
التوفيق من عنده لما كان للعقل ثبوت أصلاً إذ هو مربوب. فالجواد المطلق والكريم 
المحض هو الله رب العالمين ولم يشك ذو عقل أن الفضائل من الله وإنما اختلفوا في 
الشر فزعمت المعتزلة أن الشر ليس من الله تعالى . ولما رأوا تلازم الأفعال أخرجوا الفعل 
إلى العبد وجعلوه مستبدا به. 

فإن قيل : الإشكال باق فإن الحركة الى هي الصلاة مثلاً إن كانت فعلاً للعبد فلا 
مدخل للبارىء تعالى فيهاء وإن كانت لله فلا مدخل للعبد فيها ويستحيل أن يكون الفعل 
مشتركاً كما زعمت الأشعرية. 


قلنا: الحركات مضافة إلى الأجسام فبطل التقسيم. والنفس لا حركة لها في 
نفسها فإنها إنما لها الإشارة والتدبير والجسم معها كالمغتاطيس مع الحديد, ولا يقال 
للحديد إذا تحرك أن المغناطيس حل فيه فظهرت الحركة عليه بل فعل فيه بخاصيته 
فبطل السؤال. 

فإن قيل؛ إن بطل في الحركة فلا تخلو النفس عن الإرادة والسؤال في الإرادة 
باق . 

قلنا: إرادة الخير تابعة للعلم» وقد قدمنا أن النفس تابعة للعقل والتحرك من جهة 
العقل خير محض فهو محرك من جهة البارىء تعالى » ولست أعني الحركة الجسمانية. 
بل أعني الشوقية النزوعية وهو عكوفها والتفاتها إلى الجنبة العلياء وحقيقة ذلك راجعة 
إلى ترك جنبة أسفل» والترك ليس هو بفعل وإنما هوعدم فعل فهما شيئان: النزوع وهو 
فعل الله تعالى » والثاني وهوترك الأضداد وهي ملاحظة الجنية السفلى وذلك ترك والترك 

فإن قيل : الترك إذا كان اختياراً أو اضطرارا فالسؤال لازم . 


04١ 


قلنا: هو اختياري من وجه واضطراري من وجه آخرء وفهم هذا يستدعي تجديد 
عهد بما سبق, وهو أن النفس وإن سلطت على العالم الأسفل فهي تتوصل إليه بآلة 
الجسم . ثم أفعالها تظهر في الجسم في مواضع عشرة أحصيناها فيما تقدم. فمنهاء 
الحواس الخمس من الشم والذوق واللمس والسمع والبصر. وهذه علة وسبب للقوى 
الخمس الباطنة» أعني القوة الخيالية والذاكرة والحافظة؛ فإن هذه القوى كالجواسيس 
في المدينة يرفعون الأخبار إلى الخدمة والخواص كالكتبة والحجاب والوزراء, فما يقيد 
عند الجواسيس يرفعونه إلى الكتبة وما يقيد عند الكاتب يرفعه إلى الملك وهى النفس . 
ثم اختلف مدركات الحواس الخمس فكانت حاسة البصر موكلة بعالم الألوان على 
اختلافها في الصفات والمقاديرء وحاسة الذوق بكل مطعوم. وهكذا إلى تمامها وكلما 
رفعت من هذه محفوظة عند الكتبة الخزان» وقد قلنا: الجسم كالثغر وإن النفس مشغولة 
بافتقاد ثغرها في كل دقيقة فلزوم هذه المدركات للنفس ضروري أعني عند صرف الهمة 
إليه يلزم ذلك طبعاً. فإنك متى حدقت بصرك إلى مرئي حصلت لك رؤيته بالضرورة 
شئت أو أبيت». وكذلك سائر الحواس الخمس فلا تطويل فحصول الإبصار للنفئس 
مختارء فصح وثبت أن الجنبة السفلى الجسمانية أفعالها جسمانية محضة والأفعال 
الجسمانية كلها ضرورية طبيعية فقد انقضت المباحثة وتفرغ الكلام من هذا الجانب من 
حيث وقفنا الأفعال بعد أسبابها على إرادة النفس. وإرادتها هي الفيصل بين الجنبتين 
جنبة أعلى وجنبة أسفل. كما وكلت بسياسة جنبة أعلى على وجه مخصوص وكان له 
وجهان إلى جنبة اضطراري واختياري. فإذا استعملت السبب حصل المسبب 
بالضرورة» فحصول المسبب من جهة أعلى أو من جهة أسفل ضروري لا ثواب عليه 
فقد استرحنا من هذا الطرف وهو الطرف الضروري وبقي الاختياري فوقفنا من جهة 
الجنبة السفلى على نزوع النفس وإرادتهاء وكذلك أيضاً من جهة فوق فتوقف البحث 
والنظر على هذه الدقيقة وهي الإرادة والنزوع» وقد قدمنا أنه تارة يكون اضطرارياً وتارة 
يكون اختياريا محضاء وذلك لا يتحصل برهان مخصوص بل النفس يدخل الخير إليها 
من جهة العقل وهو انفعالها للعقل عند إشارته فهي مثابة لنزوعهاء ونزوعها يظهر تأثيره 
في الجسم إذ لا يظهر الأثر فيها بأكثر من الشوق والعشق المطلق فتشاب على جهة 
الوساطة كما قدمناه. 


وأما الشرء فيدخل عليها من جهة الخير فيكون أولا خيراً ثم ينعكس . ومثال 


0 


ذلك: أنك متى ركبت دابة استعرتها من دار رجل فتصرفت بها في حاجتك. وكانت دابة 
جموحة صعبة المرام فخطرت بها على دار مولاها فنزعت إلى دار سيدها فصرفت عنانها 
فتقاعست فعاقبتهابالسوط وآلمتها وتحملت عليها فلا شك أنك يمكنك صرفها وقد 
تعديت, فإن حقك أن لا تخطر بها على دارها. فلو أنك سقتها إلى دار سيدها وأدخلت 
يدها عتبة الباب» ثم لفحتها لم تطعك بوجه بل تدخل كرهاً وربما جرحت راسك 
وآلمتك وكنت عند العقلاء مذموماء فإنك مكنتها من طبيعتها. ثم أردت حجابها وقد 
كتب الله تعالى في كتابه السابق وقضى بقضائه المحتم بأن يمكن الطبائع من مطبعاتها. 
فالنار متى تمكنت من القطن احرقت ضرورة» فليفهم أن القوى الحيوانية المنفعلة عن 
الطبائع لها نزوع بالطبع إلى مركزها والروح الحيوانية الشهوانية بالطبع والعنصر تميل 
إلى عنصرها كالحجر يهوي إلى أسفل . والنفس متى مكنت الجواسيس ابتداء حتى صار 
لهم ذلك ملكة فذلك لازم ضروري خلقه الله تعالى » وإنما تعاقب من حيث لم تحرس 
جواسيسها ابتداءء وهذا كما أنا نقول للرجل النظرة الأولى فجأة لك حلال» فإنها لازمة 
ضرورة فلا يتعلق التكليف عليها. وإياك والثانية فإن العين إذا انفتحت على صورة 
جميلة فمالت الطبيعة إلى الطبيعة لزم ذلك لزوماً ضرورياً. لو انفرد لم تعاقب النفس 
عليه وإنما تعاقب على اهمالها إشارة العقل في الكف ابتداء. فمتى تكررت 
الجواسيس على القوى الباطنة لزم النفس ذلك وشغلها فهي مأمورة أن تلزم الجنبة 
العلياء والأمر كله لله تعالى فهو المخترع للأفعال؛ وهو موجد الأسباب الأول» 
فالمسببات أفعاله فهذا لا حيلة فيه وهذا أقصى الغرض من تكرير هذا المسألة. 

وفي الحديث: حاج آدم موسى فقال: أنت الذي أخرج الناس من الجنة؟ فقال 
أتلومني على أمر قد قدر علي قبل أن أخلق. فغلبه آدم عليه السلام وشهد له 
رسول الله كل حيث قال: «فحاج آدم موسى» فإذا الأشعرية والمعتزلة والمجبرة قد 
تكلموا على الأفعال الجسمانية ولم تتعرض لهاء وإنما تكلمنا على النزوع الشوقي 
وجعلناه السبب ووافقنا الجبرية في الأفعال الجسمانية. وهذا منتهى للكلام في الجنس 
الإنساني من الحيوان . 

وأما حركات البهائم فهم موكلون بالجنبة السفلى» عاكفون عليها لا علم لهم 
بالجنبة العلياء وكيف تنكر ذلك وأنت تبصر كثيراً من الخلق كأصناف السودان وغيرهم 
لا فرق بينهم وبين البهائم لا يعرفون الملائكة ولا بارئهم». بل يعبدون الثمار والأشجار 


0 


كما قال تعالى : إن هُمْ إلا كالأنْمَام بل هُمْ أضَلُ02©. ومحرك الحيوان ما تورد 
الحواس على القوة المتخيلة فهي فيهم كالقوة العقلية فالدابة تتأدب بآداب القوة 
الخيالية متى انتقش فيها أمر محذورء فإنها إذا رأته حذرته وذلك أمر نافع ولا يبعد أن 
تكون لها القوة الحافظة تحفظ بها الصور. 

وأما العوالم العلوية فترتيب حركاتها لا يحيط بها إلا الله تعالى وحده العالم بمبدثها. 
وإنما أدركنا منها ما تكرر علينا بالتجربة أو بإشارة العقل إليه إشارة جميلة . وذلك كنمو 
أجسامنا بالأغذية والأغذية من النباتات والنباتات كائنة من الماء والتراب فهي منفعلات 
عن الهواء والنار وهما كالفاعلين. وهذان بالإضافة إلى الماء والتراب يكونان فاعلين 
بمعنى حصول التأثير لهما حصول الذبح بالسكين, ولكن إذا انفردت الشاة؛ والسكين 
لم يتم الفعل أصلاً ولا بدّ من سبب جامع » والنار والهواء امتزجت معهما أشعة الكواكب 
وازدحمت في منقعر فلك القمر ودارت بالأرض كرتها كما تدور الهالة بالقمرء ثم هذه 
الأشعة تتحرك بمحركات هي تابعة لها وهي الكواكب السبعة. وقد زعمت الفلاسفة أن 
هذه الكواكب حية وانها مع العالم الأسفل كنحن مع أجسامنا. وان لها الفعل الاختياري 
والفعل الاضطراري. وهذا ابتداع لا ننكره فلم يدل على ابطاله كتاب ولا سنة 
ولا اجماع . ومن أنكر كون ذلك من الناس فعلى طريق التغليط ولا برهان البتة» فلنجعل 
ذلك جائزاً إذ مذهبنا ان البارىء تعالى هو الفاعل المطلق وانه مسبب الأسباب وموكلها 
بمسبباتهاء فسواء على مذهبنا كانت حية أو جماداً فقصارى الأمر أن تكون كنحن 
ولا ننكر وجودنا ولا تصرفنا عالمناء ومنافرة هذا رعونة محضة وحماقة تامة» ولنقل قول 
يهورن ذلك فربما زعم السامع أن تكون الملائكة مرئية والظواهر دلت على انها محجوبة 
فنقول: الموجودات على ثلاثة مراتب موجودات تعقل وهي موجودة ولا ترى. وهي 
العقول فهي مدركة تدرك بالعقول لا بالأبصار. الثاني : النفوس وهي مدركة بالعقول 
ولا يجوز أن ترى. والثالث: الأجسام وهي تدرك بالعقول والأبصار ولا تدرك هي أنفسها 
ولا غيرها.. فما نشاهده من العالم الأعلى إنما هي أجسام النفوس والعقول. وحقيقة 
الملك إنما هى نفسه لا جسمه كما إن حقيقة الإنسان نفسه ولا يدرك إلا جسمه فقط. 
ونحن لا ندرك نفسه بل انقطعت العقول في درك ماهية نفسه بالبصيرة فكيف بالبصر؟ 
فلتكلم على هذه الأجسام الظاهرة. فنقول: سبب الانفعالات الهواء والنار وما تحت 


. 44 سورة الفرقان: الآية‎ )١( 


04: 


فلك القمر مرتبط بالدوائر ودوران الفلك التاسع » فإنه منقسم إلى اثني عشر برجأء ثم 
الكواكب السيارة مقسطة عليها فمنها ما له بيت ومنها ما له بيتان» ثم لهذه الأجسام طبائع 
مختلفة حاصلها الحر والبرد والرطوبة واليبوسة . وهذه الطبائع وسائط لانفعال 
المنفعلاات فتمر الكواكب على البروج واختلااف الحركات» وكون هذه الكواكب في 
درجاتها ومراكزها واختلاف مطالعها كما تقول مثلاً: إذا جمعت الشمس والقمر في 
رطب دل على المطر العظيم . وتفصيل هذا محال على علم النجوم. وليس هذا موضعه 
فلكل مقام مقال وإنما غرضنا التنبيه . 

وأصل هذا كله الحركة المشرقية التي هي المشرق إلى المغرب, وقد حكينا عن 
البارىء تعالى كذلك علة وأنها ملازمة له. وأنكرنا دعواهم الحصر لا غير وإلا فيجوز 
مثل ذلك جوازاً يرده إلى طريقتنا في التوحيد المحض . فإن معتقدنا أن الله تعالى واحد 
وحدانية محضة صرفة وأنه هو القائم على العالم حتى لو تصور عدمه لم يكن له ثبوت 
أصلاء والتصديق بما جاء به المرسلون. ومن هذه الحركات الدورية تتناتج الحركات 
ونتناسق » وقد تكلمنا في ذلك كلاما بليغا فلا معنى لتكراره. 

فإن قيل : : بم تنكرون على من يعتقد أن هذه الأنوار الظاهرة فاعلة أوعالمة 
أو حيةء فإن الله تعالى يقول: الله ُورُ السّمُواتِ والأرْض 226 وربما قالت المجوس 
أن هذا النور إله؟ 

قلنا: نعقد لهذا فصلا في المعراج الذي يلي هذا إن شاء الله تعالى وهو المعراج 
الرابع 
المعراج الرابع : 

اعلم أيها الأخ ان الله تبارك وتعالى هو نور السموات والأرض» ولسنا نعتقد بكونه 
نوراً كونه شعاعاً منبسطاً مرئياً على الجدران, بل ذلك على نسبة أخرى . فاعلم أن النور 
يطلق على ستة أشياء : 

أحدها: نور حسيس بحسب عنصره لا دوام له فهو عرض سريع الزوال مفتقر إلى 
مواد عنصرية. وهذا هو ضوء النيران . 


)١(‏ سورة النور جزء من: الآية ه". 


إن 


الثاني : هو أشرف من هذا وإن كان عنصرياً فهو شريف بحسب نسبته وبحسب 
نفسه. وهونور البصر فهو يدرك الأشياء ويدرك الألوان والمدركات . 

الثالث: نور شريف من العالم الأعلى وله شرف بحسب نفسه وبحسب ما ينسب 
إليه؛ وهو أشرف من النور البصري وهو نور الشمس فإنه علة لوجود العناصر ووجود 
النيران والأجسام المبصرة وهو لا من مادة مركبة, ولذلك عبدته المجوس . 

الرابع : نور شريف هو نور محض قائم بنفسه يدرك الأشياء على حقائقها ويدرك 
نتائجها وهو العقل والنفس. وهذه الأمور منقسمة إلى ما يدرك به ويدرك نفسه وهو 
العقل. وهو نور حقيقي وإلى ما يدرك به ولا يدرك نفسه كالنيران والبصر والشمس» 
والقرآن يسمى نوراً وهو الخامس ٠‏ والرسول يسمى نوراً ولكن يستعار لهما من هذا معنى 
النورانية ولهذا يسمى العلم نوراً. 

السادس : النور المطلق وهو البارىء تعالى ومعناه في الروحانية أكثر من معنى 
العقل. فإن معنى العقل هو نورانية العقل وهي كشف الحقائق وبهذا المعنى يقال 
للبارىء تعالى 0 المبين والعالم بخفيات الأمور. فهذه ستة أنوار بالاستعارة للقرآن 
والرسول يق حقيقتها البارىء تعالى وهو مجاز فيما عدا ذلك . 

فإن قيل: فقوله تعالى : «إمثل نوره كمشكاة فيها مصباح 974 . 

قلنا: المراد بهذا النور العقليء فههنا أربعة أشياء : المشكاة والزجاجة والمصباح 
والزيتونة. وأما المشكاة فمثالها النفس, ومثال الزجاجة القوة الخيالية. والمصباح 
كالعقل. والزيتونة التي هي الشجرة العقل الفعال. ولما كان المصباح الذي هو النور 
لابدٌ في إظهار ثمرته وحكمته للأجسام من آلة جسمانية تشاكل الأجسام كالنور يفتقر إلى 
زيت يناسب النار بالحر ويناسب الفتيل بالرطوبة» فكثيراً ما قدمنا أن العقل لا يباشر 
كافت واسطته النفس فهي المشكاة؛ ثم كانت النفس لا بد لها من حيلة في معرفة 
المحسوسات كما قررناه فجعلت له الحكمة الإلهية قوى. فمنها القوة الخيالية التي 
يرسم فيها ما تورده الحواس. فكان مثالها مثال الزجاجة. وإنما خص الزجاج لانطباع 
المرئيات فيه كالمرآة الصقيلة التي يبصر فيهاء ولآن الزجاجة أصفى الجواهر من حيث 
يشف ما وراءهاء والأنبياء عليهم السلام يعلمون الغيب بواسطة القوة فيعبرون الصورة 


.0 سورة النور جزء من: الآية‎ )١( 


15 


ويفهمونها. ولها علم مختص وهو علم تعبير الرؤيا ينفرد بخواص هذه القوة. 

وأما الشجرة. فهي العقل الفعال من حيث انفعلت الأشياء عنه, فلما أن المصباح 
الواحد توقد منه المصابيح لم يقل سبحانه نبت. فإن النبات يدل على نقصان الاصل 
وإنما قال تعالى : «توقد» فنبه بالوقيد على أن الشجرة لا تنقص. وعلى أن هذه الشجرة 
ليست الشجرة المعهودة. لأن الشجرة لا يوقد منها وخصها بالزيتونة لدوام ورقها 
وفوائدها وغزارة منفعتها وكثرة ورقها وشعبهاء وأنها وإن كانت زيتونة فيخرج منها نار 
تستضيء بهاء ووجه المشابهة واستيعابه يطول. وقد شرحناه في كتاب (مشكاة الأنوار) . 
وأما النار فهي عبارة عن الأنوار الإلهية. ويحتمل وجهاً آخخمر أن تكون الشجرة 

فإن قيل: عظم اختلاف الصوفية فى هذا الغرض من حيث تحقق الملاءمة 
والملازمة النورانية. وهو المصباح والمشكاة والزجاجة والشجرة والنار. فقد جعلت مثال 
المشكاة النفس ء ومثال الزجاجة الخيال. ومثال المصباح العقل الجزئي , ومثال الشجرة 
العقل الكلي . ومثال النار النور الإلهي وإشراقه. وهذه كلها لا توصف بالكثافة 
والتجسيم على ما تقدم. وقد وصف الله تعالى ذلك بأن قال: «إنور على نور»7©. 
فبهذه الموجودات تشاكلها وتناسبها إذا تشاكلت وتناسبت لصفاء النفس وبعدها عن 
الكدورات فظاهر مذهبهم يشير إلى الحلول وقد أنشدوا في ذلك : 
رق الزجاجٌّ وراقتٍِ الخمرٌ ‏ وتشابها فتشاكل الأمر 
فكأنما خمرٌ ولا قدحّ ‏ وكانما قددحٌ ولا خمر 

قلنا: عين الحلول واعتقاده خطأ محض وسفاهة صرفة . 

فإن فيل : قول الصوفية مشهور حتى قال أحدهم : أنا الحق. وقال آخر: 
سبحاني . وقال: ما في الجنة إلا الله . 

قلنا: إذا قررنا إبطال الحلول أتينا على مذهبهم . فنقول: حقيقة الحلول انطباق 
جواهر على جوهر أو جسم على جسم أو عرض في جوهر وقد قدمنا بالبرهان الحق أن 
العقول والنفوس قائمة بأنفسها لا تحمل شيئا البتة ولا هي محمولة» فأغنانا ذلك عن 
إعادته وهذا في رب العزة أعظم . 
)١(‏ سورة النور من: الاية 60". 


/ا4 


فإن قيل: فيرجع الكل إلى الإله وتكون العقول والنفوس لا يفارقها البارىء تعالى 
إلا بالفصل. فإنهم اجتمعوا في الجوهرية وحقيقة الحياة والقيام بالنفس . 

قلنا: لا نثبت للبارىء تعالى ما أثبتناه للنفس, فإنها لا قوام لها دونه وقد قام 
البرهان على حدوثها وذلك يبطل أن تكون هي هوء فإن في ذلك لزوم أن يكون العالم 
كله آلهة وهو محال» ويبطل أن يحل في النفوس أو ينطبع فيها انطباع الخمر في اللبن 
كما زعمت النصارى في المسيح. فإن ذلك من صفات الأجسام فلم يبق إلا أن اللازم 
راجع إلى معنى الانفعال وإيجاده بالفعل أي وقوف الإشارات والحركات عليه فيكون هو 
المحرك القابض الباسط والنفوس معه كالحديد مع المغناطيس على وجهة التمثيل. و لله 
المثل الأعلى ونفي الوساطة على الطريق التي قدمناها. ومن حقق من الصوفية وعلم 
وقوف الأشياء عليه وأن الأمور لا قوام لها دونه . قال أحدهم : ما في الجنة إلا الله تعالى 
مبالغة في التوحيد. وقال آخر: سيحاني فإنه رأى الياء مكان الإضافة, فإن الفرق ضرب 
من الشرك في قوله سبحان الله فإجراء الأوصاف لا يعتد بها إلا الفصل . 

فإن قلنا: سبحان الكريم نفي للبخل» وإذا قلنا: سبحان الله فمعناه نفي الشريك 
ولا يكون النفي إلا مع توهم الشريك؛, فالموحدون منهم بلغ بهم التوحيد إلى أن رأوا 
التبرؤ منه سوء أدب» ولكن الكلام إذا وقع بالضرورة إليه والتجىء إلى النطق به 
لا معنى للهرب فقد وقعوا في أشد كما زعمت الفلاسفة أن البارىء تعالى لا يقال له 
موجود. فإن ذلك يؤدي إلى دخوله مع الموجودات تحت الجنس وهذا نفي معنى وهو 
سهل. 


المعراج الخامس: 

هذا المعراج معقود للنبوة والنبي ومعنى ذلك . والأمم في ذلك على ثلاث فرق: 
فرقة تنفيه وفرقة تثبته» وهي فرقتان . 

طائفة : تزعم أن ذلك أوجبه مولده. فكانت لنفسه قوة تنفعل لها الأمور. وأوجب 
لها المولد أن يكون فاضلا حسن السيرة» هذا مذهب الفلاسفة. 

والفرقة الثانية : اعتقدوا معنى النبوة وهو حصولها لشخص يخرق الله تعالى 
العادة على يديه بإظهار فعل غريب» واشترطوا أن ينضم إليها ثمانية شروط : 


456 


أحدها: أن تكون في زمن تصح فيه الرسالة. 

الثاني : خرق العادة بالمعجزة . 

الثالث : أن يقترن بدعواه تحد. 

الرابع : أن يوافق دعواه بعمله. 

الخامس : أن يتعلق مقاله بالقلب. 

السادس : أن لا يظهر على وجهه ما يدل على كذبه . 
السابع : أن يكشف القناع في التحدي . 


الثامن: أن يعجز الخلق عن معارضته» ويلتحق بهذا شرط تاسع وهو كون 
التعيتزة من جنب ما يتعاطاه اهل زمالة+ ثمما يحصل إلى الرضول [ا براسطة اشتخاض 
الملائكة بأن يتمثل له بشراً سوياً أو على صورة ماء وإما بغير واسطة بأن ينقش الله تعالي 
ذلك نقشاً في الحاسة المتخيلة؛ وقد قال تعالى : وِوَمًا كان لِبَشَرِ أنْ يُكَلْمَهُ الله إلا 
وَحيَاه20. ورد يكل في قوته الخيالية وهو المعروف بالإلهام, كما قال تعالى: 
ؤَوَاوْحَيْنا إلى آم مُوسَى »0 '». أومن وراء حجاب, أو بواسطة ملك من الملائكة وهو 
الحجاب, أو يرسل رسولاً فيوحي بإذنه ما يشاء. ونبينا كِ قد ظهر على يده من خرق 
العوائد ما ظهر على أيدي الرسل» وذلك ينقسم إلى ما بقي وإلى ما كان. فمعجزاتة من 
شق القمرء وكلام الذراع. وحنين الجذع . واستدعاء المطر. ونبع الماء من بين أصابعه. 
وجعل قليل الطعام كثيراً وغير ذلك. وأما ما بقي فالقرآن وما أعلم به من الأشراط 
والدلول. وقد كان ذلك ونحن نشاهده؛ ويبطل أن تكون النبوة بمعنى الملك. فإن الانباء 
بالغيب معنى آخر خلاف السياسة. ويبطل أن يكون ذلك سحراء فإن 00 
لسحره إلا به ولهذه الشريعة خمسمائة عام . ثم هذا القرآن الذي عجز الخلائق 
آخرهم عن الاتيان بمثله إلى هلم جراء وكان كن أمياً نشأ بين أميين مر لي 
بالعلوم. فأتى بهذا القرآن الذي اشتمل على علوم الأولين والآخرين. وكل من شك في 
نبوته عليه السلام. فليتأمل بعده عليه السلام عن العلوم ثم لينظر القرآن وما ينطوي عليه 


.ه١ سورة الشورى: الآية‎ )١( 


(؟) سورة القصص: الآية /ا. 


11 


من الصنائع العلمية من الإلهيات والمنطقيات والجدل والخطابة وسائر الأشياء التي 
حصلها الأولون والآخرون من العلوم وسمته علماً أوة فلسفة وكيّف فيه أشكال البراهين 
قائمة والجدل على وجهه والأقيسة على وجهها مع ما تجرد إليه من العلم الديني. وهي 
سياسة الخلق المعبر عنها بالأحكام الشرعية وهو يتيم نشأ في حجر عمه لم تعلمه قط 
قريش ولا مارس علماً. ولومارس علماً ودرس لما انتهى أبد الآباد إلى النظم فضلاً عن 
هذه المعاني الغريبة» وكل من حاول معارضته قصد معارضه النظم وهو قصاراه. ثم 
لم يأت إلا بالكلام الغث المشترك, ولو أنه تحرى من تعاطى المعارضة إلى انطواء 
القرآن على هذه الصنائع العلمية وقصد تضمينها لما تعاطى المعارضة أبد الآبدين. 
ولتقنع حياء مما جاء به ومن شك في أن ذلك أمر إلهي وتأبيد رباني . فقد طبع الله على 
قلبه نعوذ بالله من ذلك. وصلى الله على سيّدنا محمد نبيه كما هدانا من ظلمات الشك 
وعلى آله وصحبه ومحبيه وسلم تسليماً . 
المعراج السادس : 

ما أتى من القول من طريق الرسول يك ضربان: طلب وخبر. والطلب ضربان أمر 
ونهي ١‏ وقد تكلمنا على الأمر والنهي وأصول الأحكام الشرعية وكيف تستعمل في رسالة 
الأقطاب . وأما الخبر فينقسم إلى أخبار عمن مضى كأخبار الأمم وعما يأتي كأمور الزمن 
وأنباء الآخرة وكل ما نطق به القرآن وتواتر عن الرسول كِ فهو يقين لا شك فيه. وهو 
منقسم إلى ما يحتمل التأويل وإلى ما لا يحتمل» فكل ما احتمل التأويل عذر المؤول له 
وما لا يحتمل التأويل وتركه تارك عن قصد كفر بتركه . والأمور المشكلة ثلاث مسائل : 
إحداها: مسألة النفس وقد فرغنا منها. الثانية: مسألة حشر الأجساد. الثالثة: الجنة 
والنار. 

مسألة : قال الله تعالى : لكا بَدَأنا أوّلَ خَلق تُعينُة04©. وهذا هو نص في 
الإعادة , وقال تعالى 'في العظام : فل يُحبيها الذي أنْشَهًا أَوْلَ مَرَة904) . وقال تعالى : 
«والله َنبَنَكُمْ مِنَ الأزض, نبَاناً * ثم يُجِيدُكُمْ فيها وَيُخْرِجُكُمْ إخرَاجاً2. وأكثر آي 
)١(‏ صسورة الأنبياء : الآية م .٠١‏ 
(؟) صورة يس: الآية 8/. 


() سورة نوح عليه السلام : الآيتان /ا١‏ و8١.‏ 


١00 


القرآن في البعث. وهو نص في إعادة الأنفس إلى قوالب الأجسام ولا مراء في ذلك. 
ومن امتنع عنه شك في صدق الرسول أو كفر به عمداً. والمنكرون له فرقتان: طائفة 
زعمت أن لا بقاء للنفس. فإن العالم متناسخ تابع لدورات الفلك لا إلى نهاية وقد تقدم 
الرد على هذه الطائفة. 

الطائفة الثانية: وهم من الإسلاميين وهم أكثر المتصوفة المتفلسفة. زعموا ان 
الأنفس باقية وان الأجساد لا تعاد. وحجتهم ان الجسم مستحيل عن أغذية مأكولة 
والأغذية نباتات ولحوم. وريما أكل شخص شخصاً آخر فيجتمع جسم واحد من 
الأجسام. فلو اغيد الجسم لبطلت تلك الأجسام المأكولة ولبطل حشرهاء وإن حشرت 
زال جسم هذا الآكل وهذا تطويل يستغنى عنه. فإنا نقول: لا نلتزم لكم ان الله تعالى 
يعي يعيد عين الأجسام. بل ضمن أن يرد الأنفس إلى خلق جديد وتراه كما فعل ذلك ابتداء» 
وقد ورد في الخبر: إن الله تعالى ينزل قطراً فيكون ذلك أصلا لخلقة الأجسام وهو قادر 
على اختراع مايشاء . وكيف لاء وقد قال علماؤكم المتقدمون من أهل الهند وغيرهم 
عمر العالم ستة وثلاثون ألف سنة. وقالوا أيضاً: خمسون ألفاً على اختلاف بينهم في 
ذلك . وقالوا: ثلاثة وستون ألف سنة ثم يعاد جديداًء وتبدل الأرض غير الأرض 
والسموات ويرجع القطب اليماني شمالياً والمعمور غامراً وبالعكس والبر بحراً والبحر 
برا. 

فإن قالوا: هذا لا فائدة لكم فيه. فإنه يلزم أن يبدل ثانياً . 

قلنا: ذلك جائز في قدرة الله تعالى. ولكن الرسل عليهم السلام أخبرت أنه 
لا يفعل ذلك وأن للعالم ثلاث حالات : حالة عدم تقدمت. وحالة وجود نحن فيها. 
وحالة إعادة . 

مسألة : قالوا: أنكرنا وجود الجنة والنار يعنى أن تكون لذاتهما وآلامهما محسوسة 

قلنا: علة الاستحالة عندكم تأثير الطبائع في الأجسام بواسطة حركات الكواكب». 
وقد قال قدماؤكم أن للعالم تحويلا. وأخبرت به الرسل عليهم السلام وتتابعت على 
ذلك. فتلك القضية بخلاف هذه. فبم تنكرون على من يزعم أن هذه القضية كما 
اقتضت أسبابها الفناء تقتضي أسباب تلك البقاء وتكون الحكمة فيها أن تكون غرضاً 


مقصود البقاء في الأجسام, وكيف لا. وقد قال الجماهير منكم بل الاطباق على ذلك أن 
جوهر الشمس لا يقبل البقاء. واتفقتم على أن جوهر النفس لا يقبل الفناء والجسم 
عندكم. وإن تركب وكان تركيبه حادق فجواهره قديمة ولم يتوال نصب الأسباب على 
جهة تقتضي البقاء . ثم الجنة والنار عبارتان عن قطرين يكون أحدهما فيه قصور الذهب 
والفضة واللوْلوٌ والياقوت والثمار م لمن استقر فيها بقاء بلا موت وواجد هذه اللذات أبداً 
لا يألم ولا يحزن ولا يجوع ولا بظمأ ولا يسمعون فيها لغواً ولا تأثيماً إلا قيللً سلاما 
سلاماء والآخر على الضد من هذا وهو النار وبالله الهداية . 
المعراج السابع : 

غرضنا فيه بيان معنى الموت. وهل هو كمال أو نقصان. فالموت فساد المزاج 
وقصور الجسم عن الانفعال للنفس لعدم الحس والصتركة: فمن زعم أن النفس قديمة 
زعم أنه ترك النفس البدن كالرجل ارتحل عن بيت أضيف فيه إلى داره وعلى الرسم 
المتقدم كمن لبس ثوباً حتى انقطع وتخرق عليه فسقط عنه الثوب وبقي عرياناً منكشفاء 
والملك الموكل بالموت موكل بسبب الموت وهو سوق الآلام وبعث النفس على 
الأسباب المهلكة. فيكون الموت بواسطته ولا يبعد في العقل أن يكون للنفس ملائكة 
تتلقاها بالسخط والبشرى كما شهدت به الظواهر. وأما هل الموت كمال أو نقص؟ 
فحقيقة النقص الرجوع من الاعلى إلى الأدنى » والكمال الارتقاء من الأدنى إلى الأعلى 
فإن الإنسان ان كان يرتقي إلى الأعلى بسبب الموت فهو كمال. وذلك أنه متردد في 
أطوار الخلقة من كونه تراباً وغذاء ثم نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم لحماً ثم عظماً ثم تكون 
مولودا رضيعا ثم فطيما ثم غلاما ثم شابا ثم كهلا وجاهلا عالما وجمادا ثم حيا مدركاء 
ومامن منزلة من هذه المنارل إذا أضفناها إلى ما قبلها إلا وتجدها كمال واللإنسان لو 
جعل له عقل في بطن أمه لما رضي أن يتبدل بما سواها وذلك للألفة وينشد لهذا: 
لماتؤذن الدنيابهمن صروفها يكون بكاء الطفل ساعة يولك 
وإلا فمايبكيهمسهاوإنها للأرحب مما كان فيه وأرغدٌ 
إذا ,باشر الدنيا استهل كانه بما سوف يلقى من أذاها يهلد 

فلولا عدم الألفة ووحشة ة التبدل لما بكى والنفس خوارة, بل الشيخ الكبير على 
طول تجربته إذا رحل من داره إلى دار اخرى يجد ألما وسهرا وربما لم ينم وكذلك 
الغريب وإنما كانت الغرية"مؤلمة لعدم الألفة حتى قال االشاعر في ذلك: 


6 


وحبب أوطان الرجال اليهم مآرب قضاها الشباب هنالكا 

إذا ذكروا أوطانهم ذكرتهم عهدد الصبافيها فحنوا لذلكا 
وقال آخر: 

أحب بلاد الله مابين منعج إلي وسلمى أن يصوب سحابها 

بلاد بها نيطت على تمائمي ‏ وول أرض مس جلدي ترابها 


وعلى الجملة : فعلوم الشريعة بأسرها في الأمر والنهي محذرة هذا المقام ولذلك 
أمرت الرسل عليهم السلام الخلق بالإقبال عن الدنيا ورغب الزهاد في ترك الوطن 
والأهل والولد ورغد العيش . قال عليه السلام: «كن في الدنيا كأنك غريب 
أو عابر سبيل وعد نفسك في أهل القبور». وقال عليه السلام : وإنما الدنيا كظل شجرة 
استظل الرجل بها ثم زال عنها وتركهاء. فالمقصد الرياضة وتمرين النفس على 
الشدائد. وأن تمحى هذه الأمور عن النفسء وأن تزال عنها الألفة. وأن تكتسب بغضا 
لهذه الأمور,. فإذا مانت وإن استبسئت ما حصلت فيه فلا تجد غيره فهي مضطرة إليه. ثم 
لاتلبث إلا ا وتفرح فرحاً لا نهاية له. وإذا كانت وضرة ومشغوفة بالمال والولدد 
والإقبال على الشهوات والعكوف على الملاذ الدنيوية مع أنها سائقة إلى النفس مذهلا 
ومك رباغلا عن الموت: فإنه انتقال من ضد الى ضد وهو هلكة أمرالرب تعالى لف 
منه بالعباد أن يكون للعبد بين الضدين تدريج. وقد جعل تعالى لذلك مثلا ظاهراً في 
الحياة الدنيا في الأزمنة. فجعلها أربعة أقسام على ممر الشمس في بروجهاء فجعل 
أعدل الأزمنة تنبت فيه الأجسام وتنمو فيه الناميات 'وتتلون الألوان وتخرج الأرض 
زخرفها . وقد قال تعالى : «إنما مَئَلُ الحَيَّاةٍ الدنْيا كَمَاءِْرَلْنَاهُ مِنَ السماءِ فاختلط به نَبَاتُ 
الأأرْضِ 4<©. فهذه المدة من الزمان كحال النبات للإنسان والربيع لا يصير بهذه المنزلة 
إلاابزمن متقدم عليه وهي النقلة الشتوية فإنها باردة رطبة تنزل فيها الأمطار ونسخن في 
الأرض وتختمر بها فهي كحال البداية للإنسان. فلو أن الله تعالى يخرج الخلق من 
الشتاء إلى الصيف بغير فصل الربيع لهلكوا عن آخرهم, فإن الأبدان والنباتات استولى 
عليها البرد والرطوبة والنقلة الصيفية الغالب عليها المستولي فيها الحر واليبس. فلو 
خرجوا من البرد المفرط إلى الحر المفرط ومن الضد الذي هو الرطوبة إلى المضاد له 


. 74 سورة يونس : الآية‎ )١( 


وهو اليبس لكانت الهلكة. لكن الله تعالى لحكمته فصل يفصل فيه تناسب الفصلين معاً 
فأوله بالبرودة وآخره بالحرارة على تدريج خفي لا تحس به الأجسام إلا بعد انقضائه. 
وذلك بمر الشمس على الثمان والعشرين منزلة في المنطقة الوسطى التي تجري فيها 
الكواكب فلها مشرقان وهما منتهى تحركها في الأفق الشرقي في الطرفين. فإذا انتهت 
نهايتها فيكون الجنوبٌ في الآخر فيه ويكون الشتاء بذلك الأفق الاضعف. 

فحينئذٍ شعاعها في المواضع يجذب البلة وتتتصاعد به أبخرة البحارء وينعكس 
الحر في بطن الأرض. ويسقط ورق الثمار لأن الماء ينجذب من أعاليها إلى أسفلها من 
حيث ان الأبخرة الحارة ينفيها البرد من أعلى الأرض فتطلب المركزء فإذا استحرت 
الأرض استدعت الرطوبات فجذبت ما في النباتات, فإذا زالت الرطوبات من الأوراق 
والأغصان غلب عليها اليبس فتكمشت وتساقطت ويكون الطرف الثاني. ثم إذا غلب 
عليه الحر واليبس فيكون القيظ كيفما انجذبت الشمس على تدريج لأنها تقيم في كل 
برج شهراً وتقطع في كل يوم من البرج درجة والدرجة لا تحس 
وهي تسير» فكلما انجذبت زاد حرها وفي ازدياد حرها تسخن الأرض وتتحلل الرطوبات 
وتسخن أغصان الأشجار من فوق. فإذا استحر الغصن استدعى الماء وطلب رطوبة 
الجزء الذي تحته ويستدعيه الذي تحته من الذي تحته حتى يقع الاستدعاء من قاع 
الشجرة. وتستدعيه الشجرة من الأرض الأرض بعضها من بعض. فإذا حصل الماء في 
العود أذابته الشمس وجرى في العود بطبخها وبما تستمد من لطيف الماء ولطيف التراب 
يحيله الشمس ثمرة» ثم تخرج ما في طبع ذلك العود من الثمرة بإذن الله تعالى . 

والشكل يخرج بطبعه الذي ركبه فيه الفاطر العليم بواسطة حر الشمس في إقبالها 
وإدبارها ودخول الحر في الأرض عند إقبالها وإدبارها حسب ما تمر في البروجء 
فالشمس جعلها البارىء سبحانه سبب الحرث والنسل وهي علة النباتات والحيوانات 
والمعادن. إذ سبب المعادن أبخرة تحتقن في الأرض فيكون منها أدخنة كبريتية» فيمر 
عليها نشع الماء في الأرض فتعقده وهذا مبرهن عند المشتغلين بعلوم التحليل 
والكيمياء. فإنهم زعموا أن الزئبق ينعقد بإشمام رائحة الكبريت وإمداده من خارج بأن 
يذاب ويطرح عليه أو يغلى ويترك فيه. ثم عند اجتماع الماء والكبريت تكون مادة 
الجوهر في الأرضص. إما باعتدال إمتزاج وصبغ فيكون منه الذهب. أو بإفراط فيكون منه 
النحاس . أو بتقصير خفيف فتكون منه الفضة . هذه الحركة الشمسية متعلقة بالحركة 


6 


الشرقية» ومثال ذلك الرحا مع قطبهاء فإن القطب يقطع شبراً في شبر وآخر دائرة الحجر 
تقطع خمسة أشيبار أو أكثر في الاستدارة. فكذا الطواحين وكذلك الدوائر والسواقي. 
فإن الدائرة العظمى المحركة للأحجار التي تدور بحركة الماء تقطم ما مسافته في 
الاستدارة عشرون ذراعاً أو أكثرء ورأس المغزل يقطع على استدارة دور الدينار والمدة 
واحدة. وكذلك يرهن أصحاب النظر في علم الأثقال والمقادير أن الحركة الكلية هي 
سبب حركة الافلاك وأنها واحدة. وكذلك نشاهد الثانية (هي الساقية) يدور الحمار فيها 
إلى جهة ويختلف دوران تلك الدوائر. فالحمار يقطم على استدارة والقوس الأعظم 
الذي يكون عليه الطونس يقطع على استدارة في جهة أخرى, ودوائر آخر تقطع في جهة 
اخرى. 

قالوا: ولما كانت الشمس حارة نارية الجوهر جعلت الحكمة الإلهية والتقدير 
الرباني لها نظيراً على مضادة طبعها إذ لودام الحر المفرط لأحرق فسخن الله تعالى 
القمر يمر ببرده فيبرد ما استحر فيكون النامي معتدلاً بينهماء ثم جعلت حركته سريعة لآن 
حركته لو ساوت حركة الشمس لما وصل نفعه إلى الناميات إلا بعد فسادهاء وكذلك 
أيضاً لم يصل حر الشمس الا بعد فسادها انفعل عنه وكانت حركته سريعة. قال الله 
تعالى : ظِهُوَ الذي جَمَلَ الشّمْسَ ضِِيّاء والقَمَرَ وراً2'04. وهذا أيضاً غرض آخر يخص 
النفوس الحية. فإن الشمس هي النور الذي به تخرج الحيوان من القوة إلى الفعل ولها 
في النفوس البشرية تأثير بديع. فبالنور قوام الكل وجعل القمر مرآة يقبل ضياءها بالليل 
ويعيده على الخلق حتى لا يفقدونه ليلهم ولا نهارهم . وربما توهم المتوهم أن الأفق قد 
يخلو من نور الشمس وهذا توهم فاسد, والأفق معمور بأنوار الشمس والسموات 
والأرض لا تغيب عنها طرفة عين. وإنما ينكر الناس ذلك بالإضافة إلى حالهم في كون 
الشمس في مقابلتهم على وجه أفقهم إذ يكون النور في عنفوانه كثيراًء فلا يزال القرص 
يبعد عن أرضهم وتقل الأنوار. فحال النور عند العصر بخلاف حاله عند الظهر. وحاله 
عند المغرب بخلاف حاله عند العصر. وحاله عند مغيب الشفق بخلاف حاله عند 
المغرب. وحاله نصف الليل بخلاف حاله عند مغيب الشفق . وهو أبعد ما يكون النور 
من ذلك الأفق. ولذلك تكون الظلمة وتضعف رؤيته للإنسان في ذلك الوقت. ولكن مع 
ذلك إذا لم يكن بينه وبين السماء حائل من سقف أو سحاب يبصر. فإن النور لا ينعدم 


)١(‏ سورة يونس : الآية ه. 


وهو مع ضعفه ينتفع به فإن نور الكواكب مع الشمس وهي واقعة على الأرضء فإذا 
قربت الشمس من جهة المشرق زاد النور من جهة المشرق فلا تزال كذلك حتى تشتد 
فيكون فجرا أولاء فإذا كثر كان فجراً ثانياًء فإذا تزايد كان إسفاراء » فإذا طلع القرص 
كان ناراً. 

وأما في الليالي المقمرة فيكبر جرم القمر ولقربه من الأرض يتسع النور فيه وينعكس 
أو بعده منهاء وإذا كان منها على أربع عشرة منزلة كان ضوؤه. قالوا: وفي خاصية 
القمر جذب الرطوبات والشمس تحلل وهذه الكواكب إنما تو ثر في العناصر الدائرة 
بالأرض لأنها تناسبها في اللطافة وتقرب من المنفعلات من وجهة ري فهي واسطة 
بين الحيوانات والنباتات والمعادن تناسب الكواكب بالبساطة والمنفعلات بالكثافة» وقد 
قالوا: إن المنفعلات تنفعل من هذه العناصر وان الحيوانات والمعادن هى أنفس الهواء 
والماء والنار والأرضء لكنهم قالوا ذلك إنما يكون على طريق الدور, فإذا تكونت ثم 
فسدت عادت عناصر فهي يستحيل بعضها إلى بعض. ولذلك قالوا سمي عالم الكون 
والفساد. ولا يبعد أن تكون شعاعات الكواكب هي المؤثرة؛ وهذه العناصر واسعة بين 
المؤثرات وبينهاء والله تعالى أعلم . فإنها أبعد عن قبول ال الفساد. وآية ذلك أن شعاعات 
الكواكب هي من الشمس ومن أنفسها أيضاً فلو كانت تنقص أو تزيد لقبلت الكون 
والفساد ولظهر ذلك عليها. 

وقد زعم القدماء أن النار المحدقة بالأرض إنما هي من الأدخنة والقتارات 
الصاعدة والأهوية المحرقة والهواء من البخارات المتحللة من الأرض والماء على حسب 
ما تكلموا على ذلك في استقصاءات». وأيضاً فلا يتجه أن تتحرك هذه العناصر دون 
مباشرة وذلك عند هبوب الرياح وتموج الهواء والله أعلم . 

وقد ذكر القدماء أن الأمطار والثلوج والرياح إنما تكون حسب ما تكون النيرات في 
مواضع مخصوصة من بروج مخصوصة. فلتكن أشعتها التابعة لحركتها هي الممتزجة 
لهذه العناصر المحركة لهاء ثم لنفوس النيرات محركات حسب ما تتحرك وتترقى في 
الحركة إلى الحركة الكلية كما سبق . وقد زعم الأوائل أن تلك الحركة عن شوق واختيار 
عقلي مستند إلى مشيئة البارىء تعالى وإرادته فهو البارىء المبدع الخالق المصور 
لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في 
كتاب مبين» فهو مرتب الكل أحسن ترتيب ومقدره أكمل تقديرء والكل متصرفون جارون 
على منهاج ذلك الترتيب المحكم والتقدير المتقن لا يزيد ذرة ولا ينقص ذرة. كذلك 


الملل 


ينقرض الأولون ويتبعهم الآخرون والسماء كما هي ونجومهاء والأرض بما فيها من 
الحيوانات والنباتات وغير ذلك لم تطرأ عليها شيء ينكرونه, ولا تزال كذلك حتى يعيده 
بارئه تعالى تارة اخرى كما بدأ حيث قال تعالى : « كما بَدَاكمُ نَعُودُونَ04) 
© . فالعالم بأسره كالشخص الإنسي البشري ذو عمر ومبدأ وآخرء وقد تقدم مراراً 
أن الله سبحانه خلق الإنسان على صورة العالم ٠‏ فأوله بشر ضعيف على تدريج كما سبق 
في المعراج الأول. 

فأول ما يخلق الله تعالى مادة يتكون منهاء ثم يخلق فيه الروح الحيواني ولا يزال 
يتدرج فيه قليلآ قليلا وكذلك النفس الناطقة فيه تظهر قواها شيئاً فشيئاً. فاضعفها حالة 
الرضيع لا يزال ينمو إلى أن يشب فتخلق له الأوهام والظنون فتكون عنده كالقوة العقلية» 
فإذا كبر قليلا خلقت فيه القوة الهيولانية وهو العقل الغريزي وهي المبادىء الأولء وهذا 
في العادة من الخمسة عشر إلى الثمانية عشر عاماً. ثم لا تزال كذلك حتى يخلق فيه 
العقل النظري وهو أن يدرك الأمور الجائزة والمستحيلة فهي كعيون تفتح في قلبه. ومثاله 
الإنسان في بيت مظلم فإذا قابله السراج على بعد نظر نظرا ضعيفا فلا يزال السراج يقرب 
منه ونظره يكثر إلى أن يتصل به فيقوى نظره نظراً كليأًء فلو اتفق أن يتخذ السراج به حتى 
يكون في دماغه ملابسا لقواه لكان أكثرء فكذلك فافهم أن القوة النفسية لا تزال تتزايد 
إلى ما لا نهاية, فليميز ما بين النبي والصبي من الدرجات فالنفس آخذة في الكمال من 
حين تخلق إلى حين موتهاء فالموت إذاً كمال الأجسام لأن النفوس تنزع المادة وتلحق 
بأفق الملائكة وهى الجنة العليا وهى جنة الملائكة. فإن كانت نفساً شقية كان كمال 
باعتبار تخليصها عن المادة ونقصاناً من حيث تتخلف عن الجنبة العليل فلا تزال كثيبة 
حزينة على جسمها وملاذها وحواسهاء فإنها لم تعهد تركه قط ولم ترتض ذاتها على ترك 
العلاذ وكانت عزن نزعها كنية على التدن فلا تزال في عصيرة وندامة وام ونهلن وعقارب 
وحيات وسلاسل وأغلال أبد الآبدين ودهر الداهرين إلا من شاء ربك «إلا ما شاء رَبك 
إن رَبْكَ فَعَالَ لِمَا يرِيدٌ»9). فإذاً واجب على كل من رزقه الله تعالى عقلاً وميز بارئه 
ونفسه أن يسعى في حيلة الخلاص وليكن في أثناء الحيل الدنيوية والأخروية وذلك هو 
السعيد المطلق. وليكن في الدنيا كمن امتحنه سلطان زمانه وبعثه إلى أرض يكرهها 


)2( سورة الأعراف: الآية اخ 
(؟) سورة هود: -الآية /ا ٠١‏ , 


ويكره أهلها وأغذيتهم ولغتهم. فإذا حصل بينهم علم أنه ا 
وعذبوه. وإن خالطهم كفوا عنه فيكون أبداً يعاملهم بظاهرة فيكلمهم وياكل معهم 
ولكن قلبه وهمته وعشقه لقطره الذي رج مده فإذا أخرجه ل 
قطره كان فرحا على مفارقتهم مسروراً لقطره» فلو عكف عليهم وصرف همته إليهم ثم 
بعث إليه لكان خروجه خروجاً كدراء فإنه ربما عشق نسائهم وسيرتهم فلا يزال معذباً 
وهذاغاية البيان في معنى الموت. وقد فهمت العالم بأسره وحقائقه فإن أنت استعملت 
ذهنك وفكرتك حتى أنفهم لك ذلك كنت ربانياً ونعم العبد لبارئك. وناسبت الملائكة 
فوقعت المحبة و الألفة بيتكماء وإن أنت لم تعبأ به ولم تعول عليه أو علمت ظاهره دون 
باطنه فما أقل نفعك به وما أعظم حسرتك. أعاذنا الله وإياك من ذلك هذا تمام السبعة 
المعارج التي تستعمل فيها القوة الفكرية وهي نهاية الغرض الذي أوردناه» وربما تقربنا 
إلى الله تعالى ورغبنا فيما عنده في أن ننبه على الأشياء التي تكون ميزانا ومرآة للقوة 
المفكرة حتى لا تغلط في أكثر تصرفاتهاء فإن خلاف الناس قد كثر ومذاهبهم جمة 
لا تنحصر. ومن عول على أخذ العلم عن إمام لا سيما مذهب الإمامية. فإنهم زعموا أن 
الأرض لا تخلو طرفة عين من إمام قائم لله تعالى بحجة يخرج الخلق من التخمين إلى 
اليقين وينجيهم من ظلمات الشكوك, فعلى مذهبهم لا يضر إن سافر الإنسان عن الإمام 
وزال عن بلده والمسائل أبداً لا تنحصرء فيحتاج أن يراجعه في كل دقفيق وجليل. وحق 
هذا التنبيه أن يكون مستقبلا بنفسه مستوعباً في أسفار كثيرة ومجلدات عديدة. ولكن , 
صادفت بالرغبة أيها الأخ خ قلبا مشتغلاً مشتبك الفكر ولساناً كليلاً قد تخمر , بين أمور متنافرة 
وبقي معلقاً بين الدنيا والآخرة, فإن تلافاه الله سبحانه بدعاء الصلحاء وضراعة الأصدقاء 
والأصفياء » وإلا قل أشياؤه وعاش معيشة ضتكاً في دنياه؛ والله سبحانه ينفع بعضاً ببعيض 
بعزته . 
السعادة ضر بان سعادة مطلقة وسعادة مقيدة: 

فأما السعادة المطلقة. ما اتصلت في الدنيا إلى مالا نهاية له. والمقيدة, 
ما كانت مقصورة على حال أو زمان. وكل سعادة فبسبب» والسبب من أنواع الحجج . 
فأما السعادة المقيدة فتحصل بأربعة أسباب: أعلى الاسباب العلمية احترازاً عن الحرف 
والصناعات وهي إما سفسطة, وإما خطابة» وإما جدل. وإما شعر. أما السفسطة فنهايتها 
وغرضها لا مقصودها أن تؤلف قياساً وتننظم حجة تشبه الحق. وليست بحق بنفسها 


لوال 


لتغلب خصمك من حيث لا يشعرء كما أنك إذا قلت: اليس النجار صانعاًء فيقول: 
نعم. فتقول: أليس هو جسما؟ فيقول: أليس البارىء سبحانه صانعا؟ فتقول: نعم 
فيقول: فهو إذا جسم . فهذا قياس مؤلف ولكنه فاسد وسفسطة ومباهتة؛ ودخل من 
الفساد قوله: فكل صانم جسم فإنه خطأ. وإلا فما الدليل عليه؟ فنهاية سعادة هذا 
التمويه على الخصم وهي منقسمة إلى التلبيس في النظم كما قدمناه: وإلى التلييس في 
شبه الحروف والأسماء, كما إذا قلت: العين تبصر والدينارعين فالدينار يبصر فهذا غلط 
من جهة اشتراك و مو م ب 1 
والحقيقة. وكذلك في النقط مثل قوله تعالى : طعَذَابي اصِيبٌ به مَنْ اشَاءُ2©. و 
أساء. واستيعاب هذا يحتاج إلى مجلدة, وأما الخطابة» فغرضها إقناع للسامع 2 
تسكن نفسه إليه سكوناً تامأ من غير أن تبلغ اليقين» وهذا كما يفعله الخطيب من الناس» 
فإنه ينظم كلاماً عذباً مشجعاً يذكرهم الموت ويفزعهم ويخوفهم. وغرضه الإيقاع في 
نفسهم . وأما الشاعرء فغرضه الإيقاع في النفس وتحريك القوة الشهوانية والغضبية بأن 
يشبه الأشياء بعضها ببعض كقول القائل : 
هو البحر غص فيه إذا كان راكداً على الدر واحذره إذا كان مُزبداً 
فهذا إذا سمعه الممدوح انبسطت له نفسهء لأنه شبه جوده واتساعه بالبحر » وأنه 
ذوصولة كالبحر . وقد يحرك الشاعر القوة الغضبية كقول القائل : 
لو كان يخفى عن الرحمن خافية2 من العباد خفت عنه بنوأسد 
وكقول بعض الشعراء ينفر زوجته عن النكاح : 
فلا تنكحي إن فرق الدهر بيننا أغم القفا والوجه جعد الأنامل 
حتى إن الإنسان يشبه له الشيء الحسن بالقبيح فينافره. كما إذا قيل له وقد شرب 
في محجمته خرجت من كور الرجاج فيقال له بها يمص الدم للمجذوم والمبروص 
فينافرها ولا يشرب بهاء وكما إذا أرسل عليه حبل ثم قيل له: عليك نفرء وقيل له: إن 
هذا العسل أصفر كأنه عذرة نفر من ذلك واستبشعه, فهذا غرض الخطابة والشعرء وأما 
الجدل فغايته غلبة من يخاطبه بأشياء مشهورة كما قال تعالى لليهود : إن رَعَمْتَمْ أنَكُمْ 
أَوْلِيَاءُ لله مِنْ دُونِ الناس, فَتَمَنوًا المَوْتَ إن كنم صادقين 7# 2. فإنه نه علم في العادة أن 


.١6 سورة الأعراف: الآية‎ )١( 
.5 (؟) سورة الجمعة: الآية‎ 


المحب يحب لقاء الحبيب» وتأليف القياس فيه أن يقال: إن كنت تحب لقاء زيد فأنت 
صديقه لكنك تحب لقاءه فأنت إذا صديقه. فيجيء البيان فيه على وفق المقدمة . ونظم 
القياس لليهود أن يقال: إن كان اليهودي يحب لقاء الله تعالى فهو ولي . لكنه يكره لقاء الله 
تعالى فإذا ليس هو بولي, وكما قال إبراهيم عليه السلام للذي حابجه طإن الله يأني 
بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب» . فغاية هذه العلوم موقوفة على منافع دنيوية 
إلا أن تصرف إلى الآخرة . كما فعلت الأنبياء عليهم السّلام في خطابتهم وجدلهم. 
فالدنيا ركاب الآخرة وهى مضرة إذا طلبت لنفسها . ونافعة إذا طليت للآخرة فإذا مقدار 
سعادة هذه العلوم ما يقصد مقدار بها. 

وأما العلوم التي يطلب بها السعادة العلمية النافعة فتنقسم إلى أربعة أقسام: 
طبيعية ورياضية وسياسية وإلهية. والغرض با لطبيعية معرفة العالم وتركيبه ومزاجه 
ومعرفة النباتات والحيوان والمعادن والأمراض والأمزجة وصلاحها وفسادها . وهو خادم 
معين كالخبز والغذاء للإنسان وكذلك هومع تلك العلوم . 

وأما الرياضيات فاربعة أنواع : الهندسة والحساب والمنطق والنجوم فأما 
الهندسة: فمقصودها معرفة الأطوال والكميات والمقادير وهي آلة يستعان بها. 
والحساب غرضه معلوم . والمنطق غرضه تميبز الأمور العقلية من المحسوسات وتمييز 
البرهان من الشك في الاعتقاد. وأما علم النجوم فمقصوده معرفة الأفلاك وحركاتها 
وكواكبها وسائر أحكامهاء وفائدته معرفة الكائنات. 

وأما الإلهيات فمقصوده أربعة أشياء العلم بالله سبحانه وملائكته وكتبه ورسله 
واليوم الآخر. 

وأما السياسة فمقصوده تهذيب النفس في جلب منفعة ودفع مضرة ما عاجلة. 
والخلق مع سائر هذه العلوم وهي معهم إما كالغذاء لهم وإما كالدواء والرسل مبعوثون 
لتبيين الجميع ومقاديرها في السعادة على ما ذكرنا لكن تختلف أشخاص الناس 
وحالاتهم على اختلاف قرائحهم وغرائزهم ومقدار قبولهم وعقولهم والتقسيم يأتي على 
هذه النسبة فنقول: أما ما هو كالغذاء فكالعلوم الإلهية فلا غناء بأحد منها فإن سائر هذه 
العلوم دورانها على بيانه والخالق هو الأصل ولا حال لمن جهل باريه وأما ما هو كالدواء 
فيخض ويعم في بعض العلوم السياسية, وهي ما تعلق منها بفروض الأعيان. فعلى كل 
شخص أن يعرف هذا في العلم السياسي وأما في غيره من العلوم فيستعمل الإنسان منه 


1١٠ 


مقدار حاجته إن احتاج إليه. وإلا فالاشتغال بما يفيد أحسن إذ الإنسان ذو شغل كثير. وأما 
ماهو كالداء فهو يضر بالنسبة إلى حالات الأشخاص وهو كل شيء متى أوصلناه إلى 
شخص وجدناه يضربه فهو دواء في حقه. فإن العسل وإن كان حلواً عند من أفرط عليه 
البلغم. فهو مر عند من أفرطت عليه المرة الصفراء إذ هو في حقه داء. والعلوم إنما هي 
بالإضافة فلقد يوجد الله تعالى : 
خلق تضرالحقائق بهم 2 كما تضررياح الورد بالججمملٍ 

وقد قال كل : «حدثوا الناس بما يفهمون». وقال عيسى عليه السلام : لا تعلقوا 
الدر في أعناق الخنازير: 
فمن منح الجهال علماً أضاعه ومن منع المستوجبين فقد ظلم 

فإن قلت: هذا لا شك فيه غير أن العلوم الإلهية يختلف فيها وقد كثرت فرق 
الإسلاميين فعلى رأي من أعول. فاعلم يا أخي أنك متى كنت ذاهباً إلى تعرف الحق 
بالرجال من غير أن تتكل على بصيرتك فقد ضل سعيك, فإن العالم من الرجال إنما هو 
كالشمس أو كالسراج يعطي الضوءء ثم انظر ببصرك فإن كنت أعمى فما يغني عنك 
السراج والشمس فمن عول على التقليد هلك هلاكا مطلقا. 

فإن قلت: فكيف الخلاص فيه؟ فهذا الآن حديث يطول ويحتاج إلى إطناب 
وإسهاب. وقد أعلمتك اني مشتغل مبدد لشمل النفس كليل الخاطر . ولكن لتعلم أن 
الأوصاف الرا جعة إلى الله تعالى تنقسم إلى ثلاثة أقسام : إما وصف يجب لهء وإما 
مستحيل عليه. وإما جائز في حكمه فلا يتلقف أحد الجائزين بسبب إلا من جهة 
الرسول يكِ فكل واجب,. أو مستحيل فخذه من جهة العقل. 

فإن قلت: ذلك اطلب فمن أين آخذه وكيف أتوصل إليه؟ فأقول: سأبين لك منه 
مقدارا يليق بهذه العجالة . 

فإن قلت: وكيف أصنع أيضاً في فروع الأحكام وهي الأمور السياسية. فقد 
اختلفت الأئمة كمالك والشافعي وأبي حنيفة وأحمد وغيرهم؟ فأقول: فإذا الأشكال من 
جهة الخلاف في أصول الدين وفروعه. وقد كشف العي في أصول الدين ووعدتك 
بالباقي. وأما الخلاف في الفروع فلك فيه حيلتان: إحداهما أن تعرف أصول الفقه 
وأحكام الشريعة معرفة دون تقليل, ثم تعمل بما علمته وتترك الناس جانباً خالفت أو 


1١1١ 


وافقت فهذه حيلة وفد جعلت في ذلك كتاباً سميته (برسالة الأقطاب) تختص بأصول 
الفقه خاصة على الطريق البرهاني . فإن شئت فاحفظها واحفظ أحكام الحديث والسنة 
أو تكون عندك كتبها وذلك منحصر في ثلاثة أسفار: أما أحكام الحديث فقد جمعها 
الزبدوني وأحكمها الفرائض لإسماعيل القاضي وغيرهء وأحكمها الأحكام 
لأبي الحسن الطبري الملقب بشفاء العليل» وبأصول الفقه تهتدي إلى ما غاب عنك . 
فإن تعذر هذا عليك فعليك بجملة ثانية وهو أن تنظر كل مختلف فتصير إلى الطرف 
الأكمل . مثال ذلك مذهب أبي حنيفة في التوضؤ بالنبيذ. فاستعمل أنت مذهب مالك 
في تركه فهو احوط. وكذلك مذهب الشافعي ة في التوجيه والبسملة وقراءة أم القرآن في 
الصلاة فاستعمله فهو أحوط من مذهب مالك فيه فهاتان حيلتان لطريق الكمال. فإن 
عجزت عنهما فعليك بتقليد إمام واحد فاعمل على مذهبه. فإحكام الظاهر يسير الخطب 
قد فهمت هذا وإنما المشكل علي هو أمر الأمور العقلية حتى أميز فيها الحق من الباطل» 
فقد علمت من هذا طريق الخلاص في الفروع, فاعلم أن الأمور التي تخوض فيها قوة 
المفكرة ترجع إلى أربعة أقسام : معقولات ومحسوسات ومقبولات ومشهورات . 

فأما المعقولات: فما لا يدرك إلا بالعقل على التجريد كعلمنا أن الضدين 
لا يجتمعان. وأن الشيء لا يصح أن يكون متحركاً ساكناً في حال واحدة وأن الواحد قبل 
الاثنين. وأن الحادث له أول وان ما كان مع الحوادث معية زمانية فهو حادث فكل 
مالا تدريه إلا من جهة العقل. 

وأما المحسوسات : فما تدريه من جهة الحواس الخمس كالفرق بين الالوان 
والفرق بين الطعوم وبين الملموسات, والفرق بين المسموعات. والفرق بين 
المشمومات. والفرق بين المذوقات» 

وأما المشهورات: فهي العادات الراجعة إلى عادات الخلق والبلاد والأمم 
والأزمنة, كعادة الناس في اللباس والفرح والأغاني والأحاديث والسير الكريمة كترك 
الظلم وبر الوالدين وشكر المنعم والكف عن الجار والنصفة من الظالم وإفشاء السلام 
التي هي الآن متممات الأحكام الشرعية. وهي من قبل الرسل تعقل . وقد كانت العرب 
وسائر الأمم السالفة كالهند وغيرهم يستنون بذلك . وعلى الجملة : لكل أمة ملك يحمي 
من الظلم وبذلك قوام العالم . 

أما المقبولات: فما أخذ من طريق الأخبار وهو كل مايخبر به العدل الثقة 


1١1 


أوالثقات فمتى ورد عليك شيء من أي علم كان وفرع سمعك. أو أورد عليك فانظر 
وسل من أي قبيل هو من هذه الأربعة أقسام. فأما العقليات فلا تتبدل أحكامها عما هي 
عليه في العقل . والمحسوسات لا تتبدل ولكن يتطرق إليها الغلط بأفات تحدث فى 
الآلات الجسمانية . ١‏ 


وأما المقبولات والمشهورات. فغير موثوق بها فإنها تختلف باختلاف الأمم 
والبلاد وحالاات الأشخاص. فألحق كل قبيل بقبيله وميزه من سواه فلا تغلط أبد الآباد 
فما قام عندك من دليل عقل أو حس على شيء وتصححت أجزاء حده وبرهانه وتبرهن 
لك البرهان على صحة تلك الأجزاء والبرهان تبرهن به على مطلوبك فهو برهان حق. 
وما ورد عليك مما سوى ذلك فأنزله على مرتبته فلا تعد شيئاً من حده ولا تجعل المقبول 
معقولا ولا المعقول مقبولا ولا المشهور محسوسا ولا المحسوس مشهورا. ثم انظر 
كيف مأخذ المقبول مثل أن القرآن معجزة رسول الله يك فتعلم قطعا أن هذا القرآن 
مأخوذ عن نبينا محمد يَككةِ ابن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم الكائن(2 بمكة كله 
وكذلك تعلم وجوده وسيرته المستفيضة . 


ولو أدركوا الأحكام بعقولهم لما كانت فائدة الرسول يلد وإذا لم يكن في عقولهم 
استقلال بها أولا فكذلك آخرا إذا اتصلت بهم. فلذلك لم يطلب أن يقوم على الأحكام 
برهان . 


وهذا منتهى ما أردنا أن نشير به من المدخل إلى العلوم الإلهية وننبه به على 
الأسرار الروحانية فإن ساعد الدهر السليم. والغريزة المعتدلة على إلحاق ما في معناه به 
كفي المسترشد وإلا تشوق إلى المطالعة؛ والرب تبارك وتعالى المسؤول أن يلم الشعث 
ويجبر الصدع وينير البصيرة ويجري على اللسان الصدق ويختم بالخيرء ويجعلنا به وله 
فيما نأتي ونذرء وأن يتجاوز عنا إذا وفدنا إليه محتاجين إلى عفوه, فقراء إلى فضله. 
منقطعين عن الأهل والوطن . مخلفين الأبناء » مبعدين عن الآباء. قد حيل بيننا وبين 
القريب والصاحب ونفانا الموالي والأقارب. إذا برقت العين وجفت الشفة ويبست القدم 


)١(‏ تأمل المراد بالكائن بمكة فهي موطن مسقط رأسه: كل وفيها بدأت دعوة الرسالة المحمدية. 


1١11 


وحيث لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون. لا يستجيب لمن دعاه لا يرى شق الجيوب 
عليه حين وفاته. أذكركم الله تعالى إخواني وأوصيكم به فكونوا به ولا تغرنكم الحياة 
الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور. ثم الصلاة والسلام على نبي الرحمة وشفيع الأمة محمد 
صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماء والحمد لله رب العالمين. 


1١1 


فهرس مجموعة رسائل الغزالي )١(‏ 


١‏ الحكمة في مخلوقات الله عر وجل 
؟"- معراج السالكين 


الحكمة في مخلوقات الله عر وجل 


خطبة الكتاب 
باب التفكر في حلق السماء وفي هذا العالم 


باب في حكمة الشمس ا او لس 
باب في حكمة خلق القمر والكواكب 0000 


باب في حكمة خلق الأرض 
باب في حكمة البحر 


باب الحكمة في خلق الهواء 2110111101 
باب في حكمة خلق النار قاقد عد ةد هد وا ءاعد هد قد ها رده ها قدا امد .د راواه ود 6 6د مده 


باب في حكمة خلق الإنسان معي وان ع المت ا مسا 


خاتمة لهذا الباب 

باب في حكمة تخلق الطير 

باب في حكمة خلق البهائم 

باب في حكمة خلق النحل والنمل والعنكبوت 

ودود القز والذباب وغير ذلك 

باب في حكمة خلق السمك وما تضمن خلقها من الحكم 
باب في حكمة خلق النبات وما فيه من عجائب 

حكمة الله تعالى 

باب ما تستشعر به القلوب من العظمة لعلام الغيوب 


١ 1/ 


فاتحة معراج السالكين 
المعراج الأول ا ا ا ا لام ف وما ان ا ا ا 


المعراج الثاني ا انون لاسا الجا و وو ا 
الفصل الأول : في قوى النفس وعلة تحرك البدن بها 

الفصل الثاني : في كون النفس جوهراً 1 21111111( 
الفصل الثالث: في أن النفس لا تعدم وأنها باقية 0000000 
المعراج الثالث 

الفصل الأول: في أدلة لهم 

الفصل الثاني : في نقض كلام لهم 

المعراج الرابع 


١18 


و 


كتوق يكال 


1 


اك 


4 
هل سس مخ هد هه 


١ 


5 15 
لامكا م تلت الإسلت كار 
ع قر سل )م سه 2 مهد ب . آ ا 
اود عصَدكجدتن ححَسَال اك 


ه وصَدْنَ الطالكيت وعككة السّا لكرث 
ه فواعد الْعَقَاكد تالت حمتيد 
٠‏ خلاصدنّ النْصّا يفت فت اللصوّوفكت 


سلب إن القن لجس يم 


رَوضة الطالبين وَعمدة السّالكين 

خطبة الكتاب: 

قال الشيخ الإمام العالم العلامة الأوحد حجة الإسلام أبوحامد محمد بن 
محمد بن محمد الغزالي الطوسي تغمده الله برحمته ورضوانه وأسكنه فسيح جناته . 

الحمد لله الذي أحرق قلوب أوليائه بنيران محبته. واستوفى هممهم وأرواحهم 
بالشوق إلى لقائه ومشاهدته؛ ووقف أبصارهم وبصائرهم على ملاحظة جمال حضرته 
حتى أصبحوا من نسيم روح الوصال سكرى وأصبحت قلوبهم من ملاحظة الجلال 
والهيبة حيرى., فلم يروا في الكونين إلا إياه.؛ وإن سنحت لأبصارهم صور عبرت إلى 
المصور بصائرهم. وإن قرعت أسماعهم نغمة سبقت إلى المحبوب سرائرهم» وإن 
ورد عليهم صوت مزعج أو مقلق أو مطرب أو محزن أو مهيج أو مشوق لم يكن 
انزعاجهم إلا إليه ولا طربهم إلا به ولا قلقهم إلا عليه. ولا حزنهم إلا فيه. 
ولا شوقهم إلا إلى ما لديه. ولا انبعائهم إلا له. ولا ترددهم إلا حواليه فمنه سماعهم. 
وإليه استماعهم فقد أقفل عن غيره أبصارهم وأسماعهم . أولئك الذين اصطفاهم 
لولايته واستخلصهم من بين أصفيائه وخاصته ‏ وصلّى الله على المبعوث برسالته 
وعلى آله وأصحابه أئمة الحق وقادته 5 0 


أما بعد: فقد ألفت هذا الكتاب ليتمسك به طالب الحق ويستعين به على 
سلوكه إن شاء الله تعالى. وأستعين في ذلك بالله تعالى من الخلل والزلل وهو خخير 
ناصر ومعين وإياه أسأل أن ينفع به إنه قريب مجيب وسميته : (روضة الطالبين وعمدة 
السالكين) وفيه أبواب ومقدمة وفصول: 


الباب الأول 

الباب الثاني 

الباب الثالث 

الباب الرابع 

الباب الخامس 
الباب السادس 
الباب السابع 

الباب الثامن 

الباب التاسع 

الباب العاشر 

الباب الحادي عشر 
الباب الثاني عشر 
الباب الثالث عشر 
الباب الرابع عشر 
الباب الخامس عشر 
الباب السادس عشر 
الباب السابع عشر 
الباب الثامن عشر 
الباب التاسع عشر 
الباب العشرون 


: في بيان أركان الدين 

: في بيان معنى الأدب . 

: في بيان معنى السلوك والتصوف. 

: في بيان الوصول والوصال. 

:. في بيان معنى التوحيد والمعرفة. 

: في بيان النفس والروح والقلب والعقل. 
: في بيان معنى المحبة . 

: في بيان معنى الأنس بالله تعالى . 

: في بيان معنى الحياء والمراقبة . 


: في بيان شرف العلم ووجوب طلبه . 

: في بيان معنى الأسماء الحستنى . 

: في. الاعتقاد والتمسك بعقيدة صحيحة. 
: في بيان صفات الله تعالى . 

: في بيان معنى حقيقة الإخلاص. 

: في الرد على من أجاز الصغائر على النبي 86 . 
: في بيان الخواطر وأقسامها. 
: في بيان معنى آفات اللسان. 
: في البطن وحفظه . 

: في بيان الشيطان ومخادعاته . 


الباب الحادي والعشرون: في بيان ما تجب رعايته . 

الباب الثاني والعشرون : في بيان معنى حسن الخلق وسوه . 
الباب الثالث والعشرون: في بيان معنى الفكر. 

الباب الرابع والعشرون : في بيان معنى التوبة. 

الياب الخامس والعشرون: فى بيان الصبر. 

الباب السادس والعشرون: في بيان الخوف. 

الباب السابع والعشرون: في بيان الرجاء . 


03 


الباب الثامن والعشرون : فى بيان الفقر. 

الباب التاسع والعشرون : في بيان الزهد. 

الباب الثلاثون : في بيان المحاسبة . 

الباب الحادي والثلاثون: في بيان الشكر. 

الباب الثاني والثلاثون في بيان التوكل. 

الباب الثالث والثلاثون في النية. 

الباب الرابع والثلاثون في بيان الصدق. 

الباب الخامس والثلاثون: فى بيان الرضا. 

الباب السادس والثلاثون: فى بيان النهى عن الغيبة . 
الباب السابع والثلاثون : في بيان الفتوة. 

الباب الثامن والثلاثون في بيان مكارم الأخلاق. 
الباب التاسع والثلاثون في بيان القناعة. 

الباب الأربعون : في بيان السائل. 

الباب الحادي والأربعون: في الشفقة على خلق الله تعالى . 
الباب الثاني والأربعون في بيان آفة الذنوب. 

الباب الثالث والأربعون : في صفة صلاة أهل القرب. 


المقدمة فى تمهيد الكتاب 


اعلم أن انقطاع الخلق عن الح بوقوفهم مع الخلق ومع أنفسهم ورؤيتهم 
أفعالهم وانحرافهم عن العقيدة الصحيحة باختلاف أهويتهم التي نفوس البشر مجبولة 
عليها وحب الجاه والمال والدنيا والرئاسة والشهرة وطول الأمل والتسويف والشح 
والهوى والعجب وفحش أغذيتهم من المطعم والمشرب والملبس وفساد دنياهم وغلبة 
الشهوات النفسانية على قلوبهم. وترك مجاهدة النفس وإهمالها ترفع في شهواتها 
ورعونتها والتزين للناس والتليس بالأوصاف المذمومة نحو الغل والحقد والحسد 
والجهل والحمق والرياء والنفاق. وانبعاث الجوارج في غير طاعة الله تعالى كالعين 
والسمع واللسان واليد والرجل : لكل أولَئِكَ كان عنه مَسْؤُولاً04» والكسل والبلادة 


في أن ما سوى الحق حجاب عنه : 

اعلم أن الوقوف مع الخلق والنفس حجاب عن الحق ورؤية الأفعال شرك, لأن 
أفعال العباد مضافة إلى الله تعالى خلقاً وإيجاداً وإلى العبد كسباً ليئاب على الطاعة 
ويعاقب على المعصية. فحين تعلق العبد بشيء ما يوجده الاقندار الإلهي يسمى 
كسباً. هذا مذهب أهل السنة. فقدرة العبد عند مباشرة العمل لا قبله فحينما ب 
العمل يخلق الله تعالى له اقتداراً عند مباشرته فيسمى كسباً. فمن نسب المشيئة 
والكسب إلى نفسه فهو قدري . ومن نفاهما عن نفسه فهو جبري ٠‏ ومن نسب المشيئة 
إلى الله تعالى والكسب إلى العبد فهو سني صوفي رشيد., وفيه كلام طويل ليس هذا 

وأما الانحراف عن العقيدة الصحيحة,ء فلغلبة الأهواء على القلوب والتعصب 
لمذهب أهل البدع . قال بعض الأئمة: رب أقوام تنجيهم عقائدهم مع قلة عملهم. 
ورب أقوام تهلكهم عقائدهم مع كثرة عملهم. وحب الجاه والمال والدنيا سم قاتل» 
والرئاسة والشهرة يورئان الكبر والدخول في الدنيا وهما فساد الدين. قال بعضهم : 
ما عملت عملا واطلع عليه الناس إلا أسقطته. 

وأما طول الأمل : فإنه يمنع من حسن العمل ويصد عن الحق والتسويف من 
المهلكات . . 

وأما فحش الغذاء : فإنه يظلم القلب ويوردث القسوة والبعد عن الله تعالى. 
وطيب الغذاء ينور القلب ويوردث الرقة والقرب من الله عرّوجل. قال الله تعالى : 
ؤيا ايها الْذِينَ آمْنُوا كُلُوا مِنْ طيبات ما رَرَقنَاكُمْ 214 والطيبات هي الحلال: أطب 
مطعمك ومشربك وما عليك أن لا تقوم الليل ولا تصوم النهار.ء وطيب المطعم أصل 


. ١/7 سورة اليقرة: الآية‎ )١( 


كبير في طريق القوم. ولوقام العبد قيام الساربة لم ينفعه ذلك. حتى يعلم ما يدخل 
جوفه . وأسرع الناس جوازا على الصراط أكثرهم ورعاً في الدنيا. يقول الله عزّ وجل : 
«عبدي تجوع تراني تورع تعرفني تجرد تصل إليّ» قال الله تعالى : «وأما الورعون 
فأستحبي أن أعذبهم» قال بعض السادة من الأكابر: عليك بالعلم والجوع والخمول 
والصوم فإن العلم نور يستضاء به والجوع حكمة. قال أبو يزيد : ما جعت لله يوماً إلا 
وجدت في قلبي باب من الحكمة لم أجده قبل. والخمول راحة وسلامة» والصوم 
صفة صمدانية ما مثلها شيء لقوله تعالى : «لَيْسٌ كَمِثْلِهِ شّي74©. فمن تلبس بها 
أورث العلم والمعرفة والمشاهدة, ولذلك قال تعالى : «كل عمل ابن آدم له إلا الصوم 
فإنه لي وأنا الذي أجزي به». ولخلوف فم الصائم عند الله أطيب من ريح المسك 
والاشتغال بالدنيا وغلبة الشهوات على القلب يورث جميع الأوصاف المذمومة فلا 
طمع في القرب مالم تبدل الأوصاف المذمومة بالمحمودة. 

قال بعضهم : مادام العبد ملوثاً بالغير لا يصلح للقرب والمجالسة حتى يطهر 
قلبه من السوى . قال عثمان رضي الله عنه: لو طهرت القلوب لم تشبع من قراءة 
القرآن لأنها بالطهارة تترقى إلى مشاهدة المتكلم دون غيره. 


نصل 

اعلم أن ما سوى الحق حجاب عنه. ولولا ظلمة الكون لظهر نور الغيبء, ولولا 
فتنة النفس لارتفعت الحجب. ولولا العوائق لانتكشفت الحقائق., ولولا العلل لبرزت 
القدرة. ولولا الطمع لرسخت المحبة, ولولا حظ باق لأحرق الأرواح الاشتياق. ولولا 
البعد لشوهد الرب. فإذا اتكشف الحجاب تجشم هذه الأسباب وارتفعت العوائق 
بقطع هذه العلائق: 
بدالك سرطال عنك اكتتامة ولاح صباح كنت أنت ظلامه 
فأنت حجاب القلب عن سر غيبه 2 ولولاك لم يطبع عليك ختامة 
فإن غبت عنه حل فيه وطنبت20 على منكب الكشف المصون خيامة 


وجاء حديث لايمل سماعه | شهي إلينانثره ونظامَة 

قال بعضهم: إذا أراد الله بعبد سوء سدَّ عليه باب العمل وفتح عليه باب 
الكسل . جاء رجل إلى معاذ فقال: أخبرني عن رجلين أحدهما يجتهد في العبادة كثير 
العمل قليل الذنوب إلا أنه ضعيف اليقين يعتوره الشك. قال معاذ: ليحبطن شكه 
أعماله. قال: فأخبرني عن رجل قليل العمل إلا أنه قوي اليقين وهو في ذلك كثير 
الذنوب فسكت . فقال: والله لئن أحبط شك الأول أعمال بره ليحبطن يقين هذا ذنوبه 
كلها. قال فأخذه معاذ بيده. وقال: مارأيت الذي هو أفقه من هذا. 


في عمل أبي يزيد البسطامي : 

قال أبو يزيد البسطامي رضي الله عنه: مكثت ائنتي عشرة سنة حدّاد 
نفسي . وخمس سنين كنت أجلو مرآة قلبي. وسنة أنظر فيما بينهما فإذا في وسطي 
زنار فعملت في قطعه خمس سنين أنظر كيف أقطعه فكشف لي فرأيت الخلق موتى 
فكبّرت عليهم أربع تكبيرات. 


ومعنى هذا الكلام والله أعلم ‏ أنه عمل في مجاهدة نفسه وإزالة أدغالها 
وخبثها وما حشيت به من العجب والكبر والحرص والحقد والحسد وما شابه ذلك مما 
هو من مألوفات النفس. فعمد إلى إزالة ذلك بأن أدخل نفسه كير التخويف, ثم طرقها 
بمطارق الأمر والنهي حتى أجهده ذلك. فظن أنها قد تصفت. ثم نظر في مرآة 
إخلاص قلبه. فإذا بقايا من الشرك الخفي وهو الرياء والنظر إلى الأعمال وملاحظة 
الثواب والعقاب والتشوف إلى الكرامات والمواهب. وهذا شرك في الإخلاص عند 
أهل الاختصاص وهو الزنار الذي أشار إليه فعمل في قطعه: يعني قطع نفسه وفطمها 
عن العلائق والعوائق وأعرض عن الخلائق حتى أمات من نفسه ما كان حياً وأحيا من 
قلبه ما كان ميت حتى ثبت قدمه في شهود القدم وأنزل ما سواه منزلة العدم . فعند ذلك 
كبر على الخلق أربع تكبيرات وانصرف إلى الحق. ومعنى قوله: كبرت على الخلق 
أربع تكبيرات لأن الميت يكبر عليه أربع تكبيرات» ولأن حجاب الخلق عن الحق 
أربع : النفس. والهوى., والشيطان, والدنيا. فأمات نفسه وهواه ورفض شيطانه ودنياه 


/ 


فلذلك كبر على كل واحدة ممن فنى عنه تكبيرة لأنه هو الأكبر وما سواه أذل وأصغر. 
ثم اعلم أنك لا تصل إلى منازل القربات حتى تقطع ست عقبات . 

العقبة الأولى : فطم الجوارح عن المخالفات الشرعية. 

العقبة الثانية : فطم النفس عن المألوفات العادية. 

العقبة الثالثة : فطم القلب عن الرعونات البشرية . 

العقبة الرابعة: فطم السر عن الكدورات الطبيعية. 

العقبة الخامسة: فطم الروح عن البخارات الحسية. 

العقبة السادسة : فطم العقل عن الخيالات الوهمية. 

فتشرف من العقبة الأولى على ينابيع الحكم القلبية. وتطلع من العقبة الثانية 
على أسرار العلوم اللدنية وتلوح لك من العقبة الثالثة أعلام المناجاة الملكوتية» 
وتلمع لك في العقبة الرابعة أنوار المنازلات القريبة» . وتطلع لك في الخامسة أقمار 
المشاهدات الحبية». وتهبط من العقبة السادسة على رياض الحضرة القدسية . فهنالك 
تغيب مما تشاهد من اللطائف الأنسية عن الكثائف الحسية. فإذا أرادك بخصوصيته 
الاصطفائية سقاك بكأس محبته شربة فتزداد يذلك الشرب ظما وبالذوق شوقاً. 
وبالقرب طلباً وبالسكون قلقاً. فإذا تمكن منك هذا السكر أدهشك فإذا أدهشك 
حيرك؛ فأنت هاهنا مريد, فإذا دام لك تحيرك أخذك منك وسلبك عنك فتبقى مسلوباً 
مجذوباً فانت حيئئذ مراد. فإذا فنيت ذاتك وذهبت صفاتك وفنيت ببقائه عن فنائلك 
وخلع عليك خلعة (فبي يسمع وبي يبصر) فيكون هو متوليك وواليك. فإن نطقت 
فبأذكاره وإن نظرت فبأنواره. وإن تحركت فبأقداره. وإن بطشت فباقتداره. فهنالك 
تذهب الاثنينية واستحالت البينية» فإن رسخ قدمك وتمكن سرك حال سكرك. قلت: 
هو وإن غلب عليك وجدك وتجاوز بك حدك عن حد الثبوت. قلت أنت: فأنت في 
الأول متمكن. وفي الثاني متلون ومن هنا أشكل على الافهام حل رمز هذا الكلام. 

الباب الأول 
في بيان أركان الدين 


اعلم أن كلمتي الشهادة على إيجازهما يتضمنان إثبات ذات الإله سبحانه 
وإثبات صفاته وإثبات أفعاله وإثبات صدق الرسول يله وبناء الإيمان على هذه 


4 


الأركان الأربعة : 

الركن الأول: في معرفة ذات الله سبحانه وتعالى ومداره على عشرة انول 
وهي : العلم بوجود الله تعالى. وقدمه وبقائه. وأنه ليس بجوهر ولا جسم. 
ولا عرض. وأنه ليس بمختص بجهة, ولا مستقر على مكان., وأنه يرى وأنه واحد. 

الركن الثاني : في معرفة صفات الله سبحانه وتعالى ومداره على عشرة أصول 
وهي : العلم بكونه تعالى حيا عالماً قاور فيلا ا يرا متكلماًء صادقاً 
في أخبازه» منزهاً عن .خلول الحوادث, وأنه قديم الصفات . 

الركن الثالث: في معرفة أفعال الله سبحانه وتعالى ومداره على عشرة فول 
وهي : أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى ومرادة له وأنها مكتسبة لهم. وأنه متفضل 
بالخلق, وأن له تكليف مالا يطاق» وله إيلام البريء ولا يجيب عليه رعاية الأصلحء 
وأنه لا واجب إلا بالشرع وأن بعثة الأنبياء صلّى الله عليهم وسلّم جائزة» وأن نبوة نبينا 
محمد يَلَِدِ ثابتة مؤيدة بالمعجزات . 

الركن الرابع : في السمعيات ومداره على عشرة أصول وهي : الحشر والنشرء 
وعذاب القبرء وسؤال منكر ونكيرء والميزان. والصراط. وخلق الجنة والنار. وأحكام 
الإمامة . 


الباب الثاني 
في بيان الأدب 


روي عن النبي يكل أنه قال: «أدبني ربي فأحسن تأديبي». والأدب تأديب 
الظاهر والباطن, فإذا تهذب ظاهر العبد وباطنه صار صوفيا أديباء ومن ألزم نفسه آداب 
السنة نور الله قلبه بنور المعرفة. ولا مقام أاشرف ص متابعة الحبيب جَلِئِ في أوامره 
وأفعاله وأخلاقه والتأدب بآدابه قولا وفعلا وعقدا ونية . والإنصاف فيما بين الله تعالى 
وبين العيد فى ثلاثة : في الاستعانة والجهد والأدب» فمن العبد الاستعانةه ومن الله 
الإعانة على التوبة؛ ومن العبد الجهد., ومن الله التوفيق. ومن العبد الأدبء ومن الله 
الكرامة . ومن تأدب بآداب الصالحين, فإنه يصلح لبساط الكرامة. وبآداب الأولياء 
لبساط القربة» وبآداب الصديقين لبساط المشاهدة. وبآداب الأنبياء لبساط الانس 


١ 


والانبساط. ومن حرم الأدب حرم جوامع الخيرات؛: ومن لم تريضه أوامر المشايخ 
وتأديباتهم, فإنه لا يتأدب بكتاب ولا سنة» ومن لم يقم بآداب أهل البداية كيف يستقيم 
له دعوى مقامات أهل النهاية. ومن لم يعرف الله عرِّ وجل لم يقبل عليه. ومن 
لم يتأدب بأمره ونهيه كان عن الأدب في عزلة. وآداب الخدمة الفناء عن رؤيتها مع 
المبالغة فيها برؤية مجريها. العبد يصل بطاعته إلى الجنة وبأدبه إلى الله تعالى. 
والتوحيد موجب يوجب الإيمان فمن لا إيمان له لا توحيد له والإيمان موجب يوجب 
الشريعة فمن لا شريعة له لا إيمان له ولا توحيد له. والشريعة موجب يوجب الأدب 
فمن لا أدب له فلا شريعة له ولا إيمان له ولا توحيد له. وترك الأدب موجب يوجب 
الطرد. فمن أساء الأدب على البساط رد إلى الباب. ومن أساء الأدب على الباب رد 
إلى سياسة الدواب. وأنفع الآداب التفقه في الدين والزهد في الدنيا والمعرفة بما لله 
عليك وإذا ترك العارف أدبه مع معروفه فقد هلك مع الهالكين. 

وقيل: ثلاث خصال ليس معهن غربة: مجانبة أهل الريب. وحسن الأدب. 
وكف الأذى, وأهل الدين أكثر آدابهم في تهذيب النفوس. وتأديب الجوارح. وحفظ 
الحدود. وترك الشهوات. وأهل الخصوصية أكثر آدابهم في طهارة القلوب. ومراعاة 
الأسرار. والوفاء بالعهود. وحفظ الوقت. وقلة الالتفات إلى الخواطر. وحسن الأدب 
في مواقف الطلب. وإدمان الحضور, ومن قهر نفسه بالأدب فهو الذي يعبد الله 
بالإخلاص . وقيل: هو معرفة اليقين. وقيل: يقول الحق سبحانه: من ألزمته القيام مع 
أسمائي وصفاتي ألزمته الأدب. ومن أزاد الكشف عن حقيقة ذاتي ألزمته العطب. 
فاختر أيهما شئت: الأدب أو العطب؟ ومن لم يتأدب للوقت فوقته مقت». وإذا خرج 
المريد عن استعمال الأدب فإنه يرجم من حيث جاء. 


وحكي عن أبي عبيد القاسم بن سلام قال: دخلت مكة فربما كنت أقعد بحذاء 
الكعبة وربما كنت أستلقي وأمد رجلي فجاءتني عائشة المكية فقالت لي : يا أبا عبيد: 
يقال إنك من أهل العلم اقبل مني كلمة لا تجالسه إلا بالادب وإلا فيمحى اسمك من 
ديوانٍ أهل القرب. قال أبو عبيد: وكانت من العارفات وقال بعضهم: الزم الأدب 
ظاهراً وباطناً فما أساء أحد الأدب في ظاهر إلا عوقب ظاهراً. وما أساء أحد الأدب 
باطناً إلا عوقب باطناً فالأدب استخراج ما في القوة والخلق إلى الفعل وهذا يكون لمن 
ركبت السجية الصالحة فيه والسجية فعل الحق لا قدرة للبشر على تكوينها كتكوّن 


1١١ 


النار في الزناد إذ هو فعل الله المحض واستخراجه بكسب الآدمي فهكذا الآداب 
منبعها بالسجايا الصالحة والمنح الإلهية» ولما هيأ الله تعالى بواطن الصوفية بتكميل 
السجايا الكاملة فيها تواصلوا بحسن الممارسة والرياضة إلى استخراج ما في النفوس 
مركوزة بخلق الله إلى الفعل فصاروا مؤدبين مهذبين. 


في آداب أهل الحضرة الإلهية 9 

كل الآداب تتلقى من رسول الله كك فإنه كل مجمع الآداب ظاهراً وباطناًء 
وأخبر الله سبحانه عن حسن أدبه في الحضرة بقوله تعالى: <ِمَارَاغَ الْبَصَرٌ 
وما طفى204. وهذه غامضة من غوامض الآداب اختص بها رسول الله بك أخبر الله 
عن اعتدال قلبه المقدس في الإعراض والإقبال أعرض عما سوى الله وتوجه 
إلى اللهء وترك وراء ظهره الأرضين والدار العاجلة بحظوظها والسموات والدار الآخرة 
بحظوظها ولا لحقه الأسف على الفائت في إعراضه. قال الله تعالى : 9لِكَيْلا نَأْسَوْا 
عَلَى ما فَانَكُمُ04. فهذا الخطاب للعموم. وما زاغ البصر إخبار عن حال النبي وَل 
بوصف خاص من معنى ما خاطب به العموم, فكان مازاغ البصر حاله في طرف 
الإعراضص. وفي طرف الإقبال ثلقى ما ورد عليه في مقام: قاب قوسين بالروح 
والقلب. ثم فر من الله حياء منه وهيبة وإجلالا وطوى نفسه في مطاوي انكساره 
وافتقاره. لكيلا تنبسط النفس فتطغى. فإن الطغيان عند الاستغناء وصف النفس . 
قال الله تعالى: «كلا إِنَّ الإنَْانَ لَيَطَفَى * أَنْ رَآهُ اسْتَفْتَى 06©. والنفس عند 
المواهب الواردة على الروح والقلب تسترق السمع. ومتى نالت قسطا من المنح 
استغنت وطغت»؛ والطغيان يظهر منه فرط البسط. والإفراط في البسط يسد باب 
المزيد. وطغيان النفس لضيق وعائها عن المواهب فموسى عليه السّلام صح له في 
الحضرة أحد الطرفين. ما زاغ بصره. وما التفت إلى ما فاته متأسفاً لحسن أدبه. ولكن 
)١(‏ سورة النجم: الآية /31. 


لله سورة العلق: الآيتان 5 ولا. 


امتلأ من المنح واسترقت النفس السمع وتطلعت إلى القسط والحظ فلما حظيت 
النفس استغنت وطفح عليها ما وصل إليها وضاق نطاقها فتجاوز الحد من فرط البسط 
وقال: «أرِني أنظر ليك »0 . فملع ولم يطق صبراً وثباتا في قضاء المزيد وظهر 
الفرق من الحبيب والكليم عليهما الصلاة والسلام. وقال سهل بن عبد الله التستري : 
لم يرجع رسول الله كَلِهْ إلى شاهد نفسه ولا إلى مشاهدتها وإنما كان مشاهدا بكليته 
نربه. يشاهد ما يظهر عليه من الصفات التي أوجبت الثبوت في ذلك المحل وهذا 
الكلام لمن اعتبره موافق لما شرحناه برمز في ذلك من كلام سهل بن عبد الله. والله 


علو 


الباب الثالث 
في بيان معنى السلوك والتصوف 
اعلم : أن السلوك هو تهذيب الأخلاق والأعمال والمعارف. وذلك اشتغال 
بعمارة الظاهر والباطن, والعبد في جميع ذلك مشغول عن ربه إلا أنه مشتغل بتصفية 
باطنه ليستعد للوصول. والذي يفسد على السالك سلوكه شيئان: اتباع الرخص 
بالتأويلات. والاقتداء بأهل الغلط من متبعي الشهوات. ومن ضيع حكم وقته فهو 
جاهل. ومن قصر فيه فهو غافل. ومن أهمله فهو عاجز. لا تصح إرادة المريد حتى 
يكون الله ورسوله وسواس قلبه. ويكون نهاره صائماً ولسانه صامتاً ‏ لأن كثرة الطعام 
والكلام والمنام تقصي القلب ‏ وظهره راكعا وجبهته ساجدة وعينه دامعة وغامضة. 
وقلبه حزينا ولسانه ذاكرا. 
وبالجملة: قد شغل كل عضو فيه ومعنى فيه بوظيفة ندبه الله ورسوله إليها وترك 
ما كره الله ورسوله له. وللورع معانقا ولأهوائه تاركا مطلقا ورائيا جميع ما وفقه الله 
تعالى له من فضل الله عليه. ويجتهد أن يكون ذلك كله احتساباً لا ثواباً وعبادة 
لاعادة, لأنه من لاحظ المعمول له اشتغل به عن رؤية الأعمال ونفسه تاركة 
للشهوات. فصحة الإرادة ترك الاختيار والسكون إلى مجاري الأقدار كما قيل: 
ارفك وسالكه:ويريد عرق فاترك عا ارد لها مسد 


وافن عن الخلق بحكم الله وعن هواك بأمر الله. وعن إرادتك بفعل الله فحينئذ 
تصلح أن تكون وعاء لعلم الله فعلامة فنائلك عن الخلق انقطاعك عنهم وعن التردد 
إليهم والأياس عما في أيديهم. وعلامة فنالك عنك وعن هواك ترك التكسب. والتعلق 
بالسبب في جلب النفع ودفع الضر فلا تتحرك فيك بك, ولا تعتمد عليك لكء 
ولا تذب عنك ولا تضر نفسك. لكن تكل ذلك كله إلى من تولاه أولاً ليتولاه آخراء 
كما كان ذلك موكلاً إليه في حال كونك مغيباً في الرحم؛ وكونك رضيعاً في مهدك. 
وعلامة فنالك عن إرادتك بفعل الله أن لا تريد مراداً قط لأنك لا تريد مع إرادة الله 
سواهاء بل يجري فعله فيك فتكون أنت إرادة الله وفعله ساكن الجوارح مطمئن 
الجنان. مشروح الصدرء منور الوجه. عامر الباطن. تقلبك القدرة ويدعوك لسان 
الأزل. ويعلمك رب الملك. ويكسوك من نور الحلل» وينزلك منازل من سلف من 


أولي العلم . 


فصل 

في لزوم العزلة : 

على السالك أن يلزم العزلة ليستظهر بها على أعدائه. وهي نوعان: فريضة 
وفضيلة . فالفريضة . العزلة عن الشر وأهله. والفضيلة العزلة عن الفضول وأهله. 
وقيل: الخلوة غير العزلة. والخلوة من الأغيار. والعزلة من النفس وما تدعو إليه 
وتشغل عن الله. وقيل: السلامة عشرة أجزاء تسعة منها في الصمت وواحدة في 
العزلة . وقيل: الحكمة عشرة أجزاء تسعة منها في الصمت عما لا يعني . والعاشرة في 
العزلة عن الناس. كثير من ندم على الكلام وقلّ من ندم على السكوت. وقيل: الخلوة 
أصل والخلطة عارضء. فيلزم الأصل ولا يخالط إلا بقدر الحاجة. وإذا خالط يلازم 
الصمت فإنه أصل . 

وإذا صفا لك من زمانك واحدٌ فهوالمرادٌ فأينَ ذاك الواحدٌُ 

وقيل : الخلوة ة بالقلب فيكون مستغرقاً بكليته مع الحق تعالى معكوفاً قلبه عليه 
مشغوفاً به والها إليه متحققاً كانه بين يديه. قيل: أول مبادىء السالك أن يكثر الذكر 
بقلبه ولسانه بقوة حتى يسري الذكر في أعضائه وعروقه. وينتقل الذكر إلى قلبه فحينئذ 
سكت لسانه ويبقى قلبه ذاكراً يقول (الله الله) باطناً مع عدم رؤيته لذكره. ثم يسكن 


1 


قلبه ويبقى ملاحظاً لمطلوبه مستغرقاً به معكوفاً عليه مشغوفاً إليه مشاهداً له ثم يغيب 
عن نفسه بمشاهدته. ثم يفني عن كليته بكليته حتى كأنه في حضرة ظلِمَنْ المُلْكْ 
اليُومْ لله الواجدٍ القهارر74'©. فحيئئذٍ يتجلى الحق على قلبه فيضطرب عند ذلك 
ويندهشس ويغلب عليه السكر وحالة الحضور والإجلال والتعظيم» فلا يبقى فيه متسع 
لغير مطلوبه الأعظم. كما قيل: فلا حاجة لأهل الحضور إلى غير شهود عيانه . وقيل 
فى قوله تعالى: ظوَشَاهِدٍ وَمَشْهودِ»(©. فالشاهد: هو الله. والمشهود: هو عكس 
جمال الحضرة الصمدية فهو الشاهد والمشهود. 


فصل 

يا حبيبي أطبق جفنيك وانظر ماذا ترّى» فإن قلت لا أرى شيئاً حينئذ فهو خطأ 
منك بل تبصر. ولكن ظلام الوجود لفرط قربه من بصيرتك لا تجده. فإن أحببت أن 
تجده وتبصره قدامك مع أنك مطبق جفنيك» فانقص من وجودك شيئاً أو أبعد من 
وجودك شيئا وطريق تنقيصه والإبعاد منه قليلا المجاهدة ومعنى المجاهدة بذل الجهد 
في دفع الأغيار أو قتل الأغيار والأغيار الوجود والنفس والشيطان . وبذل الجهد مضبوط 
بطرق : 

الأول : تقليل الغذاء بالتدريج . فإن مدد الوجود والنفس والشيطان من الغذاء. 
فإذا قل الغذاء قل سلطانه . 

والثاني: ترك الاختيار وإفنائه في اختيار شيخ مأمون ليختار له ما يصلحهء فإنه 
مثل الطفل والصبي الذي لم يبلغ مبلغ الرجال أو السفيه المبذر. وكل هؤلاء لا بد 
لهم من وصي أو ولي أو قاض أو سلطان يتولى أمرهم . 

والثالث: من الطرق طريقة الجنيد قدس الله روحه وهو ثمان شرائط. دوام 
الوضوء. ودوام الصوم ‏ ودوام السكوت» ودوام الخلوة ودوام الذكر وهو قول (ل إله 
إلا الله). ودوام ربط القلب بالشيخ واستفادة علم الواقعات منه بفناء تصرفه في تصرف 


١1 سورة غافر: الآية‎ )١( 
.7 سورة البروج : الآية‎ )١؟(‎ 


الشيخ ع ودوام نفي الخواطرء ودوام ترك الاعتراض على الله تعالى في كل ما يرد منه 
عليه ضرا كان أو نفعا وترك السؤال عنه من جنة أو تعوذ من نار. 

والفرق بين الوجود والنفس والشيطان في مقام المشاهدة: أن الوجود شديد 
الظلمة في الأول. فإذا صفا قليلا تشكل قدامك بشكل الغيم الأسود فإذا كان عرش 
الشيطان كان أحمر فإذا صلح وفني الحظوظ منه وبقي الحقوق صفا وابيض مثل 
المزن. والنفس إذا بدت فلونها لون السماء وهي الزرقة. ولها.نبعان كنبعان الماء من 
أصل الينبوع . فإذا كانت عرش الشيطان فكأنها عين من ظلمة ونار ويكون نبعها أقل. 
فإن الشيطان لا خير فيه وفيضان النفس على الوجود وتربيته منها فإن صفت وزكت 
أقاضت عليه الخير ومانبت منه. فإن أفاضت عليه الشر فكذلك ينبت منه الشرء 
والشيطان نار غير صافية ممتزجة بظلمات الكفر في هيئة عظيمة وقد يتشكل قدامك 
كأنه زنجى طويل ذو هيبة يسعى كأنه يطلب الدخول فيك. فإذا طلبت منه الانفكاك 
فقل في قلبك يا غياث المسيتغيثين أغثنا فإنه يفر عنك . 


فصل 

في التصوف: 

حكم الصوفي أن يكون الفقر زينته والصبر حليته والرضى مطيته والتوكل شأنه . 
والله عز وجل وحده حسبه يستعمل جوارحه في الطاعات وقطع الشهوات والزهد في 
الدنيا والتورع عن جميع حظوظ النفس. وأن لا يكون له رغبة في الدنيا البتة. فإن 
كان ولا بد فلا تجاوز رغبته كفايته ويكون صافي القلب من الدنس ولها بحب ونه فاراً 
إلى الله تعالى بسره يأوي إليه كل شيء, ويأنس به وهو لا يأوي إلى شيء. أي 
لايركن إلى شيء ولا يأنس بشيء سبوئ فغيودة نذا بالأولى والأهم والأحوط في دينه 
مؤثراً الله على كل شيء. 

التصوف: طرح النفس في العبودية وتعلق القلب بالربوبية. وقيل: كتمان 
الفاقات ومدافعة الآفات. 

وقال سهل بن عبد الله : الصوفي من صفا من الكدر وامتلاً من الفكر واستوى 
عنده الذهب والمدر. وقيل: التصوف تصفية القلب عن مرافقة البرية» ومفارقة 


15 


الأخلاق الطبيعية. وإخماد صفات البشرية. ومجانبة الدواعي النفسانية. ومنازلة 
الصفات الروحانية» والتعلق بالعلوم الحقيقية واتباع رسول الله كلخ في الشريعة. 
وقيل: الصوفي هو الذي يكون دائم التصفية لا يزال يصفي الأوقات عن شوب الأكدار 
بتصفية القلب عن شوب النفس ومعينه على هذه دوام افتقاره إلى مولاه. فبدوام 
الافتقار يتفطن للكدر كلما تحركت النفس وظهرت بصفة من صفاتها أدركها ببصيرته 
النافذة وفر منها إلى ربه» فبدوام تصفاجة جتتفحة ونخير كه نفس لفركتة وكدره فهر قائم 
بربه على قلبه وقائم بقلبه على نفسه. قال الله تعالى : (كُونوا قَوَامِينَ لله شهداءَ 
بِالقِسْطٍ74". وهذه لله على النفس وهو تحقق بالتصوف. 


أكل الحلال والاقتداء برسول الله يَكئِهِ في أخلاقه وأفعاله وأوامره وسنته. ومن 
لم يحفظ القرآن ويكتب الحديث لا يقتتدي به في هذا الأمر لأن علمنا مضبوط 
بالكتاب والسنة . أخذ هزا المذهب بالورع والتقوى لا بالدعاوى. 

التصوف: أوله علم وأوسطه عمل وآخره موهية . فالعلم : يكشف عن المراد» 
والعمل : يعين على الطلب» والموهبة : تبلغ غاية الأمل . 

وأهله على ثلاث طبقات : مريد طالب» ومتوسط سائر. ومنته واصل. فالمريد 
صاحب وقته, والمتوسط صاحب حال والمنتهي صاحب يقين » وأفضل الأشياء 
عندهم عد الأنفاس. فمقام المريد المجاهدات والمكابدات وتجرع المرارات 
المراد ومراعاة الصدق واستعمال الأدب في المقامات وهو مطالب بآداب المنازل وهو 
صاحب تلوين . لأنه ينتقل من حال إلى حال وهو الزيادة . ومقام المنتهي الصحو 
والثبات وإمجابة الحق من حيث دعاه قد تجاوز المقامات. وهو في محل التمكين 
لا تغيره الأهوال ولا تؤثر فيه الأحوال. قد استوى في حال الشدة أو الرخاء والمنع 
والعطاء والجفاء والوفاء . أكله كجوعه ونومه كسهره. قد فنيت حظوظه وبقيت حقوقه . 


.8 سورة المائدة: الآية‎ )١( 


ظاهره مع الخلق. وباطنه مع الحق كل ذلك من أحوال النبي 86. المنتهي لو نصب 
له سنان في أعلى شاهق في الأرض وهبت له الرياح الثمانية ما حركت منه شعرة 
واحدة. وقيل: سموا صوفية لأنهم وقفوا في الصف الأول بين يدي الله عر وجل 
بارتفاع هممهم وإقبالهم على الله تعالى بقلوبهم ووقوفهم بين يديه بسرائرهم . 


في الملامتية : در 

حكم الملامتي أن لا يظهر خيراً ولا يضمر شراً. وشرح هذا: هو أن الملامتي 
تشربت عروقه طعم الإخلاص وتحقق بالصدق فلا يحب أن يطلع أحد على حاله 
وأعماله . والملامتية لهم مزيد اختصاص بالتمسك بالإخلاص يرون كتم الأحوال 
ويتلذذون بكتمها حتى لو ظهرت أعمالهم وأحوالهم لأحد استوحشوا من ذلك. كما 
اشرحسن العاصي» من ظهور معصيته. فالملامتي عظّم موقع الإخلاص وموضعه 
وتمسك به معتمدا به. والصوفي غاب في إخلاصه. قال أبو يعقوب السوسي : متى 
شهدوا في إخلاصهم الإخلاص احتاج إخلاصهم إلى إخلاص . قال بعضهم : صدق 
الإخلاص نسيان رؤية الخلق بدوام النظر إلى الحق. والملامتي يرى الخلق فيخفى 
عمله وحاله. قال جعفر الخلدي: سألت أبا القاسم الجنيد قلت: بين الإخلاص 
والصدق فرق؟ قال: نعم الصدق أصل وهو الأول والاإخلاص فرع وهو تابع. وقال: 
بينهما فرق لأن الإخلاص لا يكون إلا بعد الدخول في العمل. ثم قال: إنما هو 
إخلاص ومخالصة الإخلاص وخالصته كائنة في المخالصة. فعلى هذا الإخلاص 
حال الملامتي؛ ومخالصة الإخلاص حال الصوفي. والخالصة الكائئة في المخالصة 
ثمرة مخالصة الإخلاص وهو فناء العبد عن رسومه برؤية قيامه بقيومه. بل غيبته عن 
رؤية قيامه وهو الاستغراق في العين عن الآثار والتخلص عن لوث الاستتار وهو فقد 
حال الصوفي . والملامتي مقيم في أوطان إخلاصه غير متطلع إلى حقيقة إخلاصه. 

وهذا فرق واضح بين الملامتي والصوفي . فالملامتي وإن كان متمسكا بعروة 
الإخلاص مستفرشاً بساط الصدق. ولكن عليه بقية رؤية الخلق وما أحسنها من بقية 
تحقق الإخلاص والصدق. والصوفي صفاء من هذه البقية في طرفي العمل والترك 


18 


للخلق وعزلهم بالكلية وراءهم بعين الفناء والزوال, ولاح له ناصية التوحيد وعاين سر 
(ِكُل شيءٍ مَالِكُ إل وَجْهَهُ0') . كما قال بعضهم في بعض غلباته : ليس في الدارين 
غير الله. وقد يكون إخفاء الملامتي الحال على وجهين: أحد الوجهين لتحقيق 
الإخلاص والصدق. والوجه الآخر. وهو الأتم لستر الحال عن غيره بنوع غيرهء فإنه 
من خلا بمحبوبه يكره اطلاع الغير عليه» بل يبلغ في صدق المحبة أن يكره اطلاع 
أحد على حبه لمحبوبه؛ وهذا وإن علا ففي طريق الصوفي علة ونقص. فعلى هذا 
يتقدم الملامتي على المتصوف ويتأخر عن الصوفي. وقيل: من أصول أهل الملامة 
أن الذكر على أربعة أقسام : ذكر باللسان. وذكر بالقلب. وذكر بالسر. وذكر بالروح. 
فإذا صح ذكر الروح سكت السر والقلب واللسان عن الذكر وذلك ذكر2© المشاهدة. 
وإذا صح ذكر السر سكت القلب واللسان عن الذكر وذلك ذكر الهيبة» وإذا صح ذكر 
القلب فتر اللسان عن الذكر وذلك ذكر الآلاء والنعماء.؛ وإذا غفل القلب عن الذكر 
أقبل اللسان على الذكر. وذلك ذكر العادة. 

ولكل واحد من هذه الأذكار عندهم آفة. قآفة ذكر الروح اطلاع السر عليه, 
وآفة ذكر السر اطلاع القلب عليه. وآفة ذكر القلب اطلاع النفس عليه. وآفة ذكر 
النفس رؤية ذلك وتعظيمه وطلب ثواب أوظن أنه يصل إلى شيء من المقامات به. 

وأقل الناس قيمة عندهم من يريد إظهاره وإقبال الخلق عليه بذلك. وسر هذا 
الأصل الذي بنوا عليه أن ذكر الروح ذكر اللذات, وذكر السر ذكر الصفات بزعمهم. 
وذكر القلب من الآلاء والنعماء ذكر أثر الصفات, وذكر النفس متعرض للعلات» 
فمعنى قولهم: اطلاع السر على الروح يشيرون إلى التحقيق بالفناء عند ذكر الذات. 
وذكر الهية ف :ذلك الوفت دقن الصعات وهو وحود الفيية: ووخود الهيبةيستد عي 
وجودا أو بقية. وذلك يناقض حال الفناء. وهكذا ذكر السر وجود هيبة وهو ذكر 
الصفات مشعر بنصيب القرب., وذكر القرب الذي هو ذكر الآلاء والنعماء مشعر ببعد 


.88 سورة القصص: الآية‎ )١( 

(؟) مع ذلك الذكر ‏ يكون ذكر غير الروح ‏ من الذنوب. وفيه, قال الشيخ الأكبر محيبي 
الدين بن العربي : 
بذكر الله تزداد الذنوبٌ | وتنطمس البصائر والقلوبٌ 
وترك الذكر أحسن منه حاللاً فإن الشِمسٌ ليس لهاغروبٌ 


19 


مالابه اشتغال بذكر النعمة وذهول عن المنعم, والاشتغال برؤية العطاء عن رؤية 
المعطي ضرب من بعد المنزلة واطلاع النفس نظراً إلى الأغراض اعتداد بوجود 
العمل. وذلك عين الاعتلال حقيقة, وهذه أقسام هذه الطائفة وبعضها أعلى من 
بعض . والله أعلم . 


الباب الرابع 
في بيان معنى الوصول والوصال 
اعلم: أن الوصول هو أن ينكشف للعبد حلية الحق ويصير مستغرقاً به فإن 
نظر إلى معرفته فلا يعرف إلا الله وإن نظر إلى همته فلا همة له سواه. فيكون كله 
مشغولاً بكله مشاهدة وهماً ولا يلتفت في ذلك إلى نفسه ليعمر ظاهره بالعبادة أو باطنه 
بتهذيب الأخلاق وكل ذلك طهارة وهي البداية. وأما النهاية أن ينسلخ من نفسه بالكلية 
ويتجرد له فيكون كأنه هو وذلك هو الوصولء فافهم جداً. ومعنى الوصال هو الرؤية 
والمشاهدة بسر القلب في الدنيا وبعين الرأس في الآخرة. فليس معنى الوصال اتصال 
الذات بالذات تعالى الله ع ذلك علواً كرا قال ابعسهم 
وإِنّ ظَرّفي موصولٌ برؤيته وإنَّتّباتمد عن مَنْواي مُنُواهُ 
اعلم : أن مباني طريق الصوفية على أربعة أشياء وهي: اجتهاد. وسلوك, 
وسيرء وطير. فالاجتهاد: التحقق بحقائق الإسلام. والسلوك: التحقق بحقائق 
الويمان. والسير: التحقق بحقائق الإحسان. والطير: الجذبة بطريق الجود والإحسان 
إلى معرفة الملك المنان. فمنزلة الاجتهاد من السلوك منزلة الاستنجاء من الوضوء. 
فمن لا استنجاء له لا وضوء له. فهكذا من لا اجتهاد له لا سلوك له. ومنزلة السلوك 
من السير منزلة الوضوء من الصلاة. فمن لا وضوء له لا صلاة له. فكذا من لا سلوك 
له لا سير له. وبعده الطير وهو الوصول والله تعالى أعلم. فهذه طريق السالكين 
ومنازل السائرين, وبعد ذلك طريق الوصول ومنازل الواصلين وهو الطير. والله أعلم . 
فصل 
في الاتصال: 
قال الثوري: الاتصال مكاشفات القلوب ومشاهدات الأسرار في مقام الذهول. 


؟” 


اعلم: أن الاتصال والمواصلة فيما أشار إليه الشيوخ وكل من وصل إلى صفو اليقين 
بطريق الذوق والوجد فهو رتبة من الوصول. ثم يتفاوتون فمنهم من يجد الله بطريق 
الأفعال وهو رتبة في التجلي فيفنى فعله وفعل غيره لوقوفه مع الله تعالى ويخرج في 
هذه الحالة من التدبير والاختيار. وهذه رتبة في الوصول. ومنهم من يوقف في مقام 
الهيبة والأنس بما يكاشف قلبه من مطالعة الجلال والجمال. وهذا تجلي بطريق 
الصفات وهو رتبة في الوصول. ومنهم من يرقى إلى مقام الفناء مستملياً على باطنه 
أنوار اليقين والمشاهدة مغيبا في شهوده عن وجوده. وهذا ضرب من تجلي الذات 
لخواص المقربين» وهذه رتبة في الوصول وفوق هذا حق اليقين ويكون من ذلك في 
الدنيا للخواص لمح وهو سريان نور المشاهدة في كلية العبد حتى يحظى به روحه 
وقلبه ونفسه حتى قالبه. وهذا من أعلى رتب الوصول. وإذا تحققت الحقائق يعلم 
العبد مع هذه الأحوال الشريفة أنه يعد في أول المنزل. فأين الوصول؟ هيهات منازل 
طريق الوصول لا تقطع أبد الآباد في عمر الآخرة الأبدي. فكيف في العمر القصير 
الدنيوي؟ والله أعلم . 


الباب الخامس 
في بيان معنى التوحيد والمعرفة 
ويضاف إليهما البصيرة والمكاشفة والمشاهدة والمعاينة 
والحياة واليقين والإلهام والفراسة لأنها من مواريثهما 
أما التوحيد: فهو إفراد القدم عن الحدوث والإعراض عن الحادث والإقبال 
على القديم حتى لا يشهد نفسه فضلا عن غيره. لأنه لو شاهد نفسه في حال توحيد 
الحق تعالى أو غيره لكان مثنياً لا موحداً ذاته القديمة بوصف الوحدانية موصوفة 
وبنعت الفردانية منعوتة. وصفات المحدثات من المشاكلة والمماثلة والاتصال 
والانفصال والمقارنة والمجاورة والمخالطة والحلول والخروج والدخول والتغيير 
والزوال والتبدل والانتقال من قدس ذاته ونزاهة صفاته مسلوبة» ولا ينسب نقصان إلى 
كمال جماله وكمال جمال أحديته مبرأ عن وصمة ملاحظة الأفكار. وجلال صمديته 
معرى عن مزاحمة ملابسة الأذكار. ضاقت عبارات الميارزين فى ميدان الفصاحة عن 


1 


وصف كبريائه. وعجز بيان السابقين في عرصة المعرفة عن تعريف ذاته تعالى». 
وتعالى إدراكه عن مناولة الحواس ومحاولة القياس. وليس لأصحاب البصائر فى أشعة 
أنوار عظمته سبيل التعامى والتغاشى. إن قلت: أين؟ فالمكان خلقهء وإن قلت: 
متى؟ فالزمان إيجاده» وإن قلت: كيف؟ فالمشابهة والكيف مفعوله. وإن قلت: كم؟ 
فالمقدار والكمية مجعوله, الأزل والأبد مندرج تحت إحاطته, والكون والمكان منطو 
في بساطه كل ما يسع في العقل والفهم والحواس والقياس ذات الله تعالى مقدسة 
عنه. إذ كل ذلك محدث والمحدث لا يدرك إلا المحدث دليل وجوده. وبرهان 
شهوده الإدراك في هذا المقام عجز ‏ والعجز عن درك الإدراك إدراك ‏ لا يصل بكنه 
إدراك الواحد إلا الواحد. وكل ما انتهى إدراك الموحد إليه فهو غاية إدراكه لا غاية 
الواحد تعالى عن ذلك علواً كبيراً. وكل من ادعى أن معرفة الواحد منحصرة في 
معرفته فهو بالحقيقة ممكور ومغرور. وقوله تعالى : وِوَغْرَكُمْ باللّهِ الور ه2»0. 
إشارة إلى هذا الغرور. 


فصل 

في التوحيد: 

والتوحيد في البداية' نفي التفرقة والوقوف على الجمع. وأما في النهاية فيمكن 
أن يكون الموحد حال التفرقة مستغرقاً في عين الجمع وفي عين الجمع بعين الجمع 
ناظراً إلى التفرقة بحيث كل واحد من الجمع والتفرقة لا يمنع من الآخر. وهذا هو 
كمال التوحيد وذلك أن يصير حال التوحيد وصفاً لازماً لذات الموحدء وتتلاشى 
وتضمحل ظلمة رسوم وجوده في غلبة إشراق أنوار توحيده. ونور علم توحيده يستتر 
ويندرج في نور حاله على مثال اندراج الكواكب في نور الشمس. فلما استبان الصبح 
أدرج ضوءه بإسفاره أضواء نور الكواكب. وفي هذا المقام يستغرق وجود الموحد في 
مشاهدة جمال الواحد في عين الجمع بحيث لا يشاهد غير ذات الواحد تعالى وغير 
صفاته عرِّ وجل واستلبه أمواج بحر التوحيد وغرق في عين الجمع من هنا. 

قال الجنيد: ‏ قدس الله روحه ‏ معنى ذلك تضمحل فيه الرسوم وتندرج فيه 


.١4 سورة الحديد: الآية‎ )١( 


ف 


العلوم ويكون الله تعالى كما لم يزل. وقيل: من وقع في بحار التوحيد لا يزداد على 
ممر الزمان إلا عطشاً. 


فصل 
في بيان أنواع التوحيد: 
اعلم: أن إثبات التوحيد خمسة أشياء في أصول التوحيد لا بدّ لكل مكلف من 
اعتقادهن . 
أحدها: وجود البارىء تعالى ليبرأ به من التعطيل . 
ثانيها: وحدانيته تعالى ليبرأ به من الشرك . 
وثالئها: تنزيهه تعالى عن كونه جوهراً أوعرضاً. وعن لوازم كل منهما ليبرأ به 


من التشبيه . 
ورابعها: إبدذاعه تعالى بقدرته واختياره لكل عا سواه ليبرأ به عن القول بالعلة 
والمعلول. 


وخامسها: تدبيره تعالى لجميع مبتدعاته ليبرأ به عن تدبير الطبائع والكواكب 
والملائكة. وقوله (لا إله إلا الله) يدل على الخمسة. 


فصل 

اتفق المسلمون على أن الله تعالى موصوف بكل كمال. بريء من كل نقصان». 
لكنهم اختلفوا في بعض الأوصاف فاعتقد بعضهم أنها كمال فأثبتها له واعتقد آخرون 
أنها نقصان فنفوها عنه . ولذلك أمثلة : 

أحدها: قول المعتزلة أن الإنسان خالق لاأفعاله. لأن الله لو خلقها ثم نسبها 
إليهء ولأنه لو فعلها مع أنه لم يفعلها وعذبه عليها مع أنه لم يوجدهاء لكان ظالماً له 
والظلم نقصان. وكيف يصح أن يفعل شيئا ثم يلوم غيره عليه ويقول له: كيف فعلته 
ولم فعلته؟ وأهل السنة يقولون: وجدنا كمال الإله في التفرد ونفي القدرة عيب 
ونقصان. وليس تعذيب الرب على ما خلقه بظلم بدليل تعذيب البهائم والمجانين 


ذا 


والأطفال. لأنه يتصرف في ملكه كيف يشاء «لآ يُسألُ عَما يَفْمَلّ74©. والقول 
بالتحسين والتقبيح باطل فرأوا أن يكون هو الخالق لأفعال العباد ورأوا تعذيبهم على 
ما لا يخلقون جائزاً من أفعاله غير قبيح . 

المثال الثاني : اختلاف المجسمة مع المنزهة. قالت المجسمة: لو لم يكن 
جسما لكان معدوما ولا عيب أقبح من العدم. وكذا النفي عن الجهات قول بعدمه لأن 
من لا جهة له لا يتصور وجوده. وقالت المنزهة : لو كان جسما لكان حادثا ولفاته كمال 
الأزلية والنفي عن الجهات كلها إنما يوجب عدم من كان محدوداً منحصراً في 
الجهات. فأما ما كان موجوداً قديماً لم يزل ولا جهة فلا ينصرف إليه النفي . 

المثال الثالث: إيجاب المعتزلي على الله أن يثبت الطائعين كيلا يظلمهم 
والظلم نقصان, وقول الأشعري : ليس ذلك بظلم إذ لا يجب عليه حق لغيره إذ لو 
وجب عليه حق غيره لكان في قيده والتفييد بالاغيار نقصان. 

المثال الرابع: قول المعتزلة إن الله تعالى يريد الطاعات وإن لم تقع. لأن 
إرادتها كمال ويكره المعاصي وإن وقعت, لأن إرادتها نقصان. وقول الأشعري: لو 
أراد ما لا يقع لكان ذلك نصاً في إرادته لكلالها عن النفوذ فيما تعلقت به ولو كره 
المعاصي مع وقوعها لكان ذلك كلالا في كراهته. وكذلك نقصان. 

المثال الخامس : إيجاب المعتزلي على الله تعالى رعاية الأصلح لعباده لما في 
تركه من النقصان. وقول الأشعري : لا يلزمه ذلك. لأن الإلزام نقصان وكمال الإله أن 
لا يكون في قيد المتألهين. وبالله التوفيق. 


فصل 
اعلم: أن من نسب المشيئة» والكسب إلى نفسه فهو قدري. ومن نفاهما عن 
نفسه فهو جبري. ومن نسب المشيئة إلى الله تعالى والكسب إلى العبد فهو سني 
صوفي رشيد. فقدرة العبد وحركته خلق للرب تعالى وهما وصف للعبد وكسب له 
والقدر اسم لما صدر مقدراً عن فعل القادر والقضاء هو الخلق, والفرق بين القضاء 


. 37" صورة الأنبياء : الآية‎ )١( 


>35 


والقدر هو أن القدر أعم والقضاء أخص. فتدبير الأوليات قدر وسوق تلك الأقدار 
بمقاديرها وهيئاتها إلى مقتضياتها هو القضاء. فالقدر إذاً تقدير الأمر بدءاً والقضاء 
فصله وقطع ذلك الأمر كما يقال قضى القاضي . 
في الأهواء: 0 

اعلم: أن أهل الأهواء المختلفة ست فرقء, وكل اثنين منها ضدان وهي : 
التشبيه والتعطيل, والجبر والقدر. والرفض والسمصب, وكل واحدة منها تفترق إلى 
ثنتي عشرة فرقة» فالتشبيه والتعطيل ضدان. والجبر والقدر ضدان, والرفض والنصب 
ضدان. وكل من هؤلاء منحرفون عن الصراط المستقيم» والفرقة الناجية الوسط وهم 
أهل السنة والجماعة. فأما الفرقة المشبهة فإنهم بالغوا وغلوا في إثبات الصفات حتى 
شيهوا وجوزوا الانتقال والحلول والاستقرار والجلوس وما أشبه ذلك. وأما الفرقة 
المعطلة : فإنهم بالغوا وغلوا وبالغوا في نفي التشبيه حتى وقعوا في التعطيل» وأما أهل 
السنة والجماعة: فإنهم سلكوا الطريق الوسط وأثبتوا صفات الله كما وردت من غير 
تشبيه ولا تعطيل. فعلمت بذلك سبيل الشيطان ماعليه المشبهة والمعطلة, وأما 
الجبرية والقدرية : فكل منهم بعيد عن الصراط المستقيم. فمن نفى المشيئة والكسب 
عن نفسه فهو جبري» ومن نسبهما إلى نفسه فهو قدري. ومن نسب المشيئة إلى الله 
تعالى والكسب إلى العبد فهو سني , وأما الرافضة والناصبة: فكل منهما بعيد عن 
الصراط . فالرافضي : ادعى محبة أهل البيت وبالغ في سب الصحابة وبغضهمء 
والناصبي : بالغ في التعصب من جهة الصحابة حتى وقع في عداوة أهل البيت ونسب 
عليا رضي الله عنه إلى الظلم والكفر. وأما أهل السنة: فإنهم سلكوا الطريق الوسط 
فأحبوا أهل البيت وأحبوا الصحابة وحفظ الله تعالى ألسنتهم من الوقيعة في أحد منهم 
إلا بالحمد والثناء عليهم فلله الحمد والمنة والشكر. 


فصل 
في القضاء: 
القضاء يطلق تارة يراد به الأمر المبرم نحو قوله تعالى : «فإذا قَضَى أمراً فإنما 


>” 


لَهُ كُنْ فيَكُونُ 4< '». وتارة يراد به الإعلام بوجوب الحكم الواجب لله كقوله 
0 : «وَقضى رَيْكَ ألا تَعْبُدُوا إلا إياه24». إذ لو كان هذا من القضاء ء المبرم لما 
عبد غيره تعالى إذ يستحيل تخلف الأثر عن مؤثره. وكذا قوله تعالى : :ا ووَمَا خَلَقتْ 
الجن والإنْس إلا لِيَعْبْدُونَ04©. والمراد به الإعلام إذ لو كان قضاء وحكماً مبرماً 
لعبده الكل فنشأ الخلاف لعدم الفرقان. 


فصل 

اعلم : أن الله تعالى قضى فيما قضاه أزلاً أن بعض الأمور يكون منوطاً بالعبد 
موقوفاً عليه في أفعاله وأقواله ما قضاه فقد أمضاه فلا يجوز تغيره ولا يقال: إن الله 
تعالى يغير ما قضاه لأنه تعالى لا يعارض نفسه فيما قضاه. إذ لم يكن عبثاً ولا تبعا 
للشهوات تعالى عن ذلك. وإنما قضى بمقتضى الحكمة وما صدر عن الحكمة فلا 
مغير له. فما قضاه منوطاً بفعل العبد. فكالحرث والنسلء وما قضاه موقوفاً على فعل 
العبد فكالدعاء والاستغفار. 

واعلم : أن الله تعالى أثبت فعل العبد في مواضع نحو قولهٍ تعالى : جَرَاءً بِمَا 
كانوا يَعْمَلون74!». وقوله تعالى : (فاقتلوا الم رِكينَ حَيْتُ وَجذثْمُوهُم04. و بحا 
فى مواضع أخر نحو قوله تعالى : طفَلَمْ تَقتَلُوهُمْ وَلكِنَّ الله قَعَلهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيِت 
وَلكنٌ الله رَمَى76). والحكمة فيه أنه تعالى خالق الأفعال ومقدرها والعبد كاسبها 
ومسبيهاء. فالعبد يعمل العبادة والله تعالى يجازي عليها' ولولا نسبة هذه الأفعال خلقاً 
وكسباً لما سمى عابداً ومعبوداً. فثبت أن العبد عابد كاسب وأن الله تعالى معبود 
خالق. واعلم أن الأفعال قسمان: 


.54 سورة غافر: الآية‎ )١( 
. 57 (؟) سورة الإسراء: الآية‎ 
سورة الذاريات: الآية لاه.‎ )9( 
سورة الواقعة: الآية 4؟.‎ )4( 
.4 سورة التوبة: الآية‎ )6( 

. ١1/ سورة الأنفال: الآية‎ )١( 


35 


أحدهما: قوله ما يقع من العبد وهو الكسب المنسوب إليه ولهذا أنزلث الكتب 
وأرسلت الرسل وثبتت الحاجة إلى العقول لتقوم بها الحجة وتتضح بها المحجة. 

الثاني: ما يقع على العبد جزاء وهو ما بيد الله تعالى ويد العبد. وكلاهما 
لاايكون إلا بما كسبت يد العبد لقوله تعالى : ظوَمًا أصَابْكُمْ مِنْ مُصِيبَِ فبما كَسَبَتْ 
أيدِيكُمْ ويعفو عَنْ كثير4). وما ناسب هذه الآية» فمن فهم هذه الجملة أمكنه أن 
يفقه المراد من كلام الله تعالى فيما هو المضاف إلى العباد. ومثال ذلك : قطم الجلاد 
يد السارق. يصح أن يقال: القاطع هو الجلاد لأنه كاسب. ويصح أن يقال: إن الله 
تعالى هو القاطع بيد الجلاد لأنه تعالى هو المجازي للمقطوع لما بدا منه. ويصح أن 
يقال: إن السارق هو القاطع ليده لأنه هو المبتدىء لما جناه فلا يقع عليه إلا ببعض 
ما كسبت يداه فيكون الفعل الواجد من الرب تعالى جزاءً من المقطوع ابتداءًٌ ومن 
القاطع كسباً ولا يناقض أحد أحداً وأدلته واضحة في الكتاب. ومن فهم هذه الجملة 
حق فهمها لم يخف إلا من نفسه ولم يرج إلا رحمة الله سبحانه وتعالى . قال: أين 
عبد الله كلنا في ذات الله تعالى أحمق. يعني إن نظرنا إلى قضائه نتوهم أن العبد 
معذور فيما يفعل. وإن نظرنا إلى الأمر والنهي وإلى اختيار العبد ربما يظن أن العبد 
سكيد نما يفعلء. بل الحتق فيه أن يعتقد ان العبد غير معن عن الله تعالى فى -سائر 
أفعاله وأقواله, وأحواله, بل هو متقلب في مشيئته وأنه غير مجبور وللامسخر 
كالحيوانات والجمادات, بل هو موفق فى ضمن أسباب السعادة أو مخذول أو مطرود 
في ضمن أسباب الشقاوة . ْ 


فصل 
لو قيل: إن كان للقدرة الحادثة أثر في المقدور فهو شرك خفي. وإن لم يكن 
لها أثر فهو جبر. يقال: إنما يكون شركا إذا كان لها في التخليق أثرء وإنما أثرها في 
الكسب والله تعالى ليس بكاسب حتى يكون شركاً ولولم يكن لها أثر في المقدور لزم 
أن يكون وجودها كعدمها فهو إذا قدير بلا قدرة وهو محال. 


.7١ سورة الشورى: الآية‎ )١١ 


7”/ 


واعلم أن من ظن أن الله تعالى أنزل الكتب وأرسل الرسل وأمر ونهى ووعظ 
وتواعد لغير قادر مختارء فهو مختل المزاج يحتاج إلى علاج ولسبب اختلاف الناس 
في الاستدلال بالقرآن قبل فهمه وقعوا في الجبر والقدر. لأنهم لم يفرقوا بين قدرة 
الخالق القديمة وبين قدرة المخلوق الحادثة والفرق بينهما أن القدرة القديمة مستقلة 
بالخلق ولا مدخل لها في الكسب. وأن القدرة الحادثة مستقلة بالكسب ولا مدخل لها 
في الخلق والظلم إنما ينسب إلى الحادثة. وأما القديمة فمبرأة عنه لقوله تعالى : 
دن اللّهَ لا يَظْلِمُ الئاس شنا وَلكنَ الثاس أنْفْسَهُمْ يَظلِمُونَ04©. 


فصل 

الفرق بين العلم والمعرفة: 

وأما المعرفة: فهي نفس القرب وهو ما أخذ القلب وأثر فيه أثراً يؤثر في 
الجوارح . فالعلم : كرؤية النار مثلً. والمعرفة: كالاصطلاء بها والمعرفة في اللغة: 
هو العلم الذي لا يقبل الشك وفي العرف اسم لعلم تقدمه نكرة. وفي عبارة الصوفية 
المعرفة هو العلم الذي لا يقبل الشك إذا كان المعلوم ذات الله تعالى وصفاته. فإن 
قيل.: ما معرفة الذات وما معرفة الصفات؟ يقال: معرفة الذات أن يعلم أن الله تعالى 
موجود واحد فرد وذات وشيء عظيم قائم بنفسه ولا يشبهه شيء, وأما معرفة 
الصفات: فأن تعرف أن الله تعالى حي عالم قادر سميع بصير إلى غير ذلك من 
الصفات. فإن قيل: ماسر المعرفة؟ يقال: سرها وروحها التوحيد. وذلك بأن تنزه 
حياته وعلمه وقدرته وإرادته وسمعه وبصره وكلامه عن التشبيه بصفات الخلق: ليس 
كمثله شيء. 

فإن قيل: ما علامة المعرفة؟ يقال: حياة القلب مع الله تعالى. أوحى الله تعالى 
إلى داود عليه السلام أتدري ما معرفتي؟ قال: لا . قال: حياة القلب في مشاهدتي . 


فإن قيل: ففي أي مقام تصح المعرفة الحقيقية؟ يقال: في مقام الرؤية 
والمشاهدة بسر القلب. وإنما يرى ليعرف. لأآن المعرفة الحقيقية في باطن الإرادة 
)١(‏ سورة يونس: الآية 48 . 


8 


فيرفع الله تعالى بعض الحجب فيريهم نور ذاته تعالى وصفاته عزَّوجِلٌ من وراء 
الحجاب ليعرفوه تعالى » ولا يرفع الحجب بالكلية لكيلا يحترق الرائي . قال بعضهم 
بلسان الحال: 

ولواني ظهرت بلا حجاب ليتمت االخلائق أجمعينا 


اعلم: أن تجلي العظمة يوجب الخوف والهيبة. وتجلي الحسن والجمال 
يوجب العشق. وتجلى الصفات يوجب المحبة. وتجلى الذات يوجب التوحيد قال 
بعض العارفين : والله عا نال رجل الدنيا إلا أعمى الله قلبه وبطل عليه عمله إن الله 
تعالى خلق الدنيا مظلمة. وجعل الشمس فيها ضياء. وجعل القلوب مظلمة. وجعل 
المعرفة فيها ضياء. فإذا جاءه السحاب ذهب نور الشمس. فكذلك يجيء حب الدنيا 
فيذهب بنور المعرفة من القلب. وقيل: حقيقة المعرفة نور يطرح في قلب المؤمن 
وليس في الخزانة شيء أعز من المعرفة. وقال بعضهم : إن شمس قلب العارف أضواأ 
وأشرق من شمس النهارء لأآن شمس النهار قد تكسف وشمس القلوب لا كسوف لها 
وشمس النهار تغرب بالليل دون شمس القلوب. وأنشدوا في ذلك: 
إن شمس النهار تغرب ليلا غير شمس القلوب لبس تغيب 
من أحب الحبيب طار إليه اشتياقا إلى لقاء الحبيب 
قال ذو النون: حقيقة المعرفة اطلاع الحق على الأسرار بمواصلة لطائف 
الأنوارء وأنشدوا فيه : 
للعارفين قلوب يُعرفون بها نور الإله بسر السر في الحجب 
صم عن الخلق عميُ عن مناظرهم بُكمّ عن الشطق في دعواه بالكذب 
وسثل بعضهم : متى يعرف العبد أنه على تحقيق المعرفة؟ فقال: إذا لم يجد 
في قلبه مكانا لغير ربه. وقال بعضهم: حقيقة المعرفة مشاهدة الحق بلا واسطة 
ولا كيف ولا شبهة. كما سئل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقيل: 
يا أمير المؤمنين أتعبد من ترى أو من لا ترى؟ فقال: لا بل أعبد من أرى لا رؤية 
العيان. ولكن رؤية القلب. وقيل لجعفر الصادق رضي الله عنه: هل رأيت الله 
عر وجل؟ قال: لم أكن لأعبد ربا لم أره. قيل: وكيف رأيته وهو الذي لا تدركه 


519 


الأبصار؟ قال: لم تره الأبصار بمشاهدة العيان. ولكن تراه القلوب بحقائق الإيمان. 
لا يدرك بالحواس ولا يقاس بالناس. 

وسئل بعض العارفين عن حقيقة المعرفة. فقال: تخلية السر عن كل إرادة وترك 
ما عليه العادة وسكون القلب إلى الله تعالى بلا علاقة وترك الالتفات منه إلى ما سواه. 
ولا يمكن معرفة كنه ذاته ولا معرفة كنه صفاته عرٍّ وجل ولا يعرف من هو إلا هو تبارك 
وتعالى والمجد لله وحده. 


فصل 

وأما البصيرة والمكاشفة والمشاهدة والمعاينة: فهي أسماء مترادفة على معنى 
واحد. وإنما تحصل التفرقة في كمال الوضوح لا في أصلهء فمنزلة البصيرة من العقل 
منزلة نور العين من العين» والمعرفة من البصيرة منزلة قرص الشمس لنور العين فتدرك 
بذلك الجليات والخفيات. وأما الحياة: فهي نفس التوحيد. قال الله تعالى : «أو مَنْ 
كَانَ مَيْناْ فأحيَينَاةُ27. وأما اليقين: فاعلم أن الاعتقاد والعلم إذا استوليا على القلب 
ولم يكن لهما معارض أثمرا في القلب المعرفة. فسميت هذه المعرفة يقيناًء لأن 
حقيقة اليقين صفاء العلم المكتسب حتى يصير كالعلم الضروري ويصير القلب 
مشاهدا لجميع ما أخبر عنه الشرع من أمر الدنيا والآخرة. يقال: أيقن الماء إذا صفا 
من كدورته. 

وأما الإلهام: فهو حصول هذه المعرفة بغير سبب ولا اكتساب. بل بإلهام 
من الله تعالى بعد طهارة القلب عن استحسان ما في الكونين. 

وأما الفراسة: فهي التوسم بعلامة من الله تعالى بينه وبين العبد يستدل بها على 
أحكام باطنة. وذلك لا يكون إلا في درجة التقريب وهو دون الإلهام. لأن الإلهام 
لايفتقر إلى علامة والفراسة تفتقر إلى علامة وهو عام وخاص. والله سبحانه وتعالى 


أعلم . 


. ١15؟ةيآلا سورة الأنعام:‎ )١( 


الباب السادس 
في بيان معنى النفس والروح والقلب والعقل 

اعلم أن هذه الأسامي الأربعة مشتركة بين مسميات مختلفة ونحن نشرح من 
معانيها ما يتعلق بغرضنا. 

الأول: لفظ القلب وهو يطلق لمعنيين 

أحدهما: اللحم الصنوبري الشكل المودع في الجانب الأيسر من الصدر وفي 
باطنه تجويف فيه دم أسود وهو منبع الروح الحيواني ومعدنه. 

والمعنى الثاني: هي لطيفة ربانية روحانية لها بهذا القلب الجسماني تعلق 
يضاهي تعلق الأعراض بالأجسام والأوصاف بالموصوفات. وتلك اللطيفة هي حقيقة 
الإنسان المدرك العالم المخاطب المطالب المثاب المعاقب. 

اللفظ الثاني : الروح وهو أيضاً يتعلق بغرضنا لمعنيين. 

أحدهما: جسم لطيف بخاري حامله دم أسود منبعه تجويف القلب الجسماني » 
وينشر بواسطة العروق الضوارب إلى سائر أجزاء البدن وجريانها في البدن وفيضان 
أنوار الحياة» والحس والبصر والسمع والشم منها على أعضائها يضاهي فيضان النور 
من السراج في زوايا البيت. فالحياة: مثالها النور الحاصل في الحيطان والروح مثاله 
السراج. وسريان الزوح وحركته في الباطن مثال حركة السراج في جوانب البيت 
بتحرك محركه فالأطباء إذا أطلقوا لفظ الروح أرادوا به هذا المعنى وهو بخار لطيف 
أنضجته حرارة القلب. 

والمعنى الثاني : هو اللطيفة العالمة المدركة من الإنسان الذي قراخ معيني 
القلب وهو الذي أراده الله تعالى بقوله: وَيسَألُوتكَ عَنِ الروح, قل الروحُ مِنْ أمرٍ 
ربي204. وهو أمر عجيب رباني يعجز أكثر العقول والأفهام عن درك فهم حقيقته. 

اللفظ الثالث: النفس وهو أيضاً مشترك بين معنيين. 


)١(‏ سورة الؤسراء: الآية 6م. 


دن 


أحدهما: أنه يراد به المعنى الجامع لقوتي الغضب والشهوة في الإنسان وهذا 
الاستعمال هو الغالب على الصوفية فهم يريدون بالنفس الأصل الجامع للصفات 
المذمومة من الإنسان فيقولون: لا بد من مجاهدة النفس وكسر شهوتهاء وإليه الإشارة 
بقوله كل : «أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك». 

والمعنى الثاني : اللطيفة التي ذكرناها وهي حقيقة الإنسان ونفسه وذاته. ولكنها 
توصف بأوصاف مختلفة بحسب اختلاف أحوالهاء فإذا سكنت تحت الأمر وزايلها 
الاضطراب بسبب معارضة الشهوات سميت النفس المطمئئة قال تعالى : يا ينها 
النْفْسٌُ المُطْمَئِئةٌ # ارْجعي إلى رَيك04©. والنفس بالمعنى الأول لا يتصور رجوعها 
إلى الله تعالى. فإنها مبعدة عن الله سبحانه وتعالى وهي حزب الشيطانء وإذا لم يتم 
سكونها ولكنها صارت مدافعة للنفس الشهوانية سميت النفس اللوامة. فإذا تركت 
الاعتراض وأذعنت لمقتضى الشهوات ودواعي الشيطان سميت النفس الأمارة بالسوء . 

اللفظ الرابع : العقل والمتعلق بغرضنا منه معنيان. 

أحدهما: أنه يطلق ويراد به العلم بحقائق الأمور. فيكون عبارة عن صفة العلم 
الذي محله خزانة القلب. 

والثاني : قد يطلق ويراد به المدرك للعلوم. فيكون هو القلب أعني تلك اللطيفة 
التي هي حقيقة اللإنسان وحيث ورد في القرآن والسنة ذكر القلب فالمراد به المعنى 
الذي يفقه من الإنسان ويعرف حقيقة الأشياء. وقد يكنى عنه بالقلب الجسمانى الذي 
في الصدر لأن بينه وبين تلك اللطيفة العالمة التي هي حقيقة الإنسان علاقة خاصة لأن 
تعلقها بسائر البدن إنما هو بواسطته فهو مملكتها ومطيتها والمجرى الآول لتدبيرها 
وتصرفها. فالقلب الجسماني والصدر بالنسبة إلى الإنسان كالعرش والكرسي بالنسبة 
إلى الله تعالى من وجه. 
في بيان جنود القلب: 0 


اعلم : أن لله تعالى في القلب والأرواح وغيرها من العوالم جنوداً مجندة لا يعلم 


)١(‏ سورة الفجر: الآيتان /اا و58؟. 


نض 


حقيقتها وتفصيل عددها إلا الله تعالى. ونحن الآن نشير إلى بعض جنود القلب وهو 
الذي يتعلق بغرضنا. فاعلم أن له جندين جند يرى بالإبصار وجند لا يرى إلا 
بالبصائر, فالقلب في حكم الملك. والجنود في حكم الخدم والأعوان. 

فأما جنوده المشاهدة بالبصر فهي اليد والرجل والأذن والعين واللسان فجملة 
جنود القلب تحصره ثلاثة أصناف: 

الصنف الأول: باعث مستحث إلى جلب الموافق النافم كالشهوة وإما إلى دفع 
المخالف الضار كالغضب وقد يعبر عن هذا الباعث بالإرادة. 

الصنف الثاني: هو المحرك للأعضاء إلى تحصيل هذه المقاصد وقد يعبر عنه 
بالقدرة وهي جنود مبثوثة في سائر الأعضاء . 

الصنف الثالث: هو المدرك المعرف بهذه الأشياء كالجواسيس وهو قوة السمع 
والبصر والشم والذوق واللمس وهي مبثوثة في الأعضاء الظاهرة المركبة من اللحم 
والشحم والعصب والدم والعظم التي أعدت آلات لهذه الجنود. ويعبر عن عمل هذا 
الصنف بالعلم والإدراك. وهذا الصنف الثالث هو المدرك من هذه الجملة؛ وينقسم 
إلى ما أسكن المنازل الظاهرة وهي الحواس الخمس. أعني السمع والبصر والشم 
والذوق واللمس. وإلى ما أسكن منازل باطنة وهي تجاويف الدماغ وهي أيضا 
خمسة: حس مشترك وتخيل وتفكر وتذكر وحفظ. 

فأما الحس المشترك فيرتسم فيها صورة ما أدته إليها الحواس الظاهرة مما أدركته 
كما ترسم الصورة في المرآة ومحل تصرفها مقدم البطن الأول من الدماغ . 

القوة الثانية: الخيال وهي خزانة الحس المشترك يخزن فيها ما ارتسم فيه 
لتحفظها له إلى وقت حاجته إليه. فإن له قوة القبول وليس له قوة الحفظ والخيال له 
قوة الحفظ وليس له قوة القبول ومحل تصرف الخيال مؤخر البطن من الدماغ . 

القوة الثالثة: الوهم موضع تصرفه مقدم البطن المؤخر من الدماغ. لأن تصرفه 
هو المعاني الجزئية المتنوعة من الصور المخزونة في الخيال فكانت بعدها في الرتبة 
لتقلييها منه . 

القوة الرابعة: الحافظة ومحل تصرفها مؤخر البطن المؤخر من الدماغ يلي محل 
تصرف الوهم لأنها خزانته . 

5 


القوة الخامسة : المتصرفة ومحل تصرفها في وسط الدماغ, لأنها أشرف القوى 
ولأنها تأخذ من الخيال في حال دون حال وتعطيه أيضاً في حال دون حال في النوم 
واليقظة. وتعطى الحافظة وتطلب منها عند النسيان فكان الأليق بها أن تكون بين 
الحرارتين شيل عليها أخذها منهما وإعطاؤها إياهما والله أعلم . 


وإنما افتقر القلب إلى هذه الجنود من حيث افتقاره إلى المركب والزاد لسفره 
إلى الله تعالى وقطع المنازل إلى لقائه الذي لأجله خلق وإنما مركبه البدن. وإنما زاده 
العلم والعمل وليس يمكن أن يصل العبد إلى الله تعالى ما لم يسكن البدن وتجاوز 
الدنيا ليتزود منها للمنزل الأقصى فافتقر إلى تعهد بدنه بأن يجلب إليه ما يوافقه من 
الغذاء وغيره وأن يدفع عنه ما يؤذيهء ويمكن منه أسباب الهلاك فافتقر لأجل الغذاء 
إلى جندين: باطن وهو الشهوة. وظاهر وهو الأعضاء الحالبة للغذاء فخلق في القلب 
من الشهوات ما احتاج إليه وخلقت الأعضاء التي هي آلات الشهوة وافتقر لأجل دفع 
المهلكات إلى جندين: باطن., وهو الغضب, الذي يدفع المهلكات وينتقم من 
الأعداء. وظاهر وهي اليد والرجل والأسلحة التي بها تعمل بمقتضى الغضب ثم 
المحتاج إلى الغذاء إذا لم يعرف الغذاء, لا تنفعه شهوة معرفة الغذاء وآلته فافتقر في 
المعرفة إلى جندين باطن: وهو إدراك السمع والبصر والشم والذوق واللمس» 
وظاهر: وهو العين والأذن والأنف وغيرها وتفصيل الحاجة إليها ووجه الحكمة فيها 
يطول ولا تحويه مجلدات كثيرة» فسبحان الكريم الحليم . 


فصل 

اعلم: أن القسمة ثلاثة: الجسم والعرضض والجوهر الفرد. فالروح الحيواني 
جسم لطيف كأنه سراج مشعل» والحياة هو السراج والدم دهنه والحس والحركة نوره. 
والشهوة حرارته. والغضب دخانه. والقوة الطالبة للغذاء الساكنة فى الكبد خادمه 
وحارسه ووكيله. وهذا الروح يوجد عند جميع الحيوانات» لأنه مشترك بين البهائم 
وسائر الحيوانات والإنسان هو جسم وآثاره أعراضء وهذا الروح لا يهتدي إلى 
العلم. ولا يعرف طريق المصنوع ولا حق الصانع. وإنما هو خادم أسير يموت البدن 
لويزيد دهن الدم وينطفىء لزيادة الحرارة ولو ينقص ينطفىء بزيادة البرودةء وانطفاؤه 


3 


سبب موت البدن وليس خطاب البارىء جلت عظمته وتكليف الشارع عليه الصّلاة 
والسلام لهذا الروح؛ لأن البهائم وسائر الحيوانات غير مكلفين ولا مخاطبين بأحكام 
الشرع , والإنسان إنما يكلف ويخاطب لأجل معنى آخر وجد عنده زائدا خاصا وذلك 
المعنى هو النفس الناطقة والروح اللطيفة. وهذا الروح ليس بجسم ولا عرض. لأنه 
من أمر الله تعالى كما أخبر بقوله: 9وَيَسأَلُونَكَ عَن الرّوح قل الرُوحُ مِنْ أمْرٍ 
ربي204. وأمر الله تعالى ليس بجسم ولا عرض» بل هو جوهر ثابت دائم لايقبل 
الفساد ولا يضمحل ولا يفنى ولا يموت. بل يفارق البدن وينتظر العود إليه يوم القيامة 
كما ورد به الشرع. وهذا الروح يتولد منه صلاح البدن وفساده والروح الحيواني 
وجميع القوى كلها من جنوده. فإذا فارق الروح الحيواني البدن. تعطل أحوال القوى 
الحيوانية فيسكن المتحرك؛, فيقال لذلك السكون موت. وإن كان الروح من أمر الله 
تعالى في البدن ؟الغريب» فاعلم أنه لا يحل في محل ولا يسكن في مكان وليس 
البدن مكان الروح ولا محل القلب. بل البدن آلة الروح والله أعلم . 


في بيان المعنى المراد من قوله تعالى: «فإذًا سَوَيتهُ وَنَفَخْتَ فيهِ من روحي 
فَقَعُوا لَهُ سَاحِدِينَ74' . قال رحمه الله تعالى ورضي عنه: 

أما التسوية: فهي عبارة عن فعل في المحل القابل للروح وهو الطين في حق 
آدم عليه السلام» والنطفة في حق أولاده بالتصفية وتعديل المزاج والتردد في أطوار 
الخلقة إلى الغاية حتى ينتهي في الصفاء ومناسبة الأجزاء إلى الغاية فيستعد لقبول 

وأما النفخ : فهو عبارة عن اشتعال نور الروح في المحل القابل» فالنفخ سبب 
الاشتعال وصورة النفخ سَ حق الله تعالى محال؛, والسبب غير محال فعبر عن نتيجة 
النفخ بالنفخ وهو الاشتعال في فتيلة النطفة. وللنفخ صورة ونتيجة . 

وأما صورته: فهو إخراج هواء من جوف النافخ إلى جوف المنفوخ فيه وهو 
)١(‏ سورة الإسراء.. الآية6م. 
(؟) سورة الحجر: الآية94؟ . 


اا 


فتيلة النطفة ‏ فيشتعل فيها. وأما السبب الذي اشتعل به نور الروح فهو صفة في 
الفاعل وصفة في المحل القابل» وأما صفة الفاعل فالجود الذي هو ينبوع الوجود وهو 
فياض بذاته على كل موجود حقيقة وجوده ويعبر عن تلك الصفة بالقدرة. ومثالها 
فيضان نور الشمس على كل قابل الاستنارة عند ارتفاع الحجاب بينهماء والقابل هو 
الملونات دون الهواء الذي لا لون له. وأما صفة القابل فالاستواء واعتدال الحاصل في 
التسوية كما قال تعالى «فإذا سويته» . 


ومثال صفة القابل: صفات المرآة فإن المرآة قبل صقالتها لا تقبل الصورة وإن 
كانت محاذية لهاء فإذا صقلت حدثت فيها صورة من ذي الصورة المحاذية لها 
الاستواء الآن لا قبله . 

وأما فيضان الجودء فالمراد به أن الجود الإلهي سبب لحدوث أنوار الوجود فى 
كل ماهية قابلة للجود فعبر عنه بالفيض لا كما يفهم من فيض الماء من الإناء على اليد 
فإن ذلك عبارة عن انفصال جرزء مما في الإناء واتصاله باليدى فإن الله سبحانه يتعالى 
عن مثل هذا. 


وأما كشف معنى ماهية الروح ومعرفة حقيقتها فهو من السر الذي لم يؤذن 
لرسول الله يك في كشفه لمن ليس من أهله فإن كنت من أهله فاسمع. واعلم أن 
الروح ليس بجسم يحل في البدن حلول الماء في الإناء. ولا هوعرض يحل في القلب 
أو الدماغ حلول السواد في الأسود والعلم في العالم. بل هو جوهر لا يتجزأ باتفاق 
أهل البصائر. لأنه لوانقسم لجاز أن يقوم بجزء منه العلم بالشيء وبجزء آخر منه 
الجهل بذلك الشيء بعينه فيكون في حالة واحدة عالما بشيء وجاهلاً به وذلك 
محال. فدل بذلك على أنه واحد لا ينقسم . 

فإن قيل: لم منع رسول الله كه إفشاء سر الروح وكشف حقيقته؟ فيقال: لأنه 
تتصف بصفات لا تحملها الأفهام إذ الناس قسمان عوام وخواص أما من غلب على 
طبعه العامية فإنه لا يصدق بما هو وصف الروح أن يكون وصفاً لله تعالى» فكيف 
يصدق به في وصف الروح الإنساني؟ وكذلك أنكرت الكرامية والحنبلية وغيرهم ممن 


كا 


غلبت عليهم العامية بتنزيه الإإله تعالى عن الجسمية وعوارضها إذ لا يعقلون موجوداً 
إلا متجسما مشارا إليه. ومن ترقى عن العامية قليلا نفى الجسمية عن الإله تعالى . 
وما أطلق أن ينفي عوارض الجسمية عنه. فأثبت الجهة وترقى عن هذه العامية 
الأضعرية والمعتزلة فنزهوا الإله تعالى عن الجسمية والجهة. 

فإن قيل: لم لا يجوز كشف هذا السر مع هؤلاء؟ فيقال: لأنهم أحالوا أن تكون 
هذه الصفة لغير الله تعالى. فإذا ذكرت هذا معهم كفروك. وقالوا: هذا تشبيه لأنك, 
تصف نفسك بما هو صفة الإله تعالى على الخصوص وذلك جهل بأخص أوصاف الله 
تعالى . 

فإن قلنا: إن الإنسان حي عالم قادر مريد سميع بصير متكلم والله تعالى كذلك 
ليس فيه تشبيه لأن هذه الصفات ليست أخص أوصاف الله تعالى. فكذلك البراءة عن 
المكان والجهة ليست أخص وصف الإله تعالى. بل أخص وصفه تعالى أنه قيوم أي 
قائم بذاته وكل ما سواه قائم به وهو موجود بذاته لا بغيره وليس للأشياء من أنفسها إلا 
العدم وإنما لها الوجود من غيرها على سبيل العارية فالوجود لله تعالى ذاتي ليس 
بمستعار وما سواه فوجوده منه تعالى لامن نفسه وهذه القيومية ليست إلا لله تعالى . 

فإن قيل: مامعنى نسبة الروح إلى الله تعالى في قوله: طوِلَفْحْتُ فيه مِنْ 
روحي 2304 , فاعلم أن الروح منزهة عن الجهة والمكان وفي قوتها العلم بجميع 
المعلومات والاطلاع عليها. فهذه مضاهاة ومئاسبة ليست لغيره من الجسمانيات» 
فلذلك اختصت بالإضافة إلى الله تعالى . 

فإن قيل: فما معنى قوله: طقل الرُّوحٌ مِنْ أمرٍ رَبّي)»7". ومامعنى عالم 
الأمر وعالم الخلق؟ فيقال: إن كل مايقع عليه مساحة وتقدير فهو الأجسام 
والإحداث.. يقال: خلق الشيء أي قدره وكل مالا كمية له ولا تقدير. يقال: إنه أمر 
رباني وتلك المضاهاة التي ذكرناهاء فكل ما هو من هذا الجنس من أرواح البشرية 
وأرواح الملائكة يقال: إنه من عالم الأمر وعالم الأمر عبارة عن الموجودات الخارجة 


)١(‏ سورة الحجر: الآية9؟. 
(١‏ سورة الرسراء : الآية6م. 


7 


عن الحس والخيال والجهة والمكان والتحيز والدخول تحت المساحة والتقدير لانتفاء 
الكمية عنه . 


فإن قيل: فهذا يوهم أن الروح قديم ليس بمخلوق. فيقال: قد توهم هذا قوم 
جهال ضلال؛ فمن قال إنه ليس بمخلوق بمعنى أنه غير مقدر بكمية لأنه لا يتجزأ 
ولا يتحيز فهو مصيب إلا أنه مخلوق بمعنى أنه حادث وليس بقديم» لآن حدوث 
الروح البشرية متوقف على استعداد النطفة كما حدثت الصورة في المرآة بحدوث 
الصقالة وإن كان ذو الصورة سابق الوجود على الصقالة . 

فإن قبيل: مامعنى قول النبي ذَلِةِ : إن الله تعالى خلى آدم على صورته» 
وروي «على صورة الرحمن» فيقال: إن الصورة اسم مشترك قد يطلق على ترتيب 
الأشكال ووضع بعضها على بعض واختلاف تركيبها وهي الصورة المحسوسة. وقد 
يطلق على ترتيب المعاني الني ليست محسوسة وللمعاني أيضاً تركيب وترتيب 
وتناسب يسمى ذلك صورة. يقال: صورة المسألة كذا وصورة الواقعة كذا وصورة 
العلوم الجسمانية والعقلية كذاء فالمسألة بالصورة المذكورة هي الصورة المعقولة 
المعنوية والإشارة إلى المضاهاة التي ذكرناهاء ويرجع ذلك إلى الذات والصفات 
والأفعال وحقيقة ذات الروح أنه قائم بنفسه ليس بعرض ولا جسم ولا جوهر متحيز 
ولا يحل المكان والجهة. ولا هو متصل بالبدن والعالم. ولا هو منفصل. ولا هو 
داخل البدن والعالم ولا هو خارج . وهذا كله صفات ذات الله تعالى . وأما الصفات: 
فقد خلق حياً عالما قادراً مريداً سميعاً بصيرا متكلماً والله تعالى كذلك . وأما الأفعال: 
فمبدأ فعل الآدمي إرادة يظهر أثرها أولا في القلب فينتشر منه أثر بواسطة الروح 
الحيواني الذي هو بخار لطيف في نجويف ولتضاعد إلى الدماغ. ثم يسري منه أثر 
إلى الأعضاء إلى أن تصلى الآثار إلى الأصابع مثلا فتتحرك فيتحرك بالأصابع القلم 
وبالقلم المداد. فيحدث منه صورة ما يريد كتبه على القرطاس في خزانة التخيل» فإنه 
ما لم يتصور في خياله صورة المكتوب أولاً لا يمكن إحدائه على البياض . ثانياً فمن 
استقرأ أفعال الله تعالى وكيفية إحداث الحيوان والنبات على الأرض بواسطة تحريك 
الكواكب والسموات بواسطة الملائكة علم أن تصرف الآدمي في عالمه يشبه تصرف 
الخالق سبحانه في العالم الأكبر. فحيئئذٍ يعرف معنى قوله ككل : «إن الله تعالى خلق 
آدم عليه السّلامم على صورته». 


ل 


فإن قيل: فإذا كانت الأرواح حادثة مع الأجساد فما معنى قوله عليه الصلاة 
والسلام : «خلق الله تعالى الأدواح, قبل خلق الأجساد بألفي عام». وقوله: «أنا أول 
الأنبياء خلقا وآخرهم بعذاً وكنت نبياً وآدم بين الماء والطين»؟ فاعلم أن شيئاً من ذلك 
لاايدل على قدم الروح لكن قوله: «أنا أول الأنبياء خلقاء . ربما دل بظاهره على تقدم 
وجوده على جسده وغير الظاهر متعين. فإن تأويله ممكن والبرهان القاطع لايدرأ 
بالظاهر بل ليسلط على تأويل الظاهر. كما في ظواهر التشبيه في حق الله تعالى . 

فأما قوله: «خلق الله تعالى الأرواح قبل الأجساد بألفي عام» أراد بالأروا اح أرواح 
الملائكة. والأجساد أجساد العالم من العرش والكرسي والسموات والكواكب والهواء 
والماء والأرض . 

وأما قوله : «أنا أول الأنبياء خلقأ» فالخلق ها هنا بمعنى التقدير دون الإيجاد 
فإنه كلِِ قبل أن تلده أمه لم يكن موجودا مخلوقاً. ولكن الغايات والكمالات سابقة في 
التقدير لاحقة في الوجود. فإن الله تعالى يقدر أولاً أي يرسم في اللوح المحفوظ 
الأمور الإلهية على وفق علمه تعالى. فإذا فهمت نوعي الوجود فقد كان عليه الصلاة 
والسّلام قبل وجود آدم عليه السّلام أعني الوجود الأول التقديري دون الوجود الحسي 
العيني . هذا آخر الكلام في معنى الروح والله أعلم. 


الباب السابع 
في بيان معنى المحبة 

اعلم : أن المحبة ميراث التوحيد والمعرفة وكل مقام وحال قبلها فلها يرد ومنها 
يستفاد. وأما المعرفة الخاصة بها: فكل ما يتعلق بذات الله تعالى وصفاته من سلب 
نقص وإثبات كمال وهي واجبة بالكتاب والسنة وإجماع الأمة. وإنما وقع الخلاف في 
حقيقتها ومعناها وليس للمحبة معنى غير الميل إلى اللذيذ الموافق. واعلم أن 
معرفة الله تعالى بنفسها ذكر الله تعالى. لأنها حضور معه وشهود له ومن علامته في 
بدايته اللوائح والطوالع واللوامع والبروق. وهذه ألفاظ متقاربة المعاني والفرق بين 
البرق والوجد أن البرق إذن في دخول طريق التوحيد والوجد يصحبك فيها فإذا دام 
صار ذوقا. 


ل 


وأما الذوق: فهو استحلاء وشوب لما شاهدت من ضياء البرق . وأما اللحظ فهو 
اسم يعبر به عن رؤية الحق تعالى بالقلب. كما قال عليه الصلاة والسّلام9©: 
«اعبد الله كأنك تراه» وأما الوقت: فهو اسم ظرف للكائن فيه من الأحوال فوقت العبد 
ماهو فيه. وأما الصفاء: فهو اسم للبراءة من الكدر. وأما النفس : فهو تنفس العبد 
لعجزه عن حمل الأحوال الواردة عليه إما صعداً وإما تلفظأ بكلام أو إشارة مما هو فيه, 
لأن العبد ما دام حياً لا بدّ أن يتروح بدخول النفس وخروجه فإذا قوي النفمس أدى إلى 
الغرق: وأما الغرق: فهو عدم القدرة على النفس لكظمه فهو غير متنفس ولا غائب 
فإذا قوي عليه دخل في الغيبة. وأما الغيبة: فهي اسم للذهول عن المهمات بما هو 
أهم منها. وأما السكر: فهو اسم يشار به إلى سقوط التمالك في الطرب فإذا لحقته 
العناية أصحاه ليزيده علماء لأن السكران لا يرتقي بالمسكر في الحق والصحو إنما هو 
بالحق . أما السكر في الحق: فهو النظر إلى صفاته والتنهم بما يرد عليه منه والتلذذ 
به. وأما الصحو بالله تعالى : فهو أن يتبرأ من نفسه ومن التذاذه وأحواله فإذا منح بعد 
ذلك بشهود الذات كوصف بالقيومية وهي صفات الألوهية فافتنه عما سوى معبوده ثم 
فني عن فنائه. وأما الفناء: فحقيقته في الحس تلاشي الأجسام والأعراض وذهابها 
بالكلية . 

ولما كان كل ما سوى الله تعالى موجوداً بالله وقائماً به لا بنفسه كان وجوده 
مجازاً وكان القائم بنفسه المقيم لغيره وجوده ثابتاً حقيقياً استعير لمن أكرم بهذه 
المعرفة لفظ المناء لتلاشي الموجودات في عين قلبه حيث شهد الكل مع القدرة. 
كالطفل لا حكم له في الفعل. فإذا أيد هذا العبد وكمل رقاه إلى مقام البقاء. لأنه إذا 
لم يبِقّ في القلب التفات إلى غير الله تعالى لدوام الشغل به عبر عن هذه الحالة بالبقاء 
مع الله بالله تعالى. والوجود والبقاء اسمان مترادفان على معنى واحد. فالوجود اسم 
للظفر بحقيقة الشيء, والبقاء هو أجل الحقائق التي يقصد الظفر بها. وكذلك مقام 
الجمع . قال بعض السادة: الجمع ما أسقط التفرقة وقطع الإوشارة ومعناه أن يكون 
مذكوراً بالله تعالى ومذكوراً منه تعالى والحمد لله وحده. 


)١(‏ في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه في بيان الإسلام . والإيمان, والإحسان: أن 
رسول الله يق قال ردا على سؤال جبريل عليه السّلام عن الإحسان : «وأن تعبد الله كأنك تراه 
فإن لم تكن تراه فإنه يراك». 


الباب الثامن 
في بيان معنى الأنس بالله تعالى 

اعلم: أن من أجل مواريث المحبة الأنس. أما حقيقة الأنس: فهو استبشار 
القلب وفرحه لما انكشف له من قرب الله تعالى وجماله وكماله. وقال بعضهم: حقيقة 
القرب فقد حس الأشياء من القلب وهدوء الضمير إلى الله تعالى . 

قلت: وهذا هو الوسيلة لنيل القرب لا نفس القرب. لأن هذا هو طهور القلب 
عما سوى الله تعالى وإذا تطهر القلب عما سوى الله تعالى كان حاضراً مع العبد. لأنه 
ليس بين العبد وبين الله إلا حجاب نفسه وعوارضها. فإذا فني عنها وعن عوارضها 
وعلم قيام العالم كله بقدرة الله تعالى عرف قرب الله تعالى بها كشفا وإرادته تخصيصا 
وقدرته إيجادا وإبقاء والصفات التى لا تفارق الموصوف بل صفاته قائمة بالموصوف. 
فإذا نطق العارف فلا ينطق بنفسه, وإذا سمع فلا يسمع بنفسه. وهكذا ورد في 
الحديث فالعارفون تنشأ أحوالهم عن قرب الله تعالى . وأما الأبرار: فتنشأ أحوالهم عن 
ملاحظة علمهم بوجود الرب مطلقا مع العلم باقتداره على المنع والعطاء والإسعاد 
والإشقاء. والعارفون يرون ربهم في الدنيا بعين الإيقان والبصائر. وفي الأخرى 
بالإبصار أي بالعين قريب منهم في الدارين وليس قربه منهم في الأخرى مخالفاً لقربه 
في الدنيا إلا بمزيد اللطف والعطف. وإلا فقد ارتفع هنا وهناك قرب المسافة ولم يكن 
بينه وبين مخلوق إضافة لا في الدنيا ولا في الآخرة البتة, وهذه المعرفة مثمرة الأنس 
بشرط الصفاء والأنس يثمر السكينة فهى صولة تعدل طغيان القلب وتثبته وتوقفه على 
حد الاعتدال فى آداب الحضرة. لان لذة القرب فى الأنس تطير ألباب العارفين 
وتوجب لهم الطغيان, لأن الإنسان7' يطغى عند الغنى . 

وأما الطمأنينة: فهي وجود من بعد اعتدال بفرح واستبشار لمعرفة القلب بالمزيد 
وهي مستصحبة مع الأنس لأنها مقصودة في ذاتهاء والسكينة وسيلة تحثها على الأدب 
والاعتدال. ومن ثمرات المحبة: الانبساط والإدلال وذلك أن الأنس إذا دام أنسه 
واستحكم ولم يشوشه قلق القلب لقصور نظره على طيب حاله أثمر ذلك انبساطاً في 


. قال تعالى: طإن الإنسان ليطفى أن رآه استغنى»‎ )١( 


١ 


الأقوال والأفعال والمناجاة» فلا يليق ذلك بحال التعظيم والإجلال الموجبان للمهابة؛ 
فإنه يليق بالمستأنس المنبسط مالا يليق بالهائب. وذلك أن من أفعال الله الجائزة له 
أن يرضى على قوم بفعلهم ويغضب به على آخرين لاختلاف أحوالهم وللحكمة 
السابقة فيهم » ولذلك كار على كلاه أن يسمعه إلا لأهل خاصته . قال الله تعالى : 
وِوَجَعَلنَا عَلَى قُلُوبهمْ أكنة أنْ يَفْقَهُوهُ وَني آذَانِهِم وقرابه2©7. وعبر عن ار في 
ذلك . فقال: لِوَلْو عَلِمَ الله فيهم خَيِراً لاسْمَمَهُم 274 . وهذا حجاب الغيرة فحقيقتها 
حفظ الوقت مع الحق أن يشوشه مشوش شحاً عليه ومن ثمرات المحية الشوق وهو 
أفضل من الأنس., لأن الأنس قصر نظره على ما اتكشف له من جمال المحبوب 
ولم يمتد نظره إلى ما غاب عنه والمشتاق كالعطشان الذي لا ترويه البحار لمعرفته بأن 
الذي انكشف له من الأمور الإلهية بالنسبة إلى ما غاب عنه كالذرة بالنسبة إلى سعة 
الوجود ولله المثل الأعلى . وهذه المعرفة توجب الانزعاج والقلق والتعطش الدائم. 
لأن حقيقة القلق سرعة الحركة لنيل المطلوب مع إسقاط الصبرء وحقيقة التعطش شدة 
الطلب لما تأكدت الحاجة إليه. ومن اشتد قلقه وتعطشه وجد وحقيقة الوجد هو الشوق 
الغالب على قلب الطالب». وهذا الوجد بعد حصوله له أحوال: 

الأول: الدهش. قال الله تعالى : طِفَلَمًا رَابنَهُ أكْبَرْنَهُ وَقَطَعْنَ أَيِدِيهُنٌ24©. 
وحقيقة الدهش غيبة القلب عن إحساسه لما فاجأه من الأمر العظيم . 

الثاني : الهيمان إذا سكن قليلا وتكرر طروقه صار القلب متعجباً متحيراً من 
حسنه وبهائه وهذا هو الهيمان لأن حقيقة الهيمان ذهاب التماسك تعجبا وتحيرا وهو 
أثبت دواماً. 

الثالث: أنسه وتمكينه منه حتى كأنه لم يدخل عليه داخل ولم يطرقه طارق وهذا 
هو التمكين. 

قال الشيخ رحمه الله: التمكين إشارة إلى غاية الاستقرارء وذلك أن أي حالة 
وجدها المحب مع الله مرة تقوى عليه. ومرة يقوى عليهاء ومرة يتلون. ومرة يثبت إلى 


. 1١ سورة الإسراء: الأية‎ )١( 
. 7 (؟) سورة الأنفال: الآية‎ 
"١ سورة يوسف: الآية‎ )5 


5 


أن يتمكن فيستقرء وهذا جار في كل حالء فإذا استقر ارتقى إلى غيره ليكون المرتقى 
إليه حالاً والمرتقى عنه مقاماً والله أعلم . 


واعلم : أن هذه الأحوال إن وجدها العبد في الملأ دون الخلاء فهو معول يجب 
عليه المحاسبة ومطالبة نفسه بالعلامات. وإن وجدها في الخلاء دون الملأ فهو حسن 
ولكنه ناقص عن ذروة الكمال إذ الكمال استواء الحالات خلاء وملاء وحضراً وسفراً 
وفراغاً وشغلاً. لأن الفراغ شرط في البداية لافي النهاية. وأما حد الواجب من 
المحبة : فهو الميل المسبب عن نفس الاعتقاد بأصول الإيمان فيما يتعلق بذات الله 
وصفاته. فإن جهل أصلاً من الأصول نقصت المحبة بقدره وكان عليه إثمان: إثم 
الجهل وإثم فقد ثمرته. وأما حقيقة الإيمان: فهو حضورر القلب مع الله تعالى وشهوده 
الآثار الدالة على وجوده. والله تعالى أعلم وقد قيل: 


الانس باله لا يحويه بطال وليس يدركه بالحول محتالٌ 
والآأنسون رجالٌ كلهم نبب وكلهم صفوة لله عمال 

ومن غلب عليه حال الأنس لم تكن له شهرة إلا الانفراد والخلوة. وقال 
الواسطي : لا يصل إلى محل الأنس من لم يستوحش من الأكوان كلها. وقال 
أبو الحسين الوراق : لا يكون الأنس بالله إلا ومعه التعظيم . لآن كل من استأنست به 
بنفط عن قلبك: ميمه إل اه تعاتي؟ فإنك لن تزيد به أنسأً إلا ازددت منه هيبة 
وتعظيماً. 

وقد يكون الآنس. الأنس بطاعة الله وذكره وئلاوة كلامه وسائر أبواب القربات. 
وهذا القدر من الانس نعمة من الله تعالى رمق رولك ليش بهو اك الانين الذي 
يكون للمحبين» والأنس حال شريف يكون عند طهارة الباطن وكنسه بصدق الزهد 
وكمال التقوى وقطع الأسباب والعلائق ومحو الخواطر والهواجس. وحقيقته عندي 
كنس الوجود بثقل لائح العظمة وانتشار الروح في ميادين الفتوح وله استقلال بنفسه 
يشتمل على القرب فيجمعه به عن الهيبة وفي الهيبة اجتماع الروح وهذا الوصف أنس 
الذات. وهيبة الذات يكون في مقام البقاء بعد العبور على ممر الفناء وهما غير الأنس 
والهيبة اللذان يذهبان بوجود الفناء. لأن الهيبة والأنس قبل الفناء ظهرا من مطالعة 
الصفات من الجلال والجمال وذاك مقام التلوين.» وماذكرنا بعد الفناء في مقام 


و 


التمكين والبقاء من مطالعة الذات ومن الانس خضوع النفس المطمثنة ومن الهيبة 
خشوعهاء والخضوع والخشوع يتقاربان ويفترقان بفرق لطيف يدرك بإيماء الروح والله 


تعالى أعلم . 


الباب التاسع 
في بيان معنى الحياء والمراقبة 
ويضاف إليهما الإحسان لأنه غايتهما وكذلك الرعاية 
والحرمة والأدب لأنهن من ثمراتهما 

اعلم : أن الحياء أول مقام من مقامات المقربين كما أن التوبة أول مقام من 
مقامات المتقين. أما العلم الحامل على الحياء: فهو علم العبد باطّلاع الله تعالى 
عليه. وهذا واجب. لأنه من الإيمان بالله ولله تعالى. وكذا معرفته بعيوب نفسه 
وقصورها عن القيام بحق ربه سبحانه وتعالى وهذا أيضاً واجب. لأنه من الإيمان لله 
تعالى فينفتح من هاتين المعرفتين حال يسمى الحياء وهو إطراق عين القلب خجلا 
من الله تعالى كتقصيره فى واجب حقه تعالى » والقدر الواجب من هذه الحالة ما يبحث 
على ترك المحظورات وفعل الواجبات. وأما المراقبة والإحسان: فهما لفظان 
متداخلان على معنى واحد. فأما ثمرة بداية المراقبة فهو رعاية الخواطر وكشف 
ماالتبس منها والأدب مع الله تعالى بحرمة مراقبته والحياء على الوصف العام 
الخاص. وأما الوصف العام ما أمر به رسول الله كدِ في قوله: «استحيوا من الله حق 
الحياء قالوا: إنا نستحبي يا رسول الله قال ليس ذلك ولكن من استحيا من الله حق 
الحياء فليحفظ الرأس وماوعى والبطن وما حوى وليذكر الموت واليلى. ومن أراد 
الآخرة ترك زينة الدنيا فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء». وهذا الحياء 
من المقامات. وأما الحياء الخاص من الأحوال وهو مانقل عن عثمان بن عفان 
رضي الله عنه أنه قال: إني لأغتسل فيٍ البيت المظلم فأنطوي حياء من الله عزّ وجل . 
وعن أحمد بن صالح قال: سمعت محمد بن عبدون يقول: سمعت أبا العباس 
المؤذن يقول: قال لي سري: احفظ عني ما أقول لك إن الحياء والأنس يطوفان 
بالقلوب. فإذا وجدا قلباً فيه الزهد والورع حطا وإلً رحلاء والحياء إطراق الروح 


ىآ 


إجلالاً لتعظيم الجلال, والأنس التذاذ الروح بكمال الجمال, فإذا اجتمعا فهو الغاية 
في المنى والنهاية العظمى . 

قال بعض الحكماء: من تكلم في الحياء ولا يستحبي من الله عر وجل فيما 
يتكلم به فهو مستدرج. وقال ذو النون: الحياء وجود الهيبة في القلب مع حشمة 
ماسبق منك إلى ربك. قال ابن عطاء: العلم الأكبر: الهيبة والحياء فإذا ذهب عنه 
الهيبة والحياء فلا خير فيه. قال سليمان: إن العباد عملوا على أربع درجات على 
الخوف والرجاء والتعظيم والحياء؛ وأشرفهم منزلة من عمل على الحياء لما أيقن 
أن الله تعالى يراه على كل حال استحيا من حسناته أكثر مما استحيا العاصون من 
سيئاتهم . وقال بعضهم: الغالب على قلوب المستحيين الإجلال والتعظيم دائماً عند 
نظر الله تعالى إليهم. وأنشد الشيخ أبو النجيب السهروردي : 

أشتاقه فاإذا ‏ بدا أطرقت من إجلاله 

الموتٌ في إدباره والعيش في إقبالهِ 

وأصد عنه تجلداا وروم طيفا خياله 


والمراقبة على درجتين مراقبة الصديقين ومراقبة أصحاب اليمين. أما الدرجة 
الأولى : فهي مراقبة المقربين من الصديقين وهي مراقبة التعظيم والإجلال» وهو أن 
يكون التذب متترفا ببالاحظة ذلك الجملال ومتكتبرا تديت الهية :قا يلي لمعتسم 
للالتفاتات إلى الغير أصلاء وهذه المراقبة لا يطول النظر في تفصيل ثوابها فإنها 
مقصورة على القلب . أما الجوارح: فإنها تتعطل عن الالتفات إلى المناجاة فضلاً عن 
المنظورات., فإذا تحركت بالطاعات كانت كالمستعملة فلا يحتاج إلى تدبير وتسبب 
في حفظها عن الانحراف عن سنن السداد. 

وأما الدرجة الثانية: فهي مراقبة الورعين من أصحاب اليمين» وهم قوم غلب 
اطلاع الله تعالى على ظاهرهم وباطنهم ولكن لم تدهشهم ملاحظة الجلال» بل بقيت 
قلوبهم على حد الاعتدال متسعة للتلفت إلى الأحوال والأعمال إلا أنها مع ممارسة 
الأعمال لا تخلو عن المراقبة. نعم غلب عليهم الحياء من الله تعالى فلا يقدمون 
ولا يحجمون إلا بعد التثبت فيه ويمتنعون من كل ما يفتضحون به في القيامة فإنهم 


م 


يرون الله تعالى في الدنيا مطلعاً عليهم فلا يحتاجون إلى انتظار القيامة» وتعرف 
اختلاف الدرجتين بالمشاهدات والله أعلم . 


الباب العاشر 
في بيان معنى القرب 

قال الله تعالى لنبيه كل : طوَاسْجدْ واقتترثك276). وقد ورد أقرب ما يكون العبد 
من ربه في سجوده. فالساجد إذا أذيق طعم السجود يقرب. لأنه يسجد ويطوي 
بسجوده بساط الكون ما كان وما يكون ويسجد على طرف رداء العظمة فيقرب . 

قال بعضهم: إني لا أجد الحضورء فأقول: يا الله أويا رب فأجد ذلك أثقل 
علىٌ من الجبال. قيل: ولم ذلك؟ قال: لأن النداء يكون من وراء حجاب. وهل 
رأيت جليساً ينادي جليسه؟ وإنما هي إشارات وملاحظات ومناغاة وملاطفات. وهذا 
الذي وصفه مقام عزيز يتحقق فيه القرب ولكنه مشعر بمحو ومؤذن بسكر يكون ذلك 
لمن غابت نفسه في نور روحه لغلبة سكره وقوة محوه. فإذا صحا وأفاق تتخلص 
الروح من النفس والنفس من الروح ويعود كل من العبد إلى محله ومقامه. فيقول: 
يا الله ويا رب بلسان النفس المطمئنة العائدة إلى مقام حاجتها ومحل عبوديتها والروح 
يشتغل بفتوحه بكمال الحال عن الأقوال. وهذا أتم وأقرب من الأول. لأنه في حق 
القرب باستقلال الروح بالفتوح وأقام رسم العبودية بعود حكم النفس إلى محل 
الافتقار وحظ القرب لا يزال يتوفر للروح بإقامة رسم العبودية من النفس . 

وقال الجنيد : إن الله تعالى يقرب من قلوب عباده على قدر قربهم منه. فانظر 
ماذا تقرب من قلبك. وقال أبو يعقوب السوسي : مادام العبد يكون بالقرب لم يكن 
قريبا حتى يغيب عن القرب بالقرب فإذا ذهب عن رؤية القرب بالقرب فذلك قرب وقد 
قال قائلهم : 

قدتحققتك فى الس نر فناجاك لانلى 

تاجعييهقا لمجال «انحرفسة الشساسي 


.19 سورة العلق: الآية‎ )١( 


ك5 


إن لم يكن عيبك اللت لعظيم عن لحظ عياني 

فلقد صيرك الوج د من الأأحشاء داني 

وقاله ذو النون: ما ازداد أحد من الله قربة إلا ازداد هيبة . وقال سهل : أدنى مقام 
من مقامات القرب الحياء . وقال النصر آبادي : باتباع السنة تثال المعرفة. وبأداء 
الفرائلض تنال القرب» وبالمواظبة على النوافل تنال المحبة. والحمد لله وحده. 


الباب الحادي عشر 
في بيان شرف العلم ووجوب طلبه والقدر الواجب منه 


اعلم : : أن العلم والعمل لأجلهما خلقت السموات والأرض وما فيهما قال الله 
تعالى : «الذي خَلَقَ سَبْعَ سمَُواتٍ ومن الأرْض بنْلهُن يرل الآمر يهن ِتعلَمُوا أن 
الله عَلَى كل شيءِ قَدِيرٌ رٌ وأنّ اللّهَ كَدْ أحاط كل شيءِ عِلَماًبع2©0. وكفى بهذه الآية 
دليلاً على شرف العلم ووجوب طلبه لا سيما علم التوحيد. وقال تعالى : «وَمًا خَلَقَتٌ 
الجن والإنْس إلآ لَِعْبُدُون04©. وكفى بهذه الآية دليلا على شرف العبادة ولزوم 
الإقبال عليها فاعظم بأمرين هما المقصود من خلق الدارين فحق العبد أن لا يشتغل 
إلا بهما وأن لا يتعب إلا لهما ثم العلم هو أشرف الجوهرين» ولكن لا بد من العبادة 
مع العلم وإلا كان العلم هباءً منثورا. 

واعلم: أنه يجب تقديم العلم على العبادة لأمرين: أحدهما: لتصح لك 
العبادة وتسلم. والثاني : هو أن العلم النافع يثمر الخشية والمهابة لله تعالى في قلب 
العبد وهما يثمران طاعة ويحجزان عن المعصية بعون الله تعالى وتوفيقه. وليس وراء 
هذين مقصد للعبد في عبادة ربه سبحانه وتعالى . فعليك بالعلم النافع فيجب عليك 
أولاً أن تعرف المعبود ثم تعبده وكيف تعبد من لا تعرفه بأسمائه وصفات ذاته وما بجحب 
لددويا ستجيل عليه في نميه فربما تعتقد اعتقادأ في صفاته شيئاً مما يخالف الحق 
فتكون عبادتك هباء منثوراً. ثم عليك أن تعلم ما يلزمك فعله من الواجبات الشرعية 
لتفعله على ما أمرت به وما يلزمك تركه من المناهي الشرعيه لتتركه . 
)١(‏ سورة الطلاق: الآية .١١‏ 
(؟) سورة الذاريات: الآية 55. 


واعلم : أن العلم الذي طلبه فرض لازم لكل مكلف ثلاثة أنواع : 

الأول: علم التوحيد والذي يتعين عليك منه هو مقدار ما تعرف به أصول الدين 
وقواعد العقائد كافية فيه. 

الثاني : علم السر وهو ما يتعلق بالقلب ومساعيه من مواجبه ومناهيه . 

الثالث : علم العبادات الظاهرة المتعلقة بالأبدان والأموال. ثم إن من الله عليك 
بعلم ما وجب عليك علمه وعمل ما وجب عليك عمله وترك ما وجب عليك تركه فقد 
أديت ما أوجبه الله تعالى عليك وصرت من العلماء العالمين» وبالله التوفيق . 


الباب الثاني عشر 
في بيان معاني الأسماء الحسنى 

اعلم : أن جملة الأسماء الحسنى ترجع إلى ذات وسبع صفات على مذهب 
أهل السنة خلافاً للمعتزلة والفلاسفة. ثم إن الاسم غير التسمية وغير المسمى وهذا 
هو الحق, فحد الاسم أنه اللفظ الموضوع للدلالة على المسمى . 

واعلم أن كمال العبد وسعادته إنما هو في التخلق بأخلاق الله تعالى والتحلي 
بمعاني أسمائه وصفاته بقدر ما يتصور في حقه. ولا تظنن أن المشاركة بكل وصف 
يوجب الممائلة . هيهات ألم تعلم أن الله موجود لا في محل. وأن الله تعالى حي عالم 
قادر مريد سميع بصير متكلم فاعل والإنسان كذلك أيضاً. أفترى أن مثبت هذه 
الأوصاف للإنسان يكون مشبها ممثلا. هيهات ليس الأمر كذلك؛, بل الممائلة عبارة 
عن المشاركة في النوع والماهية والخاصية الإلهية أنه الموجود الواجب الوجود بذاته 
الذي بقدرته يوجد كل ما في الأمكان وجوده على أحسن وجوه النظام والكمال. وهذه 
الخاصية لا يتصور فيها مشاركة ولا ممائلة البتة بل لا يعرفها حقيقة إلا الله تعالى 
وتقدس. فالخلق كلهم لم يعرفوا إلا احتياج هذا العالم المنظوم المحكم إلى صانع 
حي عالم قادر. وهذه المعرفة لها طريقان: أحدهما: يتعلق بالعلم ومعلومه يحتاج 
إلى مدبر. والآخر: يتعلق بالله تعالى ومعلومه أسام مشتقة من صفات غير داخلة في 
حقيقة الذات وماهيتهاء فإن قولنا حي عالم قادر معناه شيء مبهم له وصف الحياة 
والقدرة فما عرف أحد إلا نفسه أولا ثم قايس بين صفات الله تعالى وبين صفات نفسه 


1/7 


وتتعالى صفات الله تعالى عن أن تشبه صفاتناء فإذا يستحيل أن يعرف الله تعالى 
بالحقيقة غير الله تعالى. بل يستحيل أن يعرف النبوة غير النبي . وأما من ليس بنبي 
فلا يعرف من النبوة إلا اسمها. 

فإن قيل: فما نهاية معرفة العارفين بالله تعالى؟ فنقول: نهاية معرفتهم هو أن 
ينكشف لهم استحالة معرفة حقيقة ذات الله تعالى لغير الله تعالى وإنما اتساع معرفة 
العارفين بالله تعالى إنما تكون في معرفة أسمائه وصفاته فبقدر ما يتكشف لهم من 
معلوماته وعجائب مقدوراته وبدائع آياته في الدنيا والآخرة يكون تفاوتهم في معرفته 
سبحانه وتعالى والله أعلم . 


فصل 


اعلم : أن جملة معاني أسماء الله تعالى الحسنى ترجع إلى عشرة أقسام : 

الأول: ما يدل على الذات فقط. كقولك: الله ويقرب منه اسم الحق تعالى إذا 
أريد به الذات من حيث هي واجبة الوجود. 

الثاني: ما يرجع إلى الذات مع سلب مثل القدوس والسلام والغني والأحد 
ونظائرهاء فإن القدوس هو المسلوب عنه كل ما يخطر بالبال ويدخل في الوهم. 
والسلام .هو المسلوب عنه كل عيب ونقص, والغني هو المسلوب عنه كل حاجة, 
والأحد هو المسلوب عنه النظير والقسمة. 

الثالث: ما يرجع إلى الذات مع إضافة كالعلي والعظيم. والأول والآخر. 
والظاهر والباطن ونظائرها. فإن العلى هو الذات الذي هو فوق سائر الذوات في الرتبة 
فهي إضافة, والعظيم مايدل على الذات من حيث تجاوز حدود الإدراكات» والأول 
هو السابق على الموجودات. والآخر: هو الذي إليه مصير الموجودات, والظاهر: هو 
الذات بالإضافة إلى دليل العقل. والباطن هو الذات بالإضافة إلى إدراك الحس 
والوهم . 

الرابع : ما يرجع إلى الذات مع سلب وإضافة كالملك والعزيزء فإن الملك هو 


1: 


الذات التي لا تحتاج إلى شيء ويحتاج إليها كل سي ء . والعزيز هو الذي لا نظير له 
وهو ما تشتد الحاجة إليه ويصعب نيله والوصول إليه. 

الخامس : ما يرجع إلى الذات مع صفة ثبوته كالحي والعالم والقادر والمريد 
والسميع والبصير والمتكلم . 

السادس: ما يرجم إلى العلم مع إضافة كالحكيم والخبير والشهيد 
والمحصي . فإن الحكيم يدل على العلم مضافا إلى أشرف المعلومات؛, والخبير يدل 
على العلم مضافاً إلى الأمور الباطنة؛ والشهيد يدل على العالم مضاقاً إلى ما يشاهد 
والمحصي يدل على العلم الذي يحيط بمعلومات محصورات معدودة التفصيل . 

السابع : ما يرجع إلى القدرة مع زيادة إضافة كالقوي والمتين والقهار فإن القوة 
هي تمام القدرة؛ والمتانة شدتهاء والقهر تأثيرها في المقدورة بالغلية . 

الثامن: ما يرجع إلى الإرادة مع فعل وإضافة كالرحمن والرحيم والرؤورف 
والودود. فإن الرحمة ترجع إلى الإرادة مضافة إلى فضاء حاحة المحتاج الضعيف» 
والرأفة شدة الرحمة وهي المبالغة في الرحمة, والودود يرجع إلى الإرادة مضافاً إلى 
الإحسان والإنعام وفعل الرحمة يستدعي محتاجاً وفعل الود لا يستدعي ذلك بل 
بالإنعام على سبيل الابتداء. 
والوهاب والرزاق والفتاح والباسط والقابض والخافض والرافع والمعز والمذل والعدل 
والمقيت والمغيث والمجيب والواسع والباحث والمبدي والمعيد والمحبي والمميت 
والمقدم والمؤخر والولي والبر والتواب والمنتقم والمقسط والجامع والمعطي والمانع 
والمغني والهادي ونظائرها . 
واللطيف. فإن المجيد يدل على سعة الوكرام مع شرف الذات . والكريم كذلك» 
واللطيف يدل على الفعل مع الرفق . ولا تخرج هله الأسامي وغيرها عن مجموع هذه 
الأقسام العشرة. فقس بما أوردناه على ما لم نورده وذلك يدل على وجه خروج هذه 
الأسامي عن الترادف مع رجوعها إلى هذه الصفات المشهورة والمحصورة والله تعالى 
أعلم . 


اعلم: أن معاني أسماء الله الحسنى مندرجة في أربع كلمات وهن الباقيات 
الصالحات (سبحان الله والحمد لله ولا إله إلآ الله والله أكبر) . 

الكلمة الأولى: سبحان الله ومعناها في كلام العرب التنزيه والسلب فهي 
مشتملة على سلب النقص والعيب عن ذات الله تعالى وصفاته فما كان من أسمائه 
سلباً فهو مندرج تحت هذه الكلمة كالقدوس وهو الطاهر من كل عيب, والسلام هو 
الذي سلم من كل آفة. 


الكلمة الثانية: قول الحمد لله وهي مشتملة على إثبات ضروب الكمال لذاته 
وصفاته سبحانه وتعالى, فما كان من أسمائه متضمناً الإثبات كالعليم والقدير والسميع 
والبصير فهو مندرج تحتها فنفينا بسبحان الله كل عيب عقلناه وكل نقص فهمناهء وأثبتنا 
بالحمد لله كل كمال عرفناه وكل جلال أدركناه وراء ما نفيناه وأثبتناه شأن عظيم قد 
غاب عنا وجهلناه فنحققه من جهة الإجمال بقولنا الله أكبر. 

وهي الكلمة الثالثة ومعناها: إنه أجل مما نفيناه ومما أثبتناه وذلك معنى قوله 
عليه الصّلاة والسّلام: «لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك»., فما كان 
من أسمائه متضمناً فوق ما عرفناه وأدركناه كالأعلى والمتعالي فهو مندرج تحت قولنا: 
الله أكبر فإذا كان فى الوجود من هذا شأنه نفينا أن يكون فى الموجودين من يشاكله 
أو يناظره فحققنا ذلك بقولنا: لا إله إلا الله . 1 


وهي الكلمة الرابعة: إذ الألوهية ترجع إلى استحقاق العبودية ولا يستحق 
العبودية إلا من اتصف بجميع ما ذكرناه فما كان من أسمائه متضمناً للجميع على 
الإجمال كالواحد الأحد وذي الجلال والإكرام فهو مندرج تحت قولنا لا إله إلا الله . 
وإنما استحق العبودية لما وجب له من أوصاف الجمال ونعوت الكمال التي لا يصفها 
الواصفون ولا يعدها العادون ولو أدرجت الباقيات الصالحات في كلمة على سبيل 
الإجمال وهي : الحمد لله لاندرجت فيها كما قال السيد الجليل والإإمام الحفيل 
علن يو ابن طالب ازضى اللشاعنه :لو عشف أن أوقر يعيرا من فول 'الحكداللة لتعلتت: 
فإن الحمد لله هو الثناء والثناء يكون بإثبات الكمال تارة وسلب النقص أخرى» وتارة 
بالاعتراف بالعجز عن إدراك الإدراك وتارة بإثبات التفرد بالكمال والتفرد والكمال من 
أعلى مراتب المدح والكمال. وقد اشتملت هذه الكلمة على ما ذكرناه في الباقيات 


ه١‎ 


الصالحات لأن الألف واللام فيها لاستغراق جنس المدح والحمد ما علمناه وجهلناه 
ولا خروج للمدح عن شيء مما ذكرناه. ولا يستحق الإلهية إلا من اتصف بجميع 
ماذكرناه. ولا يخرج عن هذا الاعتقاد ملك مقرب ولا نبي مرسل ولا أحد من أهل 
الملك إلا من خذله الله واتبع هواه وكان مره فرطاً وعصى مولاه أولئك قوم قد غمرهم 
ذل الحجاب وطردوا عن الباب وأبعدوا عن ذلك الجناب» وحق لمن حجب في الدنيا 
عن إجلاله ومعرفته أن يحجب في الآخرة عن إكرامه ورؤيته. 


الباب الثالث عشر 
في الاعتقاد والتمسك بعقيدة صحيحة ومعنى الاعتقاد اتخاذ 
عقد صورة علم أو ظن في القلب بوجود المغيبات 
والعلم الاعتقاد الجازم الثابت المطابق للواقع 


وقال بعض الكبار: العلم نور إذا نزل في القلب ينفذ شعاعه إلى حيث المعلوم 
ويتعلق به كما يتعلق نور العين بالمرئي الاعتقاد الصحيح هو الخالي عن التعطيل 
والإلحاد والتشبيه والتجسيم والتكييف والنقض والحلول والاتحاد والإباحة وغير ذلك. 
وأن يكون معه التنزيه والعظمة والكبرياء كما كانت الصحابة رضي الله عنهم . ودليله 
الكتاب والسنة واجتماع الأمةق. ثم قال: على العبد أن يعلم أن الله تعالى واحد أحد 
فرد صمد في ذاته وصفاته. لا مثل له في ذاته ولا نظير له في صفاته. ولا شريك له 
في ملكه. ولا حدوث في صفاته. ولا زوال ولا بداية لقدمه ولا نهاية لبقائه دائم 
الوجود ولا آخر له قيوم الموجودات لا انقطاع له لم يزل ولا يزال موصوفا بصفات 
الجلال والجمال لا نهاية لكبريائه ولا غاية لعظمته وجلاله. ليس بجسم ولا جسماني 
ولا بروح ولا روحاني ولا بجوهر محدود ولا تحله الجواهرء بل هو خالق الأشياء . 
أحد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد منزه عن الحركة والانتقال والجهة 
والمكان وأنه تعالى قريب من كل موجود وهو أقرب إلى العبد من حبل الوريد. قربه من 
الخلق ليس كقرب الخلق بعضهم من بعض. بل هو قرب يليق به تعالى . 

سئل الجنيد قدس الله تعالى روحه عن القرب فقال: قريب لا بالتزاق وبعيد 
لا بافتراق ولا كيفية لقربه ومعيته. كما أنه ليس كمثله شيء كذلك قربه ومعيته ليس 


ىه 


كمعية أحد وقربه وأنه تعالى كان ولم يكن معه شيء وهو الآن على ما هو عليه. 


فصل 

اعلم: أن من أجرى الاستواء على العرش على ما ينبىء عنه ظاهر اللفظ وهو 
الاستقرار على العرش . فقد التزم التجسيم. وإن تشكك في ذلك كان في حكم 
المصمم على التجسيم أيضاًء وإن قطع باستحالة الاستقرار على العرش فقد تأول 
الظاهر وهو اعتقاد أهل الحق. وكذلك من أجرى النزول على ما ينبىء عنه ظاهر 
اللفظ وهو الحركة والانتقال. فقد التزم التجسيم أيضاًء وإن قطع باستحالة الحركة 
والانتقال فقد تأول الظاهر وهو اعتقاد أهل الحق . 

واعلم: أن الإعراض عن تأويل المتشابه خوفاً من الوقوع في محظور من 
الاعتقاد يجر إلى الشك والإيهام واستزلال العوام وتطريق الشبهات إلى أصول الدين 
وتعريض بعض آيات كتاب الله العزيز إلى رجم الظنون والحمد لله وحده وهذه العقيدة 
الصحيحة السليمة لصاحب قلب سليم سلم من البدعة ومن استيلاء وساوس الشيطان 
وهواجس النفس وزين بالتقوى وأيد بالهدى وهذب بالورع وغذي بالذكر والله تعالى 


أعلم . 


الباب الرابع عشر 
في بيان صفات الله تعالى 
الصفات الثبوتية سبعة وهي : الحياة والعلم والإرادة والقدرة والسمع والبصر 
والكلام.» وكل صفة من هذه الصفات لها تعلق إلا الحياة فإنها ينبوع الكمالات. 
فالعلم يتعلق بكل واجب وجائز ومستحيل». فالواجب هو ذات الله تعالى وصفاته. 
والجائز هو جميع الممكنات. والمستحيل هو الذي لا يمكن وجوده. والارادة تعلقها 
تخضيص والتخصيص ترجيح أحد الممكنات من العدم إلى الوجود على ما يريد أن 
يبرزهء والقدرة تعلقها تأثير والتأثير هو إبراز معدوم أو إعدام موجود. فلولا سبق العلم 
لم يحصل تخصيص الإرادة. ولولا تخصيص الإرادة لم يحصل تأثير القدرة. والسمع 


00 


يتعلق بكل مسموع قديم أو حادث» والكلام يتعلق بجميع ما يتعلق به العلم, وهذه 
الصفات كلها قائمة بذات الله تعالى وهي منقسمة إلى ما يتعلق بغيره كشفا كالعلم 
والسمع والبصر. وإلى ما يتعلق بغيره من غير كشف ولا تأثير: كالكلام. وأعمها 
تعلقاً: العلم والكلام وأخصها السمع ومتوسطها البصر والبقاء هو استمرار الوجود 
وليس هو وصفا زائدا على مفهوم الذات. فالأشعرية يقولون الحق سبحانه وتعالى حي 
بحياة, عالم بعلم. قادر بقدرة. مريد بإرادة» سميع بسمع. بصير ببصر متكلم 
بكلام . 

ومذهب القدرية: أنه حي بذاته. قادر بذاته. مريد بذاته.» سميع بذاته.» بصير 
بذاته» متكلم بذاته وهو خطأ. 

ومذهب الطبائعية : أن النار محرقة بطبعهاء والماء مرو بطبعه. والعيش مشبع 
بطبعه, والأفلاك والكواكب مؤثرة بطبعها. وقس عليه جميع الأسباب . 

ومذهب أهل الحق أن المؤثر هو قدرة الله تعالى وأن الأسباب لا أثر لهاء والله 
أعلم . 

واعلم : أن الصفات السبع عند الأشاعرة معان زائدة على مفهوم الذات وهي 
ثابتة الأعيان والأحكام. ومعنى ثبوت الأعيان أنها ليست نفس الذات ولا خارجة منها. 
وقال غيرهم من المحققين : إنها نسب وإضافات ثابتة الاحكام معدومة الأعيان ومعنى 
كونها معدومة الأعيان أنها ليست زائدة على مفهوم الذات. وقال غيرهم من السادة: 
اعلم أن الأسماء والصفات نسب وإضافات ترجع إلى عين واحدة إذ لا كثرة هناك 
بوجود أعيان زائدة على الذات المقدسة, كما زعم من لا علم له بالله تعالى من بعض 
النظار. فلو كانت أعياناً زائدة وما هو إله إلا بها لكان معلولاً لها فلا يخلو أن تكون هي 
عينه ‏ فالشيء لا يكون معلولاً لنفسه ‏ أو لا تكون فالإله لا يكون معلولاً لعلة ليست 
عينه لأن ذلك يقتضى افتقاره وافتقار الاله محال فكون الأسماء والصفات أعياناً زائدة 
محال فافهم جيداً والحمد لله وحده. 


الباب الخامس عشر 
في بيان حقيقة الإخلاص والرياء وحكمهما وتأثيرهما 


اعلم : أن الاخلاص عند علمائنا إخلاصان: إخلاص العمل وإخلاص طلب 


0 


الأجر. فأما إخلاص العمل: فهو إرادة التقرب إلى الله تعالى وتعظيم أمره وإجابة 
دعوته والباعث عليه الاعتقاد الصحيح وضد هذا الاخلاص النفاق. وهو التقرب إلى 
من دون الله تعالى . وأما إخلاص طلب الأجر: فهو إرادة نفع الآخرة بعمل الخير وضد 
هذا الإخلاص: الرياء وهو إرادة نفع الدنيا بعمل الآخرة سواء أراده من الله تعالى 
أو من الناس. لأن الاعتبار في الرياء بالمراد لا بالمراد منه. وأما تأثيرهما: فهو أن 
إخلاص العمل يجعل الفعل قربة وإخلاص طلب الآجر يجعله مقبولاً وافر الآجر. 
وأما النفاق: فإنه يحبط العمل ويخرجه عن كونه قربة والرياء يوجب ردهء وأما 
موضع الإخلاص وفي أي طاعة يقع ويجب. فاعلم أن الاعمال عند بعض العلماء 
ثلاثة أقسام : قسم يقع فيه إخلاصان جميعاً وهو العبادة الظاهرة الأصلية. وقسم لا يقع 
فيه إخلاص طلب الأجر دون إخلاص العمل وهو المباحات الماخوذة للعدة. وقال 
شيخنا: إن كل عمل يحتمل الصرف إلى غير الله تعالى من العبادات الأصلية يقع فيه 
إخلاص العمل والعبادات الباطنة أكثر ها يقع فيها إخلاص العمل . وأما الإخلاص في 
طلب الأجر: فكان شيخنا يقول: إذا أراد العامل من الله تعالى بالعبادات الباطنة نفع 
الدنيا فهو أيضاً رياء. قلت: فلا يبعد إذا أن يقع في كثير من العبادات الباطنة 
الإخلاصان. وكذلك النوافل. يجب عليها الإخلاصان جميعاً عند الشروع فيها. وأما 
المباحات المأخوذة للعدة: فإنه يقع إخلاص طلب الأجر دون إخلاص العمل إذ هي 
لا تصلح بنفسها أن تكون قربة. بل هي عدة على القربة وهذا مواضعهاء وأما وقتها: 
فهو أن إخلاص العمل يكون مع الفعل يقارنه لا محالة ويتأخر عنه. وإخلاص طلب 
الأجر ربما يتأخر عنه . وعند بعض العلماء ربما يعتبر فيه وقت الفراغ من العملء فإذا 
فرغ العمل على إخلاص ورياء فقد انقضى اللأمر ولا يمكن استدراكه بعد. ولله 


أعلم . 
فصل 


اعلم: أنه يجب على العبد أن يتحفظ في العمل من عشرة أشياء: النفاق 
والرياء والتخليط والمن والأذى والندامة والعجب والحسرة والتهاون وخوف ملامة 
الناس. ثم ذكر شيخنا رحمه الله تعالى ضد كل خصلة منها وإضرارها بالعمل. فضد 
النفاق إخلاص العمل لله تعالى. وضد الرياء إخلاص طلب الأجر. وضد التخليط 


606 


التقوى. وضد المن تسليم العمل لله تعالى. وضد الأذى تحصين العمل. وضد 
الندامة تثبيت النفس. وضد العجب ذكر المنة لله تعالى » وضد الحسرة اغتنام الخيرء 
وضد التهاون تعظيم التوفيق» وضد خوف ملامة الناس خحشية الله تعالى . 

ثم اعلم أن النفاق يحبط العمل والرياء يوجب رده. والمن والأذى يحبطان 
الصدقة في الوقت. وعند بعض المشايخ يذهبان أضعافهاء وأما الندامة فإنها تحبط 
العمل في قولهم جميعاً. والعجب يذهب أضعاف العمل والحسرة والتهاون يخففان 
العمل. فعليك بقطع هذه العقبة المخوفة الخطرة وبالله التوفيق 


الباب السادس عشر 
في الرد على من أجاز الصغائر على الأنبياء صلّى الله عليهم وسلّم 
قال القاضي عياض رحمه الله تعالى في كتابه الشفا: 
اعلم: أن المجوزين للصغائر على الانبياء صلَّى الله عليهم وسلّم من الفقهاء 
والمحدثين والمتكلمين احتجوا على ذلك بظواهر كثيرة من القرآن والحديث إن 
التزموا ظواهرها أفضت بهم إلى تجويز الكبائر وخرق الإجماع وما لا يقول به مسلم. 
فكيف وكل ما احتجوا به مما اختلف المفسرون في معناه وتقابلت الاحتمالات في 
مقتضاه وجاءت أقاويل فقهاء السلف بخلاف ما التزموه من ذلك . فإذا لم يكن مذهبهم 
اجماعاً وكان الخلاف فيما احتجوا به قديماً وقامت الدلالة على خطأ قولهم وصحة 
غيره وجب تركه والمصير إلى ما صح , والله تعالى أعلم . 


فيما يجب على الأنام من حقوق النبي عليه أفضل الصّلاة والسّلام 
أولها: تصديفه في كل ماجاء به وما قاله ومطابقة تصديق القلب بذلك شهادة 
اللسان أنه رسول الله إلى الناس كافة واتباعه في جميع ما أمر به أو نهى عنه. وكذلك 

محبته ومناصحته وتوقيره وبرّه والصلاة عليه كل ذلك واجباء» لأنه مما جاء به 236 . 


05 


واعلم : أن الامة مجتمعة على عصمة النبي وَل من الشيطان وكفايته منه فلا 
يصل إلى ظاهره بشيء من أنواع الأذى ولا إلى باطنه بشيء من الوساوس. وكذا 
عصمته عن الجهل بالله تعالى وصفاته أو كونه على حالة تنافي العلم بشيء من ذلك 
كله جملة بعد النبوة عقلا وإجماعاً وقبلها سمعاً ونقلا. ولا بشيء مما قرره من أمور 
الشرع وأداه عن ربه عر وجل من الوحي قطعاً عقلا وشرعاً ركذا عصيته من الكت 
وخلف القول منذ نبأه الله تعالى وأرسله قصداً أو غير قصد واستحالته عليه عقلا 
وإجماعاً لمناقضته للمعجزة وتنزيهه عنه قبل النبوة قطعاً. وكذا تنزيهه عن الكبائر 
إجماعا وعن الصغائر وملابسة المكروهات تحقيقاء بل تنزيه همته الشريفة عن تناول 
المباحات إلا على قصد تبيين إباحتها والاستعانة بها على طاعة ربه عرٍّ وجلّ. وكذا 


عصمته في جميع حالاته من رضى وغضبء. وجد وهزل. وصحة ومرضص» وكذا 
استحالة السّهو والنسيان. والغفلة والغلط عليه في الأخبار والأقوال البلاغية إجماعاً 
لمناقضته المعجزة وجواز السّهو عليه في الأفعال البلاغية بشرط أن لا يقر عليه,» بل 
ينبه عليه على الفور لتظهر فائدة النسيان من معرفة الحكم والاتباع له فيما يشرعه. 
وفرقوا بين السهو في الأفعال البلاغية والأقوال البلاغية لقيام المعجزة على الصدق في 
القرل ومخالفة ذلك يناقض المعجزة. وأما السهو في الأفعال: فغير مناقض للمعجزة 
ولا قادح في النبوة. نعم بل حالة النسيان هنا في حقه يخ سبب إفادة علم وتقرير 
شرعء كما قال عليه الصلاة والسّلام : «إني لست أنسى ولكني أنسى لأسنُ». وهذه 
الحالة بعيدة عن سمات النقص. بل هي زيادة في التبليغ وتمام عليه في النعمة. وأما 
ما ليس طريقه البلاغ ولا بيان الأحكام من أفعاله بلِِ وما يختص من أمور دينه وأذكار 
قلبه. فالذي ذهب إليه جماعة الصوفية وأصحاب علم القلوب استحالة السهو والنسيان 
والغفلات والفترات عليه فيه جملة. وأجاز ذلك الأكثر من طبقات علماء الأمة وذلك 
بما كلفه من سياسة الأمة ومقاساة الخلق ومعاناة الأهل وملاحظة الأعداء. ولكن ليس 
على سبيل التكرار ولا الاتصال. بل على سبيل الندور وليس في هذا شيء يحط من 


مرتبته أو يناقض معجزته كَل . 


واعلم : أنه يجور طريان الآلام والأوجاع على ظاهر جسم النبي كلد ليتحقق 
بشريته» ولكن لا يصل شيء من ذلك إلى باطنه كل لتعلقه بمشاهدة ربّه عر وجل 


لاه 


والأنس به ثم اعلم أن المصير في جميع ماذكرنا في حق جميع الأنبياء والملائكة 


فصل 
في بيان ما يجب على النبيّ يكل 

وما يحرم عليه وما يباح له وما خص به من الفضائل دون غيره 

فأمًا ما يجب عليه فهو التهجد والوتر والضحى والأضحية والمشاورة وتخيير 
الزوجات والسواك ومصابرة العدو وإن كثروا وتغيير المنكر. 

وأما ما يحرم عليه دون غيره: فهو الخط والشعر والصّدقة والرّكاة ومد عينيه إلى 
ما متع به غيره. والمخادعة في الحرب. ومسك الزوجة المكارهة وفي طلاق الراغبة. 
وأكل الكراث والشوم والبصل. والأكل متكعاً وفيه خلاف. والأصح الكراهية 
لا التحريم» ونكاح الحرة الكتابية والأمة المسلمة وغيرهاء والصّلاة على المدين على 
خلاف فيه,» والأصح أنه ل بعد ذلك .ونزعه لأمة الحرب قبل القتال. 

وأما ما يباح له كل : فهو حكمه لنفسه ولفرعه وشهادته وقبوله أيضاً لهما وخمس 
الخمس وحل الغنائم ومن أرادها('» لزم زوجها طلاقهاء وله النكاح بلا مهر لمن شاء 
ويصح نكاحه بلفظ الهبة. ويجوز أخذه طعام المحتاج ويلزم المضطر بذله وبحيي 
ماشاء من موات ويقتضي بعلمه أبداً ويجب على خاطره دفع قاصذه بسوء. 
ولا ينتقض وضوءه بالدوم ولا باللمس محلى الأصح.ء ولا يورث ماله ويلزم الخلية 
إجابته. ويعقد نكاحه بلا ولي ولا شهود. وله الزيادة على أربع وعلى تسع في 
الأصح . وله النكاح في الإحرام ويصح نكاحه من نفسه وممن شاء. 

وأما ما خص به من الفضائل فهو: أن أزواجه اللاتي مات عنهن حرام على غيره 
قطعاً. وكذا اللاتي فارقهن بعد الدخول في الأصح. وهن أمهات المؤمنين» 
وشرعه ككهِ ناسخ لما قبله يستمر إلى انقضاء الأبد. وكتابه المعجز المستمر السالم من 


زلة تراجع كتب خصائصه 85 وشمائله. ؤسيرته. ومظان هذا الموضوع لاستيفاء بيانه . 


م6 


التبديل والتحريف وهو حجة الله تعالى على عباده. وجعلت له الأرض مسجداً 
وطهوراء وأعطي خمس شفاعات وخص بالشفاعة العظمى» وهو أول من يقرع باب 
الجنة. وأمته خير أمة ولا تجتمع على ضلال. وهو أول شافع مشفع» وأول من تنشق 
عليه الأرضء. ونصف أمته كالملائكة يوم القيامة» وفضلاته طاهرة على الأصح يتبرك 
بها ويستشفى بهاء ويرى من ورائه كما يرى أمامه, ولا يحل مناداته من وراء حجرته. 
وصلاته في النفل قاعدا في أجره كصلاته في الوقوف. ولا يجوز نداؤه باسمه» وأعطي 


جوامع الكلم . 


اعلم : أن الله تعالى قد حرم أذى النبي ككةِ في القرآن ولعن مؤذيه. واجتمعت 
الأمة على قتل منتقصيه وسابّه من المسلمين تصريحاً كان أو تعريضاً وأما ما هو حقه 


فاعلم: أن من سبّه أوعابه أو ألحق به نقصاً فى خلقه أو حُلّقه أودينه أو خصلة 
من خصاله أو نسبه أوعرض به أو شبهه بشيء على طريق السب له أو الإزراء عليه 
أو التصغير بلسانه فهو سابٌ له وسابّه يقتل. وكذا حكم من غيره بما جرى من الابتلاء 
والمحنة عليه أو غمضه ببعض العوارض البشرية الجائزة عليه. وهذا كله بإجماع من 
العلماء من لدن الصحابة إلى الآن. 


قال ابن المنذر رحمه الله تعالى: أجمع عوام أهل العلم على أن من سبٍّ 
وبمثله قال أبوحنيفة وأصحابه والثوري وأهل الكوفة والأوزاعي في المسلم لكنهم 
قالوا : هي ردة, والله أعلم . 


08 


في معرفة الخواطر وأقسامها 
ومحاربة الشيطان وقهره والتدبير في دفع شره. 
وأن يستعيذ بلله تعالى منه أولاً ثم يحاربه بثلاثة أشياء 

أحدها: أن تعرف مكائده وحيله ومخادعاته . 

والثاني: أن تستخف بدعوته فلا تعلق قلبك بها. 

والثالث: أن تديم ذكر الله تعالى بقلبك ولسانك.» فإن ذكر الله تعالى في جنب 
الشيطان كالاكلة في جنب ابن آدم. فأما معرفة مكائده فإنه يستبين لك بمعرفة الخواطر 
وأقسامها. أما معرفة أقسامها فاعلم أن الخواطر آثار تحدث في قلب العبد تبعثه على 
الفعل أو الترك وحدوث جميعها في القلب من الله تعالى إذ هو خالق كل شيء. لكنها 
أربعة أقسام : فقسم منها يحدثه الله تعالى في قلب العبد ابتداء فيقال له الخاطر فقطى 
وقسم يحدثه موافقا لطبع الإنسان فيقال له هو النفس. وقسم يحدثه عقب دعوة 
الشيطان فينسب إليه ويقال له الوسواس. وقسم يحدثه الله ويقال له الإنهام. ثم اعلم 
أن الخاطر الذي من قبل الله تعالى ابتداء قد يكون خيراً إكراماً وإلزاماً للحجة. وقد 
يكون شراً امتحاناء والخاطر الذي يكون من قبل الملهم لا يكون إلا بخير إذ هو ناصح 
مرشد لا يرسل إلا لذلك. والخاطر الذي يكون من قبل الشيطان لا يكون إلا بشر 
إغواء وربما يكون بالخير مكراً منه واستدراجاًء والخاطر الذي يكون من قبل هوى 
النفس لا يكون إلا بالشر وقد يكون بالخير لا لذاته فهذه أنواعها. 

ثم اعلم أنك محتاج إلى ثلاثة فصول: 

فأما الفصل الأول: قال العلماء رضي الله عنهم أجمعين إذا أردت أن تعرف 
خاطر الخير من خاطر الشر وتفرق بينهما فزنه بأحد الموازين الثلاثة يبين لك حاله. 

فالأول: هو أن تعرضه على الشرع فإن وافق جنسه فهو خير وإن كان بالضد إما 
برخصة أو بشبهة فهو شر. فإن لم يبين لك بهذا الميزان. فاعرضه على الاقتداء 
بالصالحين» فإن كان فيه اقتداؤهم فهو خير وإلا فهو شرء. وإن لم يبين لك بهذا 


ب 


الميزان. فاعرضه على النفس والهوى. فإن كان مما تميل إليه النفس ميل طبع لا ميل 
رجاء إلى الله تعالى فهو شر. 

وأما الفصل الثاني : إذا أردت أن تفرق بين خاطر شر ابتداء من قبل الشيطان 
أو من قبل النفس أو من الله تعالى» فانظر فيه من ثلاثة أوجه : 

أحدها: إن وجدته ثابتأ راتباً مصمماً على حالة واحدة فهو من الله تعالى أو من 
هوى النفس. وإن وجدته مترددا مضطربا فهو من الشيطان. 

وثانيا: إن وجدته عقب ذنتن" أحدتيه افهوامن آله تعان عقوبنة 'لك؛ وإن 
لم يكن عقب ذنب كان منك فهو من الشيطان . 

وثالئها: إن وجدته لا يضعف ولا يقل من ذكر الله تعالى ولا يزول فهو من هوى 
النفس . وإن وجدته يضعف من ذكر الله فهو من الشيطان. 

وأما الفصل الثالث: إذا أردت أن تفرق بين خاطر خير يكون من الله تعالى 
أو من الملك فانظر فى ذلك من ثلاثة أوجه: 

أحدها: إن كان مصمماً على حالة واحدة فهو من الله تعالى. وإن كان متردداً 
الملك. 


والثالث: إن كان في الأصول والأعمال الباطنة فهو من الله تعالى وإن كان في 
الفروع والأعمال الظاهرة فهو من الملك في الأكثر. إذ الملك لا سبيل له إلى معرفة 
باطن العبد في قول أكثرهم, وأما خاطر الخير الذي يكون من قبل الشيطان استدراجاً 
إلى شر يربو عليه. فانظر فإن وجدت نفسك في ذلك الفعل الذي خطر بقلبك مع 
نشاط لامع خشية » ومع عجلة لامع تأن» ومع أمن لا مع خوف. ومع عمى العاقبة 
لا مع بصيرة. فاعلم أنه من الشيطان فاجتنبه. وإن وجدت نفسك على ضد ذلك 
فاعلم أنه من الله تعالى أو من الملك قلت أنا وكان النشاط خفة في الإنسان للفعل من 
غير بصيرة وذكر ثواب ينشط في ذلك. وأما التأني : فمحمود إلا في مواضع معدودةء 
وأما الخوف: فيحتمل أن يكون في إتمامه وأدائه على حقه وقبول الله تعالى إياه. 


>3١ 


وأما بضارة العاقبة : فبأن تتبصر وتتيقن أنه رشد وخير. ويحتمل أن يكون لرؤية 
الثواب في العقبى ورجائه. فهذه الفصول الثلاثة التي لزمتك معرفتها فارعها فإنها من 
العلوم اللطيفة والأسرار الشريفة في هذا الأمرء وبالله التوفيق وهو ولي الهداية. 


الباب الثامن عشر 
في بيان معنى آفات اللسان وهي عشرون آفة 

أولها: الكلام فيما لا بعني. ثم فضول الكلام؛ ثم الخوض في الباطل. ثم 
المراء والمجادلة؛ ثم الخصومة. ثم التقعر في الكلام. ثم الفحش والسب ثم اللعن. 
ثم الشعرء. ثم المزاح. ثم السخرية والاستهزاء. ثم إفشاء سر الغيرء ثم الوعد 
الكاذب. ثم الكذب في القول واليمين, ثم الغيبة والنميمة ثم ذو اللسانين» ثم 
المدح. ثم الخطأ في فحوى الكلام. ثم سؤال العوام عما لا يبلغه فهمهم من 
صفات الله تعالى. فأما حد الكلام فيما لا يعني : فهو أن يتكلم بما لو سكت عنه 
لم يأئم ولم يتضرر في حال ولا مآل. وأما فضول الكلام: فهو الزيادة على قدر 
الحاجة فيما يغني . 

وأما الخوض في الباطل: فهو الكلام في المعاصي كحكاية أحوال الوقاع 
ومجالس الخمور وتجبر الظلمة وكحكاية مذاهب أهل الأهواء. وكذا حكاية ما جرى 
بين الصحابة رضي الله عنهم أجمعين على وجه الاستنقاص ببعضهم. وأما المراء: 
فهر الاعتراض على الغير بإظهار خلل في لفظه أو معناه أو قصده به. وأما المجادلة: 
فهو مراء يتعلق بالمذاهب وتقريرها. وأما الخصومة: فهي لجاج في الكلام باظهار 
اللدد على قصد الإيذاء ومزج الخصومة بكلمات مؤذية لا يحتاج إليها في نصر 
الحجة. وأما التعقر في الكلام: فهو تكلف الفصاحة بالتشدق. وأما الفحش: فهو 
التعبير عن الأمور المستقبحة بالعبارات الصريحة. وأما اللعن: فهو ما يكون لجماد 
أو لحيوان أو لإنسان وكل ذلك منهي عنه لأن اللعن هو الإبعاد عن الله. ولا يجوز 
اللعن إلا على من يتصف بصفة تبعده عن الله تعالى والصفات المقتضية للعن ثلاثة : 
الكفر والبدعة والفسق فيجوز لعن كل صنف من هذه الثلاثة . فأما لعن شخص بعينه 
من هذه الأصناف فلا يجوز إلا على من علم موته على الكفر كفرعون وأبي جهل وأبي 


>12 


لهب لاحتمال موته(2 على الاسلام. وأما الشعر: فحسنه حسن وقبيحه قبييح 
كالكلام. وأما المزاح : فهو منهي عنه إلا عن يسير لا كذب فيه ولا أذى. وأما 
السخرية : فهي التنبيه على العلوم والنقائص على وجه الضحك منه ومهما كان مؤذيا 
حرم وإلا فلا. وأما إفشاء السر: فهو حرام إن كان فيه إضرار وإن لم يكن فيه إضرار 
فهو لوم . وأما الوعد الكاذب: فهو من علامات النفاق وذلك أنه إذا كان في حال الوعد 
عازماً على الخلف إذا أخلف من غير عذر. وأما من عزم على الوفاء وطرأ له عذر منعه 
من الوفاء فذلك ليس بنفاق. ولكن ينبغي أن يحترز من صورة النفاق أيضاً. وأما 
الكذب في القول واليمين: فهو من قبائح الذنوب. وأما ما رخص فيه من الكذب: 
فاعلم أن الكلام وسيلة إلى المقاصد فكل مقصود محمود يمكن التوسل إليه بالصدق 
والكذب جميعاً. فالكذب فيه حرام وإن أمكن التوسل إليه بالكذب دون الصدق 
فالكذب فيه مباح» وإن كان تحصيل ذلك المقصود واجباً فهذا ضابطه. وأما حكم 
الغيبة: فاعلم أنها محرمة بالكتاب والسنة واجماع الأمة إلا مايستثنى منها. وأما 
حدها: فهو أن تذكر أخاك المسلم في حال غيبته بما فيه مما يكرهه لو بلغه وسواء 
ذكره بنقص فى دينه أو دنياه أو قوله أو فعله أو خلقه أو خلقه أو ملبسه أو مكسبه أو نسبه 
أوداره 5 وسواء فى ذلك القول والفعل والغمز والرمز والإشارة والإيماء 
والتعريض والكناية» فكل ذلك حرام . 

وأما الأسباب الباعثة على الغيبة» فمنها: ما يختص بالعامة؛ ومنها: ما يختص 
بأهل الدين والخاصة من العلماء . فأما ما يختص بالعامة فهو الغضب والحقد والحسد 
وموافقة الرفقاء في الهزل واللعب والاستهانة والاستحقار والتصنع والمباهاة والترفع 
على الغير وإرادة التبرؤ من غيب نسب إليه ينسبه إلى من فعله والمبادرة بتقبيح حال 
من يخشى أن يستقبح حاله عند كبير أو محتشم . 


وأما ما يختض بأهل الدين والخاصة من العلماء: فهو الغضب لله تعالى على 

فاعل المنكر والتعجب من فعله والشفقة عليه والرحمة. فهذه من أغمض الأسباب 

وأخفاهاء لأن الشيطان يخيل للجهلة من العلماء أن الغضب والتخيل إذا كانت لله 

تعالى كانت عذراً مرخصاً في ذكر الاسم بالغيبة حاجات مخصوصة لا مندرجة عنها 
)١(‏ أي موت من لم يعلم موته على الكفر. 


3 


في ذكر الاسم بالغيبة» وهي التظلم إلى الحكام والاستفتاء والاستعانة على إزالة 
المنكر والتحذير والنصيحة والتعريف باللقب. فهذه ثلاثة أمور هي المستثناة في 
الشرع من الغيبة للضرورة. 

وأما معالجة مرضها: فهو أن تعلم أنك متعرض لسخط الله تعالى بغيبة أخيك 
المسلم ومحبط لحسناتك بنقلها إلى صحائف من استغبته . 

وأما أركان التوبة منها: فهي العلم والندم والإقلاع والعزم واستحلال من 
استغبته بذكر ما اغتبته به إلا أن يتعذر عليك فتدعو له. 


وأما حكم النميمة: فاعلم أنها محرمة بالكتاب والسنة وإجماع الأمة. وأما 
حدها: فهو نقل كلام بعض الناس إلى بعض على قصد الإقساد. وسواء كرهه 
المنقول عنه أو المنقول إليه أو غيرهما. وأما سببها: فهو إما إرادة السوء بالمنقول عنه 
أو التحبب إلى المنقول إليه والخوض في الباطل . وأما معالجة مرضها: فهو أن تكف 
لسانك عنها حذراً من ضررها. 


وأما اركان التوبة منها: افهي العلم والندم والاقلاع والعزم . وأما ماذا يجب على 
من نقلت إليه نميمة فهو ستة أمور وهي : أن لا يصدقه وأن ينهاه. وأن يبغضه في الله 
تعالى , لأنه بغيض عند الله تعالى.» ويجب بغض من يبغضه الله تعالى. وأن لا ينم 
عليه وأن لا يتجسس عن المنقول عنه. وأن لا يسيء الظن . 


واعلم أن سوء الظن بالمسلم حرام كسوء القول. وحده أن تحكم على أخيك 
المسلم بالسوء بما لا تعلمه. وأما ذو اللسانين: فهو الذي ينقل كلام المتعادين 
بعضهم إلى بعض على جهة الإفساد. فإن لم ينقل كلاما ولكن حسن لكل واحد 
منهما ما هو عليه من العداوة أو وعد كلاهما بأن ينصره أو أثنى عليهما في معاداتهما 
أو أثنى على أحدهماء وكان إذا خرج من عنده يذمه فهو ذو لسانين في ذلك كله بل 
ينبغي له أن يسكت أو يثني على المحق منهما في حضوره وغيبته وعند عدوه. وأما 
المدح : فهو منمهي عنه في بعض المواضع . وفيه ست آفات أربع في المادح واثنان 
في الممدوح . فأما التي في المادح . 

فالأولى : أنه قد يفرط في المدح حتى ينتهي إلى الكذب . 


5 


وثانيها: أنه قد يدخله الرياء فإنه بالمدح مظهر للحب وقد لا يكون كذلك. 
أو أنه قد لا يكون معتقداً لجميع ما يقوله فيصير به مرائياً منافقاً . 

وثالثها: أنه قد يقول ما لا يتحققه فيكون كاذباً مزكياً من لم يزكه الله تعالى وهذا 
هلاك . 

ورابعها: أنه قد يفرح الممدوح وهو ظالم أو فاسق وذلك غير جائز لآن الله 
تعالى يغضب إذا مدح الفاسقى. وأما الممدوح فيضره بالمدح من وجهين: 

أحدهما: أنه يحدث فيه كبر وعجباً وهما مهلكان. 

والثاني: أنه إذا أثنى عليه بالخير فرح به وفتر ورضي عن نفسه وقل تشمره لأمر 
آخرته . ولهذا قال رسول الله يك : «قطعت عنق صاحبك» فإن سلم المدح عن هذه 
الآفات لم يكن به بأسء بل ربما كان مندوباً إليه. ولذلك أثنى رسول الله يك على 
الصحابة رضي الله عنهم أجمعين حتى قال: «لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان العالمين 
لرجح». وقال: «لولم أبعث لبعثت ياعمر». وأي ثناء يزيد على هذا ولكنه عن صدق 
وبصيرة وكانا أجل رتبة من أن يورئهما ذلك كبر وإعجابً. بل مدح الإنسان قبيح لما 
فيه من الكبر والتفاخر إلا أن يكون مما لم يورئه ذلك كبراً وإعجاباً. كما قال ككل : «أنا 
سيد ولد آدم ولا فخر». أي لست أقوله تفاخراً كما يقوله الناس بالثناء على أنفسهم . 
وذلك أن افتخاره بلِِ إنما كان بالله تعالى وبقربه لا بكونه مقدماً على غيره من ولد آدم 
عليه الصّلاة والسّلام. وأما الغفلة عن دقائق الخطأ في فحوى الكلام: فهو مثل أن 
يقول: مُطرنا بنوء كذا وكذاء أويقول للعنب كرماً أو نحو ذلك مما نهى عنه من 
الألفاظ . وأما سؤال العوام عما لا يبلغه فهمهم من صفات الله تعالى فهو مثل أن يسأل 
عن بعض صفات الله تعالى أو عن كلامه أو عن الحروف هل هى حادثة أو قديمة فكل 
ذلك مذموم سؤالهم عنه لعدم فهمهم عنه لثلا يلتبس عليهم الحق بالباطل والله تعالى 
أعلم . 


في بيان البطن وحفظه 
في البطن وحفظه. لأنه المعدن ومنه تهيج الأمور في الأعضاء من خير وشرء 


560 


فعليك بصيانته عن الحرام . وكذا عن الشبهة ثم عن فضول الحلال إن كانت لك همة 
في عبادة الله تعالى . فأما الحرام أو الشبهة: فإنما يلزمك التحفظ عنها لثلاثة امور 
الأول: حذراً من نار جهنم . 
والثاني : أن آكل الحرام والشبهة مطرود لا يوفق للعبادة إذ لا يصلح لخدمة الله 
تعالى إلا كل قلب طاهر. قلت: أليس قد منع الله تعالى الجنب من دخول بيته 
والمحدث من مس كتابه مع أنهما أثر مباح؟ فكيف بمن هو منغمس في قذر الحرام 
والشبهة متى-يدعى إلى خدمة الله تعالى وذكره الشريف (كلا فلا يكون ذلك). 
والثالث: أن آكل الحرام والشبهة محروم. وإن اتفق له فعل خير فهو مردود 


وأما حكم الحرام والشبهة وحدّهما: فاعلم أن الأولى في حدهما أن ما تيقنت 
كونه ملكأ للغير منهياً عنه في الشرع أو غلب على ظنك فهو حرام وأما ما تساوت فيه 
الأمارتان فهو شبهة بشبهة أنه حرام ويشبه أنه حلال ثم الامتناع من الذي هو حرام 
محض حتم واجب. والامتناع من الذي هو شبهة تقوى وورع. وأما حكمه: فاعلم 
ما هو الأصل في هذا الكتاب., وهو أن هنا شيئين: أحدهما: حكم الشرع وظاهره. 
والثاني : حكم الورع وحقه. فحكم الشرع أن تأخذ مما آتاك الله ممن ظاهره صلاح. 
ولا تسأل إلا أن يتبين لك أنه غصب أو حرام بعينهء وحكم الورع أن لا تأخذ من أحد 
شيئا حتى تبحث عنه غاية البحث فتتيقن أن لا شبهة بحال وإلا فترده. 


فإن قلت: فكان الورع يخالف الشرع وحكمه. فاعلم أن الورع من الشرع 
أيضاً وكلاهما واحد في الأصل. ولكن للشرع حكمان حكم الجواز وحكم الأفضل 
الأحوط . فالجائز نقول له حكم الشرع والأفضل الأحوط نقول له الورع والله تعالى 
أعلم . 

وأما حد فضول الحلال: فاعلم أن أحوال المباح في الجملة أقسام : 

القسم الأول: أن يأخذ العبد مفاخراً مكائراً مرائياً فهذا يستوجب على ظاهر 
فعله اللوم وعلى باطنه عذاب النارء لأن ذلك القصد منه معصية وقد وقع الوعيد لمن 
قصده. 


11 


القسم الثاني: أن يأخذ الحلال لشهوة نفسه لا غير فذلك منه شيء يوجب 
الحبس والحساب . 

القسم الثالث: أن يأخذ من الحلال في حال العذر قدراً يستعين به على عبادة 
ربه سبحانه وتعالى ويقتصر عليه فذلك منه حسنة وأدب. ولا حساب عليه ولا عتاب 
بل يستوجب به الأجر والمدح. والله تعالى أعلم . 


في بيان معرفة حيل الشيطان ومخادعاته 


أحدها: أنه ينهاه عن الطاعات. فإن عصمه الله منه أمره بالتسويف فإن 
سلمه الله منه أمره بالعجلة فإن نجاه الله منه أمره بإتمام العمل مراءاة فإن حفظه الله 
تعالى منه ادخل عليه العجب. فإن رأى منة الله تعالى عليه أمره بالاجتهاد في السر 
وقال له: إن الله تعالى سيظهره عليك يريد بذلك جريان الرياء فإن اكتفى بعلم الله 
تعالى نجا منه» فإن لم يطعه في شيء من ذلك كله وعجز عنه وقال له لا حاجة لك 
إلى هذا العمل لأانك إن خلقت سعيداً لم يضرك ترك العمل وإن خلقت شقيا 
لم ينفعك فعله. فإن عصمه الله تعالى منه. وقال له: أنا عبد وعلى العبد امتثال أمر 
سيده وسيده يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد نجا منه بتوفيق الله تعالى وإلا هلك . 


! ٠ 
: في الحذر من النفس‎ 
قال رحمه الله تعالى ورضي عنه : العائق الرابع النفس ثم عليك بالحذر من هذه‎ 
النفس. فإنها أضر الأعداء وعلاجها أعسر الأشياء لأنها عدو من داخل. واللص إذا‎ 
كان من أهل البيت عزت الحيلة فيه وعظم ضرره ولأنها أيها عدو محبوب والإنسان‎ 


04 


عم عن عيب محبوبه لا يكاد يرى عيبه ولا يبصره. ثم الحيلة في أمرها أن تلجمها 
بلجام التقوى والورع ليحصل لك فائدة الامتثال والانتهاء واعلم أنه لا يذل النفس 

الأرل: منعها عن شهوتها. 

الثاني : حمل أثقال العبادات عليها. 

الثالث: الاستعانة بالله تعالى عليها والتضرع إليه وإلا فلا يخلص من شرها إلا 
به سبحانه وتعالى . 


في بيان ما يؤاخذ العبد به من أعمال القلب وما لا يؤاخذ به 

اعلم: أن ها هنا أربعة أحوال للقلب قبل العمل بالجوارح . 

أحدها: الخاطر وهو حديث النفس ثم الميل ثم الاعتقاد ثم الهم. فأما 
الخاطر: فلا يؤاخذ به لأنه لا يدخل تحت الاختيار. وكذلك الميل وهيجان شهوة 
النفس . لأنهما لا يدخلان تحت الاختيار أيضاً وهما المراد بقوله كل : وعفا الله لأمني 
ماحدثت به أنفسها». فحديث النفس عبارة عن الخواطر التي تهجس في النفس 
ولا يتبعها عزم على الفعل. فأما الهم والعزم فلا يسميان حديث النفس . 

وأما الثالث: وهو الاعتقاد. وحكم القلب بأنه ينبغي أن يفعل فهذا مردد بين أن 
يكون اضطراراً أو اختيارا والأحوال تختلف فيه. فالاختياري منه يؤاخذ به 
والاضطراري لا يؤاخذ به. 

وأما الرابع : وهو الهم بالفعل. فإنه يؤاخذ به إلا أنه إن لم يفعل نظر فإن تركه 
خوفاً من الله تعالى وندماً على همه كتب له حسنة. وإن تعوق الفعل بعائق أو تركه 
لاخوفاً من الله تعالى كتبت عليه سيئة؛ فإن همه فعل من القلب اختياري والدليل 
القاطع فيه: ما روي عن سيدنا ومولانا رسول الله يق أنه قال: وإذا('2 التقى المسلمان 


)١(‏ رواه البخاري في صحيحه: مع بعض تغير في بعض الكلمات. 


1/0 


بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار. قيل: يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول؟ 
قال: لأنه أراد قتل صاحبه؛ وهذا نص في أنه صار من أهل النار بمجرد الإرادة مع أنه 
قتل مظلوماً فكيف يظن أنه لا يؤاخذ بالنية والهم كلما دخل تحت اختيار القلب فإنه 
مؤاخذ به إلا أن يكفره بحسنة ونقض العزم بالندم حسنة. فلذلك كتبت حسنة وأما 


فوات المراد بعائق فليس بحسنة. 


الباب الحادي والعشرون 
في بيان ما يجب رعايته من حقوق الله تعالى وهو ضربان 

الأول: فعل الواجبات. 

والثاني : ترك المحرمات ففعل كل واجب تقوى وترك كل محرم تقوى فمن أتى 
بخصلة منها فقد وفى نفسه بها ما رتب على تركها من شر الدنيا والآخرة مع ما يحصل 
له من نعيم الجناف ورضا الرحمن . 

واعلم : أنه للا يتغرب إلى الله تعالى إلا بطاعته وطاعته فعل واجب أو مندوب 
وترك محرم أو مكروه. فمن تقواه تقديم ماقدم الله تعالى من الواجبات على 
المندوبات, وتقديم ماقلمه من اجتناب المحارم المحرمات على ترك المكروهات» 
بخلاف ما يفعله الجاهلون الذين يظنون أنهم إلى الله متقربون وهم منه متباعدون 
فيضع أحدهم الواجبات حفظاً للمندوبات. ويرتكب المحرمات تصوناً على ترك 
المكروهات. فكم من مقيم على صور الطاعات مع انطواء قلبه على الرياء والغل 
والحسد والكبر والإعجاب بالعمل والإدلال على الله تعالى بالطاعات, والتقوى 
قسمان أحدهما متعلق بالقلوب وهو قسمان: 

الأول: واجب كإخلاص العمل والإيمان. 

والثاني : محرم كالرياء وتعظيم الأوثان. والثاني منها('2: متعلق بالاأعضاء 
الظاهرة كنظر العين وبطش الأيدي ومشي الأرجل ونطق اللسان. واعلم أنه إذا صحت 
التقوى أثمر الورع والورع ترك مالا بأس به خوفا من الوقوع فيما به بأس. والله تعالى 
أعلم . 
)١(‏ من قسمي التقوى. 


59 


اعلم : أن خيرات الدنيا والآخرة قد جمعت تحت خصلة واحدة وهي التقوى. 
وتأمل ما في القرآن من ذكرها كم علق بها من خير وكم وعد عليها من ثواب وكم 
أضاف إليها من سعادة. ثم اعلم أن الذي يختص به هذا الشأن من أمر العبادة ثلاثة 
4 
اصول: 

الأول: التوفيق والتأبيد أولاً حتى تعمل وهو للمتقين» كما قال الله تعالى: 
«إن الله مع الذين اتقوا» . 

والثاني : إصلاح العمل وإتمام التقصير حتى يتم وهو للمتقين كما قال الله 
تعالى : لِيُضْلِحْ لَكُمْ أعْمَالكُم4). 

والثالث: قبول العمل إذا تم وهو للمتقين, كما قال الله تعالى: «إنما يَتَقبْلُ 
اللَهُ مِنَ المُتقِينَ2"(4. ومدار العبادة على هذه الأصول الثلاثة التوفيق والإصلاح. 
والقبول. وقد وعد الله تعالى ذلك كله على التقوى وأكرم به المتقى سأل أو لم يسأل. 
فالتقورى هي الغاية التي لا متجاوز عنها ولا مقصد دونها. 

ثم اعلم أن حد التقوى في قول شيوخنا: هو تنزيه القلب عن ذنب لم يسبق 
عنك مثله حتى يجعل العبد من قوة العزم على تركها وقاية بينه وبين المعاصي . فإذا 
وطن قلبه على ذلك فحينئذ يوصف بأنه متى 2 ويقال لذلك التوبة والعزم تقوى . 

ثم اعلم أن منازل التقوى ثلاثة: تقوى عن الشرك. وتقوى عن البدع. وتقوى 
عن المعاصي الفرعية, ثم الشرور ضربان أصلي وهو ما نهي عنه تأديبا كالمعاصي 
المحضة, وشيء غير أصلى وهو ما نهي عنه تأديباً وهي فضول الحلال كالمباحات 
المأخوذة بالشهوات . فالأولى : تقورى فرص يلزم بتركها العذاب. والثانية : تفوى خير 
وأدب يلزم بتركها الحبس والحساب واللوم . فمن أتى بالأولى فهو في الدرجة الأولى 
من التقوى وتلك منزله مستقيم الطاعة. ومن أتى بالثانية: فهو في الدرجة العليا من 


(1) سورة المائدة: الآية /171. 


0/٠ 


التقوى فإذا جمع العبد بين اجتناب كل معصية وفضول. فقّد استكمل معنى التقوى 
وهو الورع الكامل الذي هو ملاك أمر الدين. وأما الذي لا بد منه هاهنا فهو مراعاة 
الأعضاء الخمسة فإنهن الأصول وهي : العين والأذن واللسان والبطن والقلب. 
فليحرص عليها بالصيانة لها عن كل ما يخاف منه ضررا من حرام وفضول وإسراف من 
حلال. فإذا حصلت صيانة هذه الأعضاء فترجو أن تكفي سائر أركانه وتكون قد قمت 
بحق التقوى بجميع بدنك لله تعالى . 

واعلم أن علماء الآخرة رضي الله عنهم أجمعين قد ذكروا فيما يحتاج إليه العبد 
من هذا الأمر سبعين خصلة محمودة في أضدادها المذمومة. ثم من الأفعال والمساعي 
الواجبة المحظورة نحو ذلك فنظرنا في الاصول التي لا بد من ذكرها في علاج 
القلب. ولا غنية عنها البتة في شأن العبادة فرأينا أربعة أمور وهي آفات المجتهدين 
وفتن القلوب تعوق وتشين وتفسد. وأربعة فني مقابلتها فيها قوام العباد وانتظام العبادة 
والمناقب الأربع : قصر الأمل والتأني في الأمور والنصيحة للخلق والتواضع 
والخشوع . فهذه هي الأصول في علاج القلوب وفسادها. فابذل المجهود في التحرز 
من هذه الآفات والتحصيل لهذه المناقب تكفى المؤنة وتظفر بالمقصود إن شاء الله 
تعالى . 

فأما طول الأمل : فإنه العائق عن كل خيرء وطاعة الجالب لكل شر وفتنته الذي 
يوقم الخلق في جميع البليات. 

واعلم أنه إذا طال أملك هاج لك منه أربعة أشياء : 

الأول: ترك الطاعة والكسل تقول: سوف افعل. 

والثاني : ترك التوبة وتسويفها تقول: سوف أتوب . 

والثالث: يجرك إلى الرغبة في الدنيا والحرص عليها تقول: أي شيء آكل 
وألبس فتهتم لها وأقل ما في الباب أنه يشغل قلبك ويضيع عليك وقتك ويكثر عليك 
همك . 

والرابع : القسوة في القلب والنسيان للآخرة. لأنك إذا أملت العيش الطويل 
لا تذكر الآخرة بل لا تذكر الموت ولا القبرء فإذاً يصير فكرك في الدنيا فيقسو قلبك 


ال١‎ 


من ذلك كما قال الله تعالى 9قَطَالَ عَلَيْهِم الآمَدُ فَقَسَثْ قُلُوبّهُم074©. وإنما رقة القلب 
وصفوه بذكر الموت والقبر وأحوال الآخرة. 


وأما حد طول الأمل. فقال العلماء: هو إرادة الحياة للوقت المتراخي بالحكم. 
وقصر الأمل ترك الحكم فيه بقيده بالاستثناء بمشيئة الله تعالى وعلمه في الذكر أو 
بشرط إصلاح في الإرادة: فإذا ذكرت حياتك بأنك تعيش بعد نفس أو ساعة ثانية 
بالحكم والقطع فأنت آمل وذلك منك معصية إذ هو حكم على الغيب». فإن قيدته 
بالمشيئة والعلم لله تعالى بأن تقول: أعيش إن شاء الله تعالى» فقد خرجت عن حكم 
الأمل ووصفت بقصر الأمل من حيث تركت الحكم فيه. والمراد بالذكر ذكر القلب ثم 
المراد منه توطين القلب على ذلك والتثبيت للقلب عليه فافهمه راشداء ثم الأمل 
ضربان: أمل العامة وأمل الخاصة. فأمل العامة: هو أن يريد البقاء لجمع الدنيا 
والتمتع بها. فهذه معصية وضدها قصر الأمل. وأمل الخاصة: هو أن يريد البقاء 
لإتمام عمل خير فيه خطر. وهو مالا يستيقن الصلاح له فيه, فإنه زبمايكون خير 
معين لا يكون للعبد فيه أوفي إتمامه صلاح بل يقع في أنه لا يقوم بهذا" الخير» فإذاً 
ليس للعبد ابتداء في صلاة أو صوم أو غيرهما أن يحكم بأن يتمه إذ هو غيب ولا أن 
يقصد ذلك قطعاء بل يقيده بالاستثناء وشرط الصلاح ليتخلص من عيب الأمل وضد 
هذا الأمل فيما قال العلماء: النية المحمودة لأن الناوي بالنية المحمودة يكون ممتنعاً 
من الأمل فهذا حكمه. وأما النية المحمودة: فهي الأصل الأصيل وقد ذكروا فى حدها 
الجامع التام أنها إرادة أخذ عمل مبتدأ به قبل سائر الأعمال بالحكم مع إر ادة إتمامه 
بالتفويض والاسخناء . 


فإن ٠‏ قيل : لم 7 00 في الابتداء ووجب ارين 20 كي ا 
0 الوتمام لأنه يقع في وقت را ففيه لان 0 لانك 
لاتدري هل لك في ذلك صلاح أم لا. فإذا حصلت الإرادة على هذه الشروط تكون 
حينئدذ نية محمودة مخرجة عن حكم الأمى وافاته. والله تعالى أعلم . 


.١١ سورة الحديد: الآية‎ )١( 


07 


واعلم أن حصن تقصير الأمل هو ذكر هجوم الموت وأخذه على غفلة وغرة 
فاحتفظ بهذه الجملة فإن الحاجة ماسة إليها ودع عنك القيل والقال من غير طائل والله 
الموفق. وأما الاستعجال والترقي: فإنه الخصلة المفوتة للمقاصد الموقعة في 
المعاصي . 


واعلم أن أصل العبادة وملاكها الورع والورع أصله النظر البالغ في كل شيء 
والبحث التام عند كل شيء هو بصدده من أكل وشرب ولبس وكلام وفعل. فإذا كان 
الرجل مستعجلاً في الأمور غير متأن متثبت متبين لم يقع منه نظر وتوقف في الأمور 
كما يجب ويسارع إلى أكل كل طعام فإنه يقع في النحرام والشبهة وإلى كل كلام فإنه 
يقع في الزلل وكذلك في كل أمر يفوته الورع وأي خير في عبادة بلا ورع فحق على 
العبد أن يهتم لإزالة هذه الآفة والله الموفق. وأما حد العجلة: فهو المعنى الراتب في 
القلب الباعث على الإقدام على الأمر بأول خاطر دون التوقف وضدها الأناة وهي 
المعنى الراتب في القلب الباعث على الاحتياط في الأمور والتاني في' اتباعها والعمل 
بها. 

وأما التوقف: فضده التعسف والفرق بين التوقف والتأني أن التوقفف يكون قبل 
الدخول في الأمر حتى يؤدي إلى كل جزء منه حقه. 

وأما الحسد: فهو المفسد للطاعات الباعث على الخطيئات المورث للتعب 
والهم في غير فائدة. بل مع كل وزر والموجب عمى القلب وكفى بالحاسد إضلالاً 
وخسرانا أنه عدو لنعمة الله تعالى ومعاند لإرادته وساخط لقضائه. وأما د الحسد: 
فهو إرادة زوال نعمة الله تعالى عن أخيك المسلم مما له فيه صلاح» فإن لم ترد زوالها 
ولكن أردت لنفسك مثلها فهي غبطة. فإن لم يكن له فيها صلاح فأردت زوالها عنه 
فذلك غيرة فهذا هو الفرق بين الخصال. وأما ضد الحسد : فالنصيحة وهى إرادة بقاء 
نعمة الله تعالى على اخيك المسلم فيما له فيه صلاح. فإن اشتبه عليك الأمر فلا ترد 
زوال نعمة عن أحد من المسلمين ولا بقاءها إلا مقيدا بالتفويض إلى الله تعالى 
لتخلص من حكم الحسد وتحصل لك فائدة النصيحة. وأما حصن النصيحة المانع 
من الحسد : فهو ذكر ما أوجبه الله من موالاة المسلمين؛ وحصن هذا الحصن هوذكر 
ما عظم الله تعالى من حقه ورفع قدره ومالهعند الله تعالى من الكرامات في العقبى 
وما لكمن الفوائد الدينية والدنيوية دنيا وأخرى والله الموفق. 


عون 


وأما الكبر: فهو الخصلة المهلكة رأساً أماتسمع قول الله تعالى عن إبليس. 
(أبَى واسْتَكبرَ وَكَانَ مِنَ الكَافِرِينَ04©. وأما حد الكبر: فاعلم أنه خاطر في رفع 
النفس واستعظامها والتكبر اتباع ما ينافي التواضع وكل واحد منهما عام وخاص» 
فالتواضع العام هو الاكتفاء بالدون من الملبس والمسكن وما في معناهما والتكبر في 
مقابلته الترفع عن ذلك وهو معصية كبيرة. 

واعلم أن حصن التواضع العام هو أن تذكر مبدأك ومنتهاك, وما أنت عليه الآن 
من ضروب الأفات والاقذار. وحصن التواضع الخاص هو ذكر عقوبة العادل عن 
الحق فهذه جملة كافية لمن استبصر والله تعالى الموفق. 


الباب الثاني والعشرون 
في بيان معنى حقيقة حسن الخلق وسوثه 

اعلم أن السعادة كلها والباقيات الصالحات أجمعها التي تبقى معك إذا غر قت 
سفينتك في شيئين : الأول: سلامة القلب وطهارته من غير الله تعالى لقوله : : «إلا مَنْ 
أنتَى الله لت 0 4" والثاني: امتلاء القلب بمعرفة الله تعالى التي هي 
المقصودة من خلق العالم وبعثة الرسل صلَّى الله عليهم وسلّم. وحسن الخلق: هو 
الجامع لهما ولا اعلم خصلة تريد عليه في الفضل. ولذلك امتدح الله تعالى به نبيه 
محمدا و فقال تعالى : «وإنك لَعَلَى خُلْقٍ عَظيم 964. وقال تعالى : «إِلَيْهِ يَصْعَدُ 
الكَلمُ الطيّبٌ والمَمَلُ الصّالِحُ يَرَفمُةُ04». والكلم الطيب هو التوحيد والمعرفة والعمل 
الصالح هو طهارة القلب الرافعة لقدر التوحيد والمعرفة» ومعنى الزفعة هو حضور 
القلب وتأثره بهما لينقاد خضوعا ومسكنة ومهابة. فحينئذٍ يكون قريبا من الله تعالى . 
فأما حقيقة حسن الخلق : فاعلم أن للإنسان صورة باطنة وهي التي بعثت الأنبياء كك 
بتقريمها وتزكيتها وكمال اعتدالها وذلك أن تصدر عنها الأخلاق المحمودة بسهولة بلا 
روية ولا فكر. وهذا هو معنى حقيقة حسن الخلق. وسوء الخلق يكون بعكس ذلك 


."84 سورة البقرة: الآية‎ )١( 
.88 سورة الشعراء: الآية‎ )١( 
.4 سورة القلم: الآية‎ )*( 
.٠١ سورة فاطر: الآية‎ )4( 


32, 


واعلم أن جملة الأخلاق المحمودة والمذمومة تصدر عن ثلاثة صفات هن 
كالأمهات : 

الصفة الأولى: العقل وقوته واعتداله بالعلم والحكمة وحقيقة الحكمة معرفة 
الحق من الباطل في الاعتقادات والصدق من الكذب في الأقوال والحسن من القبيح 
في الأفعال. 

الصفة الثانية : فوة الغضب الدافعة للضرر وهي خلقت لذلك فكمالها واعتدالها 
أن تكون منقادة للحكمة إن أشارت الحكمة لها بالاسترسال استرسلت أو بالانقباض 
انقبضت كالكلب المعلم. 


الصفة الثالثة : قوة الشهوة الجالبة للنفع وهي خلقت أيضاً مطيعة للعقل فحسنها 
واعتدالها في إذعانها للحكمة. واعلم أن المطلوب من الأخلاق الاعتدال والوقوف 
على وسط الأمور لقوله تعالى : «وَلا نَجْمَلْ يَدَكَ مَغُْولة إلى عُْقِكَ وَلآ تَبِسْطهَا كُلّ 
البَسطِ»2'7. فصار العدل من هذه الصفات الثلاث ركنا رابعا. فأما مثال الاعتدال في 
الصفات فاعلم أن قوة الحكمة لها إفراط وتفريط ووسط والوسط هو المحمود المسمى 
بالحكمة فبحسبها واعتدالها يصدر عنها التدبير وجودة الذهن والتفطن لدقائق الأعمال 
وخفايا آفات النفس. وأما إفراطها فيصدر عنه المكر والخداع والدهاء وشبه ذلك 
ومن تفريطها يصدر البله والغباوة والحمق والجنون فأما الغباوة: فهي قلة التجربة 
والحمق صحة القصد مع فساد السلوك والجنون فسادهما جميعاً. وأما قوة الغضب: 
فلها اعتدال يسمى الشجاعة يصدر عنه الكرم والنجدة وكظم الغيظ والوفاء بالعهد, 
ولها إفراط يصدر عنه التكبر والعجب والاستشاطة وشبه ذلك, ولها تفريط يصدر عنه 
المهانه والذلة والجزع والانقباض مع تناول الحق الواجب. وأما قوة الشهوة: فلها 
اعتدال يسمى العفة يصدر عنه السخاء والصبر والورع والمساعدة وقلة الطمع. ولها 
إفراط يصدر عنه الحرص والشره وشبههماء ولها تفريط يصدر عنه الحسد والمشاتمة 
والعتب وشبه ذلك؛ فأمهات محاسن الأخلاق الحكمة والشجاعة والعفة والعدل 
المكمل لكل واحدة من الثلاث. وما سوى ذلك فروع لهذه الأربعة» ولم يبلغ كمال 
هذه الأربع إلا سيدنا رسول الله ككل وبالله التوفيق. 


)1( سورة الإسراء: الآية 1 


و9 


في بيان حد التواضع وحقيقته ل 

وعلى الجملة فالمتواضع متخلق بأخلاق الله تعالى وكفى بها شرفاً في الآخرة 
وهو معنى قوله كَلِْ: «من تواضع لله رفعه الله». فأما حد التواضع : فهو ضبط الأحوال 
الاختيارية عن التفريط والإفراط فلا تتكبر ولا تتخاسس . وأما حقيقته: فهر الذل 
والإذعان والانقياد للحق بسهولة والحق يطلق على الله تعالى وعلى أمره. وأما نهايته: 
فهو أن لا يحس بالذل إذا مدح ولا يتألم بالذم إذا ذم لعلمه بحكمة الله سبحانه وتعالى 
وتوحده بالأفعال. لأن العبد لا يحس بالذل بين يدي سيده وهذه طريقة الموحدين» 
لان المتواضع يرى لنفسه قدراً فيضعه والموحد لا يرى لنفمبه قدراً حتى يضعه. 
فالمتواضع ضابط لأفعاله الاختيارية فلا يتكبر ولا يتخاسس. وإن جرى عليه ذل من 
غير اختياره. وطريقة الأولياء الرضى ووجدان اللذة, لأنه جرى بقدر الله تعالى وعلمه 
وإرادته فهو لا يحس بالذل لقصور نظره على حكم الله تعالى وجميل فعله إنما يحس 
بالذل المتكبر الجاهل الغافل القاصر نظره على فعل الأفعال؛ وكلما كان أكثر ذلاً كان 
أكثر كبرا. وأما العلماء بالله تعالى فلا يشهدون لغير الله ولا يتهمونه في حكم من 
الأحكام. بل يعرفون أن ذلك علامة كرامتهم . 


وقد أشار بعض الأئمة رحمهم الله تعالى إلى أن المعرفة لا توجد إلا في قلوب 
المتواضعين الذين صار الذل صفتهم الذاتية فهم بقدرة الله تعالى ونظره ينقلبون إن 
رفعوا إلى السماء لم يزدادوا في نفوسهم كمالاً وإن خفضوا إلى منتهى الخفض 
لم يجدوا في أنفسهم نقصاً كذلك, لأنهم مسلوبو الإرادة والاختيار لعلمهم أن 
الكمال المطلق فيما حكم الله تعالى به وقضاه فيهم. ولأنهم يجدون المزيد من الله 
تعالى في أحوالهم بذلك فهو رتب المقربين. وأما الصالحون فتواضعهم على قدر 
معرفتهم بنفسهم وربهم. وأما علامة التواضع : فهو أن لا يانف من الحق إذا أمر به 
فإن وجد في نفسه ألفة من ذلك فهو متكبر عن قبول الحق وذلك معصية كبيرة» والله 
تعالى أعلم . 


كا 


الباب الثالث والعشرون 
في بيان معنى الفكر ومقدماته ولواحقه 

فمقدماته مساع وتيقظ وذكر ولواحقه العلم, لأن من سمع تيقظء ومن تيقظ 
تذكر, ومن تذكر تفكرء ومن تفكر علم؛ ومن علم عمل إن كان علما يراد للعمل. 
وإن كان علما يراد لذاته سعد والسعادة غاية المطلب. 

أما السماع: فحقيقته الانتفاع بالمسموع من حكمة أو موعظة وما يضاهيهماء 
وشرطه الاستماع وهو الإصغاء وهو واجب في استماع كل علم هو فرض عين مدركه 
السمع ومستحب فيما سواه في العلوم المحمودة ويحرم فيما حرم الشارع من 
المحرمات ويكره فيما يكره استماعه. 

وأما اليقظة: فحقيقتها انتباه القلب للخير. وعلامة الانتباه: القومة والنهوض 
عن ورطة الفترة» والقومة واجبة على الفور في الأوامر والنواهي الفورية وهي متعلقة 
بكل مقام . 

وأما التذكر: فهو تكرار المعارف على القلب لتثبت وترسخ . 

وأما التفكر: فهو أن تجمع بين علمين مناسبين للعلم الذي أنت طالبه بشرط 
عدم الشك فيهما وفراغ القلب من غيرهما ويحدق النظر فيهما تحديقا بالغا فلم يشعر 
إلا وقد انتقل القلب من الميل الخسيس إلى الميل النفيس إحضارا لمعرفتين يسمى 
تذكرا والتذكر يتعلق بالعقد والقول والفعل والترك وهو واجب فيما يجب تذكره. 
ويحرم بتذكر المعاصي إن أدى إلى استجلابهاء وحصول المعرفة الثالثة المقصود من 
هاتين المعرفتين يسمى تفكراء والتفكر واجب عند الشك وعند ورود الشبهة وعند 
علاج الأمراض الواجب إزالتها من القلوب. 

وأما العلم فيندرج في خمسة أقسام : 

الأول: من العلوم الواجبة علم أصول الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم 
الآخر. 

الثاني : علم العبادات المتعلقة بالأبدان والأموال. 


//ا 


الثالث: علم ما يتعلى بالحواس الخمس اللسان والفرج والبطن والسمع 
والبصر. 

الرابع : علم الأخلاق المذمومة الواجب إزالتها من القلوب. 

الخامس : علم الأخلاق المحمودة الواجبة لله تعالى على القلوب. 


الباب الرابع والعشرون 
في بيان معنى التوبة ويضاف إليها الفرار 
والإنابة والإخبات لأنهن من ثمراتها 

أما التوبة» فحقيقتها الرجوع من المعصية إلى الطاعة. ومن الطريق البعيدة إلى 
الطريق القريبة وتنتظم من علم وحال وعمل. 

وكذلك كل مقام فالعلم هو الاأصل الذي هو عقد من عقود الإيمان بالله تعالى 
أو لله تعالى. والحال ما ينشأ عنها من المواجيد. والعمل هو ما تنشئه المواجيد على 
القلوب والجوارح من الأعمال» ويتقدم التوبة واجبان : 

الواجب الأول: معرفة الذنب المرجوع عنه أنه ذنب. 

الواجب الثاني : أنه لا يستبد بالتوبة بنفسه. لأن الله تعالى هو خالقها في نفسها 
ومسير أسبابهاء وهو من الإيمان بالله تعالى لتعلقه بالقدرة. والثاني من الؤيمان له 
لتعلقه بأخباره . 

وأما أركانها فأربعة: علم وندم وعزم وترك والقدر الواجب من الندم ما يحث 
على الترك . 

وأما الفرار: فحقيقته الهرب من المعصية إلى الطاعة. وهذا هو الفرار الواجب 
المبني على أصل الإيمان ورجوع العبد من الشواغل الملهية إلى الله تعالى؛ ومن 
الحسن إلى الأحسن هو أيضا توبة ورجوع. وبه كمال السعادة في الآخرة. وهذا هو 
الفرار الواجب المبني على كمال الإيمان؛ وعلى هذا فلا نهاية لمراتب التوبة ومراقيها 
وهذا هو الإنابة لأن حقيقة الإنابة تكرار الرجوع إلى الله تعالى وإن لم يتقدمه ذنب. 


8م 


وأما الإحبات : فهو الإذعان والانقياد للحق بسهولة . 
واعلم أن التوبة نصح من كل ذنب لا دون ذنب, والله تعالى أعلم . 


الباب الخامس والعشرون 

في بيان الصبر ويضاف إليه الرياضة والتهذيب لأنهما من ثمراته 

أما علمه: فهو تصديق الله تعالى فيما أخبرنا به من عداوة النفس والشيطان 
والشمهوات للعقل والمعرفة والملك الملهم للخيرء وأن القتال بينهم دائم فمن خذل 
جند الشيطان ونصر حزب الله أدخله جنته وهذا واجب لأنه من الإيمان بالله تعالى . 

وأما الحال الناشىء عن هذا الإيمان. فهو ثبات باعث الدين في مقابلة باعث 
الهرى والقدر الواجب منه تقويته بالوعد والوعيد إلى أن يغلب حزب الله تعالى جند 
الشيطان «الا إِنَّ حِرْبَ الله هُمّ الغَالبُونء .00©. 
بالنطف والتدريج إلى أن يرتقي إلى حالة يصير ما كان عنده من الأحوال والأعمال شاقا 
سهلا هينا . 

وأما التهذيب: فهو امتحان النفس واختيار أحوالها في دعوى المقامات هسل 
صدقت أو كذبت» وعلامة اعتدال مقام الصبر أن تصدر عنه الأعمال بسهولة بلا مانع 
ولا منازع. والله تعالى الموفق. 


الباب السادس والعشرون 
في الخوف. ويضاف إليه الحزن والقبض والإشفاق والخشوع 
لأنهن من أنواعه وكذلك الورع لأنه من ثمراته 
أما علمه : فهو مطالعة صفات الألوهية وتعلقها بالتقريب والإبعاد والإسعاد 
والإشقاء من غير وسيلة ولا سابقة. وهذا الخوف يراد لذاته ويجب اعتقاده لأنه من 


)١(‏ سورة المجادلة: الآية ؟7. وتصويب الآية كلمة «المفلحون» بدل «الغالبون»#. 
وفي سورة المائدة: الآية 51. طفإن حزب الله هم الفالبون6. 


7/8 


الديمان بالله تعالى ينتفع بهذا الخوف من أخرجته رؤية كثرة الأعمال إلى الإدلال 
والأمن من مكر الله إذ لا يأمن من مكر الله إلا القوم الخاسرون. 

وأما الخوف المراد لغيره. فهو قسمان. أحدهما: خوف سلب النعمة وهو يحث 
على الأدب ورؤية المنة. والثاني: خوف العقوبات المرتبة على الجنايات» والقدر 
الواجب منه ما يحث على ترك المحظورات وفعل الواجبات. وأما حاله. فهو تألم 
القلب وانزعاجه بسبب توقع مكروه أو على فائت. فإن كانا محمودين كان له حكمهما 
في الوجوب والاستحباب» وإن كانا مكروهين له حكمهما في الحظر والكراهة. 

وأما حقيقة القبض: فهو يطرق القلب تارة يعلم سببه فحكمه حكم الحزن. 
وما لم يعلم سببه فهو عقوبة للمريدين لسبب إفراطهم في البسط. 

وأما حقيقة الاشفاق: فهو اتحاد الخوف بالرجاء واعتدالهماء وأما حقيقة 
الخشوع: فهو سكون القلب والجوارح وعدم حركتهما لما عاين القلب من عظيم 
أو مفزع . 

وأما حقيقة الورع : فهو مجانبة الشيء حذراً من ضرره. والله تعالى أعلم . 


الباب الساء بع والعشرون 
في بيان الرجاء. ويضاف 0 الرغبة. لأنها من أنواعه 
وكذلك البسط لأنه من ثمراته 
أما علمه : فهو أيضاً مطالعة الصفات القديمة التي يصدر عنها كل ما ساء وسر 
ونفع وضرء. فمن عرف هذا من صفاته خافه ورجاه. وهذا هو الرجاء المقصود لذاته, 
السعادة. ويندفع بهذا الرجاء من أخرجه الخوف إلى القنوط . 
وأما الرجاء المراد لغيره: فهو ما يحث على تكثير الطاعات, فإن لم يحث على 
تكثير الطاعات كان تمنياً. لأن حقيقة الرجاء هو ارتياح القلب وانشراحه لانتظار 
وأما الرغبة: فهي استيلاء هذا الحال على قلب الراجي حتى كأنه يشاهد به 
المأمول فهي كمال الرجاء ومنتهى حقيقته . 


3 


وأما البسط : فهو انشراح القلب وانفتاح طريق الهدى له بروح الرجاء. 


الباب الثامن والعشرون 
في بيان الفقر. ولواحقه التبتل والفناء والتجحريد 

أما الفقر: فهو الفقد والاحتياج . ولكن الاحتياج على ضربين: مطلق ومقيد. 
أما المطلق : فهو احتياج العبد إلى موجد يوجده وإلى بقاء بعد الإيجاد وإلى هداية إلى 
موجده وهذا هو الفقر إلى الله تعالى » لأن الله هو موجده وميقيه وهاديه إليه وهذا 
الفقر واجب لأنه من الإيمان بالله ولله . 

وأما الحال الذي ينشأ عن هذه المعرفة: فهو شهود العبد لفقره وحاجته إلى الله 
تعالى على الدوام . 

وأما الاحتياج المقيد: فهو احتياج العبد إلى الوسائل التي تقوم بها ذاته ويستعان 
على تحصيلها بالمال والمال هو المفقود المحتاج إليه» فالفقر المطلق يراد لذاته 
لتعلقه بالله تعالى , والمقيد يراد لغيره وهو التبتك والانقطاع إلى الله وهما الوسيلة للغنى 
بالله وهو تعلق القلب به سبحانه وتعالى . والغنى بالله تعالى وسيلة إلى تجريده عما 
سوى الله تعالى .» ولا يجب من التجريد إلا اعتقاد تجريد القديم عن الحادث. والله 


تعالى أعلم . 


الباب التاسع والعشرون 
في بيان الزهد. ويضاف إليه الإيثار والفتوة. لأنهما من أخلاقه 
وكذلك مقام المراد. لأنه من مواريثه 


أما العلم الذي هو سبب الزهد في الدنيا: فهو من الإيمان لله تعالى وهو قوله 
تعالى بل تَؤْثْرٌونَ الحَيَّاةَ الدنْيَا # والآخرة خَيْرٌ وأبقى»20). 


.١7و‎ ١١ سورة الأعلى : الآيتان‎ )١( 


4١ 


وأما الحال الناشىء عن هذا العلم: فهو انصراف الإرادة عن الدنيا لاستعظام 
ما عند الله . وأما سبب الزهد فيما سوى الله تعالى من نعيم الجنة وغيرهاء فهو إضافة 
حقارة الوجود إلى جلال الله تعالى وكماله. وهذا هو الزهد المراد لذاته وهو من 
الإيمان بالله تعالى لتعلقه بالجلال والكمال. والزهد الذي قبله مراد لغيره وهو فراغ 
القلب لهذه المعرفة؛ والقدر الواجب من الزهد المراد لغيره ما يحث على الفراغ 
لأوقات الواجبات والزهد لا يتعلق إلا بالمباح. ومن شرطه أن يكون مقدوراً عليه. 

وأما ثمرته: فهو الإيشار وهو أعلى درجات السخاءء لأن السخاء هو بذل 
مالا يحتاج إليه سمحاً لا تكلفاً. والإيثار هو بذل ما هو محتاج إليه سمحاً بغير عرض 
ولا غرض إلا لتخلقه بأخلاق الله سبحانه وتعالى . 

وأما الفتوة: فهي ترجع إلى أخلاق المروءة. فمن قام بواجب الشرع وواجب 
المروءة فهو الفتى. ومن شارك أبناء الدنيا فيما هم فيه فلا فتوة له ولا مروءة. وأما مقام 
المراد. فهو الذي وقف على حقيقة الأمر بغير منازع ولا مدافع ولم يشغله عن الله 
تعالى شيء. والله أعلم . 


الباب الثلاثون 
في بيان المحاسبة, ولواحقها الاعتصام والاستقامة. 
لأنهما الثمرة المقصودة 

أما المحاسبة فحقيقتها تفقد ما مضى وما يستقبل وهي واجبة بإجماع الأمة. أما 
العلم الحامل عليها: فهو الايمان بمحاسبة الله تعالى. وهذه المحاسبة توجب 
الاعتصام والفرق بين الاعتصام والاستقامة أن الاعتصام هو التمسك بكتاب الله تعالى 
والحفظ لحدوده الاستقامة هي الثبات والاعتدال عن الميل إلى طرفي الأمر المعتصم 
به والاستقامة مرادة لذاتها ولغيرها. أما كونها مرادة لذاتها فلانها وسيلة إلى الدخول 

في مقام الجمع من وادي التفرقة, والله تعالى أعلم. 


,م 


الباب الحادي والثلاثون 
في بيان الشكر. ولواحقه السرور لأنه من أحواله 
والحكمة لأنها من أعماله 


أما العلم الذي هو سبب الشكر: نهو أن تعلم أن العم كلها هن الله تعالى 
وحده. وهذا واجب. لأنه من الإيمان بالله تعالى قال الله تعالى : «ومًا بَكُمْ من نعمة 
قَمِنَ اللّهه0©. وشكر المنعم واجب وهو من الإيمان. وأما الحال الناشىء عن هذا 
العلم : فهو الفرح والسرور بأنعم الله فهذا الفرح شكر بنفسهء لأنه مراد لذاته وهو 
واجب لأنه من الإيمان بالله تعالى وهو ثمرة الإيمان بالله تعالى . وأما عمل الشكر: فهو 
مراد لذاته ولغيره أما كونه مراداً لذاته فلن العمل باستعمال النعمة فيما خلقت له من 
تمام الحكمة. وأما كونه مراداً لغيره فلحفظ النعم الموجودة والزيادة عليها. وعلى 
الجملة. فالشكر هو استعمال النعمة فيما خلقت له فمن اعتدلت له أحواله حتى و 
كل شيء موضعه كان حكيماً لأن الحكمة وضع كل شيء محله علماً كان أو عملا 
وبالله التوفيق. 


الباب الثانى والثلاثون 

في بيان التوكل ولواحقه التفويض والتسليم والثقة والرضى لأنهن من آدابه 

أما العلم الحامل على التوكل : فهو أن تعلم أن الله قائم بنفسه وأنه مقيم لغيرهء 
ثم تعلم سعة علمه وحكمته وكمال قدرته. 

وأما الحال الناشىء عن هذا العلم : فهو اعتماد القلب على الله تعالى وسكونه, 
وعدم اضطرابه لتعلقه بالله تعالى, ولا يجب على من علم التوكل وحاله إلا ما يكف 
عن الأسباب المحظورة. والتوكل مع شرفه منخفض الرتبة عن التفويض والتسليمء 
لأن غايته طلب جلب النفع ودفع الضرء والتفويض والتسليم حقيفتهما الانقياد 
)١(‏ سورة النحل: الآية 1ه 


6 


والاذعان للأمر والنهي وترك الاختيار في جملة ما حكم الله تعالى به. 

وأما الثقة: فمعناها الربط على القلب وعدم الانفصام على ماحواه من 
التصديقات وهي حالة مكملة لجميع المقامات والأحوال. 

وأما الرضى : فإنما يكون بعد المقضي به. والتفويض والتسليم يكون قبل 
المقضي به والقدر الواجب من الرضى هو أن يكون راضياً بعقله وإن كان كارهاً 
بطبعه, لأن الكراهية لا تدخل تحت اختيار العبد فمن كره بعقله شيئاً مما امتحن الله 
تعالى به عباده في الدنيا والآخرة أو شكا بلسانه أثم وخرج عن واجب الرضى وبالله 


التوفيق . 


الباب الثالث والثلاثون. 
في بيان النية ويضاف إليها القصد والعزم والارادة لأنهن من توابعها 
فأما النية: فهى الوسيلة بعد الإيمان إلى السعادة العظمى في الأولى والعقبى. 
فإذا عرفت هذا وجب عليك فهم حقيقتها أو تحصينها مما يشوبها من الحظوظ الدنيوية 
وجوباً وعن الأغراض والأعواض الأخروية استحباباً. فأما النية: فهي عبارة عن تمييز 
الأغراض بعضها عن بعض . فأما القصد: فهو جمع الهمة نحو الغرض المطلوب 
والعزم هو تقوية القصد وتنشيطه., والإرادة تصرف الموانع المثبطة . 


الباب الرابع والثلاثون 
في بيان الصدق. ويضاف إليه الانفصال والاتصال والتحقيق 
والتفريد. لأنهن من علاماته 
أما الصدق في حق الله تعالى. فهو وصف ذاتي راجع إلى معنى كلامه. 
وأما الصدق في وصف العبد: فهو استواء السر والعلانية والظاهر والباطن» 
وبالصدق يتحقق جميع المقامات والأحوال حتى أن الإخلاص مع جلالته يفتقر إلى 
الصدق والصدق لا يفتقر إلى شيءء لأنه حقيقة الإخلاص في العبادة هو إرادة الله 


41م 


تعالى بالطاعة. فقد يراد الله تعالى بالصلاة مثلا ولكنه غافل من حضور القلب فيها 
والصدق هو إرادة الله تعالى بالعبادة, مع حضوره مع الله تعالى فكل صادق مخلص 
وليسر كل مخلص صادقا. وهذا معنى الانفصال والاتصال. لأنه انفصل عن غير الله 
تعالى واتصل بالحضور بالله تعالى . 

وأما التحقيق : فهو تمييز المقامات والأحوال بعضها من بعض وتخليصها من 
الأغيار والشوائب . 

وأما التفريد: فهو وقوف العبد مع الله تعالى بلا علم ولا حال لشهوده تفرد الله 
تعالى بإيجاد كل موجود وشمول قدرته كل مقدور. 


الباب الخامس والثلاثون 
في بيان الرضى 

قال الحارث: الرضى سكون القلب تحت جريان الحكم. وقال ذو النون: 
الرضى سرور القلب بمر القضاء. وقال رسول الله كَل : «ذاق طعم الإيمان من رضي 
بالله ربأه. وقال عليه السَّلام: دإن الله بحكمته جعل الروح في الرضى واليقين» 
وجعل الهم والحزن في الشك والسخط». وقال الجنيد: الرضا هو صحة العلم 
الواصل إلى القلوب. فإذا باشر القلب حقيقة العلم أداه إلى الرضاء وليس الرضا 
والمحبة كالخوف والرجاء فإنهما حالان لا يفارقان العبد في الدنيا والآخرة. لأنه في 
الجنة لا يستغني عن الرضا والمحبة. وقال ابن عطاء: الرضا سكون القلب إلى قديم 
اختيار الله تعالى للعبد أنه انختار له الأفضل فيرضى له وهو ترك السخط. وقال 
أبو تراب : ليس ينال الرضا من الله من الدنيا في قلبه مقدار. وقال سري : خمس من 
أخلاق المقربين الرضا عن الله تعالى, فيما تحب وتكره والحيلة بالتحبب إليه. 
والحياء من الله تعالى. والأنس به. والوحشة فيما سواه. وقال الفضيل: الرضا أن 
لا يتمنى فوق منزلته شيئاً. وقال ابن سمعون: الرضى بالحق والرضى به والرضا عنه . 
الرضى به مدبراً ومختاراً والرضى عنه قاسماً ومعطياً. والرضى له إلها ورباً. 


سثل أبو سعيد: هل يجوز أن يكون راضياً ساخطاً؟ قال: نعم يجوز أن يكون 
راضياً عن ربه ساخطاً على نفسه وعلى كل قاطع يقطعه عن الله تعالى . 


6م 


وقال بعضهم للحسن بن علي رضي الله عنهما إن أبا ذر يقول: الفقر أحب إليّ 
اتكل على حسن اختيار الله تعالى له لم يتمن أنه في غير الحالة التي اختار الله . 
حال. وقال الشبلي بين يدي الجنيد: لا حول ولا قوة إلا بالله قال قولك هذا إذا 
ضيق صدر. فقال: صدقت فقالضيق الصدر ترك الرضى بالقضاء. وهذا قاله الجنيد 
تنبيهاً منه على أصل الرضى » وذلك لأن الرضى يحصل لانشراح القلب وانفساحه 
البصيرة وعاين حسن تدبير الله تعالى فينتزرع السخط والضجره. لأن انشراح القلب 
يتضمن حلاوة الحب وفعل المحبوب بوقوع الرضى عند المحب الصادق. لأن 
المحب يرى أن الفعل من المحبوب مراده. كما قيل: وكل ما يفعل المحبوب محبوب 
فالقوم يكرهون خدمة الأغيار ويابون مخالطتهم أيضا. فإن من لا يحب طريقهم ربما 
استضر بالنظر إليهم أكثر مما ينتفع بهم . 


ورد في الخبر: المؤمن مرآة المؤمن. فأي وقت ظهر من أحدهم أثر التفرقة 
نافروه» لأن التفرقة تظهر بظهور النفوس وظهور النفوس من تضييع حق الوقت ٠‏ فأي 
وقت ظهرت نفس الفقير علموا خروجه من دائرة الجمعية وحكموا له بتضييع حكم 
الوقت وإهمال السياسة وحسن الرعاية فيعاد بالمناقشة إلى دائرة الجمعية. 


في بيان النهي عن الغيبة 
قال الله عر وجل : «أَيُجِبٌ أحَدَُكُمْ أنْ يكل لَحُمَ أخيه مَيْنأ2'04 وعن أبي هريرة 
رضي الله عنه: أن رجلا كان عند رسول الله يله فقام النبي ككل ولم يقم الرجل. 
فقال بعض القوم : ما أعجز فلاناً. فقال: «أكلتم لحم أخيكم واغتبتموه». 


. 11 سورة الحجرات: الآية‎ )١( 


1م 


وقيل: أوحى الله تعالى إلى موسى بن عمران عليه السّلام : من مانت ثانا من 
الغيبة فهو آخر رجل يدخل الجنة. ومن مات مصرا عليها فهو أول من يدخل النار». 

وقيل : دعي إبراهيم بن أدهم إلى دعوة فحضر فذكروا رجلا لم يأتهم بالغيبة . 
فقال إبراهيم : إنما فعل بي هذا نفسي حيث حضرت موضعا يغتاب فيه الناس فخرج 

وقيل : مثل الذي يغتاب الناس كمثل من نصب منجنيقاً يرمي به حسناته شرقاً 
وغرباً. 

وقيل: يؤتى العبد يوم القيامة كتابه فلا يرى فيه حسنة. فيقول: أين صلاتي 
وصيامى وطاعتى؟ فيقال: ذهب عملك باغتيابك الناس. وقيل: من اغتيب بغيبة 
عر أله له الشف وري 

وقيل: يعطى الرجل كتابه بيمينه فيرى فيه حسنات لم يعملهاء فيقال: هذا بما 
اغتابك الناس وأنت لم تشعر. 

وقيل للحسن البصري : إن فلاناً اغتابك فبعث إليه طبقاً فيه حلوى وقال: بلغني 
أنك أهديت إلى حسناتك فكافاتك . 1 

وعن الجنيد قال: كنت ببغداد فى مكان أنتظر جنازة أصلى عليها فلقيت فقيراً 
عليه أثر النسك يسأل الناس» فقلت في نفسي : لو عمل هذا عمل يصون به نفسه كان 
أجمل به. فلما انصرفت إلى منزلي وكان لي شيء من الورد بالليل فلما قضيته ونمت 
رأيت ذلك الفقير جاؤوا به على خوان ممدود., وقالوا لي : كل لحمه فقد اغتبته فكشف 
لي عن الحال» فقلت: ما اغتبته إنما قلت في نفسي . فقيل : ما أنت ممن يرضى منك 
بمثله اذهب واستحلله فأصبحت ولم أزل أتردد حتى رأيته يلتقط من الماء أوراقاً من 
البقل مما يتساقط من غسل البقل. فسلمت عليه. فقال: يا أبا القاسم تعود؟ فقلت: 
لا فقال: غفر الله لنا ولك. 


الباب السابع والثلاثون 
في بيان الفتوة 
الفتى من تخلى عن تدبير نفسه وماله وولده ووهب الكل لمن له الكل بل ليس 


لام 


له مايهب فإنها ذهبت في قوله تعالى: إن الله انْتَرَى من المُؤْمِنِينَ أَنَْهُمْ 
أمْوَالهُم2©04. تخلق بقوله تعالى : ظإِنْ اله أمُرٌ بالعَذل والإحْسَانٍ»0©. ما ترك 
العدل والإحسان من طاعة الله تعالى شيئاً إلا جمعه. وماترك الفحشاء والمنكر من 
معصية الله تعالى شيئاً إلا جمعه. فتوة العامة بالأموال. وفتوة الخاصة بالأموال 
والأفعال. وفتوة خاص الخواص بهما وبالأحوال. وفتوة الأنبياء بهما وبالأسرار. وهو 
الذي ليس في باطنه دعوى ولا في ظاهره تصنع ومراءاة. وسره الذي بينه وبين الله 
تعالى لا يطلع عليه صدره. فكيف الخلق. ومن شأن الفتى النظر إلى الخلق بعين 
الرضى وإلى نفسه بعين السخط ومعرفة حقوق من هو فوقه ومثله ودونه ولا يتعرض 
لإخوانه بزلة أوحقرة أوكذب. وينظر إلى الخلق كانهم أولياء غير مستقبح منهم إلا 
ما خالف الشرع مع أن ذلك ينسبه إلى الشيطان ذنبا لا إلى أخيه المسلم. فكيف 
إلى الله عر وجل مع أنه يغيره بيده فإن لم يستطع فبقلبه والوياس من الخلق وترك 
السؤال والتعريض وكتمان الفقر وإظهار الغنى وترك الدعوى وكتمان المعنى واحتمال 
الأذى. وأن يؤثر مراد غيره على هواه خلقاً وفعلا وأن لا يزال في حاجة غيره ويعطي 
بلا امتنان ولا يطالب أحداً بواجب حقه ويطالب نفسه بحقوق الناس ويرى الفضل لهم 
ويلزم نفسه التقصير في جميع مايأتي به. ولا يستكثر ما يأتي به. ومن شأن الفتى ترك 
كل ما للنفس فيه حظ. ويستوي عنده المدح والذم من العامة. ومن شأنه الصدق 
والوفاء والسخاء والحياء وحسن الخلق وكرم النفس وملاطفة الإخوان ومجانبة سماع 
القبيح من الأصدقاء. وكرم العهد بالوفاء والتباعد عن الحقد والحسد والغعش. ومن 
شأنه الحب والبغض فى الله والتوسعة على الإخوان من ماله وجاهه إن أمكنه. وترك 
الامتنان عليهم بذلك وصحبة الأخيار ومجانبة الأشرارء ويكون خصماً على نفسه لربه 
ولا يكون له خصما غيرها فيجتهد في كسر ههواهاء لأنه قيل: الفتى(© من كسر 
الأصنام وهي صنم الإنسان. 


.1١١١ سورة التوبة: الآية‎ )١( 

)2( سورة النحل: الآية ,6 

(7) في القرآن الكريم: في قصة كر إبراهيم عليه السلام الأصنام . قال تعالى «قالوا سمعنا فتى 
يذكرهم يقال له إبراهيم » 


84م 


ومن-شأن الفتى أن لا ينافر فقيرا لفقره. ولا يعارض غنياً لغناه» ويعرض عن 
الكونين. ويستوي عنده المقيم والطارىء. ومن يعرف ومن لا يعرف, ولا تمييز بين 
الولي والكافز من جهة الأكل. ولا يدخر ولا يعتذر ويظهر النعمة ويسر المحبة. وإذا 
كان في عشرة فلا يتغير إن كان ما أتى به عشيره أقل أو أكثر, وأن لا يحمرٌ وجه أحد 
فيما لم يندبه الشرع إليه. ولا يربح على صديق وما خرج عنه لا يرجع فيه وإن أعطى 
شكر وإن منع صبرء بل إن أعطى آثر وإن منع شكر الفتوة أن لا يشتغل بالخلق عن 
الحق. وفتوة العارف بمعروفه. وفتوة غيره بمعتاده ومألوفه . 


في السخاء: در 

السخاء : تقديم حظوظ الإخوان على حظك مطلقاً دنيوياً وأخروياً والمبادرة إلى 
الإعطاء قبل السؤال وترك الامتنان بما أعطى وتعجيله وتصغيره وتستيره"2. بل بذل 
النفس والروح والمال على الخلق على غاية الحياء. وأن يكره أن يرى ذل السؤال في 
وجوه المسلمين وسخاء النفس بما في أيدي الناس أكبر من سخائها بالبذل ومروءة 
القناعة. والرضى أكبر من مروءة العطاء وأكبر من ذلك كله السخاء بالحكمة. 


الباب الثامن والثلاثون 

في بيان مكارم الأخلاق 
قال تعالى : «حْذٍ العَفْوَ وأمُرْ بالعُرْفٍ وأَعْرضٌ عَنْ الجَاهِلينَ 224. معناه تعفو 
عمن ظلمك, وتعطي من حرمك. وتصل من قطعك. وتعرض عمن جهل عليك. 
وتحسن إلى هن أساء إليك. فكان كل مبعوثاً بمكارم الأخلاق يقول: «اللهم اغفر 
لقومي فإنهم لا يعلمون». ومن السخاء إفشاء السّلام. وإطعام الطعام. وصلة 


)١1(‏ جعله مستوراً. 
(؟) سورة الأعراف: الآية .1١99‏ 


/3 


الأرحام. والصلاة بالليل والناس نيام ونيل المكارم باجتناب المحارم. مكارم 
الأخلاق من أعمال أهل الجنة قول لطيف يتبعه فعل شريف. مكافأة المحسن بأكثر من 
إحسانه . صاحب مكارم الأخلاق هو الذي لا يحوجك أن تسأله ولا يزال يعتذر ضد 
اللئيم الذي لا يزال يفتخر. والتغافل عن زلل الإخوان والمسارعة إلى قضاء 
حوائجهم. وطرح الدنيا لمن يحتاج إليها. 


الباب التاسع والثلاثون 
في بيان القناعة 

قال الله تعالى : همَنْ عمل صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أ أنتى وَهُوَ مُؤْمِن فلنْحيينَهُ حَيَاة 
طَيبة0) . قال كثير من المفسرين : الحياة الطيبة في الدنيا القناعة, والقناعة موهبة 
من الله عر وجلٌ. وقال رسول الله للد : «القناعة كنز لا يفنى». وعنه عليه الصلاة 
والسّلام : «من أراد صاحباً فالله يكفيه. ومن أراد مؤنساً فالقرآن يكفيه. ومن أراد كنزاً 
فالقناعة يكفيه» ومن أراد واعظأً فالموت يكفيه. ومن لم يكفه هذه الأربع فالخار 
تكفيه» . وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله يد : «كن ورعاً تكن 
أعبد الناس. وكن قنعاً تكن أشكر الناس» وأحب للناس ما تحب لنفسك تكن مؤمناًء 
وأحسن مجاورة من جاوزك تكن سلما وأقل من الضحك فإن كثرة الضحك تميت 
القلب». وقيل في قوله تعالى : وِلَِررُقنهُمْ الله ررقاً حَسَناً0©. يعني القناعة . 

وقال وهب ٠:‏ إن العز والغنى خرجا يجولان فلقيا القناعة فاستقرا فيها. 

وفي الزبور: «القانع غني وإن كان جائعأه. وفي التوراة: «قنع ابن آدم فاستغنى 
اعتزل الناس فسلم» ترك الحسد فظهرت مروءته.تعب قليلا فاستراح طويلاً». وقيل: 
وضع الله تعالى خمسة ة أشياء في خمسة مواضع : «العز في الطاعة, والذل في 
المعصية. والهيبة في قيام الليل. والحكمة في البطن الخالي» والغنى في القناعة» . 
وقال بعضهم : انتقم من حرصك بالقناعة كما تنتقم من عدوك بالقصاص . وقيل : من 


)١(‏ سورة النحل : الآية /ا. 
(؟) في كون الرزق الحسن هنا هو القناعة. انظر. الآية 04 من سورة الحج . 


0ن 


تبعت عيناه إلى مافي أيدي الناس طال حزنه. وقيل: إن أبا يزيد غسل ثوبه في 
الصحراء مع صاحب'له فقال له صاحبه: نعلق الثياب في جدران الكروم فقال: 
لا تغرز الوتد في جدران الناس, فقال: نعلقه في الشجر. فقال لا. لأنه يكسر 
الأغصان. فقال: نبسطه على الحشيش. فقال لا . لأنه علف الدواب. ثم ولّى بظهره 
للشمس والقميص على ظهره حتى جف جانبه. ثم قلبه حتى جف الجانب الآخر. 


الباب الأربعون 
في بيان السائل 
من سأل وعنده قوت يومه فقد قطع الطريق على الضعفاء والمساكين. من كانت 
نيته طلب الآخرة جعل الله غناه في قلبه وجمع شمله وأتته الدنيا وهي راغمة, ' ومن 
كانت نيته طلب الدنيا جعل الله تعالى الفقر بين عينيه وشتت شمله وأمره ولا يأتيه منها 
إلا ما كتب له. ومن جعل الهموم همأ واحداً كفاه الله هم الدنيا والآخرة» ومن تشعبت 
عليه الهموم لم يبال الله تعالى في أي أوديتها هلك. جميع الدنيا من أولها إلى آخرها 
ما تساوي غم ساعة. فكيف بعمرك القصير مع قليل يصيبك منهاء من رضي بما 
قسم الله له بارك الله له فيه ووسعه عليه . من اكتفى عن السؤال فقد أعطي خير النوال» 
من احتجت إليه هنت عليه. إذا أردت أن تعيش حرأ فلا تلزم مؤنة نفسك غيرها والزم 
القناعة؛ كيف يليق بالحر المريد أن يتذلل للعبيد وهو يجد عند مولاه كل ما يريد. 
ولويعلم الناس ما في المسألة ما سأل أحد شيئاً. ولو يعلم الناس ما في حق السائل 
ماحرموا من سألهم أبداء لو صدق السائل ما قدس من رده. مامن رجل سأل رجلا 
حاجة فقضاها أو لم يقضها إلا غار ماء وجهه أربعين يوماً. 


الباب الحادي والأربعون 
في بيان الشفقة على خلق الله تعالى 


اعلم أن الشفقة على خلق الله تعالى تعظيم لأمر الله تعالى. وذلك أن تعطيهم 
من نفسك ما يطلبون وأن لا تحملهم مالا يطيقون. وأن لا تخاطبهم بما لا يعلمون. 


4١ 


ولا بما يعلمون. وأن يسرك مايسرهم., وأن يحزنك ما يحزنهم وفكرك في كيفية 
تحصيل منفعتهم الدينية والدنيوية إليهم . وكيفية دفع مايضرهم في دينهم ودنياهم 
حتى لو سقط الذباب على وجه أحدهم لوجدت لها ألما في قلبك. وأن تكون لأن 
تحفظ قلب مؤمن شرعاً أحب إليك من كذا وكذا حجة وغزوة» وأن تختار عز أخيك 
على عزك وذل نفسك على ذل أخيك . 


الباب الثاني والأربعون 
في بيان آفة الذنوب 


طوبى لمن إذا مات ماتت ذنوبه. قيل: أعظم الذنوب من ظلم من لم يعرفه 
ولم يره. من أطاع الله تعالى سخر له كل شيء. ومن عصاه سخره لكل شيء وسلط 
عليه كل شيء, لو لم يكن في الإصرار على الذنب من الشؤم إلا أن يكون كل ما 
يصيبه فهو عقوبة من سعة أو من ضيقة أو صحة أو سقم لكان كافياً» ولولم يكن في 
ترك المعصية إلا ضد ذلك لكان كافيا. إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه. ليست 
اللعنة سواداً في الوجه أو نقصاً في المال إنما اللعنة في أن لا يخرج من ذنب إلا وقع 
في مثله أو شر منه. لا تكن في التوبة أعجز منك في الذنب ما أنكرت من تغير الزمان 
والإخوان والزوجات,. فالذنوب أورثت ذلك حتى في خلق الدابة وفار البيت». ونسيان 
القرآن. أو شيء من العلم. أو نقل تلاوته من الأحرارء والعقوبة موضوعة للشدة 
والمشقة. فعقوبة كل من حيث يشترك حتى الاحتلام وقد تكون عقوبة الذنب ذنبا مثله 
إذا عظم كثواب الطاعة. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم . 


الباب الثالث والأربعون 
في صفة صلاة أهل القرب 
إذا دخلت في الصلاة فانس الدنيا وأهلها وأقبل على الله تعالى إقبالك عليه يوم 
القيامة.» واذكر وقوفك بين يدي الله ليس بينك وبينه ترجمان وهو مقبل عليك تناجيه 
وتعلم بين يدي من أنت واقف فإنه الملك العظيم . 


04 


وقيل لبعضهم : كيف تكبر التكبيرة الأولى؟ فقال: ينبغي إذا قلت: الله أكبر أن 
يكون مصحوبك في الله التعظيم مع الألف. والهيبة مع اللام والمراقبة والفرق مع 
الهاء . 

واعلم أن من الناس من إذا قال الله اكبر غاب في مطالعة العظمة. وصار الكون 
بأسره في فضاء شرح صدره كخردلة بأرض فلاة. ثم يلقي الخردلة فما يخشى من 
الوسوسة وحديث النفس وما يتخايل في الباطن هو من الكون الذي صار بمنزلة 
الخردلة وألقيت فكيف تزاحم الوسوسة مثل هذا العبد. والله تعالى أعلم . 

جعلنا الله وإياكم من عباده المقربين وعلمائه العاملين وأصفيائه المخلصين. 
وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين وقائد الغر المحجلين. وعلى آله وصحبه 
المقربين وأزواجه الطيبين الطاهرين وذريته المخلصين» وعلى سائر الأنبياء 
والمرسلين والملائكة المقربين» صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين, والحمد لله رب 
العالمين. 

تم بحمد الله كتاب روضة الطالبين وعمدة السالكين 
ويليه كتاب قواعد العقائد في التوحيد 


0 


قواعد العقائد فى التوحيد 

خطبة الكتاب : 

الحمد لله المبدىء المعيد. الفعال لما يريد. ذي العرش المجيد والبطشس 
الشديد. الهادي صفوة العبيد. إلى المنهج الرشيد. والمسلك السديد, المنعم 
عليهم بعد شهادة التوحيد. بحراسة عقائدهم عن ظلمات التشكيك والترديد. السالك 
بهم إلى اتباع رسوله المصطفى كلد واقتفاء آثار صحبه الأكرمين المكرمين بالتأييد 
والتسديد المتجلي لهم في ذاته وأفعاله بمحاسن أوصافه التي لا دركها إلا من ألقى 
السمع وهو شهيد, وهو أنه في ذاته واحد لا شريك له. فرد لا مثل له. صمد لا ضد 
له. منفرد لا ند له. وأنه واحد قديم لا أول لهء أزلي لا بداية له. مستمر الوجود 
لا آخر له. أبدي لا نهاية له قيوم لا انقطاع له. دائم لا انصرام له. لم يزل ولا يزال 
موضوفاً بنعوت الجلال, لا يقضى عليه بالانقضاء والانفصال بتصرم الآباد وانقراض 
الآجال. بل هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم . 

التنزيه وأنه('» ليس بجسم مصور ولا جوهر محدود مقدر. وأنه لاا يمائل 
الأجسام في التقدير ولا في قبول الانقسام. وأنه ليس بجوهر ولا تحله الجواهر. 
ولا بعرض ولا تحله الأعراضء بل لا يمائل موجوداً ولا يماثئله موجود. ليس كمثله 
شيءء ولا هو مثل شيء., وأنه لا يحده المقدار. ولا تحويه الأقطار. ولا تحيط به 
الجهات ولا تكتنفه الأرضون. ولا السموات وأنه مستو على العرش على الوجه الذي 
قاله» وبالمعنى الذي أراده استواء منزهاً عن المماسة والاستقرار والتمكن والحلول 


)١(‏ أي وهو أنه ليس بجسم . . الخ. وهكذا: النظائر الآتية ‏ تبين كذلك. 


ان 


والانتقال. لا يحمله العرش بل العرش وحملته محمولون بلطف قدرته ومقهورون في 
قبضته. وهو فوق العرش والسماء وفوق كل شيء إلى تخوم الثرى. فوقية لا تزيده قربا 
إلى العرش والسماء كما لا تزيده بعداً عن الأرض والثرىء بل هو رفيع الدرجات عن 
العرش والسماءء كما أنه رفيع الدرجات عن الأرض والثرى. وهو مع ذلك قريب من 
كل موجود. وهو أقرب إلى العبد من حبل الوريد. وهو على كل شيء شهيدء إذ 
لا يماثل قربه قرب الأجسام كما لا تمائل ذاته ذات الأجسام وأنه لايحل في شيء 
ولا يحل فيه شيء. تعالى عن أن يحويه مكان كما تقدس عن أن يحده زمان. بل كان 
قبل أن خلق الزمان والمكان وهو الآن على ما عليه كان وأنه بائن من خلقه بصفاته. 
ليس في ذاته سواه ولا في سواه ذاته. وأنه مقدس عن التغير والانتقال لا تحله 
الحوادث ولا تعتريه العوارض» بل لا يزال في نعوت جلاله منزهاً عن الزوال به وفي 
صفات كماله مستغنياً عن زيادة الاستكمالء وأنه في ذاته معلوم الوجود بالعقول مرئي 
الذات بالأبصار نعمة منه. ولطفا بالأبرار في دار القرارء وإتمام للنعم بالنظر إلى وجهه 
الكريم . 

الحياة والقدرة: وأنه تعالى حي قادر. جبار قاهر لا يعتريه قصور ولا عجز. 
ولا تأخذه سنة ولا نوم ولا يعارضه فناء ولا موت» وأنه ذو الملك والملكوت والعزة 
والجبروت. له السلطان والقهر والخلق والأمرء والسموات مطويات بيمينه والخلائق 
مقهورون في قبضته, وأنه المنفرد بالخلق والاختراع المتوحد بالإيجاد والابداع» خلق 
الخلق وأغمالهم وقدر أرزاقهم وآجالهم لا يشذ عن قبضته مقدور. ولايعزب عن 
قدرته تصاريف الأمور لا تحصى مقدوراته ولا تتناهى معلوماته . 

العلم : وأنه عالم بجميع المعلومات محيط علمه بما يجري في تخوم الأرضين 
إلى أعلى السموات, لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا فى السماء. بل 
يعلم دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء ويدرك حركة الذر 
في جو الهواء. ويعلم السر وأخفى ويطلع على هواحسن: الضمائز: وحركات 
الخواطر. وخفيات السرائر بعلم قديم أزلي لم يزل موصوفا به في أزل الآزال, 
لا بعلم متجدد حاصل في ذاته بالحلول والانتقال. 

الإرادة: وأنه تعالى مريد للكائنات مدبر للحادئات فلا يجري في الملك 
والملكوت قليل أو كثير» صغير أو كبيره خير أوشرء نفع أوضرء إيمان أو كفرء 


45 


عرفان أو نكر فوز أو خسران., زيادة أو نقصان طاعة أو عصيان إلا بقضائه وقدره 
وحكمته ومشيئته. فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن. لا يخرج عن مشيئته لفتة ناظر 
ولا فلتة خاطرء بل هو المبدىء المعيد الفعال لما يريدء لا رادٌ لحكمه ولا معقب 
لقضائه. ولا مهرب لعبد من معصيته إلا بتوفيقه ورحمته. ولا قوة له على طاعته إلا 
بمشيئته وإرادته» فلو اجتمع الإنس والجن والملائكة والشياطين على أن يحركوا في 
العالم ذرة أو يسكنوها دون إرادته ومشيئته لعجزوا عن ذلك وأن إرادته قائمة بأ.انه في 
جملة صفاته. لم يزل كذلك موصوفاً بها مريداً في أزله لوجود الأشياء في أوقاتها الي 
قدرها فوجدت في أوقاتها كما في أزله من غير تقدم ولا تأخر. بل وقعت على وفق 
علمه وإرادته من غير تبدل ولا تغيرء دبر الأمور لا بترتيب أفكار ولا تربص زمان. 
فلذلك لم يشغله شأن عن شأن. 

السمع والبصر: وأنه تعالى سميع بصير يسمع ويرى. لا يعزب عن سمعه 
مسموع وإن خفي. ولا يغيب عن بصره مرئي وإن دقء. ولا يحجب سمعه بعد. ولا 
يدفع رؤيته ظلام. يرى من غير حدقة وأجفان. ويسمع من غير أصمخة وآذان, كما 
يعلم بغير خلب. ويبطش بغير جارحة. ويخلق بغير آلة إذ لا تشبه صفاته صفات 
الخلق. كما لا تشبه ذاته ذوات الخلق. 

الكلام : وأنه تعالى متكلم آمر ناه واعد متوعد بكلام أزلي قديم قائم بذاته 
لا يشبه كلام الخلق. فليس بصوت يحدث من انسلال هواء أو اصطكاك أجرام. 
ولا بحرف ينقطع بإطباق شفة أو تحريك لسانء, وأن القرآن والتوراة والإنجيل والزبور 
كتبه المنزلة على رسله عليهم السلام» وأن القرآن مقروء بالألسنة مكتوب في 
المصاحف محفوظ في القلوب, وأنه مع ذلك قديم قائم بذات الله تعالى. لا يقبل 
الانفصال والافتراق بالانتقال إلى القلوب والأوراق. وأن موسى عليه السلام سمع 
كلام الله بغير صوت ولا حرف, كما يرى الأبرار ذات الله تعالىٍ في الآخرة من غير 
جوهر ولا عرض . وإذا كانت له هذه الصفات كان حياً عالماً قادراً مريداً سميعاً بصيراً 
متكلماً بالحياة والعلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام لا بمجرد الذات . 

الأفعال: وأنه سبحانه وتعالى لا موجود سواه إلا وهو حادث بفعله وقفائض من 
عدله على أحسن الوجوه وأكملها وأتمها وأعدلهاء وأنه حكيم في أفعاله عادل في 
أقضيته ولا يقاس عدله بعدل العباد إذ العبد يتصور منه الظلم بتصرفه في ملك غيره 


40/ 


ولا يتصور الظلم من الله تعالى. فإنه لا يصادف لغيره ه ملكأ حتى يكون تصرفه فيه 
ظلما » فكل ما سواه من أنس وجن وشيطان وملك وسماء وأرض وحيوان ونبات وجوهر 
وعرض ومدرك ومحسوس : حادث اخترعه بقدرته بعد العدم اختراعاء وأنشأه بعد أن 
لم يكن شيئاء إذ كان في الأزل موجوداً وحده ولم يكن معه غيره فأحدث الخلى بعد 
إظهاراً لقدرته وتحقيقا لما سبى من إرادته وحق في الأزل من كلمته لا لافتقاره إليه 
وحاجته. وأنه تعالى متفضل بالخلق والاختراع والتكليف لاعن وجوب, ومتطول 
بالإنعام والإصلاح لا عن لزوم» له الفضل والإحسان والنعمة والامتنان. إذ كان قادراً 
على أن يصب على عباده أنواع العذاب ويبتليهم بضروب الآلام والأوصاب» ولو فعل 
ذلك لكان منه عدلاً ولم يكن قبيحاً ولا ظلماًء وأنه يثيب عباده على الطاعات بحكم 
الكرم والوعد لا بحكم الاستحقاق واللزوم إذ لا يجب عليه فعل ولا يتصور منه ظلم 
ولا يجب لأحد عليه حق. وأن حقه في الطاعات وجب على الخلق بإيجابه على لسان 
أنبيائه لا بمجرد العقل. ولكنه بعث الرسل وأظهر صدتهم بالمعجزات الظاهرة, 
فبلغوا أمره ونهيه ووغده ووعيده فوجبٍ على الخلق تصديقهم فيما جاؤوا به. وأنه 
تعالى بعث النبي الامي القرشي محمداً وه برسالته إلى كافة العرب والعجم والجن 
والإنس فنسخ بشرعه الشرائع إلا ما قررء وفضله على سائر الأنبياء وجعله سيد البشر 
ومنع كمال الإيمان بشهادة التوحيد. وهي : قول لا إله إلا الله ما لم يقترن بها شهادة 
الرسول. وهي ٠‏ محمد رسول الله فألزم الخلق تصديقه في جميع ما أقر به من الدنيا 
والآخرة. وأنه لا يقبل إيمان عبد حتى يوقن بما أخبر عنه بعد الموت. وأوله سؤال 
منكر ونكير. وهما شخصان مهيبان هائلان يقعدان العبد في قبره سوياً ذا روح وجسد 
فيسألانه عن التوحيد والرسالة ويقولان: من ربك وما دينك ومن نبيك؟ وهما فتانا القبر 
وسؤالهما أول فتنة للقبر بعد الموت. وأن يؤمن بعذاب القبرء وأنه حق وحكمه عدل 
على الجسم والروح على ما يشاء. ويوقن بالميزان ذي الكفتين واللسان. وصفته في 
العظم أنه مثل طباق السموات والأرضين توزن فيه الأعمال بقدرة الله تعالى. والصنج 
يومئذٍ مثاقيل الذر والخردل تحقيقاً لتمام العدل. وتطرح صحائف الحسنات في صورة 
حسنة في كفة النور فيثقل بها الميزان على قدر درجاتها عند الله بفضل الله تعالى» 
وتطرح صحائف السيئات في كفة الظلمة فيخف بها الميزان بعدل الله تعالى. وأن 
يؤمن بأن الصراط حق., وهو جسر ممدود على متن جهنم أحد من السيف وأدق من 
الشعرة تزل عليه أقدام الكافرين بحكم الله تعالى فيهوي بهم إلى النارء وتثيت عليه 


564 


أقدام المؤمنين فيساقون إلى دار القرارء وأن يؤمن بالحوض المورود: حوض 
محمد يل يشرب منه المؤمن قبل دخول الجنة وبعد جواز الصراط من شرب منه شربة 
لم يظما بعدها أبداًء عرضه السماءء فيه ميزابان يصبان الكوثرء ويؤمن بيوم الحساب 
وتفاوت الخلق فيه إلى مناقش في الحساب وإلى مسامح فيه. وإلى من يدخل الجنة 
بغير حساب, وهم المقربون فيسأل من شاء من الأنبياء عن تبليغ الرسالة» ومن شاء 
من الكفار عن تكذيب المرسلين» ويسأل المبدعين عن السنة» ويسأل المسلمين عن 
الأعمال. ويؤمن بإخراج الموحدين من النار بعد الانتقام حتى لا يبقى في جهنم موحد 
بفضل الله تعالى» ويؤمن بشفاعة الأنبياء ثم العلماء ثم الشهداء ثم سائر المؤمنين كل 
على حسب جاهه ومنزلته. ومن بقي من المؤمنين ولم يكن له شفيع أخرج بفضل الله 
تعالى. ولا يخلد في النار مؤمن بل يخرج منها من كان في قلبه مثقال ذرة من 
الإيمان. وأن يعتقد فضل الصحابة ورتبتهم. وأن أفضل الناس بعد رسول الله كَل : 
أبو بكر. ثم عمر. ثم عثمان. ثم علي رضي الله عنهم. وأن يحسن الظن بجميع 
الصحابة ويثني عليهم كما أثنى الله تعالى ورسوله يَكلِخِ عليهم أجمعين, فكل ذلك مما 
وردت به السنة وشهدت الآثارء فمن اعتقد جميع ذلك موقناً به كان من أهل الحق 
وعصابة السنة. وفارق رهط الضلال والبدعة . فنسأل الله تعالى كمال اليقين, والثبات 
في الدين لنا ولكافة المسلمين إنه أرحم الراحمين. وصلى الله على سيدنا محمد 
وعلى آله وصحبه أجمعين. 


49 


خلاصة التصانيف في التصوف 
خطبة الكتاب: 


الحمد لله الذي أودع لطائف أسراره في قلوب العارفين» وجعل البيان طريقا 
لوصولها إلى المسترشدين» والصّلاة والسّلام على أفصح الأنبياء لساناً وأوضحهم 
اناه وعلى آله وصحبه الهادين. وعلى جميع علماء شريعته العاملين. 

أما بعد: فيقول المستعين بربه المبين الفقير إليه. (محمد أمين) الشافعي 
عله النقشبندي شري الكردي نسبة. الإربلي بلدة, الأزهري إقامة: إنه قد 
أظفرني الله وله الحمد بدرة غريبة» من العلوم الإلهية» موشحة بوشاح اللغة الفارسية. 
فاحتجبت عمن ليس له إلمام بها وهي من أنفس تصانيف العالم العلامة والبحر 
الفهامة. حجة الإسلام الشيخ محمد بن محمد بن محمد الغزالي الطوسي صاحب 
(كتاب الإحياء) وهو الغني عن التعريف قدس الله سره. وأفاض على المسلمين بره 
فرأيت من نصيحة المسلمين. وخدمة الدين. أن أستعين بالله على ترجمتها من 
(الفارسية إلى العربية) مع رقة اللفظ وجزالة المعنى وسهولة المبنى كي ينتفع بها 
الخاص والعام . والله أسأل أن يمن علينا بالفوز بدار السلام . قال ناقلها الفارسي في 
بيان سبب تأليف الأستاذ لهذه الرسالة الموسومة(بخلاصة التصانيف) بعد الثناء 
على الله تعالى وما يتصل به ما هذا ترجمته. 

أما بعد: فقد كان رجل من تلامذة حجة الإسلام محمد بن محمد بن محمد 
الغزالي قدس الله سره العالي قد تعب في تحصيل العلوم مدة من السنين حتى حاز من 
كل فن نصيباً وافراً ففي ذات يوم صار يتفكر في نفسه ويقول: إني قد أتعبت نفسي 
مدة طويلة في تحصيل تلك العلوم. والآن لا أدري أي علم أنفع لي منها ليكون سببا 


6١ 


لهدايتي ويقودني في عرصات القيامة . ولا أدري أيضاً غير النافع منها حتى أتباعد 
وأحترز منه كما قال عليه الصلاة والسلام : «نعوذ بالله من علم لا ينفع». وما زالت هذه 
الفكرة تغلب عليه حتى حملته على أن يكتب إلى شيخه كتاباً يستفتيه فيه عن قصته 
هذه ومسائل أخرى. ويطلب منه مع ذلك النصيحة والدعاء. 

قال فيه: مولاي إن كان الطريق إلى جوابي مدوناً في كتبك العديدة كإحياء 
العلوم» وكيمياء السعادة وجواهر القرآن وميزان العمل والقسطاس المستقيم ومعراج 
القدس ومنهاج العابدين وأمثالها. فإن خادمك ضعيف كليل الطرف عن المطالعة 
فيهاء فاطلب من سيدي وأستاذي مختصراً أقرؤه كل يوم وأعمل بما فيه إلى آخر 
ما قال فكتب الشيخ في رده الكتاب الآتي وأرسله إليه وهو قوله رضي الله عنه . 

اعلم أيها الولد العزيز. والصاحب المخلص أطال الله بقاءعك في طاعته وسلك 
بك طريق أحبابه. أن جميع نصائح الأولين والآخرين مجموعة في أحاديث سيد 
المرسلين يل لأنه هو الذي أوتي جوامع الكلم. فكل ناصح مهما نصح فهو متطفل 
على موائد نصحه يلي : (فإن وصلك شيء من النصائح النبوية فلا حاجة لك إلى 
نصائحي. وإن لم يصل إليك شيء منها فقل لي ما الذي حصلته من علومك فيما 
أمضيته من عمرك الذي ضيعته سدى) . 


أيها الولد: كل نصائح الأولين والآخرين في مقالات سيد المرسلين مكتوبة 
للعالمين. وكل منها يفيد فائدة تامة. فمنها هذا الحديث وهو: وعلامة إعراض الله عن 
العبد اشتغاله بما لا يعنيه. وإنامرء أ ذهبت ساعة من عمره في غير ما خلق له لجدير أن 
يطول عليه حسرته. ومن جاوز الأربعين ولم يغلب خيره شره فليتجهز إلى النار». فهذه 
النصيحة والموعظة كافية لأهل الدنيا. 

يا ولدي: فعل النصيحة سهل والصعوبة في قبولها والعمل بها لأن طعم 
النصيحة في فم عابد الهوى مر والمنهيات محبوبة على العموم . خصوصاً عند من 
يبذل همته في طلب علوم الرسم والفضل والمهارة ونحوها لاكتساب العرٍّ والشرف 
الدنيوي لآنه إنما يقصد بتحصيل العلوم مجرد العلم دون العمل به لينسب إليه العلم» 
ويقال: فلان عالم فاضل فهذه عقيدة فاسدة وهذا القدر هو (نهاية مذهب الفلاسفة). 
والعياذ بالله إذ غايتهم تحصيل العلم بدون التفات إلى العمل. ولم يعلموا أن العلم 


6 


يكون عليهم حجة بالغة وهم في غفلة عن قوله بل : وإن أشد الناس عذاباً يوم القيامة 
عالم لم ينفعه الله بعلمه». 

وروى الإمام أحمد والبيهقي عن منصور بن زاذان قال: «بلغنا أن العالم إذا 
لم ينتفع بعلمه تصيح أهل النار من نتن ريحه ويقولون له: ماذا كنت تفعل يا خبيث» 
فقد آذيتنا بنتن ريحك. أما يكفيك ما نحن فيه من الأذى والشر؟ فيقول لهم: كنت 
عالماً فلم أنتفعَ بعلمي» . 

وحكي أن بعض أكابر أصحاب الجنيد رآه في نومه بعد وفاته فقال: ما فعل الله 
بك؟ قال: طاحت تلك الإشارات؛ وغابت تلك العبارات؛ وفنيت تلك العلوم» 
ا 0 وما نفعنا إلا ركيعات, كنا نركعها في جوف الليل . 

أيها الولد: ينبغى أن لا تكون مفلساً من الأعمال خالياً من الأحوال والمعاني 
الشريفة العالية. واعلم يقيناً أن العلم بمجرده لا يأخذ بيدك يوم القيامة ويتضح لك 
هذا بضرب مثال. أرأيت لو أن رجلاً يحسن الحرب بينما هو يسير في مفازة ومعه 
عشرة سيوف هندية وقسي وسهام في غاية الجودة. وقد تقلد بها إذ فاجأه أسد عظيم 
هل تدفع عنه هذه الأسلحة بمجردها من شر الأسد شيئاًء أنت على يقين تام بأنها 
لا تغني عنه شيئاً حتى يستعملها فيما قصد منهاء فكذلك لوأن شخصاً علم مائة ألف 
مسألة ولم يعمل بواحدة. فأنت ؛ تعلم أن هذا العلم لا يفيده فائدة ما. ولنضرب لك 
مثالا آخر فنقول: لوأن شخضا نه مظن وضعف من الحرارة والصفراء وعلم علماً 
ليس معه شك أن شفاءه في تناول السكنجبين ولكنه لم يتناوله. فهذا العلم ليس بنافع 
في الشفاء ولا دافع للداء حتى يعمل به: 
لو كلت ألفي رطل خمر لم تكن ع سق 

فاعلم أنه لا يفيدك كثرة تحصيل العلم وجمع الكتب مالم تعمل 

يا ولدي: إن لم تكن مستعداً لائقاً لرحمة'الإله عر وجل بالعمل الفالع 
لم تصل إليك رحمته. واسمع الدليل من القرآن «وأن لَيِسَ للإننَانٍ إلأما 
سَعَى204©. 


.89 سورة النجم: الآية‎ )١( 


يا ولدي: إن ظننت أن هذه الآية منسوخة فماذا تقول في قوله تعالى في آيات 
أخرى: طَفَمَنْ كأنَ يَرْجُو لقا ريه فليَمَمَلُ عَمَلا صَالِحا204 وفي قوله: لجرا بمَا 
كَانُوا يَعمَلُونَ2"06. وفي قوله : : 9ن لذبن آمنوا وعَمِلُوا الصَالِحَاتٍ كانت لَهُمْ جنات 
الفردوس رلا ه خَالِدِينَ فِيهَا04©. وفي قوله: «إلا مَنْ تَابَ وآمْنَ وعَمِل عَمَلا 
صَالِحاًع9). وماذا تقول في حديث: «بني الإسلام على خمس : شهادة أن لا إله 
إلا الله وأن محمداً رسول الله. وإقام الصلاةء وإيتاء الزكاة وصوم رمضان. وحج 
البيت لمن استطاع إليه سبيلا». وفي حديث: «الإيمان إقرار باللسان وتصديق بالجنان 
وعمل بالأركان»؛ والدلائل على أن سلامة العبد بالعمل كثيرة لا تعد ولا تحصى . فإن 
خطر لك من كلامي أن العبد يدخل الجنة بعمله لا بفضل الله ورحمته فما فهمت 
كلامي؟ . 

واعلم أني لا أقول ذلك بل أقول إن العبد يدخل الجنة بفضل الله وكرمه 
ورحمتهء غير أن رحمة الله تعالى لا تصل إلى العبد إلا إذا كان مستعداً لها ولائقاً لأن 
يكون محلا لها ولا يكون كذلك إلا بامتثال المأمورات واجتناب المنهيات وملازمة 
الطاعاث والقرب والإخلاص في العمل كما يشير إليه فقول الله تعالى : ؤإن رَحَمَةَ د الله 
قَرِيبٌ مِنَ المُحْسِنِينَ204» حيث أخبر تُعطالى بقرب رحمته من المحسنين» وقد 
قال يإ : «والاحسان أن تعبد الله كأنك ترأه». فهو يفيد بعد رحمته من غير المحسنين . 
فإن لم تكن مستعداً لرحمته على الوجه المذكور لا تصل إليك رحمته؛ وإذا لم تصل 
إليك رحمته لا تدخل الجنة. فإن قال أحد إن العبد يدخل الجنة بمجرد الإيمان. 
قلنا: نعم. ولكن حتى يذوق صعوبة العقبات التى لا يسهلها إلا صالحات الأعمال إذ 
لا يصل العبد إليها إلا بالعبور على الصراط, وما مشينا عليه إلا على صورة مشينا على 
الصراط المعنوي في هذه الدار وما اختلف الناس في السرعة والبطء إلا باختلافهم 
هنا في المبادرة إلى الطاعة والتخلف عنهاء فمن تحفظ هنا حفظ هناك ومن أبطأ هنا 


.١١١ سورة الكهف: الآية‎ )١( 

(؟) سورة الواقعة: الآية 54 . 

(0) سورة الكهف: الآيتان /ا ٠١‏ و8١٠١.‏ 
(4) سورة الفرقان: الآية .9/١‏ 

(ه) سورة الأعراف: الآية 05. 


62 


زلت به قدمه هناك, كما أن شربنا من حوض النبي كك يكون بقدر تضلعنا من 
الشريعة المطهرة» وإذاً فمعنى كون دخول الجنة بفضل الله أن يوفقك الله لصالح 
العمل بفضله لتكون صالحاً ومتهيئاً لرحمته وفضله فيدخلك الجنة. 

با ولدي: اعلم يقيناً أنك إن لم تعمل لم تأخذ أجرة العمل . 

وحكي أن عبداً من بني اسرائيل عبد الله كلما سنين عديدة فأراد البارىء 
جلّ وعلا أن يظهر إخلاصه للملائكة فبعث الله ملكا يخبره أن الله تعالى يقول: إلى 
متى تسعى هذا السعى وتتعب نفسك فى العبادة, وأنت من أهل النار؟ فأخبره الملك 
بما قاله المولى . فقال العبد في جوابه: أنا عبد وشأن العبد العبودية وهو إله. وشأن 
الألوهية لا يعلمه إلا هو. فرجع الملك إلى ربّه وقال: إلهي أنت تعلم السر وأخفى 
وتعلم ما قاله عبدك, فقال الله تعالى: إذا كان هذا العبد مع ضعفه لم يرجم عناء 
فكيف نرجع عنه مع كرمنا: (اشهدوا يا ملائكتي أني قد غفرت له). 


يا ولدي: اسمع حديث النبي و ماذا يقول: «حاسبوا أنفسكم قبل أن 
تحاسبوا وزنوا قبل أن توزنوا». وقال أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه: «من ظن أنه 
بدون الجهد يصل إلى الجنة فهر متمن». ومن ظن أنه ببذل الجهد يصل فهو متعن». 
وقال الحسن البصري رحمه الله تعالى: «طلب الجنة بلا عمل ذنب من الذنوب». 
وفي الحديث القدسي : دما أقل حياء من يطمم في جنتي بغير عمل كيف أجود 
برحمتي على من بخل بطاعتي» وقال أحد الأكابر: «الحقيقة ترك ملاحظة العمل 
لا ترك العمل». وحديث المصطفى و أحسن وأشرف وأوضح من الكل حيث قال: 
«الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت, والأحفق من اتبع نفسه هواه وتمنى 
على الله . 

يا ولدي : كثيراً ما احبيت الليالي بتكرار العلم والمطالعة ولا أدري ما الباعث لك 
على ذلك. إن كان غرضك الدنيا وجذب حطامها وتحصيل المناصب والمباهاة على 
أقرانك وأمثالك., فويل لك ثم ويل لك. وإن كان غرضك إحياء الشريعة والدين 
المحمدي وتهذيب الأخلاق. فطوبى لك ثم طوبى لك. ولقد صدق من قال: 
سهَرٌ العيونٍ لغير وجهك ضائمٌ ‏ وبكاؤهن لغير فقدك باطل 

وقال رسول الله كل : «عش ما شئت فإنك ميت. وأحبب ما شكت فإنك مفارقه. 


١٠و‎ 


واعمل ما شئت فإنك مجزي به». ما فائدتك في تحصيل علم الكلام والخلاف 
والطب والدواوين والأشعار والنجوم والنحو والتصريف وغيرها ما حصلت غير تضييع 
عمرك في الغفلة عن جلال الله وعظمته وقدره. لأني قرأت في إنجيل عيسى عليه 
السّلام: إن العبد إذا مات ووضع في قبره يسأله الله تعالى بنفسه أربعين سؤالاً أولها: 
«عبدي قد طهرت منظر الخلق سنين هل طهرت منظري ساعة»؟ 

يا ولدي: كل يوم ينادي في قلبك وإن لم تسمع (ما تصنم بغيري وأنت محفوف 
بخيري) . 


يا ولدي: العلم بغير عمل جنوني والعمل بغير علم أجنبي. لأن العلم إن 
لم يباعدك اليوم عن المعاصي ولم يصيرك طائعا لم يباعدك غدا من نار جهنم. فإن 
لم تعمل اليوم ولم تتدارك ما فاتك من الأيام الماضية غداً في القيامة تقول: «فار جِعْنًا 
نَمْمَلْ صَالِحاً27. فيقال لك أيها الأحمق أنت أتيت منها فكيف ترجع إليها. 

يا ولدي: الهمة العالية أن تصرف روحك في الطاعات قبل فرار روحك من 
الجسد بالموت؛ لأن الدنيا منزلتك إلى أن تصل إلى المقابر وهؤلاء القوم الذين في 
منازل المقابر ينتظرونك في كل لحظة إلى أن تصل إليهم فالحذر الحذر من أن تذهب 
بغير زاد. قال الصديق الأكبر: «الأجساد قفص الطيور أو اصطبل الدواب». فتأمل فى 
نفسك من أيهما أنت. فإن كنت من الطيور أصحاب الأعشاش تسعت وت طل 
ارجعي إلى رَبِْكِ رَاضِيةَ مَرْضِيّة04). فطر لتجلس بمكان أعل وإن كنت من 
الدواب والعياذ بالله كنت ممن قال الله فيهم: طأولَيِك كالأنعام بَلْ هم م أضَل4©. 
واعلم يقيناً أنك حينئذٍ بعثت ذخيرتك في زاوية إلى هاوية. 


ل 5 بررط مال عي د د با فوقع 


القدح من يده فلما أفاق قيل له: ما الذي حصل لك؟ قال: ذكرت آية أهل النار حين 


.١11 سصورة السجدة: الآية‎ )١( 
. (؟) سورة الفجر: الآأية م738‎ 
(؟5) سورة الأعراف: الآية 4/اا‎ 


ينادون أهل الجنة : طأنْ أفيضوا عَلَيَنَا مِنَ الَماءِ»ه0©. 

يا ولدي: إن كان يكفيك العلم المجرد ولم تحتج إلى العمل فماذا تقول في 
نداء: هل من سائل هل من تائب هل من مستغفر, لأنه ورد في أخبار صحيحة أنه إذا 
مضى نصف الليل والناس نيام ينادي المولى سبحانه وتعالى بنفسه: «هل من انب 
هل من سائل هل من مستغفر». ولذا صار القيام والاستغفار بالأسحار مطلوباً قال 
تعالى : 9كَانُوا قَليلا مِنَ اللَّيْل ما يهُجِمُونَ * وبالأسْحَارٍ هُمْ يَسْتغْفِرُونَ2204. 

قيل: إن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم كانوا جالسين ذات يوم بين يدي 
النبي كك فذكروا عبد الله بن عمر بن الخطاب بخيرء فقال ككلهِ: «نعم الرجل 
لويصلي في الليل». وأيضاً قال رسول الله كلِةِ لأحد الصحابة: «لا تكثر النوم بالليل 
فإن كثرة النوم بالليل تدع صاحبها فقيرا يوم القيامة». 

با ولدي: قوله تعالى : طومِنَ اللَّيّل فَتَهَجَدْ به نَافِلة لَكَ20 أمر «وبالاسحار 
هم يستغفرون» شكر طوالمُسْتَغَفِرِينَ بالأسْحَارٍ»9 ذكر يقول النبي كَل: «ثلاثة 
أصوات يحبها الله تعالى. صوت الديك. وصوت الذي يقرأ القرآن.» وصوت 
المستغفرين بالأسحار». ويقول سفيان الثوري رحمه الله تعالى : إن لله تعالى ريحا 
تهب وقت الأسحار تحمل الأذكار والاستغفار إلى الملك الجبار. وأيضاً له: إذا كان 
أول الليل نادى مناد من تحت العرش: ألا ليقم العابدون فيقومون فيصلون 
ماشاء الله. ثم ينادي مناد في شطر الليل: ألا ليقم القانتون فيقومون فيصلون إلى 
السحرء فإذا كان السحر ينادي مناد: ألا ليقم المستغفرون فيقومون فيستغفرونء فإذا 
طلع الفجر نادى مناد: ألا ليقم الغافلون فيقومون من مفرشهم كالموتى نشروا من 
قبورهم . 

يا ولدي : ورد فى وصايا لقمان أنه قال لابنه : «يا بنى لا يكونن الديك أكيس 
منك ينادي بالأسحار وأنت نائم». وما أجمل وأليق من قول القائل حيث قال: 


.69 سورة الأعراف: الآية‎ )١( 
١8و‎ ١ا/ سورة الذاريات: الآيتان‎ )١( 
.44 سورة الإسراء: الآية‎ )*( 
١1/ةيآلا سورة آل عمران:‎ )4( 


لقد مَتَقَْتْ في جنح ليل حمامة على فنن وهنا وإني لنائم 
كذبتٌ وبيت الله لوكنت عاشقاً لماسبقتني باليكاء ء الحمائمُ 
وأزعمٌ أني هائم ذو صيابةٍ لربي ولا أبكي وتبكي البهائم 

يا ولدي: (خلاصة النصيحة) أن تعلم حقيقة الطاعة والعبادة ما هي؟ العبادة 
هي متابعة الشارع كٍ في الأوامر والنواهي, فإن فعلت فعلاً ولست بمامور به فليس 
بعبادة» وإن كان ذلك الفعل في صورة العبادة بل قد يكون عصيانا وإن كان صوماً 
وصلاة. ألا ترى أنه إذا صام شخص يوم العيدين وأيام التشريق يكون عاصياًء وإن 
كان ما فعله في صورة العبادة لأنه لم يؤمن به» وكذا من صلى في الأوقات المكروهة 
أو في المواضع المغصوبة يكون آثماً. 

واعلم أنه إذا مزح شخص مع محرمه فإنه مأجور وإن كان ذلك في صورة 
لعب, لأن هذا اللعب مأمور به. وبذا صار معلوما أن العبادة الحقيقية هي امتثال الأمر 
لا مجرد الصلاة والصوم, لأن الصلاة والصوم لا يكونان عبادة إلا إذا كان مأموراً 
بهما. 

يا ولدي: فليكن جميع أحوالك وأقوالك مأمورا به موافقاً للشريعة» لأن علم 
وعمل المخلوقات بغير فتوى المصطفى و ضلالة وسبب للبعد عن الله تعالى . ولهذا 
نسخ المصطفى كك الأعمال السابقة فلا تحرك لسانك بكلمة تكون غير مأمور بها. 
وكن متيقناً أن طريق الله تعالى لا تقدر أن تصل إليه بغير ما لم تؤمر به ولا تصل إليه 
أيضاً بالشطحات والترهات الصوفيّة ترسماء بل لا تصل إلى هذا الطريق إلا بقطع 
الهوى والشهوة وحظوظ النفس بسيف المجاهدات ولا بوثبات الشطحات والترهات, 
فإن زعمت الوصول اغترارا منك بما تبديه من الكلام الرقيق وصفاء الأيام والأوقات 
وصلافة اللسان مع تعلق القلب بالشهوات والغفلة كان ذلك علامة على الشقاء 
والوبال» وإذا لم تقهر الهوى والنفس بالمجاهدات وتصيرها تحت الشرع لم يكن 
القلب حيا بنور المعرفة . 

يا ولدي: سئلت أسثئلة بعضها لا يكيف بالقول ولا بالكتابة لأنه ذوقي. وكل 
ما كان ذوقيا لا يكيف بالقول ولا بالكتابة فلا تعلمه إلا إذا وصلت إليه. وما مثلك في 
ذلك إلا كمثل من جهل الحلاوة أو المرارة مثلاً وأراد أن يكفيه بمجرد القول والكتابة 
فلا يقدر البتة. 


يا ولدي: إن كتب عنين لأحد عرف لذة الجماع يسأله عن لذة الجماع كتب إليه 
في جوابه : إن هذا ذوقي لا تعرفه إلا إذا وصلت إليه وإلا فلا يكيف بالقول والكتابة . 

يا ولدي: بعض أسئلتك من هذا القبيل. وأما القدر الذي يكيف بالقول 
والكتابة فقد بينته في كتابنا وإحياء العلوم» وغيره من التصانيف فاطلبه هناك .وأما هنا فما 
قلنا على طريقة الإشارة: وسألتني عما يجب على مريد طريق الحق جل وعلا. 

الثاني : التوبة النصوح بأن لا يرجع إلى الزلات. 

الرابع : تحصيل علم الشريعة بقدر ما يعمل بأوامر الله ويقف عن نواهيه 
ولا يجب عليه من علم الشريعة سوى ذلك. وأما غير علم الشريعة فكيفيه أن يتعلم 
القدر الذي به خلاصه ونجاته, وهذا الكلام يكون معلوماً لك بنقل حكاية وردت عن 
المشايخ وهي أن الشبلي رحمه الله قال: إني خدمت أربعماثة أستاذء وقرات عليهم 
أربعة آلاف حديث, واخترت منها حديثاً واحداً وعملت به وتركت باقيها لاني تأملت 
في هذا الحديث الواحد فرأيت فيه خلاصي ونجاتي . وأيضا رأيت أن علم الأولين 
والآخرين مندرج فيه وهو قوله وإ : «اعمل لدنياك بقدر مقامك فيهاء واعمل لآخرتك 
بقدر بقائك فيها('2, واعمل لله بقدر حاجتك إليه. واعمل للنار بقدر صبرك عليها». 

يا ولدي: من هذا الحديث علم لك أنك لا تحتاج للعلم الكثير وتحصيل كثرة 
العلم من فروض الكفاية لا من فروض الأعيان, وتأمل في هذه الحكاية حتى تكون 
متيقنا. ورد أن حاتماً الأصم كان من تلامذة شقيق البلخي رحمة الله عليهماء فقال 
شقيق ذات يوم : يا حاتم كم سنة أنت في صحبتي؟ قال: ثلاثا وثلاثين سنة. فقال: 
ما الذي حصلته من العلوم وكم فائدة أخذتها مني؟ قال: تحصلت على ثمان فوائد 
قال شقيق: «إنَا لله وإنا إلبْهِ رَاجِعُونَ2024». ياحاتم أنا صرفت عمري معك في 
تعليمك وأنت ما تحصلت مني على سوى هله الفوائد. فقّال حاتم : يا أستاذي إن 
طلبت مني الصدق فما تحصلت على غير الذي قلته ولم أطلب تحصيل غيرها لأني 


. أي وأنت في نعيم مقيم‎ )١( 
. 165 سورة البقرة: الآية‎ 2, 


تيقنت أني لا أتحصل على خلاصي ونجاتي في الدارين إلا بهذه الثمانية. وإن 
ما سواها مستغنى عنه بها. قال شقيق: قل لي ما هذه الفوائد الثمانية؟ فقال: 

الأولى : نظرت في المخلوقات ورأيت كل واحد منهم اختار محبوباً فالبعض 
يصحب المحب إلى مرض الموت والبعض إلى طرف القبرء وبعد ذلك يودعونه 
ويرجعون ولا يدخلون معه القبرء وتأملت لأجد محبوباً يكون لي رفيقاً وأنيساً في القبر 
فما وجدت سوى العمل الصالح. ٠‏ فلهذا اخترته وجعلته محبوباً ليكون رفيقاً ومؤنساً في 
القبر. فقال شقيق: أحسنت يا حاتم . 

الثانية: نظرت في المخلوقات فرأيت الكل أ سير النفس والهوى. وتأملت في 
قوله تعالى «وأمًا مَنْ خافق مَقَامَ 2 وَنهى النفسَ عَنِ الهوى * فَإِنَّ الحندٌ هي 
المأوى76». فعلمت يقيئاً أن القرآن حق وخالفت النفس الأمارة بالسوء وشددت 
المنطقة فى المجاهدات وما أعطيتها مآربها وآمالها حتى انقادت تحت طاعة الحق . 
قال شقيق: بارك الله فيك. 

الثالثة : نظرت إلى هذا الخلق فرأيت كل واحد يسعى ويتعب في تحصيل شيء 
من حطام الدنيا وما تحصلوا عليه حفظوه ٠‏ وفرحوا به لظنهم أنهم تحصلوا على شيء. 
ثم نظرت في قوله تعالى : لِمَاعِندَكُمْ يَنَقَدُ وَمَاعِنَْدَ الله باق 274. فما حصلته 
وجمعته في سنين تصدقت به على الفقراء وجعلته وديعة عند الله ليكون لي عنده باقيا 
وزاداً مدخراً لآخرتي قال شقيق: أحسنت. 

الرابعة : إني نظرت في هذا العالم فرأيت قوماً يظنون أن شرف الإنسان وعزه 
بكثرة الأقارب والعشائر ويفتخرون بها. وقوماً يظنون أن شرف الإنسان وكبرياءء9) 
بكثرة الأموال والأولاد فافتخروا بهاء وبعضاً يظنون أن العرّ والشرف بالغضب والسب 
والضرب وسفك الدماء فافتخروا بذلك. ونظرت في قوله تعالى: إن أَكْرَمَكُمْ عِندَ 
الله 4 أتقاكم 04 . فعلمت أن القرآن حق. وأن ظنون الخلق خطأء. فاخترت التقوى 

حتى أكون عند الله من المكرمين قال شقيق: أحسنت. 
)١(‏ سورة النازعات : الآيتان :٠‏ و١4.‏ 


(؟1) سورة النحل: الآية 45. 
(9') وعظمته وعزه. 


الخامسة: نظرت إلى هذا الخلق فرأيت قوماً يبغض ويحسد بعضهم بعضاً 


بسبب حب المال والجاه. وإني نظرت في قوله تعالى ظنْحْنُ قَسَمْنا بَْنهُمْ معيشتهم 
في الحياةٍ ادناه 27 . وإني علمت أن هذه القسمة ثابتة في الأزل لا اختيار لأحد فيها 
فما حسدت أحذا مع ورعنيك قمة البارىء تعالى واصطلحت مع أهل الدنيا. قال 
شقيق : أحسنت . 

السادسة: نظرت إلى هذا العالم فرأيت بعضهمٍ يعادي يفا سنت أغراض 
نفسانية ووساوس شيطانية.» ونظرت في قوله تعالى : «إن الشَيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌ فاتَخِذُوهُ 
عَدُوَا74 . وعلمت أن القرآن حق وأن غير الشيطان واتباعه لا يكون عدواً فاتخذدت 
الشيطان عدوي ولم أطعه في أمر ماء وامتثلت أمر الله تعالى وراقبت عظمته ولم أعاد 
أحداً من خلقه وعلمت أن الصراط العم فٍِ قوله تعالى ٠:‏ «ألم أغهذ إلبكم 
يا بني آدم أنْ لا تعْبدُوا الشَيْطَانَ إنه لَكُم عَدُوَ مُبِينٌ * وأن اعْبدُوني هذا صِرَاط 

مستقيم 2274. قال شقيق: أحسنت يا حاتم . 

السابعة: نظرت في هذا العالم فرأيت كل واحد يصرف غاية جهده وقد أذل 
امسا العمل القرت رسجب ذلك فد وقعوا:/ في الحرام والشبهات. ونظرت في 
قوله تعالى : وما من دَابَة في الأرضٍ عَلَى الله رِرْقُهَا4ي9؟) وفي قوله تعالى: 
«وأن لَيِسَ للانْسَانٍ إلا مَا سَعَى 2004. فعلمت أني أحد الدواب في الأرض وأن رزقي 
مضمون منه تعالى . وأني مكلف بالسعى فى طلب الآخرة فاشتغلت بالخالق قال 
شقيق: أحسنت. ا 

الثامنة: نظرت إلى هذا الخلق فرأيت بعضاً يعتمد على ماله وملكه وبعضاً 
يعمد على خرفنه وصداعت» وبعضاً يعتمد على مخلوق مثله. وتأملت في قوله 
تعالى: لِوَمَنْ يَتَوَكُلْ عَلَى اللَهِ فَهُوَ حَسْبّهُ'' فتوكلت على الله تعالى وهو 


,"5 سورة الزخرف: الآية‎ )١( 
.5 (؟1) سورة فاطر: الآية‎ 

(”) سورة يس: الآيتان 5١‏ و١5.‏ 
(:) سورة هود: الآية 5. 

(ه) سورة النجم: الآية 74. 
(1) سورة الطلاق: الآية ”. 


1١1١ 


حسبي ونعم الوكيل. قال شقيق : أحسنت يا حاتم» وفقك الله تعالى» إني نظرت في 
التوراة والإنجيل والزبور والفرقان فوجدت مافي الكتب الأربعة لا يخرج عن هذه 
الفوائد الثمانية والذي يعمل بها كأنه عمل بما في الكتب الأربعة. وبهذه الحكاية 
صار معلوماً لك أنك لا تحتاج إلى كثرة العلم. ولنرجع الآن إلى ما نحن فيه ونذكر 
للك ها ييحي في سق يسالك بطريق» الحق: 

٠‏ الخامس: أن يكون له مرشد ومرب ليدله على الطريق ويرفع عنه الأخلاق 
المذمومة. ويضع مكانها الاخلاق المحمودة. ومعنى التربية أن يكون المربي 
كالمزارع الذي يربي الزرعء فكلما رأى تدا أو نباتاً ا بالزرع قلعه وطرحه 
خارجاً ويسقي الزرع مراراً إلى أن ينمو ويتربى, ليكون أحسن من غيرهء وإذا 
علمت أن الزرع محتاج للمربي علمت أنه لا بد للسالك من مرشد مرب البئةء 
لأن الله تعالى أرسل الرسل عليهم الصلاة والسّلام للخلق ليكونوا دليلا لهم ويرشدهم 
إلى الطريق المستقيم. وقبل انتقال المصطفى عليه الصلاة والسّلام إلى الدار الآخرة 
قد جعل الخلفاء الراشدين نوابا عنه ليدلوا الخلق إلى طريق الله. وهكذا إلى يوم 
القيامة» فالسالك لا يستغني عن المرشد البتة. 

وشرط المرشد أن يكون عالماً. لكن ليس كل عالم يصلح للارشاد» بل لا بدّ 
أن يكون عالماً له أهلية صناعة الإرشاد. ولهذا المرشد علامات ونحن نذكر لك ما 
لا بد له منهما بطريق الإجمال حتى لا يدعي الإرشاد كل متحير. 


فالمرشد هو الذي يكون قد خرج من باطنه حب المال والجاه وتأسس بنيان 
تربيته على يد مرشد كذلك». وهلم حتى تنتهي السلسلة إلى النبي وك وذاق بعض 
الرياضيات كقلة الأكل والكلام والنوم. وكثرة الصلاة والصدقة والصوم. واقتبس نوراً 
من أنوار سيدنا محمد يك واشتهر بالسيرة الحسنة والأخلاق المحمودة من صبر 
وشكر وتوكل ويقين وطمأنينة وسخاء وقناعة وأمانة وحلم وتواضع ومعرفة وصدق ووقار 
وحياء وسكون وتأن وأمثالهاء وتطهر من الأخلاق الذميمة كالكبر والبخل والحسد 
والحقد والحرص والأمل الطويل والطيش ونحوهاء وسلم من تعصب المتعصبين» 
واستغنى عن علم المكلفين بالعلم المتلقى عن رسول الله يكل. فالاقتداء بمثل هذا 
المرشد هو عين الصواب والظفر بمثله نادر لا سيما في هذا الزمان. فإنه كثر فيه من 


1١11 


يدعي الإرشاد وهو في الحقيقة يدعو الناس إلى اللهو واللغو. بل ادعى كثير من 
الملحدين الإرشاد بمخالفة الشريعة وبسبب غلبة هؤلاء المدعين اختفى المرشدون 
الحقيقيون في أركان الزوايا وبما ذكرناه علم بعض علامات المرشد الحقيقي. حتى 
أنه من وجد متخلفا بها علم أنه من المرشدين, ومن لم يكن متخلفاً بها علم أنه من 
'المدعين. فإن تحصل أحد على مثل هذا المرشد وقبله المرشد وجب عليه احترامه 
ظاهراً وباطنا . 

فالاحترام الظاهري ألا يجادله ولا ينكر عليه ولا يقيم الحجة عليه في أي مسألة 
ذكرها. وإن تحقق خطأه. وأن لا يظهر نفسه أمام المرشد بفرش السجادة إلا أن يكون 
إماماً. فإذا فرغ من الصلاة ترك السجادة تأدباً معه. وأن لا يتنقل كثيراً في حضرته» 
وأن يفعل كل ما أمره به قدر استطاعته, وأن لا يسجد له ولا لغيره لأنه كفر. وأن يبالغ 
في امتثال أمره ولو كان ظاهره في صورة المعصية. 

والاحترام الباطني أن كل ما سلمه له في الظاهر لا ينكره في الباطن وإلا كان 
منافقاء فإن لم يقدر على ذلك ترك صحبته حتى يكون ما في باطنه موافقا لما في 
ظاهره لأنه لا فائدة في الصحبة مع الإنكار. بل ربما تكون سبباً في هلاكه. 

السادس: مخالقة سياسة النفس. وهذا لا يتيسر إلا بترك جلساء السوء لتقصر 
عنه يد تصرف شياطين الونس والجن وترفع عنه التلوئات الشيطانية . 

السابع : أن تختار جميع أحوال الفقراء. لأن أصل هذا الطريق فراغ القلب من 
حب الدنياء فإذا لم تختر جميع أحوال الفقراء وجدت في قلبك الأسباب الدنيوية فقل 
أن تقدر على الخلاص من حبها فترك تلك الأسباب يكون سببا لفراغ القلب من حب 
الدنياء ولا يتيسر لك هذا الترك إلا بذلك الاختيارء وهذه السبعة واجبة على سالك 
طريق الله . 

وسألت أيضاً ما هو التصوف؟ فاعلم أن التصوف شيئان في الصدق مع الله 
تعالى وحسن المعاملة مع 'الناس. فكل من صدق مع الله وأحسن:معاملة الخلق فهو 
صوفي. والصدق مع الله تعالى هو أن يفني العبد حظوظ نفسه لأمره تعالى» وحسن 
المعاملة مع الخلق هو أن لا يفضل مراده على مرادهم ما دام مرادهم موافقاً للشرع 
لأن كل من رضي بمخالفة الشرع أو خالفه لا يكون صوفياً وإن ادعى التصوف يكون 
كذايا. 


1١1 


وسألت ما هي العبودية؟ فاعلم أن العبودية هي عبارة عن دوام حضور العبد من 
الحق تعالى بلا شعور الغيرء بل مع الذهول عن كل ما سواه وهي لا تتأتى إلا بثلاثة 
أشياء . 

الأول: الانتباه لأمر الشرع . 

الثاني : الرضا بالقضاء والقدر وقسمة الله تعالى . 

الثالث: ترك طلب اختيار نفسك وفرحك باختيار الله تعالى لك . 

وسألت ما هو التوكل؟ فاعلم أن التوكل أن تثق بما وعد به الله وثوقاً لا تضعفه 
الحوادث مهما كثرت وتعاظمت. يعني أن يكون لك تمام اليقين بأن كل ما قسم لك 
يصل إليك وإن اجتمع أهل الدنيا ليدفعوه عنك. وكل مالم يقسم لك لن يصل إليك 
وإن ساعدك أهل الدنيا. 


وكذلك سألت ما هو الإخلاص؟ فاعلم أن الإخلاص هو أن تكون أفعالك كلها 
صادرة لله تعالى بحيث لا يكون في قلبك التفات لشيء من الخلق حين العمل 
ولا بعده. كأن تحب ظهور أثر الطاعة عليك من نور الوجه وظهور أثر السجود في 
جبهتك. ومن علامات إخلاصك أن لا تفرح بثناء الخلق عليك ولا تحزن بذمهم 
لك؛ بل يستوي عندك الأمران واعلم أن الرياء يتولد من عظمة الخلق عندك فعلاجه 
أن ترى الخلق مسخراً لقدرة الله وتلاحظ أن الناس مثل الجمادات لا قدرة ولا إرادة 
لهم فلا يقدرون على أن يوصلوا إليك نفعاً ولا ضراء فإذا فعلت ذلك خلصت من هذا 
المرضء. وإلا فما دمت تظن أن الخلق قادرون ومريدون لا يرتفع عنك الرياء . 

يا ولدي. أما بقية أسئلتك فبعضها مسطر في كتبي فاطلبه هناك وبعضها 
لا تنبغي كتابته» لكن :إذا عملت بما:علمت يكشف لك عن حقيقته . 

يا ولدي, إذا أشكل عليك اشيم بعد هذا فلا تسألني إلا بلسان الحال قال 


تعالى: «وَلَو 3 صَبَرُوا حتى تَخْرْجَ إِللِهم لكان حيرأ لم04 واقبل نصيحة 
الخضر عليه السلام المشار إليها بقوله تعالى جفلا تسالني عَنْ شيءٍ حتى أخدث لَك 


.© سورة الحجرات: الآية‎ )١( 


١1 


نه دك رأ74. ولا تستعجل بالسؤال لأنك تصل إلى وقت يكون هو المبين لك. ألا 
ترى إشارة قوله تعالى: «ناريكُم آباتيٍ قلا نَْتَمجلُون 294 ٠‏ واعلم يقيناً أنك 
إذا لم تسر: لم تصل ولم ترء قال تعالى : ووم يسيرٌوا في الأرض فَينْظروا». 

يا ولدي. إذا ذهبت في طريق الله سريعاً ترى العجائب. 

يا ولدي. لا بد لك مع العمل من بذل روحك في سبيل الوصول إلى حضرة 
الحق. فإن العمل بدون بذل الروح لا يفيد. قال ذو النون المصري رحمة الله تعالى 
عليه لأحد التلامذة: إن قدرت على بذل الروح فتعال. وإلا فلا تشتغل بترهات 
الصوفية والقال. 


يا ولدي. اختصر لك النصيحة في ثمانية أشياء : أربعة تركية وأربعة فعلية» 
حتى لا يكون علمك يوم القيامة خصماً لك وحجة عليك . 

أما التركية فأحدها: ترك المناظرة بقدر إمكانك وإقامة الحجة على كل من يذكر 
مسألة فإن آفات ذلك كثيرة وضرها أكثر من نفعهاء إذ هي منبع كل الأخلاق الذميمة 
كالرياء والحقد والكبر والعداوة والمباهاة وغيرهاء فإن وقعت بينك وبين غيرك مسألة 
وأنت تريد بالمناظرة أن ينتكشف الحق جاز لك البحث في تلك المسألة بهذه النية. 
ولصدق هذه النية علامتان. 


إحداهما: ألا تفرق بين أن ينكشف الحق على لسانك أو لسان خصمك بل 
تحب أن تنكشف الحقيقة على يد خصمك ليكون ذلك أدعى له إلى قبولهاء لأن قبوله 
من نفسه أقرب إلى قبوله منك. 

انيهما: أن يكون البحث في الخلوة أحب إليك منه في الملاأ. أما إذا قلت 
لأحد مسألة وأنت تعلم أن الحق بيدك وهو يستهزىء,؛ فالحذر من أن تقيم الحجة معه 
واترك الكلام, فإنه يؤدي إلى الوحشة فلا تكون معه فائدة. وهاهنا أذكر لك فائدة. 


.ا/١ سورة الكهف: الآية‎ )١( 
زم سورة الأنبياء : الآية ااا‎ 
.7١ سورة الروم : الآية 4. وسورة فاطر: الآية 6 4 . وسورة غافر: الآية‎ )5( 


١١6 


اعلم أن السؤال عن الأشياء المشكلة مثل عرض المريض علته على الطبيب 
والجواب مثل سعي الطبيب في شفاء هذا المريض فالجهلاء مرضى والعلماء 
أطباؤهم , والعالم الناقص لايليق أن يكون طبيباً لهم. بل الذي يداوي المرضى هو 
العالم الكامل لأنه هو الذي يؤمل فيه أن يعرف حقيقة العلة. وقد يكون المرض شديداً 
لا يمكن علاجه فمهارة الطبيب تكون في عدم الاشتغال بمداوته. واعلم أن مرض 
الجهل أربعة أقسام : ثلاثة لا علاج لها. وواحد يمكن علاجه. 

فالأول: أن يكون السؤال أو الاعتراض ناشئاً عن حسد والحسد مرض لا علاج 
له؛ واعلم أنك كلما أجبته بأي جواب تزينه وتوضحه له لا يزيده جوابك إلا حسداً 
ولا يزيده حسده إلا تكبرأء فينبعي ألا تشتغل بجوابه وما أحسن قول الشاعر: 
كل العداوة قد تُرّجى إزالتها إلا عداوة من عاداك من حسد 

وتدبيره : أن تتركه بمرضه وتعرض عنه عملا بقوله تعالى : (نأغرض عَمْنْ تَولى 
عَنْ ذِكرنًا وَلَم يُرِدْ إلا الحَيّاة الدّنْيا04». فإذا تعرضت له واشتغلت بمداواته فقد 
أشعلت نار حسده التي هي مما يحبط الأعمال, كما في الحديث: «الحسد يأكل 
الحسنات كما تأكل النار الحطب». 

الثاني : أن تكون العلة من الحماقة وهذا لا يمكن علاجه لقول عيسى عليه 
السلام : (ما عجزت عن إحياء الموتى ولكن عجزت عن إصلاح الأحمق). وهذا هو 
الذي. اشتغل يومين أو ثلاثة بتحصيل العلم ولم يشرع في العلوم العقلية أصلاء ومع 
هذا يعترض على العلماء الذين صرفوا عمرهم في تحصيل العلوم ولم يعلم أن 
الاعتراض على العالم العظيم من طالب صغير لا يكون إلا من الجهل وعدم المعرفة. 
فهذا لم يعرف قدر نفسه ولا قدر هذا العالم من حماقته وعدم معرفتهء فينبغي أن 
تعرض عن هذا أيضاً ولا تشتغل بجوابه . 

الثالث: أن يكون السائل مسترشدا ليس فيه أهلية لفهم كلام الأكابر لقصور 
فهمه عنه. ويسأل عن جهة الاستفادة عن غوامض الأمور التي يكون قاصراً عن إدراك 
حقائقها. ولايرى قصور فهمه فلا تشتغل بجوابه أيضاء لأن النبى كلك قال: «نحن 
معاشر الأنبياء أمرنا بأن نكلم الناس على قدر عقولهم». ْ 


. 59 سورة النجم : الآية‎ )١( 


الرابع : أن يكون مسترشداً ذكياً لبيباً عاقلاً ليس مغلوب الغضب والشهوة 
والحسد وحب المال والجاه؛ بل طالباً لطريق الحقء سائلاً من غير تعنتء فهذا 
المريض يمكن علاجه فالاشتغال بجوابه لائق بل واجب . 

ٍ الثاني : أن تحترز من الوعظ والتذكير إلا أن تعلم أنك علمت أولاً بما تقول 

مأملا قبل أن تتكلم. قال الله تعالى لعيسى عليه السلام: ديا ابن مريم عظ نفسك 
فإن اتعظت فعظ الناس وإلا فاستححي مني». فإن كنت كذلك وابتلاك الله بالوعظ 
فاحترز من شيئين: الأول أن تحترز من التكلف في الكلام بالعبارات والإشارات 
والشطحات والأشعارء لأن الله تعالى يعد المتكلفين في الكلام أعداء له لأن التكلف 
يدل على خراب باطن صاحبه وغفلة قلبه. مع أن المقصود من التذكير استحضار 
مصائب الآخرة والتقصير في خدمة المولى جل وعلاء فتأمل في العمر الماضي 
والعقبات التي في الطريق حتى تخرج من الدنيا بسلامة الإيمان وتنجو من هول قبضة 
ملك الموت وسؤال منكر ونكير ورد جوابهما. 

وأيضاً تأمل في هول القيامة ومواقفها وحسابها والميزان والعبور على الصراط 
والنار ومصائبهاء فهذا هو الذي ينبغي تذكره وتذكير الخلق به وتطلعهم على تقصيرهم 
وعيوبهم لأجل أن توقع في قلوب أهل المجلس خوف حرارة النار ومصائبها. ليتذكروا 
تفريطهم في الزمن الماضي بالندم عليه والتحسر على ضياع العمر الذي انقضى بغير 
طاعة . 

فالجملة المذكورة بالكيفية المتقدمة يقال لها وعظ مع عدم التكلف في الكلام 
بالفصاحة والتسجيع وغير ذلك. لأن مثل الواعظ كمثل صاحب بيت فيه عياله» وقد 
جاء السيل وهو يخاف أن يأخذ البيت ويغرق الأؤلاد وينادي الحذر الحذرء يا أهل 
البيت اهربوا لآن السيل وصلكم , فهذا الرجل في هذه الحالة لا يقول الكلام بالتكلف 
والعبارات والتسجيع والإشاراتء, فمثل الواعظ للخلق يكون هكذاء وينبغي ألا يميل 
قلبك حال وعظك إلى صراخ الصارخين وبكاء الباكين وغوغاء أهل المجلس بقولهم : 
إن هذا الواعظ حسن الوعظ والمجلس. لأن هذا الميل يتولد عن الغفلة؛ بل ينبغي أن 
يكون ميله حال الوعظ إلى تحويلهم عن الدنيا إلى الآخرة. وعن المعصية إلى 
الطاعة. وعن الغفلة إلى التيقظ. وعن الغرور إلى التقوى. وأن يكون كلامه في علم 
الزهد والعبودية وأن ينظر إلى رغبتهم هل هي خلاف رضى الخالق أو لاء وإلى ميل 


1١1١/ 


قلوبهم هل هو خلاف الشرع أو لاء وإلى أعمالهم وأخلاقهم الذميمة والحميدة أيهما 
أغلب. والذي خوفه غالب فيرجعه إلى الرجاء. والذي رجاؤه غالب فيرجعه إلى 
الخوف بكيفية يتصرفون بها من المجلس بحيث لم يبق معهم صفات ذميمة ظاهراً 
وباطناء ويتصفون بالصفات الحميدة. ويرغبون ويحرصون على الطاعات التي 
تكاسلوا عنهاء ويكرهون المعاصي التي كانوا بحرصون عليها وكل وعظ لم يكن 
ولم يقل هكذا يكون وبالا على الواعظ والموعوظ. بل يكون الواعظ غولا وشيطانا لأنه 
يضل الناس عن طريق الحق ويهلكهم هلاكاً أبدياً. ويجب على الخلق أن يهربوا 
منه. لأن الفساد الذي يفعله لا يقدر الشياطين أن يفعلوه. وكل من له يد القدرة يجب 
عليه أن ينزله عن المنبر ليدفعه لأنه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. 

الثالث: ألا تميل إلى الملوك والأمراء والحكام ولا تخالطهم ولا تجالسهم بل 
ولا تنظر إليهم. لأن في مخالطتهم ومجالستهم آفات كثيرة». وإن ابتليت برؤيتهم 
ومجالستهم فاترك مدحهم وثناءهم. وإذا جاؤوا لزيارتك فسبيلك أن يكون هكذاء 
فإن الله يغضب إذا مدح الفاسق والظالم. ومن دعا لظالم بطول البقاء فقد أحب أن 
يعصي الله تعالى في أرضه . 


ٍ الرابع : ألا تقبل منهم شيئاً وإن علمت أنه حلال. لأن الطمع في مالهم يكون 
سببا لفساد الدين والمداهنة والمحاباة ومراعاة جانبهم والموافقة في ظلمهم. ويتولد 
منها فسقهم وفجورهم وهذا كله هلاك في الدين وأقل مضرة يتولد منها أن تحبهم. 
وكل من يحب أحدا يحب طول عمره. وإذا أحب طول عمره أحب طول ظلمه وخراب 
العالم . ونسأل الله الأمان من أن يضللك الشيطان عن طريق الحق لأنه يقول لك 
الأولى أن تاخذ منهم الدراهم وتعطيها للدراويش وتريح المساكين بصرفها عليهم. 
لأنك تصرفها في الضرورة وأبواب الخيرء وأما هو فيصرفها في الفسق والفجور. لأن 
الشيطان بهذا الطريق سفك دماء خلق كثيرء وآفات الطمع كثيرة ذكرتها في كتابنا 
إحياء العلوم فاطلبها هناك. يا ولدي. اجتنب هذه الأربعة التركية. 
وأما الفعلية فأربعة أيضاً ولا بدّ أن تعمل بها. 
الأول: يلزمك أن تؤدي ما أمرك الله تعالى به مثل ماتحب أن يؤدي عبدك 
ما أمرته به. وأنت راض عنه وكل شيء لا ترضى بفعله من عبدك فلا ترضى عن 


1١18 


اشتريته بالدراهم وأنت في الحقيقة عبد لله لأنك مخلوق له وهو خالق لك. 

الثاني : أن تعامل الخلق بما تحب أن يعاملوك به. قال رسول الله يكل : 
ولا يكمل إيمان العبد حتى يحب لسائر الناس ما يحب لنفسه». 

الثالث: أن تشتغل بالعلم النافع في الواقع ونفس الأمر وهو الذي لو علمت أنه 
بقي من عمرك أسبوع لم تشتغل بسواه. ومن المعلوم أنه إذا كان كذلك لا تشتغل 
بعلم النحو والصرف والطب وأمثالهاء لأنك تعلم أن هذه العلوم لا تنفع في إغائتك, 
بل تشتغل بمراقبة قلبك ومعرفة صفاته فتشتغل بتطهيره من الأخلاق الذميمة وعلائق 
الدنيا وتحليته بالأخلاق الحسنئة ومحبة الحق وتشتغل بالعبادة . 

يا ولدي: اسمع كلمة واحدة وتأمل في حقيقتها واعمل بها تجد فيها خلاصك 
ونجاتك إليه. إن أخبرت أن السلطان قاصد زيارتك في هذا الأسبوع مثلاء فأنا أعلم 
أنك لا تشتغل في هذا الأسبوع بشيء غير إصلاح ما تعلم أن عين السلطان تقع عليه. 
إذا علمت ماذكرناه تحققت بالأولى أنه لا ينبغي لك إلا أن تشتغل بإصلاح ما تعلم أنه 
محل نظر الله تعالى وهو القلب. قال رسول الله يَكِةِ : دإن الله لا ينظر إلى صوركم 
ولا إلى أعمالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم ونياتكم». وإن أردت أن تعلم علم أحوال 
القلوب فاطلبه من كتابي (إحياء العلوم). وسائر تصانيفي,. وهذا فرض عين على كل 
مسلم وباقي العلوم فرض كفاية. إلا أن تعلم بقدر ما تتحصل به على امتثال الأوامر 
واجتناب النواهي . 

الرابع: أن تدخر لعيالك من القوت مالا يزيد على السنة لأن النبي ككِْةَ قال 
لازواجه: «اللهم اجعل رزق آل محمد كفاف» ولم يقل ذلك لكل أزواجه. بل قال 
لمن لم يكن لهن قوة اليقين. أما مثل السيدة عائشة رضي الله تعالى عنها فلم يرتب لها 


قوت سنة ولا يوم . 


يا ولدي: جميع ما طلبته مني كتبته لك في هذه الرسالة. فينبغي أن تعمل بكل 
ما فيهاء وفي أثناء عملك اذكرني بصالح دعائك. أما ما طلبته من الأدعية فمذكورة في 
الصحاح وتاريخ أهل البيت فاطلبها.هناك واذكر لك هذا الدعاء فاقرأه على الدوام 
خصوصا عقب الصلوات وهو: 


11 


اللهم إني أسألك من النعمة تمامهاء ومن العصمة دوامهاء ومن الرحمة 
شمولهاء ومن العافية حصولهاء ومن العيش أرغده. ومن العمر أسعده. ومن اللإحسان 
أتمه. ومن الم نعام أعمه. ومن الفضل أعذبه. ومن اللطف أقريه. ومن العمل 
أصلحه. ومن العلم أنفعه. ومن الرزق أوسعه. اللهم كن لنا ولا تكن عليناء اللهم 
اختم بالسعادة آجالناء وحقق بالزيادة أعمالنا واقرن بالعافية غدونا وآصالناء واجعل 
إلى رحمتك مصيرنا ومآلناء واصبب سجال عفوك على ذنوبناء ومُنْ علينا بإصلاح 
عيوبناء واجعل التقوى زادناء وفي دينك اجتهادناء وعليك توكلنا واعتمادنا. إلهنا ثبتنا 
على نهج الاستقامة؛ وأعذنا من موجبات الندامة يوم القيامة» وخفف عنا ثقل الأوزار, 
وارزقنا عيشة الأبرارء واكفنا واصرف عنا شر الأشرار واعتق رقابناء ورقاب آبائنا 
وأمهاتنا من النار والدّين والمظالم يا عزيز يا غفار. يا كريم يا ستارء يا حليم يا جبار 
برحمتك يا أرحم الراحمين. وصلى الله وسلم على خير خلقه محمد وآله وصحبه 
أجمعين , والحمد لله رب العالمين آمين. 


خاتمة للمعرب: 

اعلم أن تصفية القلب لا تتم إلا بطريقة الذكر لقوله كَقِ: «إن القلوب تصدأ 
كما يصدأ الحديد وجلاؤها ذكر الله تعالى». ثم إن الذكر إماباللسانوإما بالقلب. 
فذكر اللسان لتحصيل ذكر القلب, وذكر القلب لتحصيل المراقبة» وأقرب التصفية 
للقلب الاشتغال بذكر الطريقة النقشبندية وهو الذكر باسم الذات أو بالنفي والإثبات» 
وكيفية ذكر اسم الذات أن يتلفظ الذاكر بلسان القلب لفظة (الله). لأن القلب كله 
لسان وكله سمع وكله بصر. وأما كيفية ذكر النفي والإثبات فهي أن يلتقط بلسان 
القلب (ا إل نافيا بها جميع تعلقات القلب عما سوى الله ثم يتلفظ بلسان القلب 
(إلا الله) مثبتا بها وجود وحذانية الحق فيه. فإذا ذكر الذاكر هذين الاسمين بهذه 
الكيفية تحصل له صفوة القلب وزكاه» ويكون عارفاً بالله تعالى واصلاً إليه ويقدم 
وظيفة الذكر به على سائر العبادات بعد الفرائض ورواتبها في جميع الأوقات إلى أن 
يحصل في قلبه ملكة حميدة, وبعد ذلك يجوز له جميع الفضائل من العبادات لأنه 
عرف طريق الاستفاضة من الله وعرف طريق التقرب إليه: 


فذكرالله أحسن في الطريق 
وأحسن من قراءة قول حق 
لأن الذكر يجلي صداء قلب 
وجاهد في جميع الوقت والزم 
للوله ودع سواه 


توجه 


من الورد المرتب للصلاة 
ومن عمل بكل التافلات 
ويرفع عنه كل الحاجياتٍ 
بذكر الله تشهد وردات 
وراقب وارتفع للعالياتِ 


والمراقبة وهي رؤية جناب الحق سبحانه وتعالى بعين البصيرة على الدوام مع 
التعظيم. وهي أقرب الطرق إلى الله تعالى من حيث التقرب إليه. كما قيل: القصد 
إلى الله عر وجلّ بالقلوب أبلغ من حركات الأعضاء في الأعمال بالصلاة والسلام 
والأذكار والأوراد ونحوهاء. لأن صاحب الهمة العالية لايزال عاملا بقلبه وإن 
لم تساعده على الأعهال جوارحه فهو يكون دائماً في التقرب وأبداً في التحبب. 
ثم اعلم أن الذاكر إذا بلغ مرتبة المراقبة ثبتت له وحدة الوجود الإلهية وتحقق 
بدوام العبودية. فإذا داوم على المراقبة ترقى إلى مرتبة المشاهدة بأن ينكشف له بعين 
البصيرة أن أنوار وجود وحدة الذات الإلهية محيطة بجميع الأشياء. وأنه تعالى متجل 
بصفاته وأسمائه في مصنوعاته وبحسب استعداد المشاهدين يصير الابتهاج بأنوار 


الربوبية والاستكشاف بأسرار الأحدية. 


تمت في شهر رجب سنة ١73717‏ 


فهرس مجموعة رسائل الغزالي (؟) 
الرسالة الأولى 
روضة الطالبين وعمدة السالكين 


خطبة الكتاب 


المقدمة فى تمهيد الكتاب تشب اا مهاسو م 0 


فصل: في أن ما سوى الحق حجاب عنه 


فصل: في عمل أبي يزيد البسطامي أو جردا احا لمي اد ل زرو امد وح ا 9 


الباب الأول: في بيان أركان الدين 


اليباب الثاني : في بيان الأدب حب او لح جل مبكس سوم واي ما و 1و1 


فصل: في آداب أهل الحضرة الإلهية لأهل القرب 
الباب الثالث: في بيان معنى السلوك والتصوف 
فصل: في لزوم العزلة 


فصل: في التصوف ............... ا ا لل ار الكت 31 ألم تل 11 كتجكرو جا يوا لاد 421 
فصل : في أصول التصوف واه هد ودام وا واو واوا هد هد هده واورد و واه واوا هد .د .د ود هد هد هد مد راز م6 6 هم 


فصل : في الملامتية 

الباب الرابع : في بيان معنى الوصول والوصال 

فصل: في الاتصال 

الباب الخامس: في بيان معنى التوحيد والمعرفة» ويضاف إليهما البصيرة 
والمكاشفة والمشاهدة والمعاينة والحياة واليقين والإلهام والفراسة 

فصل : في التوحيد 


فصل : في بيان أنواع التوحيد 

فصل : في اتفاق المسلمين على أن الله تعالى موصوف بكل كمال 

فصل: في الأهواء للدم ا انو عو كةو او جود مور 0 الم ا ا 
فصل: في القضاء اماع اوش وارق جتفدو ا له لك الحو لحك موا قمرلا لمجابا مت وتلا 
فصل : الفرق بين العلم والمعرفة 


رفن 


الياب السادس : في بيان معنى النفس والروح والقلب والعقل واعاقاةا ةده وا .دافا ردا.د قا ها مدن 


فصل: في بيان جنود القلب 

الباب السابع : في بيان معنى المحبة 

الباب الثامن: في بيان معنى الانس بالله تعالى 

الباب التاسع : في بيان معنى الحياء والمراقبة» ويضاف إليهما الاإحسان والرعاية 


والحرمة والأدب ليو ادو لدو اتوي ل املو كور اج ماروا ب ناي هد ري اول له [روؤاضير او ألا ناوا مد ا لوخد ان 
الباب العاشر : في بيان معنى المرب اجام لكأم عن لان و از ونه كوت الماك انما د و1 1 1071 


الباب الحادي عشر : في بيان شرف العلم ووجوب طلبه والقدر الواجب منه 
الباب الثاني عشر : في بيان معنى الأسماء الحسنى 

الباب الثالث عشر: في الاعتقاد والتمسك بعقيدة صحيحة ومعنى الاعتقاد 

الباب الرابع عشر : في بيان صفات الله تعالى 

الباب الخامس عشر : في بيان حقيقة الإخلاص والرياء وحكمهما وتاثيرهما 
الباب السادس عشر : في الرد على من أجاز الصغائر على الأنبياء 


صلَّى الله عليهم وسلّم عند نر لاورس بجعا كاوه لما ارط د ا ا 1 ا 


فصل : فيما يجب على الأنام من حقوق النبي عليه أفضل الصلاة والسلام 

فصل: في بيان ما يجب على النبي يك وما يحرم عليه وما يباح له وما خص به من 
الفضائل دون غيره 

الباب السابع عشر: في معرفة الخواطر وأقسامها ومحاربة الشيطان وقهره 

والتدبير في دفع شره 


الباب الثامن عشر : فى بيان معنى آفات اللسان أو اده انطو و بلق كو ا 2 


الباب التاسع عشر : في بيان البطن وحفظه ا[ 1[ [ز[ [ 1[  [‏ زذذ 0 
الباب العشرؤن: فى بيان معرفة حيل الشيطان ومخادعاته عع و الوم ا الل ك0 


فصل : في بيان ما يؤاخذ العبد به من أعمال القلب وما لا يؤاخذ به 


الياب الحادي والعشر ون: فى بيان ما يجب رعايته من حقوق الله تعالى فكأف و ا 


الباب الثاني والعشرون: في بيان معنى حقيقة حسن الخلق وسوئه 


11 


4ه 


فصل : في بيان حد التواضع وحقيقته ونهايته وعلامته 

الباب الثالث والعشرون: في بيان معنى الفكر ومقدماته ولواحقه 

الباب الرابع والعشرون: في بيان معنى التوبة؛ ويضاف إليها الفرار والإنابة والاإخبات 
الباب الخامس والعشرون: في بيان الصبرء ويضاف إليه الرياضة والتهذيب 

الباب السادس والعشرون: في الخوف, ويضاف إليه الحزن 


والقيض والإشفاق والخشوع اا ع اوها بوااو موا و ال تدا 6 
الياب السابع والعشرون: في بيان الرجاء. ويضاف إليه الرغبة والبسظ ار 1 


الباب الثامن والعشر ون: في بيان الفقر ولواحقه التبتل والفناء والتجريد ع 
الباب التاسع والعشرون: في بيان الزهد. ويضاف إليه الإيثار والفتوة ومقام المراد 
الباب الثلاثون: في بيان المحاسبة ولواحقها الاعتصام والاستقامة 


الباب الحادي والثلاثون: في بيان الشكر ولواحقه السرور والحكمة 000 


الباب الثاني والثلاثون: في بيان التوكل ولواحقه التفويض والتسليم والثقة والرضى 

الباب الثالث والثلائون: في بيان النية» ويضاف إليها القصد والعزم والإرادة 

الباب الرابع والثلاثون: في بيان الصدق. ويضاف إليه الانفصال والاتصال 
والتحقيق والتفريد 

الباب الخامس والثلاثون: في بيان الرضى 

الباب السادس والثلاثون: في بيان النهي عن الغيبة 

الباب السابع والثلاثون: في بيان الفتوة ع انلو ال قا مس 1 

فصل: في السخاء 

الباب الثامن والثلاثون: في بيان مكارم الأخلاق 

الباب التاسع والثلاثون: في بيان القناعة 

الباب الأربعون: في بيان السائل 

الباب الحادي والأربعون : في بيان الشفقة على خلق الله تعالى 

الباب الثاني والأربعون: في بيان آفة الذنوب 

الباب الثالث والأربعون: في صفة صلاة أهل القرب 000 


١” 


الرسالة الثانية 
قواعد العقائد في التوحيد 


خطبة الكتاب 


التنزيه 
الحياة والقدرة والعلم والورادة 


السمع والبصر والكلام والأفعال 


١1 


الرسالة الثالئة 
خلاصة التصانيف في التصوف 


خطبة الكتاب 
العبادة الحقيقية 
كيفية الوصول إلى طريق الله تعالى 


لفتة إلى كتاب إحياء علوم الدين واأقاقا قد وا فده .د.ا مواقا هد .ا قد هداع ام وارد .د .امد ها مث 


حاتم الأصم وما أفاد من أستاذه شقيق البلخي 
شروط المرشد 


ما هي العبودية 


نصيحة مختصرة في تهذيب النفوس ا 


خاتمة لمعرب الكتاب 


1١ 7/ 


حر ل 2 
موت رسالل 


ا 


اك 


4 


١ 


)م حنج الإسنت كار 
1 - ص >. وسداهت ده 1 
الحاو سك مدن جحسالات 


القسَطاسٌ اللسُتقم ٠‏ متْهناج العا ريت 
ة اتات اللدتكت 2 © افتص عل لوكت 
لخ ١‏ لول > 


القسطاس المستقيم 


ب اإشالمنا جعي م 


ميزان حقيقة المعرفة : 


احتْمد الله اتفال اولاء .واصلى :علق نيه المتضطفى 'ثانيا + واقول: إخيوائن هل 


فيكم من يعيرني سمعه لأحدّثه بشيء من أسماري» فقد استقبلني في أسفاري رفيق من 
رفقاء أهل التعليم وغافصني(' بالسؤال والجدال مغافصة من يتحدّى”" باليد البيضاء 
والحجة الغراء” وقال لي : أراك تدّعي كمال المعرفة. فبأيٌ ميزان تزن حقيقة المعرفة؟ 
أبميزان الرأي والقياس. وذلك في غاية التعارض والالتباس7*» ولأجله ثار الخلاف بين 
الناس؟ أم بميزان التعليم فيلزمك اتباع الإمام المعصوم”*©. المعلم وما أراك تحرص 
على طلبه؟ فقلت: أما ميزان الرأي والقياس. فحاش الله أن أعتصم به فإنه ميزان 
الشيطان. ومن زعم من أصحابي أن ذلك ميزان المعرفة. فاسأل الله تعالى أن يكفيني 
شره عن الدين فإنه للدين صديق جاهل., وهو شر من عدو عاقل ولورزق سعادة مذهب 


)ع( 
0( 
قف 
4( 
)0( 


أهل التعليم لتعلم أولا الجدال من القرآن الكريم. حيث قال الله تعالئ : ظادْحٌ إلى 


غافصني : فاجأني وأخذني على غرة والغرة الخدعة والطمع بالباطل . 

من يتحدى: من يبرز ويتعمد وينازع الغلبة . 

الحجة ‏ بكسر الحاء ‏ السنة ‏ وبالضم ‏ البرهان وما دوفع به الخصم والغراء: البيضاء. 
التعارض: التمانع . والالتباس : الاختلاط والاشتباه . 

المعصوم : اسم مفعول من العصمة وه يالوقاية من كل الموبقات ولا تكون إلا في الأنبياء عليهم 
السلام . 


سَبيل رَيك0' بالجِكمّة(" والمَوْعِطَةِ الحَسَنَةِ0») وَجَادِلْهُمْ بالتي هي أَخْسَنٌ9)». 
واعلم أن المدعو إلى الله تعالئ بالحكمة قوم وبالموعظة قوم وبالمجادلة قوم. فإن 
الحكمة إن غذي بها أهل الموعظة أضرت بهم كما تضر بالطفل الرضيع التغذية بلحم 
الطير. وأن المجادلة إن استعملت مع أهل الحكمة اشمأزوا منها كما يشمئز طبع الرجل 
القري من الارتضاع بلبن الآدمي . وان من استعمل الجدال مع أهل الجدال لا بالطريق 
الأحسن كما تعلم من القرآن كان كمن غذى البدوي بخبز البر وهو لم يألف إلا التمر أو 
البلدي بالتمر وهو لم يألف إلا البرء لبه لقره سيره حم اام من القرآن في 
إبراهيم الخليل ‏ صلوات الله عليه حيث حاج خصمه”) فقال: : رب الذي بُحيي 
ويُمِيتٌ» فلما رأى أن ذلك لا يناسبه وليس حسناً عنده حين قال: «أنا أخيي 


. ادع إلى سبيل ربك: أي دين ربك وهودين الإسلام‎ )1١( 
(؟) الحكمة : وضع الأشياء في محلاتها . والمراد منها هنا المقالة الصحيحة المحكمة . وهي الدليل‎ 
الموضح المزيل للشبهة.‎ 
الموعظة الحسنة: ما تضمنه الكتاب العزيز من الرغبة والرهبة والإنذار مع إيقافك خصمك على‎ )*( 
خالص نصحك له.‎ 
وجادلهم بالني هي أحسن: بالطريقة التي هي أحسن طرق المجادلة من الرفق واللين بما يوقظ‎ )( 
القلوب ويعظ النفوس ويجلو العقول وهورد على من يأبى المناظرة في الدين. ومن هذا التفصيل‎ 
: تبين أن الناس على ثلاثة أقسام‎ 
القسم الأول: هو العلماء الكاملون أصحاب العقول الصحيحة والبصائر الثشاقبة الذين‎ 
يطلبون الأشياء على حقائقها. فهؤلاء هم المشار إليهم بقوله: أدع إلى سبيل ربك بالحكمة أي‎ 
بالدلائل القطعية اليقينية حتى يعلموا الأشياء بحقائقها فينتفعوا وينفعوا الناس وهم خواص‎ 
. العلماء من الصحابة وغيرهم وهم أفراد‎ 
والقسم الثاني : هم أصحاب الفطرة السليمة الأصلية وهم غالب الناس الذين لم يبلغوا حد‎ 
الكمال ولم ينزلوا إلى حضيض النقصان فهم أوسط الأقسام المشار إليهم بقوله: والموعظة‎ 
الحسنةء أي أدع هؤلاء بالموعظة الحسنة.‎ 
والقسم الثالث: هم أصحاب جدال وخصام ومعاندة وهؤلاء هم المشار إليهم بقوله:‎ 
وجادلهم بالتي هي أحسن حتى ينقادوا إلى الحق ويرجعوا إليه لينالوا السعادة وعلى هذا كثير من‎ 
. من سورة النحل‎ ١76 المفسرين. الآية:‎ 
خخصمه : الضمير يعود إلى نمرود بن كتعان الجبارء وفيل: ابن كوش وهر أول من وضع التاج عى‎ )5( 
رأسه وتجبر في الأرض وادعى الربوبية إلى أن هلك وكان ملكا على بابل والأهواز وسواد‎ 
. العراق‎ 


وأميثُ 174 عدل إلى الأوفق لطبعه والآقرب إلى فهمه فقال: «إِنَّ الله يأني بِالشّمْسٍ 

مِنَ المَْشْرِقٍ أت بها مِنَ المَغْرِبٍ قَبّْهِتَ الذي كَفَرَ06"©. ولم يركب الخليل ظهر اللجاج 
في تحقيق عجزه عن إحياء الموتى إذ علم أن ذلك يعسر عليه فهمه فإنه ظن أن القتل 
إمائة من جهته وتحقيق ذلك لا يلائم قريحته ولا يناسب حده في البصيرة ودرجته. ولم 
يكن من قصد الخليل إفناؤه بل إحياؤه. والتغذية بالغذاء الموافق إحياء. واللجاج 
بالإرهاق إلى ما لا يوافق إفناء . فهذه دقائق لا تدرك إلا بنور التعليم المقتبس من إشراق 
عالم النبوة.» فلذلك حرموا التفطن له إذ حرموا من سر مذهب التعليم. فقال: إذا 
استوغرت سبيلهم واستوهنت دليلهم فبماذا تزن معرفتك؟ 

ش فقلت: أزنها بالقسطاس المستقيم ليظهر لي حقها وباطلها ومستقيمها ومائلها : 
اتباعا لله تعالى وتعليما من القرآن المنزل على لسان نبيّه الصادق حيث قال: «وَزِنوا 
بالقشطاس.المُسْتقيم 04. 

فقال: وما القسطاس المستقيم؟ 

قلت: هي الموازين الخمس التي أنزلها الله في كتابه وعلم أنبياءه الوزن بها. 
فمن تعلم من رسول الله تلِْ ووزن بميزان الله فقد اهتدى. ومن ضلّ عنها إلى الرأي 
والقياس فقد ضل وتردّى . 

فقال: أين الموازين في القرآن وهل هذا إلا إفك وبهتان؟ 


قلت : ألم تسمع قوله تعالئ في سورة الرحمن : َالرّحمِنُ * علم القُرْآنَ* خَلَق 
الإنسَان به عَلَمَهُ البَيَانَ»4 إلى قوله: : لوَوَضعٌ الميرَان ع أ تَطفوًا في المراة»” 
وأقِيمُوا الوزن بالقسط ولا َخْسِروا الجيزان 104 . ألم تدمع قوله في سورة الحديد 
للَقذ أرْسَلْنَا رُسُلَنَا بالبيّنات وأنْرَلْنا مَعَهُمُ الكتَابَ والمِيرَانَ ِيقَوم الناس بالقِسْط4 00 . 
أتظن أن الميزان المقرون بالكتاب هو ميزان البر والشعير والذهب والفضة؟ أتتومّم أن 


. 70/4 سورة البقرة: الآية‎ )١( 
'. 564 (؟) سورة البقرة: الآية‎ 
.76 سورة الإسراء : الآية‎ )*( 
.4- 1١ سورة الرحمن:‎ (6 
76 سورة الحديد: الآية‎ )5( 


الميزان المقابل وضعه برفع السماء في قوله : «والسّماء رَفْعَها وَوَضْعٌ الميزانَ0). هو 
الطيار والقيان. وما أبعد هذا الحسبان وأعظم هذا البهتان. فاتق الله ولا تعسف في 
التأويل. واعلم يقينا أن هذا الميزان هو ميزان معرفة الله تعالئ ومعرفة ملائكته وكتبه 
ورسله وملكه وملكوته لتتعلم كيفية الوزن به من أنبيائه كما تعلّموا هم من ملائكته. فإن 
الله تعالئ هو المعلم الأوّل. والشاني جبريل. والثالث الرسول يك والخلق كلهم 
يتعلمرن من الرسل ما ليس لهم طريق إلى المعرفة به إلا بهم . 

فقال: فبم عرفت أن ذلك الميزان صادق أم كاذب؟ أبعقلك ونظرك؟ فالعقول 
متعارضة . أم بالإمام المعصوم الصادق القائم بالحقّ في العالم؟ وهومذهبي الذي أدعو 
إليه . 


فقلت: ذلك أيضاً أعرفه بالتعليم» ولكن من إمام الاتية عيضم بن عند لز 
عبد المظلب كل فإني وإن كنت لا أراه فإني أسمع تعليمه الذي تواتر إليَّ تواتراً لا أشكٌ 
فيه : وإنما تعليمه القرآن. وبيان صدق موازين القرآن معلوم من نفس القرآن. فقال: 
وهات برهاتك», وأخرج من القرآن ميزانك . وأظهر لي كيف فهمت من نفس القرآن 
صدقه وصحته . 

فقلت له: حدّئني أنت بم تعرف صحة ميزان الذهب والفضة وصدقه ومعرفة ذلك 
فرض دينك إذا كان عليك دين حتى نقضيه تامًا من غير نقصان . أو كان لك على غيرك 
دين حتى تأخذه عدلاً من غير رجحان, فإذا دخلت سوقاً من أسواق المسلمين وأخذت 
ميزاناً من الموازين وقضيت أو استقضيت به الدين» فم تعرف أنك لم تظلم بنقصان في , 
الأداء أو برجحان في الاستيفاء؟ 

فقال: أحسن الظن بالمسلمين» وأقول أنهم لا يشتغلون بالمعاملة إلا بعد تعديل 
الموازين. فإن عرض لي شك في بعض الموازين أخذته ورفعته ونظرت إلى كفتي 
الميزان ولسانهء فإذا استوى انتصاب اللسان من غير ميل إلى أحد الجانبين ورأيت مع 
ذلك تقابل الكفتين . عرفت أنه ميزان ضحيح صادق. 

قلت: هب أن اللسان قد انتصب عى الاستواء. وأن الكفتين متحاذيتان على 
السواء. فمن أين تعلم أن الميزان صادق؟ 


)١(‏ سورة الرحمن: الآية /ا. 


فقال: أعلم ذلك علماً ضرورياً يحصل لي من مقدمتين: إحداهما تجريبية» 
والأخرى حسية . أما التجريبية فهى أنى علمت بالتجربة أن الثقيل يهوي إلى أسفل» وأن 
الأثقل أشدّ هوياً فاقول: لو كانت إحدى الكفتين أثقل لكانت أشد هويا فهذه مقدمة كلية 
تجريبية حاصلة عندي ضرورة. والمقدمة الثانية هي أن هذا الميزان بعينه رأيته لم تهو 
إحدى كفتيه. بل حاذت الأخرى محاذاة مساواة. وهذه مقدمة حسية شاهدتها بالبصر 
فلا أشكٌ لا في المقدمة الحسية ولا في الأولى وهي مقدمة التجربة. فيلزم في قلبي من 
هاتين المقدمتين نتيجة ضرورية وهي العلم باستواء الميزان. إذ أقول :لوكانت إحداهما 
أثقل لكانت أهوى ومحسوس أنها ليست بأهوى. فمعلوم أنها ليست بأئقل. 

قلت له: فهل هذا إلا رأي وقياس عقلي؟ 

قال: هيهات فإن هذا علم ضروري لزم من مقامات يقينية حصل اليقين بها من 
التجربة والحسٌ فكيف يكون ,هذا رأيا وقياسا. والرأي والقياس حدس”22 وتخمين 
لا يفيدان برد اليقين» وأنا أحس في هذا برد اليقين. 

قلت: فإن عرفت صحة الميزان بهذا البرهان فبم عرفت الصنجة2'2 والمثقال. 
فلعله أخف أو أثقل من المثقال الصحيح؟ 

فقال: إن شككت في هذا أخذت عيارة من صنجة معلومة عندي فأقابلها بها فإذا 
ساوى علمت أن الذهب إذا ساواه كان مساويًا لصنجني فإن المساوي للمساوي مساو. 

قلت: هل تعلم واضع الميزان في الأصل من هو. وهل هو الواضع الأؤل؟ والذي 
وضعه يعلم هذا الوزن. 

قال: لاء ومن أين أحتاج إليه وقد عرفت صحة الميزان بالمشاهدة والعيان. بل 
آكل البقل من حيث يؤتى به ولا أسأل عن المبقلة. فإن واضع الميزان لا يراد لعينه. بل 
يراد ليعرف منه صحة الميزان وكيفية الوزن به. وأنا قد عرفته كما حكيته وعرفته 
فاستغنيت عن مراجعة صاحب الميزان عند كل وزن. فإن ذلك يطول ولا يظفر به في كل 

قلت: فإن أتيتك بميزان في المعرفة مثل هذا وأوضح منه وأزيد عليه بأني أعرف 


)١(‏ الحدس: الظن والتوهم. 
(؟) صنجة الميزان: عياره أو معياره. وهي فارسية معربة. 


ا 


واضعه ومعلمه ومستعمله فيكون واضعه هو الله تعالى ومعلّمه جبريل ومستعمله الخليل 
ومحمد وسائر النسيين عليهم السلام أجمعين . وقد شهد الله تعالئ لهم في ذلك 
بالصدق. فهل تقبل ذلك مني؟ وهل تصدق به؟ 

فقال: إي والله» وكيف لا أصدّق به إن كان في الظهور مثل ما حكيته لي . 

فقلت: الآن أتوسم فيك شمائل الكياسة(١0)‏ , وقد صدق رجائي في تقويمك 
وتفهيمك حقيقة مذهبك في تعليمك فأكشف لك عن الموازين الخمسة. المنزلة في 
وقائدك القرآن. ومعيارك المشاهدة والعيان. فاعلم أن موازين القرآن في الأصل ثلاثة : 
ميزان التعادل. وميزان التلازم. وميزان التعاند. لكن ميزان التعادل ينقسم إلى ثلاثة 
أقسام : إلى الأكبر. والأوسط. والأصغرء فيصير الجميع خمسة 
القول في الميزان الأكبر من موازين التعادل: 

ثم قال لي هذا الرفيق الكيس من رفقاء أهل التعليم : اشرح لي الميزان الأكبر من 
موازين التعادل أو واشرح لي معنى هذه الألقاب وهي التعادل والتلازم والتعاندى 
والأكبر والأوسط والأصغر. فإنها ألقاب عجيبة. ولا شك في أن تحتها معاني دقيقة. 
ذلك مناسبة ألقابها لحقائقها. وأعلمك أوَلاً أن هذا الميزان يشبه الميزان الذي حكيته في 
المعنى دون الصورة فإنه ميزان روحاني فلا يساوي الجسماني » ومن أين يلزم أن يساويه 
والموازين الجسمانية أيضا تختلف, فإن القلسطون'' ميزان.والطيار ميزانءبل 
الاصطرلاب ميزان لمقادير حركات الفلك.والمسطرة ميزان لمقادير الأبعاد في 
الخطوط. والشاقول ميزان لتحقيق الاستقامة والانحناء. وهي وإن اختلفت صورها 
مشتركة في أنها تعرف بها الزيادة والنتقصان. بل العروض ميزان الشعر يعرف به أوزان 
الشعر ليتميز منزحفه عن مستقيمه وهو أشدٌ روحانية من الموازين المجسمة. ولكنه غير 
متجرد عن علائق الأجسام لأنه ميزان الأصوات ولا ينفصل الصوت عن الجسم . وأشدٌ 
)١(‏ شمائل جمع شمال وهي خليقة الرجلء و دكياسة: إظهار العقل والظرف. 


(؟) القلسطون والطيار هما ميزانان من أنواع الموازين الجسمانية واسمهما اصطلاحي في عصر 
المؤلف وبعضهم فسر القلسطون بالقبان. 


الموازين روحانية ميزان يوم القيامة إذ به توزن أعمال العباد وعقائدهم ومعارفهم . 
والمعرفة والإيمان لا تعلق ليها الاعسام: ولذلك كان ميزانهما روحانياً صرفاً. وكذلك 
ميزان القرآن العكراء روحاني. لكن يرتبط العريفة في عالم الشهادة بغلاف لذلك 
الغلاف التصاق بالأجسام وإن لم يكن جسماً فإن تعريف الغير في هذا العالم لا يمكن 
إلا مشافهة وذلك بالأصوات. والصوت جسماني. أو بالمكاتبة وهي الرقوم وهي أيضاً 
نقش في وجه القرطاس وهوجسم . هذا حكم غلافه الذي يعرض فيه وإنما هو في نفسه 
روحاني محض لا علاقة له مع الأجسام إذ توزن به معرفة الله الخارجة عن عالم الأجسام 
المقدّس عن أن يناسب الجهات والأقطار فضلاً عن نفس الأجسام ولكنه مع ذلك ذو 
عمود وكفتين, والكفتان متعلقتان بالعمود فالعمود مشترك فى الكفتين لارتباط كل واحدة 
منهما به هذا في ميزان التعادل. وأما ميزان التلازم فهو بالقبان أشبه لأنه ذو كفة واحدة 
ولكن يقابلها من الجانب الآخر الرمانة وبها يظهر التفاوت والتقدير. 
فقال: هذه طنطنة عظيمة فأين المعنى فإني انع جتبتمفة 00 ولا أرى ملخيا. 


فقلت له : اصبر وإولا تَْجَلْ بِالقَرآنِ ِنْ قبل أن يقضَى لِك وَحْيهُ وَقلْ رَبْ دي 
علماً2). واعلم أن العجلة من الشيطان والتأني من الله . واعلم أن الميزان الأكبر هو 
ميزان الخليل صلوات الله عليه وسلامه الذي استعمله مع نمرود فمنه تعلمنا هذا الميزان 
لكن بواسطة القرآن. وذلك أن نمرود ادعى الإلهية» وكانت الإلهية عنده بالاتفاق عبارة 
عن القادر على كل شيء فقال إبراهيم . : الإله إلهي لأنه الذي يحيي ويميت وهو القادر 

عليه وأنت لا تقدر عليه. فقال: «أنا أحيي وأميت» يعني أنه يحيي النطفة بالوقاع 
ويميت بالقتل» ؛ فعلم إبراهيم كع أن ذلك يعسر عليه فهم بطلانه فعدل إلى ما هو أوضح 
عنده. فقال: «إن لله يأني بالشمس من المشرق فأتٍ بها من المغرب فبهت الذي 
كفر»<". وقد أثنى الله عليه فقال: لِوَبَلْكَ حَُجُتُنا آتيْنَاهَا إبراهيم عَلَى قومه»20). 


)١(‏ أسمع إلخ: هذامثئل للعرب يضرب للرجل الذي يكشر الكلام ولا يعمل أو يعد ولا يفعل. 
والجعجعة : صوت الرحى والطحن الدقيق فعل بمعنى مفعول والمراد هنا أرى مقدمات ولا أرى 

(؟) سورة طه: الآية .١١4‏ 

”) سورة البقرة: الآية 04؟ . 

(5) سورة الأنعام : الآية "417 . 


فعلمت من هذا أن الحجة والبرهان في قول إبراهيم وميزانه . فنظرت في كيفية وزنه كما 
نظرت أنت في ميزان الذهب والفضة فرأيت في هذه الحجة أصلين قد ازدوجا فتولّد 
منهما نتيجة هي المعرفة إذ القرآن مبناه على الحذف والإيجاز. وكمال صورة هذا 
الميزان أن تقول كل من يقدر على اطلاع الشمس فهو الإله. فهذا أصل. وإلهي هو 
القادر على الاطلاع وهذا أصل آخر. فلزم من مجموعهما أن إلهي هو الإلّه دونك 
يا نمرود. فانظر الآن هل يمكن أن يعترف بالأصلين معترف ثم يشكٌ في النتيجة. أو هل 
يتصور أن يشك في هذين الأصلين شاك؟ فإن قولنا: الإله هو القادر على إطلاع الشمس 
لايشك فيه لأن الإله كان عندهم وعند كل أحد عبارة عن القادر على كل شيء؛ وإطلاع 
الشمس هو من جملة تلك الأشياء وهذا أصل معلوم بالوضع والاتفاق. وقولنا: القادر 
على الاطلاع هو الله تعالى دونك معلوم بالمشاهدة فإن عجز نمرود وعجز كل أحد سوى 
من يحرك الشمس مشاهد بالحس ونعني بالإله محرك الشمس ومطلعها. فيلزمنا من 
معرفة الأصل الأول المعلوم بالوضع المتفق عليه . ومن الأصل الثاني المعلوم بالمشاهدة 
أن نمرود ليس هو القادر على تحريك الشمس . فنعلم بعد معرفة هذين الأصلين أن 
نمرود ليس بإله وإنما الإله هو الله تعالى . فراجع نفسك الآن هل ترى هذا أوضح من 
المقدمة التجريبية والحسيّة اللتين بنيت عليهما صححة ميزان الذهب والفضة . 


فقال: هذه المعرفة لازمة منه بالضرورة ولا يمكنني أن أشك في الأصلين ولا أن 
أشك في لزوم هذه النتيجة منهماء ولكن هذا لا ينفعني إلا في هذا الموضع وعلى الوجه 
الذي استعمله الخليل عليه الصلاة والسلام وذلك في نفي إلهية نمرود وإقرار الإلهية 
لمن تفرد بإطلاع الشمس. فكيف إذن بها سائر المعارف التي تشكل علي وأحتاج إلى 
تمييز الحق فيها عن الباطل؟ 

فقلت: من وزن الذهب بميزان يمكنه أن يزن به الفضة وسائر الجواهر لان 
الموزون عرف مقداره لا لأنه ذهب بل لأنه ذو مقدار. ولذلك هذا البرهان كشف لنا عن 
هذه المعرفة لا لعينهاء بل لأنها حقيقة من الحقائق ومعنى من المعاني فنتأمل أنه لم 
تلزم, منه هذة النتيجة وتأخذ روحه ونجرده عن هذا المثال الخاص حتى ننتفع به حيث 
أردنا وإنما لزم هذا لأن الحكم على الصفة حكم على الموصوف بالضرورةء وبيانه أن 
إيجاز هذه الحبّة إن ربي مطلع والمطلع الإله فيلزم منه أن ربي إله فالمطلع صفة الرب» 
وقد حكمنا على المطلع الذي هو صفته بالإلهية فلزم منه الحكم على ربي بالإلهية, 


1 


1 8. 

وكذلك في كل مقام حصلت لي معرفة بصفة الشىء وحصلت معرفة اخرى بثبوت حكم 
لتلك الصفة فيتولد منهما معرفة ثالثة بثبوت الحكم على الموصوف بالضرورة . 

فقال: هذا يكاد دركه يدق على فهمي فإن تشككت فيه فماذا أصنع حنى يزول 
الشكٌ؟ 

قلت: خذ عيارة من الصنجة المعروفة عندك كما فعلت في ميزان الذهب 
والفضة . 

فقال: كيف آخذ عيارهاء وأ ين الصنجة المعروفة في هذا الفن؟ 


قلت: الصنجة المعروفة هي العلوم الأولية('2 الضرورية المستفادة إما من الحس 
أو من التجربة أوغريزة العقل فانظر في الأؤليات هل تتصور أن يثبت حكم على صفة إلا 
ويتعدى إلى الموصوف. فإذا مر بين يديك مثلا حيوان منتفخ البطن وهو بغل. فقال 
قائل: هذا حامل. فقلت له: ألم تعلم أن البغل عقيم لا يلد؟ فقال: نعم أعلم هذا 
بالتجربة . فقلت له: فهل تعلم أن هذا بغل؟ فنظر. فقال: نعم قد عرفت ذلك بالحس 
والإبصار. فقلت: فالآن هل تعرف أنه ليس بحامل فلا يمكنه أن يشك فيه بعد معرفة 
الأصلين اللذين أحدهما تجريبي والآخر حسيء بل يكون العلم بأنه ليس بحامل علماً 
ضرورياً متولداً من بين العلمين السابقين كماتولد علمك في الميزان من العلم التجريبي 
بأن الثقيل هاو. والعلم الحسي بأن إحدى الكفتين ليست هاوية بالإضافة إلى الأخرى . 


على الصفة حكم على الموصوف. 

فقلت: تأمل فإن قولك هذا بغل وصف والصفة هو البغل وقولك كل بغل عقيم 
حكم على البغل الذي هو صفة بالعقم فلزم حكم بالعقم على الحيوان الموصوف بأنه 
بغل» وكذلك إذا ظهر لك مثلاً أن كل حيوان حساس ثم ظهر لك في الدود أنه حيوان فلا 
يمكنك أن تشك في أنه حساس ومنهاجه أن تقول : كل دود حيوان وكل حيوان حساس . 
فكل دود حساس لأن قولك كل دود حيوان وصف الدود بأنه حيوان. والحيوان صفته فإذا 
حكمت على الحيوان بأنه حساس أو جسم أو غيره دخل فيه الدود لا محالة وهذا 


)1غ( العلوم الأولية : قصد بها اليقينيات المؤلفة للقياس . 


1١١ 


ضروري لا يمكن الشك فيه. نعم شرط هذا أن تكون الصفة مساوية للموصوف أو أعم 
منه حتى يكون الحكم عليه يشمل الموصوف به بالضرورة. وكذلك من سلم في النظر 
الفقهي . أن كل نبيذ مسكر وكل مسكر حرام لميمكنهان يشك في أن كل نبيذ حرام لآن 
المسكر وصف النبيذ. فالحكم عليه بالتحريم يتناول النبيذ إذ يدخل فيه الموصوف 
لا محالةء فكذلك في جميع أبواب النظريات . 

فقال: قد فهمت فهماً ضرورياً أن إيقاع الازدواج بين أصلين عى هذا الوجه مولد 
لنتيجة ضرورية. وأن برهان الخليل صلوات الله عليه برهان صحيح وميزانه ميزان 
صادق. وتعلمت حده وحقيقته وعرفت عياره من الصنجات المعروفة عندي. ولكني 
أشتهي أن أعرف مثالا لاستعمال هذا الميزان في مظان الأشكال في العلوم فإن هذه 
الأمثئلة واضحة بأنفسها لا يحتاج فيها إلى ميزان وبرهان. 


فقلت: هيهات فبعض هذه الأمثلة ليست معلومة بأنفسها بل هي متولدة من 
ازدواج الأصلين إذ لا يعرف كون هذا الحيوان مثلاً عقيماً إلا من عرف بالحس أنه بغل 
وبالتجربة أن البغل لا يلد., وإنما واضح بنفسه هو الأول . فأمًا المتولّد من أصلين فله أب 
وأم فلا يكون أولبًا واضينا بنفسه بل بغيرهء ولكن ذلك الغير أعني الأصلين قد يكون 
واضحاً في بعض الأحوال. وذلك بعد التجربة وبعد الإبصار. وكذلك كون النبيذ حراماً 
ليس واضحاً بنفسه بل يعرف يأصلين . 

أحدهما: أنه مسكر وهذا يعلم بالتجربة . 

والثاني: أن كل مسكر حرام وهذا بالخبر الوارد عن الشارع و . فهذا يعرفك 
كيفية الوزن بهذا الميزان وكيفية استعماله . وإن أردت مثالا أغمض من هذا فأمثلة ذلك 
عندنا لا تنحصر ولا تتناهى بل بهذا الميزان عرفنا أكثر الغوامض فاقنع منه بمثال واحد. 

فمن الغوامض أن الإنسان ليس حادثاً بنفسه إذ له مسبب وصانع وكذلك العالم . 
فإذا راجعنا هذا الميزان عرفنا أن له صانعاً وأن صانعه عالم. فإنا نقول: كل جائز فله 
سبب. واختصاص العالم أو الإنسان بمقداره الذي اختلف به جائز. فإذن يلزم منه أن له 
سبباً ولا يقدر على التشكك في هذه النتيجة من سلم الأصلين وعرفهما . ولكن إن شك 
في الأصلين فيستنتج أيضا معرفتهما من أصلين آخرين واضحين إلى أن ينتهي إلى 
العلوم الأولية التي لا يمكن التشكيك فيهاء فإن العلوم الخفية الأولية همي أصول العلوم 


1 


الغامضة الجلية وهي بدورهاء ولكن يستثمرها منها من يحسن الاستثمار بالحراثة 
و الاستنتاج بإيقاع الازدوا اج بينهما. 


فإن قلت: أنا شاك في الأصلين جميعاً فلم قلت أن كل جائز فله سبب ولم قلت أن 
اختصاص الإنسان بمقدار مخصوص جائز وليس بواجب؟ فأقول: أما قولي كل جائز له 
سبب فواضح إذا فهمت معنى الجائز لأني أعني بالجائز ما يتردد بين قسمين متساويين» 
فإذا تساوى شيئان لم يختص أحدهما بوجود وعدم من ذاته لأن ما ثبت للشيء ثبت لمثله 
بالضرورة وهذا أولى . وأما قولي اختصاص الإنسان بهذا المقدار مثلاا جائز وليس 
واجب. كقولي : إن الخط الذي يكتبه الكاتب وله مقدار مخصوص جائز إذ الخط من 
حيث إنه خط لا يتعين له مقدار واحد بل يتصور أن يكون أطول وأقصر. فاختصاصه 
بمقدار عما هو أطول وأقصر سببه الفاعل لا محالة إذ نسبة المقادير إلى قبول الخط لها 
متساوية» وهذا ضروري . كذلك نسبة المقادير إلى شكل الإنسان وأطرافه متساوية 
فتخصيصها لا محالة بفاعل . ثم أترقى منه وأقول : فاعله عالم لأن كل فعل مرتب محكم 
فيسند إلى علم فاعله. وبئية الأنسان بنية مرتبة محكمة فلا بدّ أن يستند ترتيبها وتدبيرها 
إلى علم فاعل بها. فههنا أصلان إذا عرفتهما لم تشك في النتيجة. أحدهما أن بنية 
الآدمي بنية مرتبة محكمة هذا يعرف بالمشاهدة من تناسب أعضائه واستعداد كل واحد 
لمقصود خاص كاليد للبطش والرجل للمشي. ومعرفة تشريح الأعضاء يورث علماً 
ضرورياً به. وأما افتقار المرتب المنظوم إلى علم فهو واضح أيضاً فلا يشكٌ العاقل في 
أن الخط المنظوم لا يصدر إلا من عالم بالكتابة وإن كان بواسطة القلم الذي لا يعلم»ء 
وأن البناء الصالح لإفادة مقاصد الاكتنان كالبيت والحمام والطاحونة وغيرها لا يصدر إلا 
من عالم بالبناء. فإن أمكن التشكيك في شىء من هذا فطريقه أن يترقى منه إلى أوضح 
منه حتى يترقى إلى الأوليات. وشرح ذلك ليس من غرضنا بل الغرض أن نبين أن ازدواج 
الأؤليات على الوجه الذي أوقعه الخليل عليه السلام ميزان صادق مفيد لمعرفة حقيقية 
ولا قائل بإبطال هذا فإنه إبطال لتعليم الله تعالئ أنبياءه. وإبطال لما أثنى الله عليه إذ قال: 
دَوَيَكَ حجنا ااه رايم على و04 . والتعليم لا محالة حق إن لم يكن الرأي 

حقا وفي إبطال هذا إبطال الرأي والتعليم عونا ول قائل به أصلا 


)20 سورة الأنعام : الآية و 


القول في الميزان الأوسط : 

قال: قد فهمت الميزان الأكبر وحده وعياره ومظنته وحقيقة استعماله فاشرح لي 
الميزان الأوسط ما هو. ومن أين حصل تعليمه. ومن وضعه ومن استعمله؟ 

فقلت: الميزان الأوسط أيضًا للخليل عليه السلام حيث قال: «لا أحِبُ 
الآفِلينَ7١).‏ وكمال صورة هذا الميزان أن القمر آفل والإله ليس بآفل فالقمر ليس بِإِلْه . 
ولكن القرآن على الإيجاز والإضمار مبناه. لكن العلم ينفي الإلهية عن القمر لا يصدر 
ضرورياً إلا بمعرفة هذين الأصلين وهو أن القمر آفل وأن الإله ليس بآفل» فإذا عرفت 
الاصلين صار العلم بنفي الإلهية عن القمر ضرورياً . 

فقال: أنا لا أشك فى أن نفى الإلهية عن القمر يتولّد من هذين الأصلين إن عرفا 
حجنا لكني أعرف أن القمر آفل وهذا معلوم بالحس» أما الإله ليس بآفل فلا أعلمه 
فور ولا جما 

قلت: وليس غرضي من حكاية هذا الميزان أن أعرفك أن القمر ليس بآفل. بل 
إنى أعلمك أن هذا الميزان صادق والمعرفة الحاصلة منه بهذا الطريق من الوزن 
ضرورية» وإنما حصل العلم به في حق الخليل عليه السلام . إذ كان معلوماً عنده أن 
الإله ليس بآفل» وإن لم يكن ذلك العلم أولياً له بل مستفاداً من أصلين آخرين ينتجان 
العلم بأن الإله ليس بمتغير وكل متغير حادث» والأفول هو التغير فبنى الوزن على 
المعلوم عنده. فخذ أنت الميزان واستعمله حيث يحصل لك العلم بالاصلين. 

قال: فهمت بالضرورة أن هذا الميزان صادق وأن هذه المعرفة تلزم من الأصلين 
إذ صارا معلومين» ولكن أريد أن تشرح حد هذا الميزان وحقيقته ثم نشرح لي عياره من 
الصنجة المعروفة عندي ثم مثال استعماله في مظان الغموض فإن نفي الإلهية عن القمر 
كالواضح عندي . 

قلت: أما حدّه. فهو أن كل مثلين وصف أحدهما بوصف فلب ذلك الوصف 
عن الآخر فهما متباينان أي أحدهما يسلب ذلك الوصف عن الآخر ولا يوصف به., ولما 
كان حذ الميزان الأكبر أن الحكم على الأعم حكم على الأخص ويندرج فيه لا محالة 

فحدّ هذا أن الذي ينفى عنه ما يثبت لغيره مباين لذلك الغير» فالإله ينفى عنه الأفول 


1/5 صسورة الانعام : الآية‎ )١( 


والقمر يثبت له الأفول. فهذا يوجب التباين بين الإله والقمر وهو أن لا يكون القمر إِلّها 
ولا الإله قمراً. وقد علّم الله تعالئ نبيّه محمّداً بك الوزن بهذا الميزان في مواضع كثيرة 
من القرآن اقتداءً بأبيه الخليل صلوات الله عليهماء فأكتفي بالتنبيه على موضعين واطلب 
الباقي من آيات القران. 

0 أحدهما: قوله تعالئ لنيّه: همل فَلِمَ يَُذَّكُمْ بذُنُوبكُمْ بَل أن بَشْرٌ مِمُنْ 
خلق»27. وذلك أنهم ادعوا أنهم أبناء الله فعلمه الله تعالئ كيفية إظهار خطابهم 
بالقسطاس المستقيمء فقال: : قل فلم يعذبكم بذنوبكم », وكمال صورة هذا الميزان 
أن الببين لا يعذبون وأنتم معذبون, فإذا لستم أبناء فهنا أصلان : أما أن البنين لا يعذبون 
فيعرف بالتجربة» وأما أنتم معذبون فيعرف بالمشاهدة ويلزم منهما ضرورة نفي النبوة. 


الموضع الثاني : قوله تعالى : كل يا أيها الّذِيرَ ين هَادُوا إن َعَمْتم م أنكُمْ أولياء لله 

من دُونِ الناس نوا آلمَوْتَ إِنْ خ صَادقِينَ # وَلا يتَمْنْوْنُه أبداً يما قَدَّمَتْ 
َئْدِيهِمْ 04). وذلك أنهم ادعوا الولاية» وكان من المعلوم أن الولي يتمنى لقاء وليه» 
وكان من المعلوم أنهم لا يتمنون الموت الذي هو سبب اللقاء فلزم ضرورة أنهم ليسوا 
أولياء لله . وكمال صورة هذا الميزان أن يقال: كل ولي يتمنى لقاء وليه واليهودي ليس 
يتمنى لقاء الله فلزم منه أنه ليس بولي لله. وحدّه أن التمني يوصف به الولي وينفي عن 
اليهود فيكون الولي واليهودي متباينين لسلب أحدهما عن الآخر فلا يكون الولي يهودياً 
ولا اليهودي ولياً. وأما عياره من الصنجة المعلومة فما عندي أنك تحتاج إليه مع 
وضوحه, ولكن إن أردت استظهاراً فانظر أنك إذا عرفت أن الحجر جماد ثم عرفت أن 
الإنسان ليس بجماد كيف يلزمك منه أن تعرف أن الإنسان ليس بحجر لأن الجمادية 
تثبت للحجر وتنفى عن الإنسان فلا جرم أن يكون الإنسان مسلوباً عن الحجر والحجر 
مسلوباً عن الإنسان فلا الإنسان حجراً ولا الحجر إنساناً. وأما مظنة استعماله في مواضع 
الغموض فكثير. وأحد شطري المعرفة معرفة التقديس وهوما يتقدس عنه الرب تعالى 
علو كبيراً وجميع معارفه توزن بهذا الميزان إذ الخليل عليه السلام استعمل هذا الميزان 
في التقديس. وعلمنا كيفية الوزن به إذ عرف بهذا الميزان نفي الجسمية عن الله تعالى . 
وكذلك نقول إن الإله ليس بجوهر متحيز لأن الإله ليس بمعلول وكل متحيز فاختصاصه 
)١(‏ سورة المائدة: الآية .١4‏ 

)1١(‏ سورة الجمعة: الآيتان 5 و/ا. 


بحيزه الذي يختص به معلول فيلزم منه أنه ليس بجوهرء وتقول ليس بعرض لأن العرض 
معرفتها أيضاً من ازدواج أصلين على هذا الوجه. 

أحدهما: أصل سالب مضمونه النفي . 

والثاني: أصل موجب مضمونه الإثبات وتتولد منهما معرفة النفي والتقديس 
القول في الميزان الأصغر: 

قال: قد فهمت هذا أيضاً فهماً ضرورياً فاشرح لي الميزان الأشكر وجده وغيازه 
ومظنة استعماله من الغوامض . 

قلت: : الميزان الأصغر تعلمناه من الله تعالئ حيث علّمه محمّداً يك في القرآن. 
وذلك في قوله تعالى : وما َدَرُوا لل حنَّ َه ِذ قَاُوا ما نَل الله على بَشَرٍ منْ شَيءٍ 
ُلْ مَنْ أنْرَلَ آلكتَابَ الذي جَاء به مُوسَى ثُوراً وَهُدَى للنّاس 0#©. ووجه الوزن بهذا 
الميزان تقول قولهم بنفي إنزال الوحي على البشر قول باطل الازدواج المنتج بين 
الأصلين : 

أحدهما: أن موسى عليه السلام بشر. 

والثاني : أن موسى أنزل عليه الكتاب فيلزم منه بالضرورة قضية خاصة وهو أن 
بعض البشر انزل عليه الكتاب وتبطل به الدعوى العامة بأنه لا ينزل كتاب على بشر 
أصلا . أما الأصل الأول وهو قولنا موسى بشر فمعلوم بالحس. وأما الثاني وهو أن موسى 
منزل عليه الكتاب فكان معلوماً باعترافهم إذ كانوا يخفون بعضه ويظهرون بعضه كما قال 
تعالئ : طِنُبْدُونَهَا ونَحَْهُونَ كثيرً. وإنما ذكر هذا فى معرض المجادلة بالأحسن» 
ومن خاصية المجادلة أنه يكفي فيه أن يكون الأصلان مسلمين من الخصم مشهورين 
عنده يوان نكن الخلث فيه لخي فإن اتيج تلزمه إذكان هورمعترفا بدن تواكتر أده اران 
تجري على هنا الوجه. فإن صادفت من تفسك إمكان الشك في ب يعض اضنولهنا 
ومقدمائهال. فاعلم أن المقصود بها محاجة من لم يشك فيه. وأما أنت فالمقصود د في 
حقك أن تتعلم منه كيفية الوزن في سائر المواضع. وأما عيار هذا الميزان أن من يقول 
)١(‏ سورة الأنعام : الآية .41١‏ 
(١‏ سورة الأنعام : جزء من الآية .4١‏ 


لا يتصور أن يمشي الحيوان بغير رجل» فيعلم منك إذا قلت الحية حيوان والحية تمشي 
بغير رجل فيلزم منه أن بعض الحيوان يمشي بغير رجل. وأن قول من يقول لا يمشي 
الحيوان إلا برجل قول باطل منقوض وأما موضع استعماله من الغوامض فكثيرء فإن 
بعض الناس مثلاً يقول كل كذب فهو قبيح لعينه فنقول من رأى نبياً من الأنبياء أو ولياً من 
الأولياء قد اختفى من ظالم فسأله الظالم عن موضعه فأخفاه فقوله هل هو كذب, قال: 
تعمء قلنا: فهل هو قبيح ‏ قال: لا بل القبيح الصدق المفضي إلى هلاكه فنقول له: 
أنظر إلى الميزان فإنا نقول قوله في إخفاء محله كذب فهو أصل معلوم . وهذا القول ليس 
بقبيح وهو الأصل الثاني , فيلزم منه أن كل كذب ليس بقبيح فتأمل الآن هل يتصور الشك 
في هذه النتيجة بعد الاعتراف بالأصلين وهل هذا أوضح مما ذكرته من المقدمة التجريبية 
والحسية بعد الاعتراف بالأصلين, وهل هذا أوضح مما ذكرته من المقدمة التجريبية 
والحسية فى معرفة ميزان التقديس. وأما حدّ هذا الميزان فهو أن كل وصفين اجتمعا 
على شيء ,واخل فبعض آحاد الوصفين لا بدّ أن يوصف بالآخر بالضرورة ولا يلزم أن 
يوصف بأنه كله لزوماً ضرورياًء بل قد يكون في بعض الأحوال وقد لا يكون فلا يوثق . 
ألا ترى أن الإنسان يجتمع عليه الوصف بأنه حيوان وأنه جسم فيلزم منه بالضرورة أن 
بعض الجسم حيوان ولا يلزم منه , إن كل جسم حيوان ولا يغرنك إمكان وضف كل 
حيوان بأنه جسم فإن وصف كل وصف بالآخر إذا لم يكن ضرورياً في كل حال لم تكن 
المعرفة الحاصلة به ضرورية, ثم قال الرفيق قد فهمت هذه الموازين الثلاثة. ولكن لِمم 
خصصت الأول باسم الأكبر والثاني بالأوسط والثالث بالأصغر؟ 

قلت: لآن الأكبر هو الذي يتسع لأشياء كثيرة» والأصغر خلافه؛ والأوسط بينهما 
والميزان الأول أوسع الموازين إذ يمكن أن تستفاد منه المعرفة بالإثبات العام الات 
الخاص والنفي العام والنفي الخاص. فقد أمكن أن يوزن به أربعة أجناس من 
المارف. وأم ثن فلاكن أن زنب إلا ان ولكن بز بنذ لام الخاص 

جميعا. وأما الثالث فلا يوزن به إلا الخاص كما ذكرت لك أنه يلزم منه أن بعض أحد 
الوصفين يوصف به الآخر لاجتماعهما على شيء واحد وما لا يتسع إلا للحكم الواحد 
الجزئي فهو أصغر لا محالة. نعم وزن الحكم العام به من موازين الشيطان وقد وزن به 
أهل التعليم بعض معارفهم وألقاه في أمنية الخليل صلوات الله عليه وسلامه في قوله : 
تلك الفاح . وسأتلو عليك قصته بعد هذا إن شاء الله . 


القول في ميزان التلازم: 

قال: فاشرح لي ميزان التلازم فقد فهمت الأقسام الثلاثة من موازين التعادل. 

قلت: هذا الميزان مستفاد من قوله تعالئ : هلو كان فيهمًا آلهَة إلا الله 
لَمسَدَتابه7. ومن قوله تعالئ: ظقُلُ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إذا لآبَقَوًا إلى ذي 
العَرْش سَبيلا"2. ومن قوله تعالئ: هِلَوْ كَانَ هْوّْلاءٍ آلِهَةَ ما وَرَدوهًاه0©. وتحقيق 
صورة هذا الميزان أن تقول: لو كان للعالم إلهان لفسد, فهذا أصل. ومعلوم أنه لم 
يفسد, وهذا أصل آخرء فيلزم عنهما نتيجة ضرورية وهي نفي أحد الإلهين. ولوكان مع 
ذي العرش آلهة لابتغوا إلى ذي العرش سبيلاء ومعلوم أنهم لم يبتغوا فيلزم نفي آلهة 
سوى ذي العرش. وأما عيار هذا الميزان بالصنجة المعلومة قولك: إن كانت الشمس 
طالعة فالكواكب خفية. وهذا يعلم بالتجربة» ثم نقول ومعلوم أن الشمس طالعة وهذا 
يعلم بالحس فيلزم منه أن الكواكب خفية؛ وتقول إن لم يأكل فلان فهو شبعان وهو يعلم 
بالتجربة, ثم تقول ومعلوم أنه أكل وهذا يعلم بالحس فيلزم من الأصل التجريبي 
والأصل الحسي بالضرورة أنه غير شبعان. وأما موضع استعماله في الغوامض فكثير 
حتى يقول الفقيه إن كان بيع الغائب صحيحا فيلزم بتصريح الإلزام , ومعلوم أنه لا يلزم 
بتصريح الإلزام فيلزم منه أن ليس بصحيح. ويعلم الأصل الأول بالاستقراء الشرعي 
المفيد للظن وإن لم يفد العلم. والثاني بتسليم الخصم ومساعدته ونقول في النظريات 
إن كان صنعة العالم وتركيب الآدمي مرتبا عجيبا محكما فصانعه عالم وهذا في العقل 
أولى » ومعلوم أنه عجيب مرتب وهذا مدرك بالعيان فيلزم منه أن صانعه عالم , ثم نترقى . 
فنقول: إن كان صانعه عالما فهو حي ومعلوم بالميزان الأول أنه عالم فيلزم منه أنه حي . 
ثم نقول إن كان حياً عالماً فهو قائم بنفسه وليس بعرضء ومعلوم الميزانين السابقين 
الأولين أنه حي عالم فيلزم منه أنه قائم بنفسه. وكذلك تعرج من صفة تركيب الآدمي إلى 
صفة صانعه وهو العلم. ثم تعرج من العلم إلى الحياة» ثم منها إلى الذات وهذا هو 
المعراج الروحاني. وهذه الموازين سلالم العروج إلى السماء. ثم إلى خالق السماء 
وهذه الأصول درجات السلالم وأما المعراج الجسماني , فلا تفي به كل قوة بل يختص 
)١(‏ سورة الأنبياء : الآية 71 . 


(؟) سورة الإسراء: الآية 47 . 
رم سورة الأنبياء: الآية 44. 


ذلك بقوة النبوة ‏ وأما حدّ هذا الميزانا فإن كل ا هوق 1زم للشيء فهو تابع له في كل 
حال. فنفي اللازم يوجب بالضرورة نفي الملزوم ووجود الملزوم يوجب بالضرورة وجود 
اللازم » أمانفي الملزوم ووجود اللازم فلا نتيجة لهماء بل هما من موازين الشيطان وقد 
يزن به بعض أهل التعليم معرفته. أما ترى أن صحة الصلاة يلزمها لا محالة كون 
المصلي متطهراً فلا جرم يصح أن تقول إن كانت صلاة زيد صحيحة فهو متطهر ومعلوم 
أنه غير متطهر وهو نفي اللازم فلزم منه أن صلاته غير صحيحة وهو نفي الملزومء وكذلك 
إن قلت ومعلوم أن صلاته صحيحة وهذا وجود الملزوم فيلزم منه أنه متطهر وهو وجود 
اللازم» أما إن قلت : ومعلوم أنه متطهر فيلزم منه أن صلاته صحيحة فهذا خطأ لأنه ربما 
بطلت صلاته بعلة أخرئن فهذا وجود اللازم ولم يدل على وجود الملزوم , وكذلك إن 

قلت :ومعلوم أن صلاته ليست بصحيحة فهو إذا كان غير متظهر وهذا خطأ غير لازم لأنه 
8 ا وك او ل ل 
يدل على نفي اللازم . 
القول في ميزان التعاند: 

ثم قال: اشرح لي ميزان التعاند واذكر لي من القرآن موضعه وعياره ومحل 
استعماله . 

قلت: :ما ضيه من العراد فقول تعالى فى اتعل انيه اميسمدة 25 لفل مَنْ 
ترفك منَ آلسَمواتِ وَالأرْض قل الله ونا أو إِياكُمْ لَعَلى ُدىٌ أو في ضَلالر 
مُبين2'76. فإنه لم يذكر قوله إنا أو إياكم في معرض التسوية والتشكيك؛ بل فيه إضمار 
أصل آخر وهو لسنا على ضلال في قولنا: إن الله يرزقكم من السماء والأرض فإنه الذي 
يرزق من السماء بإنزال الماء» ومن الأرض بإنبات النبات فإذاً أنتم ضالون بإنكار ذلك 
وكال صورة هذا الميزان إنا أو إياكم لعلى ضلال مبين. وهذا أصلء» ثم نقول: ومعلوم 
أنا لسنا في ضلالء وهذا أصل آخرء فيلزم من ازدواجهما نتيجة ضرورية وهو أنكم في 
ضلال . وأما عياره من الصنجات المعروفة فهو أن من دخل دارا ليس فيها إلا بيتان. ثم 
دخلنا أحدهما فلم نره فيه فنعلم علماً ضرورياً أنه في البيت الثاني, وهذا الازدواج من 
أصلين: أحدهما قوله إنه في أحد البيتين قطعاً والثاني أنه ليس في هذا البيت أصلاً 


)3( سورة سبأ: الآية 0 


فيلزم منهما أنه في البيت الثاني فاذاً نعلم أنه في البيت الثاني, فإذاً نعلم كونه في البيت 
الثاني تارة بأنه نراه فيه وتارة بأن نرى البيت الثاني خالياً عنه. فإن علمناه برؤيتنا إياه فيه 
كان علماً عيانياً وإن عرفناه بأن لم نره في البيت الثاني كان هذا علماً ميزانياًء ويكون هذا 
العلم الميزان قطعياً كالعيان» وأما حدّ هذا الميزان فهو أن كل ما انحصر في قسمين 
فيلزم من ثبوت أحدهما نفي الآخر ومن نفي أحدهما ثبوت الآخرء ولكن بشرط أن تكون 
القسمة منحصرة لا منتشرةء فالوزن بالقسمة المنتشرة وزن الشيطان وبه وزن بعض أهل 
التعليم كلامهم في مواضع كثيرة ذكرناها في القواصم. وفي جواب مفصل الخلاف 
والكتاب المستظهري وغيرهما من الكتب المستعملة, وأما موضع استعمال هذا من 
الغوامض فلا ينحصر ولعل أكثر النظريات تدور عليه» فإن من أنكر موجوداً قديماً فنقول 
له : الموجودات إما أن تكون كلها حادثة أو بعضها حادث وبعضها قديم وهذا حاصر. 
لأنه بين النفي والإثبات دائرء ثم نقول: ومعلوم أن كلها ليست بحادثة فيلزم أن فيها 
قديماء فإن قيل : فلم قيل إن كلها ليست حادثة . فنقول: لأن كلها لوكانت حادثة لكان 
حدوثها بأنفسها من غير سبب. فبطل أن تكون كلها حادثة فثبت أن فيها موجوداً قديماً. 
ونظائر استعمال هذا الميزان لا تنحصر. 

فقال: قد فهمت بالحقيقة صدق هذه الموازين الخمسة. ولكن أشتهي أن أعرف 
معنى ألقابها ولم خصصت الأول بأنه ميزان التعادل. والثاني بالتلازم. والثالث بالتعاند؟ 

قلت: سميت الأول ميزان التعادل لأن فيه أصلين متعادلين كأنهما كفتان 
متحاذيتان. وسميت الثاني ميزان التلازم لأن أحد الأصلين تشتمل على جزئين : أحدهما 
لازم؛ والآخر ملزوم. كقوله تعالئ : «لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتابه<©. فإن قوله 
لفسدتا لازم وملزوم قوله: لو كان فيهما آلهة إلا الله ولزمت النتيجة من نفي اللازم » 
وسميت الثالث ميزان التعاند لأنه رجع إلى حصر قسمين بين النفي والإثبات يلزم من 
ثبوت أحدّهما نفي الآخرء ومن نفي أحدهما ثبوت الآخر. فبين القسمين تعاند وتضاد. 

فقال: هذه الأسامي نت ابتدعتها وهذه الموازين أنت انفردت باستخراجها أم 
سبقت إليها؟ 

قلت : أما هذه الأسامي فإني ابتدعتهاء وأما الموازين فأنا استخرجتها من القرآن. 


. 7١ سورة الأنبياء : الآية‎ )١( 


وما عندي أني سبقت إلى استخراجها من القرآن. لكن أصل الموازين قد سبق 
استخراجها ولها عند مستخرجها من المتأخرين أسماء آخر سوى ماذكرته . وعند بعض 
الامم السابقة على بعثة محمّد وعيسى صلَى الله عليهما وسلم أسامي آخره كانوا قد 
تعلّموها من صحف إبراهيم وموسى عليهما الصلاة والسلام» ولكن بعثني على إبدال 
كسوتها بأسامي أخر غير ما سموها به ما عرفت من ضعف قريحتك وطاعة نفسك إلى 
الأوهام. فإني رأيتك من الاعتزاز بالظواهر بحيث لم سقيت عسلاً أحمر في قارورة 
حجام لم تطق تناوله لنفور طبعك عن المحجمة وضعف عقلك عن أن يعرفك أن العسل 
ظاهر في أي زجاجة كان. بل ترى التركي يلبس المرقعة والدراعة فتحكم عليه بأنه 
صوفي أو فقيه ولولبس الصوفي القباء والقلنسوة حكم عليه وهمك بأنه تركي فأبداً يتحرك 
وهمك إلى ملاحظة غلاف الأشياء دون اللباب. وكذلك لا تنظر إلى القول من نفس 
القول وذاته بل من حسن صنعته أو حسن ظنك بقائله. فإذا كانت عبارته مستكرهة عندك 
أو قائله قبيح الحال في اعتقادك رددت القول وإن كان في نفسه حسناً وحقاً. فلو قيل 
لك : قل لا إله إلا الله عيسى رسول الله نفر عن ذلك طبعك, وقلت: هذا قول النصارى 
فكيف أقوله. ولم يكن لك من العقل ما تعرف به أن هذا القول في نفسه حقّ وأن 
النصرانى ما مقت لهذه الكلمة ولا لسائر الكلمات بل لكلمتين فقط. إحداهما قوله: الله 
ثالث ثلاثة» والثانية قوله: محمّد ليس برسول الله وسائر أقواله وراء ذلك حقء فلمًا 
رأيتك ورأيت رفقاءك من أهل التعليم ضعفاء العقول لا تخدعهم إلا الظواهر نزلت إلى 
حدك فسقيتك الدواء في كوز الماء وسقتك به إلى الشفاء وتلطفت بك تلطف الطبيب 
بمريضه. ولوذكرت لك أنه دواء وعرضته في قدح الدواء لكان يشمئز عن قبوله طبعك ولو 
قبلته لكنت تتجرعه ولا تكاد تسيغه فهذا غرضي في إبدال تلك الأسامي وإبداع هذه 
يعرفه من يعرفه. ويجهله من يجهله. وينكره من ينكره . 

فقال: لقد فهمت هذاكله. ولكن أين ما كنت وعدت به من أن هذا الميزان له 
كفتان وعمود واحد تتعلق به الكفتان جميعاء ولست أرى في هذا الميزان الكفة 
والعمود. وأين ما ذكرته من الموازين التي هي أشبه بالقبان؟ 

قلت: هذه المعارف الست قد استفدتها من أصلين فكل أصل كفّة 
والجزء المشترك بين الأصلين الداخل فيهما عمود. وأضرب لك مثالا من الفقهيات فلعلّه 
أقرب إلى فهمك. فأقول: قولنا: كل مسكر حرام كفة. وقولنا: كل نبيد مسكر كفة 


535 


أخرى, والنتيجة أن كل نبيد حرام فههنا في الأصلين ثلائة أمور فقط: النبيذ والمسكر 
والحرام. أما النبيذ فإنه يوجد في أحد الأصلين فقط فهو كفة. وأما الحرام فيوجد في 
الأصل الثاني فقط فهو الكفة الثانية» وأما المسكر فمذكور في الأصلين جميعاً وهو مكرر 
فهما مشكرك بينهما نهو العنوة:-والككان مسسلنان به [3 يلق به احدعها ربعيل 
الموصوف بالصفة. وهو قولك كل نبيذ مسكر فإن النبيذ موصوف بالمسكر والأخرى 
متعلّقة به لتعلق الصفة بالموصوف وهو قولك . وكل مسكر حرام , فتأمّل ذلك حنى تعرف 
فإن فساد هذا الميزان تارة يكون من الكفة, وتارة يكون من العمود, وتارة يكون من تعلق 
الكفة بالعمود على ما أنبهك على رمز يسير منه في ميزان الشيطان, وأما المشبّه بالقبّان 
فهو ميزان التلازم إذ أحد طرفيه أطول من الآخر كثيرًء فإنك تقول لو كان بيع الغائب 
صحيحاً للزم بصريح الإلزام وهذا أصل طويل مشتمل على جزئين لازم وملزوم » والثاني 
وهو قولك وليس يلزم بصريح الإلزام وهذا أصل آخر أقصر منه فكان أشبه بالرمانة 
القصيرة المقابلة لكفة القبان. وأما ميزان التعادل فتتعادل فيه كفتان ليست إحداهما أطول 
من الأخرى. بل كل واحدة منهما تشتمل عى صفة وموصوف فقطء فافهم هذا مع ما 
عرفتك من أن الميزان الروحاني لا يكون كالميزان الجسماني بل يناسبه مناسبة ماء 
ولذلك يمكن تشبيهه بتولد النتيجة من ازدواج الاصلين إذ يجب أن يدخل شيء من أحد 
الأصلين في الآخر وهو المسكر الموجود في الأصلين حتى تتولّد النتيجة» فإن لم يدخل 
جزء من أحد الأصلين في الآخر لم تتولد نتيجة كما لم تتولد من قولك كل مسكر حرام 
وكل مخصوب مضمون نتيجة أصلا وهما اصلان» لكن لم يجر بينهما نكاح وازدواج إذ 
ليس يدخل جزء من أحدهما في الآخرء وإنما النتيجة تتولد من الجزء المشترك الداخل 
من أحدهما في الأخر وهو الذي سميناه عمود الميزان» ولو فتح لك باب الموازنة بين 
المحسوس والمعقول لانفتح لك باب عظيم في محر الموازنة بين عالم الملك 
والشهادة» وبين عالم الغيب والملكوت وتحته أسرار عظيمة. من لم يطلع عليها حرم 
الاقتباس من أنوار القرآن والتعلم منه ولم يحط من علمه إلا بالقشور. فكما أن في القرآن 
موازين كل العلوم فكذلك فيه مفاتيح كل العلوم كما أشرت إليه في كتاب (جواهر 
القرآن) فاطلبه منه وليست الموازنة بين عالم الملك والشهادة وعالم الغيب والملكوت. 
إلا بما يتجلى بعضه في المنام من الحقائق المعنوية في الأمثلة الخالية, لأن الرؤيا جزء 
من النبوة وفي عالم النبوة يتجلى تمام الملك والملكوت, ومثاله من النوم رجل رأى في 
منامه كأن في يده خاتما يختم به أفواه الرجال وفروج النساء فقص رؤياه على ابن 


ا 


سيرين., فقال: إنك مؤذن تؤذن فى رمضان قبل الصباح . فقال: هو كذلك. فانظر الآن 
لم تجل له حاله من عالم الغيب في هذا المثال. واطلب الموازنة بين هذا المثال والأذان 
قبل الصبح في رمضان. وربما يرى هذا المؤذن نفسه يوم القيامة وفي يده خاتم من نار 
ويقال له هذا هوالخاتم الذي كنت تختم به أفواه الرجال وفروج النساء. فيقول: والله ما 
فعلت هذا. فيقال: نعم كنت تفعله ولكن تجهله لأن هذا روح فعلك ولا تتجلى حقائق 
الأشياء وأرواحها إلا في عالم الأرواح ويكون الروح في غطاء من الصور في عالم 
التلبيس عالم الحس والخيال. والآن قد كشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد, 
وكذلك يفتضح كل من ترك حدًّاً من حدود الشرع. وإن أردت له حقيقة فاطلبه من باب 
حقيقة الموت في الإحياء أو من كتاب جواهر القرآن. فترى فيه العجائب, وأطل التأمل 
فيه فعساك تنفتح لك باب رؤيته إلى عالم الملكوت تسترق منها السمع. فإني ما أراك 
ينفتح لك بابها وأنت إنما تنتظر معرفة الحقائق من معلم غائب لا تراه ولو رأيته لوجدته 
أضعف منك في المعرفة كثيراً فخذها ممن سافر وتعرف وبحث فعلى الخبير سقطت 
فيه . 

فقال: هذا الآن حديث آخر يطول بيني وبينك اللجاج فيه. فإن هذا المعلم 
الغائب وإن كنت لم أر منظره فقد سمعت خبره كالليث إن لم أره فقد رأيت أثره ولقد 
رأيت والدتي إلى أن ماتت ومولانا('» صاحب قلعة ألموت يثنيان عليه ثناءً بالغاً حتى قاللا 
إنه المطلع على كل ما يجري في العالم ولو على ألف فرسخ . أفاكذب والدتي وهي 
العجوز العفيفة السيرة أو مولانا وهو الإمام الحسن السيرة والسريرة . كلا بل هما شاهدان 
صادقان كيف وقد طابقهماعلى ذلك جميع رفقائي من أهل دامغان("» وأصبهان297, ولهم 


)١(‏ هو الحسن بن الصباح مقدم الإسماعيلية صاحب قلعة ألموت وهو الذي أظهر بدعة الطائفة 
الإسماعيلية . قال الشهرستاني : واستظهر المذكور بالرجال وتحصن بالقلاع وكان بدء صعوده 
على قلعة في شعبان سنة ثلاث وثمانين وأربعمائة وهو الذي دعا الناس إلى تعيين إمام صادق 
ومنع العوام من الخوض في العلوم ومنع الخواص عن مطالعة الكتب القديمة؛ توفي سنة ثمان 
عشر وخمسمائة كذا في تاريخ ابن الوردي . 

(؟) دامغان : بلدة كبيرة بين الري ونيسابور وهي قصبة قوصس قال مسعر بن مهلهل : الدامغان مدينة 
كثيرة الفواكه وفاكهتها نهاية والرياح لا تنقطع بها لبلا ولا نهارً. وبها مقسم للماء كمروي عجيب 
يخرج ماؤه من مغارة ة في الجبل إذا انحدر عنه على مائة وعشرين قسماً لمائة وعشرين رستاقا 
لا يزيد قسم على صاحبه ولا يمكن تأليفه على غير هذه القسمة وهو مستظرف جداً ما رأيت في 


نذا 


الأمر المطاع وفي حكمها سكان القلاع» أفترى أنهم منخدعون وهم الأذكياء أو 
متنمسون وهم الأتقياء؟ هيهات هيهات دع عنك الغيبة» فإن مولانا يطلع على ما يجري 
بيننا من غير ريبة إذ لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء. فأخشى أن 
أتعرض لمقته بمجرد السماع والاصغاء فاطو طومار(') الهذيان وارجم إلى حديث 
الميزان واشرح لي ميزان الشيطان وكيفية وزن أهل التعليم به. 


القول في موازين الشيطان وكيفية فية وزن أهل التعليم بها : 


فقلت: اسمع الآن يا مسكين شرح ميزان رفقائك فإنك بعد في غلوائك» واعلم 
أن كل ميزان ذكرته من موازين القرآن فللشيطان في جانبه ميزان ملصق به يمثله بالميزان 
الحق ليوزن به. فيغلط لكن الشيطان إنما يدخل من موقع الثلم» فمن سد الثلم 
وأحكمها أمن الشيطان. ومواقع ثلمه عشرة قد جمعتها وشرحتها في كتاب النظر وكتاب 
معيار العلم إلى غير ذلك من الدقائق في شروط الميزان لم أذكرها الآن لقصور فهمك 
عن إدراكهاء فإن أردت معاقد حملها ألفيتها في كتاب المحك. وإن أردت شرح 
تفاصيلها وجدتها في كتاب المعيارء لكن أقدم الآن أنمودجاً واحداً وذلك هو الذي ألقاه 


- سائر البلدان مثله ولا مشاهدات أحسن منه» وهناك قرية تعرف بقرية الجمالين فيها عين تنبع دما 

لا يشك فيه لانه جامع لأوصاف الدم كلها إذا ألقي فيه الزئيق صار لوقته حجراً يابساً صلباً متفنتً» 
وتعرف هذه القرية أيضاً بفنجان وبالدامغان وفيها معادن الذهب وبينها وبين بسطام مرحلتان 
وبينها وبين كردكوه قلعة الملاحدة يوم واحد. والواقف بالدمغان يراها في وسط الجبال. وقد 
نسبوا إلى الدامغان جماعة وافرة من أهل العلم منهم : إبراهيم بن إسحاق الزراد الدامغاني 
وقاضي القضاة أبو عبد الله بن علي بن محمد الدامغاني وغيرهما. انتهى باختصار من معجم 
البلدان. 

(؟) أصبهان: مديئة عظيمة مشهورة من أعلام المدني وأعيانها ويسرفون في وصف عظمها حتى 
يتجاوزوا حدّ الاقتصاد إلى غاية الإسراف وهي اسم للإقليم بأسره. وهي صحيحة الهواء نفيسة 
الجو خالية من جميع الهوام تبلى المونى في تربتها ولا تتغير فيها رائحة اللحم ولو بقيت في القدر 
بعد أن تطبخ شهرأً. وتربتها أصح تراب الأرض ويبقى التفاح فيها غضاً سبع سنين ولا تسوس بها 
الحنطة. ومساحتها ثمانون فرسخاً في مثلهاء وهي ستة عشر رستاقاً كل رستاق ثلاثمائة وستون 
قرية قديمة سوى المحدثة . انتهى بغاية الاختصار من معجم البلدان لياقوت الحموي . 

)١(‏ الطومار: الصحيفة. قيل: هو دخيل وجعله ابن سيده عربياً محضاً لأن سيبويه قد اعتدٌ به في 
الأبنية وجعله ملحقاً بفسطاط (لسان العرب). 


>23 


الشيطان في خخاطر إبراهيم الخليل عليه السلام إذ قال الله تعالى : ؤِوَمارْسَلنا ِنْ فين 
مِنْ رَسُولٍ وَل نبي إلا إذَاَ َم ألْقَى الشَيْطَانٌ في آمْيتهِ فَينسَحٌ الله مَا يُلقي الشبِطانٌ كم 
يُحْكُمْ الله آياتِهِب76١).‏ وإنما ذلك في مبادرته إلى الشمس. وقوله: هذا ربي هذا أكبر 
لأجل أنه أكبر أراد أن يخدعه به. وكيفية الوزن به أن الإله هو الأكبر. فهذا أصل معلوم 
الاتفاق والشمس هي أكبر من الكواكب وهذا أصل آخر معلوم بالحس. فيلزم منه أن 
الشمس إِلّه وهي النتيجة وهذا ميزان ألصقه الشيطان بالميزان الأصغر من موازين التعادل 
لان الأكبر وصف وجد للإله ووجد للشمسء. فيوهم أن أحدهما يوصف بالآخر وهو 
عكس الميزان الأصغرء وحدٌ ذلك الميزان أن يوجد شيئان لشيء واحد لا أن يوجد شىء 
واحد لشيئين فإنه إن وجد شيئان لشىء واحد وصف بعض أحدهما بالآخر كما سبق 
ذكره. أما إذا وجد شىء واحد لشيئين فلا يوصف أحد الشيئين بالآخرء فانظر كيف يلبس 
الشيطان بالعكس . وعيار هذا الميزان الباطل من الصنجة الظاهرة البطلان اللون فإنه 
يوجد للسواد والبياض جميعاً. ثم لا يلزم أن يوصف البياض بالسواد أو السواد بالبياض» 
بل لو قال قائل: البياض لون والسواد لون فيلزم منه أن السواد بياض كان خطأ باطلاء 
فكذلك قوله الإله أكبر والشمس أكبر فالشمس إله فهذا خطأ إذ يجوز أن يوصف 
المتضادان بوصف واحد., فاتصاف شيئين بوصف واحد لا يوجب بين الشيئين اتصالا . 
أما اتصاف شيء واحد بشيئين فيوجب بين الوصفين اتّصالاً وكل من فهمه أدرك التفرقة 
بين اتصاف شيء واحد بشيئين وبين اتصاف شيئين بشيء واحد. 

فقال: قد اتضح لي بطلان هذاء لكن متى وزن أهل التعليم كلامهم به؟ 

قلت: : وزنوا به كلاما كثيراً أشح على أوقاتي أن أضيعها بحكايته» لكن أريك 
الموذع] والحدا » فلقد سمعت كثيراً من قولهم إن الحق مع الوحدة والباطل مع الكثرة» 
ومذهب الرأي يفضي إلى الكثرة. ومذهب التعليم يفضي إلى الوحدة فيلزم أن يكون 
الحقّ في مذهب التعليم . 

قال: نعم سمعت هذا كثيراً واعتقدت هذا برهاناً وأعرفه برهاناً قاطعاً لا أشكُ 


فقلت: هذا ميزان الشيطان فانظر كيف انتكس رفقاؤك واستعملوا قياس الشيطان 


)١(‏ سورة الحج : الآية ؟61. 


5” 


وميزانه في إبطال ميزان الخليل صلوات الله عليه وسلامه وسائر الموازين. 
قال: وما وجه تخريجه عليه؟ 


فقلت: الشيطان إنما يلبس في الموازين بتكثير الكلام فيه وتشويشه حتى لا يعلم 
منه موضع التلبيس وهذا كلام كثير حاصله يرجع إلى أن الحق يوصف بالوحدة. فهذا 
أصل وأن مذهب التعليم يوصف بالوحدة فهذا أصل آخرء فلزم منه أن مذهب التعليم 
يوصف بالوحدة وصف واحد بالحق لأن الوحدة في شيء واحد فاتصف به شيئان» 
فيجب اتصاف أحد الشيئين بالآخر كقولالقائل: اللون وصف واحد اتَصف به البياض 
والسواد جميعاً فيلزم اتصاف البياض بالسواد. وكقول الشيطان : الأكبر وصف واحد 
يتصف به الإله والشمس فيلزم منه أن تتصف الشمس بالإله فلا فرق بين هذه الموازين 
الثلاثة . أعني وجود اللون للسواد والبياض ووجود الأكبر للإله والشمس ووجود الوحدة 
للتعليم والحق. فتأمل لتفهم ذلك . 

فقال: قد فهمت هذا قطعاً ولكني لا أقنع بمثال واحد فاذكر لي مثالا آخر من 
موازين رفقائي ليزداد قلبي سكوناً إلى معرفة انخداعهم بموازين الشيطان. 

قلت: أما سمعت قولهم إن الحق إما أن يعرف بالرأي المحض أو بالتعليم 
المحض . وإذا بطل أحدهما ثبت الآخر وباطل أن يكون مدركاً بالرأي العقلي المحض 
لتعارض العقول والمذاهب فثبت أنه بالتعليم. 

فقال: إي والله قد سمعت ذلك كثيراً وهو مفتاح دعوتهم وعنوان حجتهم . 

قلت: فهذا وزن بميزان الشيطان الذي الصقه بميزان التعاند. فإن إبطال أحد 
القسمين ينتج ثبوت الآخر. ولكن بشرط أن تكون القسمة منحصرة لا منتشرة» والشيطان 
يلبس المنتشرة بالمنحصرة» فهله متثيرة إذ ليشكروائرة بين اللعى والإثبات. بل يمكن 
بينهما قسم ثالث وهو أن يدرك بالعقل والتعليم جميعا وعياره من الصنجات المعلوم 
بطلانها قول القائل : الألوان لا تدرك بالعين بل بنور الشمس . فقلنا: لم؟ فقال: لا تخلو 
إما أن تدرك بالعين أو بنور الشمس وباطل أن تدرك بالعين لأنه لا يدرك بالليل فثبت أنه 
يدرك بنور الشمسء فيقال له: يا مسكين» ثم قسم ثالث وهو أن يدرك بالعين ولكن عند 
بور العسيمن:: 

فقال: قد فهمت هذا أيضاً لكن أريد أن تزيدني شرحاً للغلط الواقع في الأنموذج 


7” 


الأول وهو حديث الحق والوحدة. فإن التفطن لموضع الغلط منه تطيف جدا. 

قلت: وجه الغلط ما ذكرت وهو التباس اتصاف شيء واحد بشيئين باتصاف 
شيئين بشيء واحد. ولكن أصل هذا الغلط إيهام العكسء فإن من علم أن كل واحد حقٌ 
ربما يظن أن كل حى واحد وليس يلزم هذا العكس بل اللازم منه عكس خاص. وهو أن 

بعض الواحد حقّ فإن قولك كل إنسان حيوان لا يلزم منه عكس عام وهو أن كل حيوان 
إنسان بل اللازم أن بعض الحيوان إنسان ولا يستولي الشيطان بحيله على الضعفاء باأشد 
وأكثر من تحيله بإيهام العكس العام حتى ينتهي إلى المحسوسات حتى أن من رأى حبادٌ 
أسود مبرقش اللون يرتاع منه لشبهه بالحية وسببه معرفته أن كل حية فطويل متبرقش اللون 
فيسبق وهمه إلى عكسه العام. ويحكم بأن كل طويل متبرقش اللون فهو حية فيظن منه 
عكسا عاماء. وهو أن كل طويل متبرقش اللون أسود فهو حية». وإنما اللازم منه عكس 
خاص وهو أن بعض الطويل المتبرقش حية لا أن كله كذلك؛, وفي العكس والنقيض 
اتن كرا شيعي امن كات يجاك انكر بغار القام.. 

فقال: إني أجد بكل مثال تذكره طمأنينة أخرى لمعرفة موازين الشيطان فلا تبخل 
علي بمثال آخر من موازين الشّيطان . 


قلت: إن فساد ذلك الميزان تارة يكون من سوء التركيب بأن لا يكون تعلق 
الكفتين بالعمود تعلقا مستقيما وتارة يكون من نفس الكفة وفساد طينتها التى منها اتخذت 
فإنها إما أن تتخذ من حديد أو نحاس أو جلد حيوان» فلو اتخذت من الثلج أو القطن لم 
يمكن الوزن به والسيف تارة يفسد لخلل شكله بأن يكون على هيئة العصا غير معترض 
ولا حاد. وتارة يكون من فساد طينته ومادته التي منها اتخذ بأن يكون متخذاً من خشب أو 
طين . وكذلك ميزان الشيطان قد يكون فساده لفساد تركيبه كما ذكرته في مثال كبر 
الشمس ووحدة الحق فإن صورتهما مختلة معكوسة كالذي يجعل الكفتين فوق العمود 
فيريد أن يزن به وثارة ياكون لفيتاد العادة كقول إبليس آنا خير هنة لقني فن نار وخلقته 
من طين في جواب قوله تعالى : ما منْمَكَ أنْ تَسْجُدَ لِما حَلَفْتُ بيدَيْ كبرت أم كنت 
مِن آلعالين 20١74‏ . وقد أدرج إبليس في هذا ميزانين إذ علل منع السجود بكونه خيراً منه 
ثم أثبت الخيرية بأنه خلق من نار. وإذا صرح بجميع أجزاء حجته وجد ميزانه مستقيم 


)١(‏ سورة ص: الآية هلا. 


>37 


التركيب لكن فاسد المادة. وكمال صورته أن يقول ما خلق من نار خير والخير لا يسجد 
فأنا إذأ لا اسجد فكلا أصلي هذا القياس ممنوع لأنه غير معلوم, والعلوم الخفيّة توزن 
بالعلوم الجلية وما ذكره غير جلي ولا مسلم إذ نقول له: نسلم أنك خير منه وهذا منع 
الأصل الأول. والآخر أنا لا نسلم أن الخير لا يلزمه السجود لأن اللزوم والاستحقاق 
بالأمر لا بالخيرية» لكن ترك إبليس الدلالة على الأصل الثاني وهو أن اللزوم 
والاستحقاق بالأمر لا بالخيرية واشتغل بإقامة الدليل على أنه خير لأني خلقت من نار 
وهذه دعوى الخيرية بالنسب وكمال صورة دليله وميزانه أن يقول المنسوب إلى الخير 
خير» وأنا منسوب إلى الخير فإذاً أنا خيرء وكلتا هاتين الكفتين أيضاً فاسدة فإنا لا نسلم 
أن المنسوب إلى الخير خير بل الخيرية بصفات الذات لا بالنسب. فيجوز أن يكون 
الحديد خيراً من الزجاج ثم يتخذ من الزجاج بحسن الصنعة ما هو خير من المتخذ من 
الحديد. وكذلك نقول إبراهيم صلوات الله عليه خير من ولد نوح وإن كان إبراهيم 
مخلوقاً من آزر وهو كافر وولد نوح من نبي . وأما أصله الثاني وهو أنه مخلوق من خير لان 
النار خير من الطين فهذا أيضاً غير مسلم بل الطين خير لأنه من التراب والماء. وربما 
يقال إن بامتزاجهما قوام الحيوان والنبات وبهما يحصل النشوء والنمو وأما النار فمفسدة 
ومهلكة للجميع فقوله إن النار خير باطل. فهذه الموازين صحيحة الصورة فاسدة المادة 
تشبيهاً بالسيف المتخذ من الخشب بل هي كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا 
جاءه لم يجده شيئاً ووجد الله عنده فوفاه حسابه. وكذا يرى أهل التعليم أحوالهم يوم 
القيامة إذا كشفت لهم حقائق موازينهم وهذا أيضاً مدخل من مداخل الشيطان ينبغي أن 
يسدء بل المادة الصحيحة التي تستعمل في النظر كل أصل معلوم قطعاً إما بالحس» 
وإما بالتجربة وإما بالتواتر الكامل أو بأول العقل أو بالاستنتاج من هذه الجملة. أما 
الذي يستعمل في المحاجة والمجادلة فما يعترف به الخصم ويسلمه وإن لم يكن معلوما 
في نفسه فإنه تصير حجته عليه وكذلك تجري بعض أدلة القرآن» فلا ينبغي أن ننكر أدلة 
القرآن إذا أمكنك التشكيك في أصولها لأنها أورت على طوائف كانوا معترفين بها . 


518 


القول في الاستغناء بمحمد صلى الله عليه وسلم 
ويعلماء أمته عن إمام معصوم آخر 
وبيان معرفة صدق محمد صلى الله عليه وسلم 
بطريق أوضح من النظر في المعجزات 
وأوثق منه وهو طريق العارفين 

فقال: لقد أكملت الشفاء وكشفت الغطاء وأتيت باليد البيضاء لكن بنيت قصراً 
وهدمت مصراًء فإني إلى الآن كنت أتوقع أن أتعلم منك الوزن بالميزان وأستغني بك 
وبالقرآن عن الإمام المعصوم فالآن إذ ذكرت هذه الدقائق في مداخل الغلط فقد أيست 
من الاستقلال به. فإني لا آمن أن أغلط لو اشتغلت بالوزن وقد عرفت الآن لم اختلف 
الناس في هذه المذاهب وذلك لانهم لم يتفطنوا لهذه الدقائق كما فطنت» فغلط بعضهم 
وأصاب بعضهم . فإذا أقرب الطرق لي أن أعول على الإمام المعصوم حتى أتخلص من 
هذه الدقائق . 

فقلت: يا مسكين. معرفتك بالإمام الصادق ليست ضرورية فهي إما أن تكون 
تقليدا للوالدين أو موزونة بشي ء من هذه الموازين فإن كل علم ليس أوليا فبالضرورة 
يكون حاصلا عند صاحبه بقيام هذه الموازين في نفسه وإن كان هو لا يشعر به. فإنك 
عرفت صحة ميزان التقدير بانتظام الأصلين في ذهنك التجريبي والحسي , وكذلك سائر 
الناس وهم لا يشعرون به ومن يعرف مثلاً أن هذا الحيوان غير حامل لأنه بغل عرفه 
بانتظام الأصلين اللذين ذكرناهما في صدر الكتاب وإن كان لا يشعر بمصدر علمه. 
وكذلك كل علم في العالم يحصل للإنسان فيكون كذلك فأنت إن أخذت اعتقاد العصمة 
في الإمام الصادق بل في محمد يٍ تقليداً للوالدين والرفقاء لم تتميز عن اليهود 
والنصارى والمجوس » فإنهم كذلك فعلوا وإن أخذته من الوزن بشيء من هذه الموازين 
فلعلك غلطت في دقيقة من دقائقه فينبغي على زعمك أن لا تثق به. 

فقال: صدقت. فأين الطريق فلقد سددت علي طريق التعليم والوزن جميعاً. 

قلت: هيهات راجع القرآن فقد علمك الطريق. إذ قال تعالى : إن آلذِينُ آنقَوًا 
ذا مَسّهُم طَائْفٌ مِنَ آلشَيْطانٍ تَذَكُرُوا فَإذَا هُمْ مُبْصِرٌ ون © . ولم يقل سافروا إلى الإمام 


. 7١1 سورة الأعراف: الآية‎ )١( 


>33 


المعصوم فإذا هم مبصرون فأنت تعلم أن المعارف كثيرة فلو ابتدأت في كل مشكلة سفراً 
إلى الإمام المعصوم بزعمك طال عناؤك وقل علمك. لكن طريقك أن تتعلم مني كيفية 
الوزن وتستوفي شروطه فإن أشكل عليك شيء عرضته على الميزان وتفكرت في شروطه 
بفكر صاف وجدّ وافٍ فإذا أنت مبصر وهذا كما لوحسبت ما للبقال عليك أو لك عليه أو 
قسمت في مسألة من مسائل الفرائض وشككت في الإصابة والخطأ فيطول عليك أن 
تسافر إلى الإمام المعصرة» ولكن تحكم علم الجسناب: وتتذكرة ولا ترال تعاوةة مره بعد 
اخرى حتى تستيقن قطعا أنك ما غلطت في دقيقه من دقائقها وهذا يعرفه من يعرف علم 
الحساب. وكذلك من يعرف الوزن به كما أعرفه فينتهي به التذكر والتفكر والمعاودة مرة 
بعد أخرى إلى اليقين الضروري بأنه ما غلط. فإن لم تسلك هذه الطريق لم تفلح قط 
وصرت تشكك بلعل وعسى ولعلك قد غلطت في تقليدك لإمامك بل للنبي الذي آمنت 
به فإن معرفة صدق النبيّ يل ليست ضرورية. 


فقال: لقد ساعدتني على أن التعليم حقّ. وأن الإمام هو النبي يَكةِ واعترفت بأن 
كل واحد لا يمكنه أن يأخذ العلم من النبي يَكِةِ دون معرفة الميزان» وأنه لا يمكنه معرفة 
تمام الميزان إلا منك فكأنك ادعيت الإمامة لنفسك خاضة, فما برهانك ومعجزتك, 
فإن إمامي إما أن يقيم معجزة وإما أن يحتج بالنص المتعاقب من آبائه إليه. فأين نصك 
وأين معجزنتك؟ 

فقلت: أما قولك إنك تدعي الإمامة لنفسك خاصة فليس كذلك فإني أرجو أن 
يشاركني غيري في هذه المعرفة فيمكن أن يتعلم منه كما يتعلم مني فلا أجعل التعليم 
وفقا على نفسي . وأما قولك تدّعي الإمامة لنفسك. فاعلم أن الإمام قد نعني به الذي 
يتعلم من الله تعالى بواسطة جبريل وهذا لا أدعيه لنفسي . وقد نعني به الذي يتعلم من 
الله بغير جبريل ومن جبريل بواسطة الرسول. ولهذا سمي علي رضي الله عنه إماماً فإنه 
تعلم من الرسول لا من جبريل. وأنا بهذا المعنى أذعي الإمامة لنفسي . أما برهاني عليه 
فأوضح من النص ومما تعتقده معجزة فإن ثلاثة أنفس لو ادعوا عندك أنهم يحفظون 
القرآن. 

فقلت: ما برهانكم؟ فقال أحدهم : برهاني أنه نص علي الكسائي أستاذ المقرئين 
إذ نص على أستاذي وأستاذي نص علي فكأن الكسائي نص علي . وقال الثاني : إني 
أقلب العصا حية فقلب العصا حية. وقال الثالث: برهاني أني أقرأ جميع القرآن بين 


06 


يديك من غير مصحف, فليت شعري أي هذه البراهين أوضح عندك وقلبك بأيها أشد 
تصديقاً؟ فقال: بالذي قرأ القرآن فهو غاية البراهين إذ لا يخالجني فيه ريب, أما نص 
أستاذه عليه ونص الكسائي على أستاذه فيتصور أن تقع فيه أغاليط لا سيما عند طول 
الأسفار. وأما قلب العصا حية فلعله فعل ذلك بحيلة وتلبيس وإن لم يكن تلبيسا فغايته 
أنه فعل عجيب ومن أين يلزم أن من قدر على فعل عجيب ينبغي أن يكون حافظاً 
للقرآن . 

قلت : فبرهانى إذاً أيضاً أن كما عرفت هذه الموازين فقد عرفت وأفهمت وأزلت 
الشك:عن قلبك فى :صضحته فيلرمك الأيمان بإمامى كما أنك: إذا تغلمت الحساك 
وعلمته من آستاة فإنة إذا عَنْضْلكَ الحنات حصل لك علم بالحساب, وعلم آخر 
ضروري بأن أستاذك حاسب وعالم الحساب, وكذلك فقد علمت من تعليمه علمه 
وصحة دعواه أيضاً فى أنه حاسب, وكذلك آمنث أنا بصدق محمد يل وصدق موسى 
عليه السلام لا بشقٌّ القمر ولا بقلب العصا حية بمجردهماء فإن ذلك يتطرق إليه حينئذٍ 
التباس كثير فلا يوئق به بل من يؤمن بقلب العصا حية يكفر بخوار العجل . فإن التعارض 
في عالم الحس والشهادة كثير جداًء لكني تعلمت الموازين من القرآن ثم وزنت بها 
جميع المعارف الإلهية2'0 بل أحوال المعاده"». وعذاب القبر وعذاب أهل الفجور 
وثواب أهل الطاعة. كما ذكرته في كتاب جواهر القرآن فوجدت جميعها موافقة لما في 
القرآن. ولما في الأخبار فتيقنت أن محمّداً لِ صادق وأن القرآن حق. وفعلت كما قال 
علىٌ رضي الله عنه إذ قال: «لا تعرف الحق بالرجال أعرف الحق تعرف أهله». فكانت 
معرفتي بصدق الننيّ يلخ ضرورية كمعرفتك إذا رأيت رجلا عربياً يناظر في مسألة من 
مسائل الفقه ويحسن فيها ويأتي بالفقه الصحيح الصريح. فإنك لا تتمارى في أنه فقيه 
ويقينك الحاصل به أوضح من اليقين الحاصل بفقهه لو قلب ألف عصاً ثعباناً لأن ذلك 
يتطرق إليه احتمال السحر والتلبيس والطلسم وغيرها ولا يحصل العلم بالقرآن بينها 


)١(‏ أشار إلى ذلك في تسع وأربعين آية من سورة النحل من قوله تعالىئ: «أتى أمر الله فلا 
تستعجلوه» ‏ إلى قوله ‏ لا جرم أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون» وغير ذلك . 

(7) أشار إلى ذلك في ست عشرة آية من سورة الحج من قوله : فيا أيها الناس إن كتنم في ريب من 
البعث فإنا خلقناكم من تراب. ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين 
لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى» ‏ إلى قوله ‏ طوأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن 
لله يبعث من في القبور» وغير ذلك . 


ض 


وبين هذه الأشياء. وكونها معجزة آلا بعد بحث طويل ونظر دقيق ويحصل به إيمان 
ضعيف هو إيمان العوام والمتكلمين, فأما إيمان أرباب المشاهدة الناظرين من مشكاة 
الربوبية كذلك تكون. 

فقال: فأنا أيضاً أشتهي أن أعرف النيّ كَل كما عرفته. وقد ذكرت أن ذلك 
لا يعرف إلا بأن توزن جميع المعارف الإلهية بهذا الميزان وما اتضح عندي أن جميع 
المعارف الدينية يمكن وزنها بهذه الموازين فيم أعلم ذلك؟ 

قلت: هيهات لا أدعي أني أزن بها المعارف الدينية فقط. بل أزن بها العلوم 
الحسابية والهندسية والطبيعية والفقهية والكلامية وكل علم 2 غير وضعي . فإني 
أميز حقه عن باطله بهذه الموازين» وكيف لا وهو القسطاس | يم والميزان الذي هو 
رفيق الكتاب والقرآن في قوله تعالى : (ِلَقذ أَرْسَلْنا رُسُلَنا باليينَاتِ وأَنرِلنَا ممَهُمُ آلكنَابَ 
وَآلمِيرَانَ لِيقُوم آلناسٌ بالقسْطٍ6) . وأما معرفتك بقدرتي على هذا فلا تحصل لا بنص 
ولا بقلت العصنااثغياً: كن تحال ١‏ مكدب نلك صورية وانيعادا تعدوي 
الفروسية لا ينكشف صدقه حتى يركب فرساً ويركض ميداناً فسلني عما شعت من العلوم 
الدينية لأكشف لك الغطاء عن الحنٌّ فيه واحداً واحدا وأزنه بهذا الميزان وزناً يحصل لك 
علم ضروري بأن الوزن صحيح وأن العلم المستفاد منه مستيقن ومن لم يجرب لم 
يعرف . 

فقال: وهل يمكنك أن تعرف جميع الحقائق والمعارف الإلهية جميع الخلق 
فترفع الاختلافات الواقعة بينهم؟ 

قلت: هيهات لا أقدر عليه وكان إمامك المعصوم إلى الآن قد رفم الاختلافات 
بين الخلائق وأزال الإشكالات عن القلوب, بل الأنبياء متى رفعوا الاختلاف ومتى 
قدروا عليه بل اختلاف الخلق حكم ضروري أزلي . ولا يزالون مختلفين إلا من رحم 
ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك. أفأدعي أن أرد قضاء الله الذي قضى به الأزل أو 
يقدر إمامك أن يدعي ذلك فإن كان يدعيه فلم ادخره إلى الآن والدنيا طافحة 
بالاختلافات . وليت شعري رئيس الأمة علي بن أبي طالب رضي الله عنه كما سبب رفع 
الاختلافات بين الخلق أو سبب تأسيس اختلافات لا تنقطع أبد الدهر. 


. 8 سورة الحديد: الآية‎ )١( 


نض 


القول في طريق نجاة الخلق من ظلمات الاختلافات : 

فقال: كيف نجاة الخلق من هذه الاختلافات؟ 

قلت: أن اصغوا إليّ . رفعت الاختلاف بينهم بكتاب الله تعالئ. ولكن لا حيلة 
في إصغائهم فإنهم لم يصغوا بأجمعهم إلى الأنبياء ولا إلى إمامك. فكيف يصغون إل 
وكيف يجتمعون على الإإصغاء وقد حكم عليهم في الأزل بأنهم لا يزالون مختلفين إلا 
من رحم ربك ولذلك خلقهم. وكون الخلاف بينهم ضروريا تعرفه من كتاب جواب 
مفصل الخلاف وهو الفصول الاثنتا عشر. 

فقال: فلو أصغوا كيف كنت تفعل؟ قلت : كنت أعاملهم بآية واحدة من كتاب الله 
تعالئ. إذ قال: «وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا 
الحديد2<6'». وإنما أنزل هذه الثلاث لأن الناس ثلاثة أصناف وكل واحد من الكتاب 
والحديد والميزان علاج قوم . 

فقال: فمن هم وكيف علاجهم؟ قلت: الناس ثلاثة أصناف عوام وهم أهل 
السلامة البله وهم أهل الجنة. وخواص وهم أهل الذكاء والبصيرة ويتولد بينهم طائفة هم 
أهل الجدل والشغب فيتبعون ما تشابه من الكتاب ابتغاء الفتنة. أما الخواص فإني 
أعالجهم بأن أعلمهم الموازين القسط وكيفية الوزن بها فيرتفع الخلاف بينهم على قرب 
وهؤلاء قوم اجتمع فيهم ثلاث خصال: 

إحداها: القريحة النافذة والفطنة القوية وهذه عطية فطرية وغريزة جبلية لا يمكن 


كسبها. 

والثانية : خلو باطنهم من تقليد وتعصب لمذهب موروث ومسموع فإن المقلد لا 
يصغي والبليد وإن أصغى فلا يفهم. 

الثالثة : أن يعتقد في أني من أهل البصيرة بالميزان ومن لم يؤمن بأنك تعرف 
الحساب لا يمكنه أن يتعلم منك . 


والصنف الثاني , البله: وهم جميع العوام وهؤلاء هم الذين ليس لهم فطنة لفهم 
الحقائق وإن كانت لهم فطنة فطرية فليس لهم داعية الطلب بل شغلتهم الصناعات 


)03 صورة الحديد: الآية 01 


والحرف وليس فيهم أيضاً داعية الجدل بخلاف المتكايسين في العلم مع قصور الفهم 
عنه فهؤلاء لا يختلفون ولكن يتخيرون بين الأئمة المختلفين فأدعوا هؤلاء إلى الله 
بالموعظة كما أدعوا أهل البصيرة بالحكمة, وأدعوا أهل الشغب بالمجادلة وقد جمع الله 
سبحانه وتعالئ هذه الثلاثة في آية واحدة كما تلوته عليك أوَلاً. فأقول لهم ما قاله 
رسول الله يلِةٍ لأعرابى جاءه فقال: 1 من غرائب العلم فعلم رسول الله يل أنه 
ليس أهلاً لذلك, فقال: وماذا علمت في رأ س العلم أي الإيمان والتقوى والاستعداد 
للآخرة اذهمب فاحكم رأس العلم ثم ارجع لأعلمك من غرائبه . فأقول للعامي : ليس 
الخوض في الاختلافات من عشك فادرج فإياك أن تخوض فيه أو تصغي إليه فتهلك» 
فإنك إذا صرفت عمرك في صناعة الصياغة لم تكن من أهل الحياكة؛ وقد صرفت عمرك 
في غير العلم. فكيف تكون من أهل العلم ومن أهل الخوض فيه. فإياك ثم إياك أن 
لك لسك لكل كبز ري على القاتي أهر نيدن آنا جور فى المله لكر 
حيث لا يدري . فإن قال : لا بد من دين أعتقده وأعمل به لأصل به به إلى المغفرة والناس 
مختلفون قي الأديان. فبأيّ دين تأمرني أن آخذ أو أعول عليه؟ فأقول له: : للدين أصول 
وفروع والاختلاف إنما يقع فيهماء أما الأصول فليس عليك أن تعتقد'فيها إلا ما في 
القرآن» فإن الله تعالئ لم يستر عن عباده صفاته وأسماءه. فعليك أن تعتقد أن لا إله إلا 
الله وأن الله حي عالم قادر سميع بصير جبار متكبر قدوس ليس كمثله شيء إلى جميع 
ما ورد في القرآن واتفق عليه الأئمة» فذلك كاف في صحّة الدين وإن تشابه عليك 
شىء, فقل : آمنا كل من عند ربنا واعتقد كل ما ورد في إثبات الصفات ونفيها على غاية 
التعظيم والتقديس مع نفي المماثلة واعتقاد أنه ليس كمثله شيء. وبعد هذا لا تلتفئت 
إلى القيل والقال فإنك غير مأمور به ولا هو على حد طاقتك. فإن أخذ يتحذلق ويقول 
عليه وقد اختلف فيه الأشعرية والمعتزلة فقد خرج بهذا عن حدٌ العوام إذ العامي 
لا يلتفت قلبه إلى مثل هذا ما لم يحركه شيطان الجدل. فإن الله لا يهلك قوما إلا يؤتيهم 
الجدل كذلك ورد الخبرء وإذا التحق بأهل الجدل فسأذكر علاجهم هذا ما أعظ به في 
الأصول وهو الحوالة على كتاب الله فإن الله أنزل الكتاب والميزان والحديد وهؤلاء أهل 
الحوالة على الكتاب . 

وأما الفروع فأقول: لا تشغل قلبك بمواقع الخلاف ما لم تفرغ عن جميع المتفق 
عليه فقد اتفقت الأئمة على أن زاد الآخرة هو التقوى والورع. وأن الكسب الحرام 
والمال الحرام والغيبة والنميمة والزنا والسرقة والخيانة وغير ذلك من المحظورات حرام 


3 


والفرائض كلها واجبة فإن فرغت من جميعها علمتك طريق الخلاص من الخلاف فإن هو 
طالبني بها قبل الفراغ من هذا كله فهو جدلي وليس بعامي ومتى تفرغ العامي من هذا إلى 
مواضع الخلاف. أفرأيت رفقاءك قد فرغوا من جميع هذا ثم أخذ إشكال الخلاف 
بمخنقهم هيهات ما أشبه ضعف عقولهم في خلافهم إلا بعقل مريض به مرض أشرف 
على الموت وله علاج متفق عليه بين الأطباء وهو يقول قد اختلف الأطباء في بعض 
الأدوية أنها حارّة أو باردة وربما افتقرت إليه وما فانا لا أعالج نفسي حتى أجد من 
يعلمني رفع الخلاف فيه. نعم لورأيتم صالحاً قد فرغ من حدود التقوى كلها. وقال: 
ها أنا تشكل علي مسائل فإني لا أرى أتوضا من اللمس والقيء والرعاف وأنوي الصوم 
بالليل في رمضان أو بالنهار إلى غير ذلك, فأقول له: إن كنت تطلب الأمان في طريق 
الآخرة فاسلك سبيل الاحتياط وخذ مما يتفق عليه فتوضاً من كل ما فيه خلاف فإن كل من 
لا يوجبه يستحبه. وأنو الصوم بالليل في رمضان فإن من لا يوجبه يستحبه, فإن قال: هو 
ذا يثقل على الاحتياط ويعرض لى مسائل تدور بين النفى والإثبات. وقال: لا أدري 
أأقنت في الصبح أم لا وأجهر بالتسمية أم لاء فأقول له: الآن اجتهد مع نفسك وانظر 
إلى الأئمة أيهم أفضل عندك وصوابه أغلب على قلبك كما لو كنت مريضا وفي البلد 
أطباء فإنك تختار بعض الأطباء باجتهادك لا بهواك وطبعك فيكفيك مثل ذلك الاجتهاد 
فى أمر دينك. فمن غلب على ظنك أنه الأفضل فاتبعه فإن أصاب فيما قال عند الله فله 
في ذلك أجران وإن أخطأ فله عند الله في ذلك أجر واحد, وكذلك قال رسول الله كل إذ 
قال: «من اجتهد فأصاب فله أجران ومن اجتهد فأخطأ فله أجر واحد». ورد الله تعالى 
الأمر إلى أهل الاجتهاد وقال تعالى لتعليمه الذين يستنبطونه منهم وارتضى الاجتهاد 
لأهله وقال تعالئ لتعليمه الذين يستنبطونه منهم وارتضى الاجتهاد لأهله إذ قال 
رسول الله ول لمعاذ: بم تحكم؟ قال : بكتاب الله. قال: فإن لم تجد؟ قال: بسنة 
رسول الله يه قال فإن لم تجد؟ قال: اجتهد رأبي , قال: ذلك قبل أن أمره به رسول 
الله كِِ وأذن له فيه. فقال النبيّ كه: «الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضاه 
رسول الله». ففهم من ذلك أنه مرضي به من رسول الله كلخ لمعاذ وغيره» كما قال 
الأعرابي إني هلكت وأهلكت واقعت أهلي في نهار رمضان, فقال: أعتق رقبة ففهم أن 
التركي أو الهندي لوجامع أيضاً لزمه الإعتاق وهذا لأن الخلق ما كلفوا الصواب عند الله 
فإن غير ذلك مقدور عليه ولا تكليف بما لا يطاق بل كلفوا ما يظنونه صواباء كما لم 
يكلفوا الصلاة بثوب طاهر بل بثوب يظنونه أنه طاهرء فلو تذكروا نجاسته لم يلزمهم 


هه 


القضاء إذ نزع رسول الله يك نعله في أثناء الصلاة لما أنبأه جبريل أن عليه قذرا ولم يعد 
الصلاة ولم يستأنف, وكذلك لم يكلف أن يصلي إلى القبلة بل إلى جهة يظن أنها القبلة 
بالاستدلال بالجبال والكواكب والشمس فإن أصاب فله أجران وإلا فله أجر واحدء ولم 
يكلفوا أداء الزكاة إلى الفقير بل إلى من ظنوا فقره لأن ذلك لا يعرف باطنه ولم يكلف 
القضاة في سفك الدماء وإباحة الفروج طلب شهود يعلمون صدقهم بل من يظنون 
صدقه., وإذا جاز سفك دم بطن يحتمل الخطأ وهو ظن صددق الشهود فلم لا تجوز 
الصلاة بظن شهادة الأدلة عند الاجتهاد. وليت شعري ماذا يقول رفقاؤك في هذا؟ يقولون 
إذا اشتبهت عليه القبلة يؤخر الصلاة حتى يسافر إلى الإمام ويسأله أويكلفه الإصابة التي 
لاايطيقهاء أو يقول اجتهد لمن لا يمكنه الاجتهاد إذ لا يعرف أدلّة القبلة وكيفية 


الاستدلال بالكواكب أو الجبال والرياح . 
قال: لا أشك في أنه يأذن له في الاجتهاد ثم لا يؤثمه إذا بذل مجهوده وإن أخطأ 
أو حسلى إلى غير القبلة. 


قلت : فإذا كان من جعل القبلة خلفه معذوراً مأجوراً فلا يبعد أن يكون من أخطأ 
في سائر الاجتهادات معذوراء فالمجتهدون ومقلدوهم كلهم معذورون بعضهم مصيبون 
ما عند الله وبعضهم يشاركون المصيبين في أحد الأجرين فمناصبهم متقاربة وليس لهم 
أن يتعاندون» وأن يتعصب بعضهم مع بعض لا سيّما والمصيب لا يتعين وكل واحد 
منهم يظن أنه مصيب كما لو اجتهد مسافران في القبلة فاختلفا في الاجتهاد فحقهما أن 
يصلي كل واحد منهما إلى الجهة التي غلبت على ظنه وأن يكف إنكاره وإعراضه 
واعتراضه على صاحبه لأنه لم يكلف إلا استعمال موجب ظنه . أما استقبال عين القبلة 
عند الله فلا يقدر عليه» وكذلك كان معاذ في اليمن يجتهد لا على اعتقاد أنه لا يتصور 
منه الخطأ لكن على اعتقاد أنه إن أخطأ كان معذوراً, وهذا لآن الأمور الوضعية الشرعية 
التي يتصور أن تختلف بها الشرائع يقرب فيها الشيء من نقيضه بعد كونه مظنوناً في سر 
الاستبصار. وأما ما لا تتغير فيه الشرائع فليس فيه اختللاف. وحقيقة هذا الفصل تعرفه 
من أسرار اتباع السنة وقد ذكرته في الأصل العاشر من الأعمال الظاهرة من كتاب جواهر 
القرآن . 

وأما الصنف الثالث: وهم أهل الجدل فإني أدعوهم بالتلطف إلى الحقٌّ» وأعني 
بالتلطف أن لا أتعصب عليهم ولا أعنفهم لكن أرفق وأجادل بالني هي أحسنء وكذلك 


إلا 


أمر الله تعالئ رسوله. ومعنى المجادلة بالأحسن أن آخذ الأصول التى يسلمها الجدلى 
وأستنتج منها الحق بالميزان المحقق على الوجه الذي أوردته 5 كتاب الاقتصاد في 
الاعتقادء وإلى ذلك الحدّ فإن لم يقنعه ذلك لتشوقه بفطنته إلى مزيد كشف رقيته إلى 
تعليم الموازين فإن لم يقنعه لبلادته وإصراره على تعصبه ولجاجه وعناده عالجته 
بالحديد. فإن الله سبحانه جعل الحديد والميزان قريني الكتاب ليفهم منه أن جميع 
الخلائق لا يقومون بالقسط إلا بهذه الثلاث. فالكتاب للعوام. والميزان للخواصء 
والحديد الذي فيه بأس شديد للذين يتبعون ما تشابه من الكتاب ابتغاء الفتنة وابتغاء 
تأويله ولا يعلمون أن ذلك ليس من شأنهم. وأنه لا يعلم تأويله إلا الله والراسخون في 
العلم دون أهل الجدل., وأعني بأهل الجدل طائفة فيهم كياسة ترقوا بها عن العوام ولكن 
قياستهم ناقصة إذا كانت الفطرة كاملة. لكن في باطنهم خبث وعناد وتعصب وتقليد. 
فذلك يمنعهم عن إدراك الحق وتكون هذه الصفات أكنة على قلوبهم أن يفقهوه وفي 
آذانهم وقراء لكن لم تهلكهم إلا كياستهم الناقصة. فإن الفطنة البتراء والكياسة الناقصة 
شر من البلاهة بكثيرء وفي الخبر: أن أكثر أهل الجنة البله وأن عليين لذوي الألباب. 
ويخرج من جملة الفريفين الذين يجادلون في آيات الله وأولئك أصحاب النار ويزع الله 
بالسلطان ما لا يزع بالقرآن. وهؤلاء ينبغي أن يمنعوا من الجدال بالسيف والسنان كما 
فعل عمر رضي الله عنه برجل إذ سأله عن آيتين متشابهتين في كتاب الله تعالى فعلاه 
بالدرة. وكما قال مالك رضى الله عنه لما سثل عن الاستواء على العرش فقال : الاستواء 
حقٌ. والإيمان به واجب. والكيفية مجهولة, والسؤال عنه بدعة وحسم بذلك باب 
الجدال, وكذلك فعل السلف كلهم وفي فتح باب الجدال ضرر عظيم على عباد الله 
تعالئ . فهذا مذهبي في دعوة الناس إلى الحق وإخراجهم من ظلمات الضلال إلى نور 
الحق. وذلك بأن دعوة الخواص إلى الحكمة بتعايم الميزان حتى إذا تعلم الميزان 
القسط لم يقدر به على علم واحد بل على علوم كثيرة. فإن هن جعة ميران انه بحرن به 
مقادير أعيان لا نهاية لها كذلك من معه القسطاس المستفيم فمعه الحكمة التي من أوتيها 
فقد أوتي خيرا كثيراً لا نهاية له ولولا اشتمال القرآن على الموازين لما صحح تسمية 
القرآن نوراً لأن النور ما يبصر بنفسه ويبصر به غيره وهو نعت الميزان» ولما صدق قوله : 
ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين. فإن جميع العلوم غير موجودة في القرآن 
بالتصريح . ولكن موجودة فيه بالقوة لما فيه من الموازين القسط التي بها تفتح أبواب 
الحكمة التي لا نهاية لهاء فبهذا أدعو الخواص ودعوت العوام بالموعظة الحسنة 


ا 


بالإحالة على الكتاب والاقتصار على ما فيه من الصفات الثابتة لله تعالى. ودعوت أهل 
الجدل بالمجادلة التي هي أحسن فإن أبى عرضت عن مخاطبته وكففت شره ببأس 
هؤلاء الأصناف الثلاثة؟ أيعلم العوام فيكلفهم ما لا يفهمون. ويخالف رسول الله ككِِ أو 
يخرج الجدال من أدمغة المجادلين بالحجةولم يقدر على ذلك رسول الله ِدٌ مع كثرة 
محاجة الله تعالئ في القرآن مع الكفار؟ فما أعظم قدرة إمامك إذ صار أقدر من الله تعالى 
ومن رسوله أو يدعو أهل البصيرة إلى تقليده وهم لا يقبلون قول الرسول كَل بالتقليد ولا 
يقنعون بقلب المصا ثعباناء بل يقولون وهو فعل غريب. ولكن من أين يلزم منه صدق 
فاعله وفي العالم من غرائب السحر والطلسمات ما تتحير فيه العقول ولا يقوى على تمييز 
المعجزة عن السحر والطلسم إلا من عرف جميعهال وجملة أنواعها ليعلم أن المعجز 
خارج عنها كما عرف سحرة فرعون معجزة موسى عليه السلام إذ كانوا من أئمة السحرة. 
ومن الذي يقوى على ذلك؟ بل أهل البصيرة يريدون مع المعجزة أن يعلموا صدقه من 
قوله كما يعلم متعلم الحساب من نفس الحساب صدق أستاذه في قوله إني حاسب» 
فهذه هي المعرفة اليقينية التي بها يقنم أولو الألباب وأهل البصائر ولا يقنعون بغيرها البئة 
وهم إذا عرفوا بمثل هذا المنهاج صدق الرسول وَدِ وصدق القرآن وفهموا موازين القرآن 
كما ذكرت لك. وأخذوا منه مفاتيح العلوم كلها مع الموازين كما ذكرته في كتاب جواهر 
القرآن. فمن أين يحتاجون إلى إمامك المعصوم. وما الذي جل من إشكالات الدين 
وعن ماذا كشف عن غوامضه. قال الله تعالئ : ظهَذًا خلقُ الله فأروني ماذًا خلّق آلَذِينَ 
مِنْ وُونْهِ20). وقد سمعت الآن منهاجي في موازين العلوم فأرني ماذا اقتبسته من 
غوامض العلوم من إمامك إلى الآن. وما الذي يتعلمون منه؟ وليت شعري ما الذي 
ما يسدى بي رتسدى أوف خر ابن وقلب يا وفوت() 
فليس الغرض من الدعوة إلى المائدة مجرد الدعوة دون الأكل والتناول منها وإني 
أراكم تدعون الناس إلى الإمام ثم أرى المستجيب أمامك بعد الاستجادة على جهله 
)١(‏ سورة لقمان: الأية .١١‏ 
زفمة البيت فارسي » وقد نظمت معناه فيما يقرب منه فجاء كما ترى: 


يبعد قلب المحب وما مضى يهدم إسداء عرف ولم تصل حقيقته 


8 


الذي كان قبله لم يحل له الإمام عقداً بل ربما عقد له حلا ولم تفده استجابته له علماً بل 
ربما زاد به طغياناً وجهلا . 

فقال: قد طالت صحبتي مع رفقائي. ولكن ما تعلمت منهم شيئاً إلا أنهم يقولون 
عليك بمذهب التعليم. وإياك والرأي والقياس فإنه متعارض مختلف . 

قلت: فمن الغرائب أن يدعوا إلى التعليم ثم لا يشتغلوا بالتعليم فقل لهم قد 
دعوتموني إلى التعليم فاستجبت فعلموني ما عندكم . 

فقال: ما أراهم يزيدونني على هذا شيئاً . 

قلت: فإني قائل أيضاً بالتعليم وبالإمام ويبطلان الرأي والقياس وأنا أزيدك على 
هذا لوأطقت ترك التقليد تعليم غرائب العلوم وأسرار القرآن. فاستخرج لك منه مفاتيح 
العلوم كلها كما استخرجت منه موازين العلوم كلها على ما أشرت إلى كيفية انشعاب 
العلوم كلها منه في كتاب جواهر القرآن, لكني لست أدعو إلى إمام سوى محمد يَكِةِ ولا 
وبياني ‏ وعليك إن شككت تجريبي وامتحاني أفتراني أولى بأن أتعلم من رفقائك أم لا؟ 


القول في تصاوير الرأي والقياس وإظهار بطلانهما: 

فقال: أما الانقطاع عن الرفقاء والتعليم منك فربما يمنعني منه ما حكيته لك من 
وصية والدتي حين كانت تموت» ولكني أشتهي أن تكشف عن وجه فساد الرأي والقياس 
فإني أظنك تستضعف عقلي فتلبس علي فتسمي القياس والرأي ميزانا وتتلو علي وفق 
ذلك قرآناء وأنا أظنه أنه بعينه القياس الذي يدعيه أصحابك. 

قلت: هيهات فها أنا أشرح لك ما أريده وأرادوه بالرأي والقياس. أما الرأي 
والقياس فمثاله قول المعتزلة: يجب على الله سبحانه وتعالى رعاية الأصلح لعباده وإذا 
طولبوا بتتحقيقه لم يرجعوا إلى شيء إلا أنه رأي استحسنوه بعقولهم من مقايسة الخالق 
على الخلق وتشبيه حكمته بحكمتهم, ومستحسنات العقول هي الراأي الذي لا أرى 
التعويل عليه فإنه ينتج نتائج تشهد موازين القرآن بفسادها كهذه المقالة فإني إذا وزنتها 
بميزان التلازم . 


قلت: لوكان الاصلح واجباً على الله تعالىئ لفعله ومعلوم أنه لم يفعله. فدلٌ على 


88 


أنه غير واجب فإنه لا يترك الواجب. فإن قيل: سلمت أنه لو كان واجباً لفعله. ولكن 
لا أسلم أنه لم يفعله. فأقول: لوفعل الأصلح لخلقهم في الجنة وتركهم فيها فإن ذلك 
أصلح لهم ومعلوم أنه لم يفعل ذلك فدلٌ عى أنه لم يفعل الأصلح. وهذه أيضاً نتيجة من 
ميزان التلازم والآن الخصم بين أن ينكر ويقول تركهم في الجنة فيشاهد كذبه. أو يقول 
كان الأصلح لهم أن يخرجوا إلى الدنيا دار البلايا ويعرضهم للخطايا ثم يقول لآدم يوم 
يكشف عن الخطايا: أخرج يا آدم نصيب النارء فيقول: كم فيقول من كل ألف 
تسعمائة وتسعة وتسعين كما ورد في الخبر الصحيح ويزعم أن ذلك أصلح لهم من 
خلقهم في الجنة وتركهم فيها لأن نعيمهم إذ ذاك لا يكون لسعيهم واستحقاقهم فتعظم 
المنة عليهم والمنة ثقيلة» وإذا سمعوا وأطاعوا كان ما أخذوه جزاء وأجرة لا منة فيهاء وأنا 
أنزه سمعك ولساني عن حكاية مثل هذا الكلام فضلا عن الجواب عنه . فانظر فيه لترى 
قبائح نتائج الرأي كيف هي وأنت تعلم أن الله تعالى ينزل الصبيان إذا ماتوا في منزل من 
الجنة دون منازل البالغين المطيعين» فإذا قالوا: إلهنا أنت لا تبخل بالأصلح لنا 
والأصلح لنا أن تبلغنا درجتهم . فيقول الله. على زعم المعتزلة : كيف أبلغكم درجتهم 
وقد بلغوا وتعبوا وأطاعوا وأنتم متم صبياناًء فيقولون: أنت أمتنا فحرمتنا طول المقام في 
الدنيا ومعالي الدرجات في الآخرة فكان الأصلح لنا والأصلح بنا أن تبلغنا درجتهم. أو 
أن لا تميتناء فلم أمتنا؟ فيقول الله تعالى؛ على رأي المعتزلة: إني قد علمت أنكم لو 
بلغتم لكفرتم واستحققتم النار خالدين فيها. فعلمت أن الأصلح لكم الموت في الصباء 
وعند هذا ينادي. الكفار البالغون من دركات النار يصطرخون ويقولون : أما علمت أنا إذا 
بلغنا كفرنا فهلا أمتنا في الصبا فإنا راضون بعشر عشر درجات الصبيان فعند هذا لا يبقى 
للمعتزلي جواب يجيب به عن الله تعالئ. فتكون الحجة للكفار على الله سبحانه تعالئ 
الله عن قول الظالمين علو كبيراء نعم لفعل الأصلح سر يستمد من معرفة سر الله تعالئ 
في القدر. ولكن المعتزلي لا ينظر من ذلك الأصل فإنه لا يطلع ببضاعة الكلام على 
ذلك السر فمن هذا خبط خبط عشواء واضطربت عليه الآراء فهذا مثال الرأي الباطل 
عندى . 


وأما مثال القياس فهو إثبات الحكم في شيء بالقياس على غيره كقول المجسمة 
إن الله تعالئ وتقدس عن قولهم جسم . قلنا: لم؟ قالوا: لأنه فاعل صانع فكان جسماً 
قياساً على سائر الصناع والفاعلين» وهذا هو القياس الباطل. كما قلنا: لم قلتم إن 


5 


الفاعل كان جسماً لأنه فاعل. وذلك لا يقدر على إظهاره مهما وزن بميزان القرآن فإن 
ميزانه هو الميزان الأكبر من موازين التعادل. وصورة وزنه أن يقال: كل فاعل جسم 
والبارىء تعالى فاعل فهو أيضاً جسم. فنقول: نسلم أن البارىء تعالى فاعل. ولكن 
لا نسلم الأصل الأول وهو أن كل فاعل جسم فمن أين عرفتم ذلك؟ وعند هذا لا يبقى 
لهم إلا الاعتصام بالاستقراء والقسمة المنتشرة وكلاهما لا حجة فيه. أما الاستقراء فهو 
أن يقول تصفحت الفاعلين من حائك وحجام وإسكاف وخياط ونجار وفلان وفلان 
فوجدتهم أجساماً فعلت إن كل فاعل جسمء فيقال له: تصفحت كل الفاعلين أو شد 
عنك فاعل. فإن قال: تصفحت البعض. فلا يلزم منه الحكم على الكل وإن قال: 
تصفحت الكلء فلا نسلم له ذلك فليس كل الفاعلين معلوماً عنده. كيف وهل تصفح 
في جملة ذلك فاعل السموات والأرض فإن لم يتصفح الكل بل البعض لم يلزم الكل 
وإن تصفح فهل وجد جسما.ء فإن قال: نعم. فيقال له: فإذا وجدت ذلك في مقدمة 
قياسك فكيف جعلته أصلاً تستدلٌ به عليه فجعلت نفس وجدانك دليل ما وجدته وهذا 
خطاء بل ما هو في تصفحه إلا كمن يتصفح الفرس والابل والفيل والحشرات والطيور 
فيراها تمشي برجل وهو لم ير الحية والدود فيحكم بأن كل حيوان يمشي برجل. وكمن 
يتصفح الحيوانات فيراها عند المضغ جميعها تحرك الفك الأسفل. فيحكم بأن كل 
حيوان يحرك عند المضغ الفك الأسفل وهو لم ير التمساح فإنه يحرك الفك الأعلى وهذا 
لأنه يجوز أن يكون ألف شخص من جنس واحد على حكم ويخالف الألف واحد وهو 
لا يفيد برد اليقين فهو القياس الباطل. وأما اعتصامه بالقسمة المنتشرة فكقوله : سبرت 
أوصاف الفاعلين فكانوا أجساماً لكونهم فاعلين أو لكونهم موجودين أو كيت وكيت. ثم 
يبطل جميع الأجسام فيقول فيلزم من هذا أنهم أجسام لكونهم فاعلين. وهذه هي 
القسمة المنتشرة التي بها يزن الشيطان مقاييسه وقد ذكرنا بطلانهاء فقال: أظن أنه إذا 
بطل سائر الأقسام 2 القسم الذي أراده. وأرى هذا برهاناً قوياً عليه تعويل أكثر 
المتكلمين في عقائدهم فإنهم يقولون في مسألة رؤية الباري تعالئ مرثي لأن العالم 
مرئي . وباطل أن يقال إنه مرئي لأنه ذو بياض لأن السواد يرى وباطل أن يرى لكونه 
جوهراً لأن العرض يرى وباطل أن يكون عرضاً لأن الجوهر يرى. وإذا بطلت الأقسام 
بقي أنه يرى موجوداً فأريد أن تكشف لي عن فساد هذا الميزان كشفاً ظاهراً لااأشك فيه» 
فقلت: فأنا أورد في ذلك مثالاً حقا لم ينتج من قياس باطل وأكشف الغطاء عنه» فأقول: 
قولنا العالم حادث حق, ولكن قول القائل إنه حادث لأنه مصور قياصا على البيت وسائر 


١ 


الأبنية المصورة قول باطل لا يفيد العلم بحدوث العالم إذ يقال ميزانه الحق أن يقال كل 
مصور حادث أو العالم مصورء فيلزم منه أنه حادث. والأصل الآخر مسلم لكن قولك 
كل مصور حادث لا يسلمه الخصم, وعند هذا يعدل إلى الاستقراء فيقول: استقريت 
كل مصور فوجدته حادثا كالبيت والقدح والقميص وكيت وكيت. وقد عرفت فساد هذا 
وقد يرجع إلى السبرء فيقول: البيت حادث فتسبر أوصافه وهو أنه جسم وقائم بنفسه 
وموجود ومصور. وهذه أربع صفات وقد بطل تعليله يكونة حدما وقائما بنفسة وموعوذاً 
فثبت أنه معلل بكونه مصوراً وهو الرابع . فيقال له: هذا باطل من وجوه كثيرة وأذكر منها 
الأربعة : 

الأول: أنه إن سلم لك بطلان الثلاث فلا تثبت العلّة التي طلبتها فلعل الحكم 
معلل بعلة قاصرة غير عامة ولا متعدية ككونه مثلا بيتاء فإن ثبت كون البيت غير محدث 
أيضاً فلعلٌ الحكم معلل بالمعنى القاصر على ما ظهر كونه حادثاً إذ يمكن تقدير وصف 
خاص يجمع الجميع ولا يتعدى. 

الثاني : أنه إنما يصح إذا ‏ تم السبر على الاستقصاء بحيث لا يتصور أن يشذٌ منه 
قسمء وإذا لم يكن حاصرا ؛ بين النفي والوثبات دائ ثرا تضيون أن يشلا سه قتلم ولي 
الااستقصاء ء الحاصر أمراً هيناء والغالب أنه لا يهتم به المتكلمون والفقهاء بل يقولون إن 
كان فيه قسم آخر فأبرزه. وربما قال الآخر لا يلزمني إبرازه وطال اللجاج فيه. وربما 
استدل القايس وقال: لو كان فيه قسم آخر لعرفناه ولعرفته» فعدم معرفتنا تدل على نفي 
قسم آخر إذ عدم رؤيتنا الفيل في مجلسنا تدل على نفي ولا يدري قط هذاالمسكين أنه 
لم نعهد قط فيلا حاضراً لم نره ثم رأيناه وكم رأينا معاني حاضرة عجزنا جميعاً عن 
إدراكها ثم تنبهنا لها بعد مدة فلعلٌ فيه قسماً آخر شذعنًا لسنا نتنبه له الآن وربما لم نتنبه له 
طول عمرنا. 

الثالث: أنا وإن سلمنا الحصر فلا يلزم من إبطال ثلاث ثبوت رابع بل التركيب 
الذي يحصل من أربعة يزيد على عشرة وعشرين إذ يحتمل أن تكون العلّة آحاد هذه 
الأربعة أو ائنين منها أو ثلاثة منهاء ثم لا يتعين الاثنان منها ولا الثلائة» بل يتصور أن 
تكون العلّة كونه موجودا أو جسماً أو موجوداً وقائماً بنفسنه أو جسماً موجوداً وقائما بنفسه 
وموجوداً أو فوضودا وبيتاأ أو بيت ومصوراً أو بيتا قائماً بنفسه أو بيتاً وجسمآء اميا 
وتضبورا ؛ 5 وقاتنا يفيه أو حسما وفوودا أو قائماً مقسة ومرعتودا : فهذه بعد 


: 


تركيبات الاثنين فقس على هذه التركيبات من الثلاث. واعلم أن الأحكام تتوقف على 
وجود أسباب كثيرة مجتمعة فليس يرى الشيء لكون الرائي ذا عين إذ لا يرى بالليل ولا 
لاستتارة المرئي بالشمس إذ لا يرى الأعمى ولا لهما جميعاً إذ لا يرى الهواء. ولكن 
جملة ذلك مع كون المرئي متلوناً رامق آخر هذا حكم الوجود. أما حكم الرؤية في 
الآخرة فحديث آخر. 

الرابع : أنه إن سلم الاستقصاء وسلم الحصر في أربعة وتركنا التركيب فإيطال 
ثلاثة لا يوجب تعلق الحكم بالرابع مطلقا بل بانحصار الحكم في الرابع» ولعل الرابع 
ينقسم فسمين ) ؛ والحكم يتعلق بأحدهما . أرأيت لو قسم ألا وقال: أقنا كولة ينها أو 
موجوداً أو قائما بنفسه أو مصورا مثل بصورة مر بعة » را بصورة مدورة ثم أبطل 
الم الثلاثئة لم يتعلق الحكم بالصورة مطلقاً. بل ربما اختصٌ بصورة مخصوصة» 

فتسبب الغفلة عن مثل هذه الدقائق خبط المتكلمون وكثر نزاعهم إذا تمسكوا بالرأي 
والقياس. وذلك لا يفيد برد اليقين» بل يصلح للأقيسة الفقهية الظنية ولإمالة قلوب 
العامة إلى صوب الصواب, والحق فإنه لا يمتد فكرهم إلى الاحتمالات البعيدة» بل 
ينجزم اعتقادهم بأسباب ضعيفة . أما ترى العامي الذي به صداع يقول له غيره استعمل 
ماء الورد فإني إذا كان بي صداع فاستعملته انتفعت به كأنه يقول هذا صداع فينفعه ماء 
الورد قياساً على صداعي فيميل قلب المريض إليه فيستعمله ولا يقول له أثبت أوَلاً أن 
ماء الورد يصلح لكل صداع كان من البرودة أو من الحرارة أو من أبخرة المعدة. وأنواع 
الصداع كثيرة فائبت أن صداعي كصداعك ومزاجي كمزاجك وسني كسنك وصناعتي 
كصناعتك وأحوالي كأحوالك, فإن جميع ذلك يختلف به العلاج فإن طالب تحقيق هذه 
الأمور ليس من شأنالعوام لأنهم لا يتشوفون إليها ولا من شأن المتكلمين لأنهم وإن 
تشوفوا إليها على خلاف العوام فلا يهتدون إلى الطرق المفيدة برد اليقين» وإنما هي من 
شنشنة(22 قوم عرفوها من أحمد يَكقِ وهم قوم اهتدوا بنور الله إلى ضياء القرآن. وأخذوا 
منه الميزان بالقسط والقسطاس المستقيم فأصبحوا قوامين لله بالقسط . 

فقال: الآن هر هذا يلوح لي مخايل الحق وتباشيره من كلامك فهل تأذن لي في 
أن أتبعك على أن تعلّمني مما علمت رشداً؟ 

قلت: هيهات إنك لا تستطيع معي صبراً وكيف تصبر على ما لم تحط به خبراً. 


قال: ستجدني إن شاء الله صابراً ولا أعصي لك أمراً. 

قلت: أنظن أني نسيت اتعاظك بنصيحة رفقائك ووالدتك ومن نبض عليه عرق 
من عروق التقليد فلا تصلح لصحبتي ولا أصلح لصحبتك.فاذهب عني فهذا فراق بيني 
وبينك فإني مشغول بتقويم نفسي عن تقويمك. وبالتعليم من القرآن عن تعليمك فلا 
تراني بعد هذا ولا أراك, فلا تسع أوقاتي أكثر من هذا الإصلاح الفاسد والضرب في 
الحديد البارد» وقد نصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين., والحمد لله رب العالمين» 
والصلاة على محمد نبينا سيد المرسلين . 

نهاك إخبواتي فمتي انع ترفيقي ثلرتهاعليكم يعجرها وججرها لتتقييوا بها 
العجب وتنتفعوا في إثبات هذه المحادئات بالتفطن لأمور هي أجل من تقويم مذهب 
التعليم» فلم يكن ذلك من غرضي.ء ولكن إياك أعني واسمعي يا جارة» والتماسي من 
المخلصين قبول معذرتي عند مطالعة هذه المحادثات فيما آثر ته في المذاهب من العقد 
والتحليل وأبدعته في الأسامي من التغيير والتبديل. واخترعته في المغاني من التخييل 
والتمثيل. فلي تحت كل واحد من ذلك غرض صحيح وسر عن ذوي البصائر صربح . 
وإياكم أن تغيروا هذا النظام وتنتزعوا هذه المعاني من هذه الكسوة فقد علمتكم كيف 
يوزن المعقول بالإسناد إلى المنقول ليكون القول منهما أسرع إلى القبول. وإياكم أن 
تجعلوا المعقول أصلاً والمنقول تابعاً ورديفاً. فإن ذلك شنيع منفر. وقد أمركم الله 
سبحانه بترك الشنيع والمجادلة بالأحسن, وإياكم أن تخالفوا الأمر فتهلكوا وتهلكوا 
وتضلوا وتضلواء وماذا تنفع وصيتي وقد اندرس الحق وانكسر البثق20, وانتشرت 
الشناعة وطارت في الأقطارء وصارت ضحكة في الأمصار, فإن قوماً اتخذوا هذا القرآن 
مهجورا وجعلوا التعليمات النبوية هباءً منثوراء وكل ذلك من قصور الجاهلين ودعواهم 
في نصرة الدين منصب العارفين. وإن كثيراً ليضلون بأهوائم بغير علم إن ربك هو أعلم 
بالمهتدين 


الذي يصقل العقول. ويشرح صدور الفحول. ويهدي إلى سواء السبيل» ود 
منهاج العارفين: نفع الله تعالئ بهما نفعاً عميماً. 


إن لسميع الدعاء) 
)١(‏ البثق : منبعث من الماء. ادي 


ء: 


خطبة الرسالة: 


الحمد لله الذي نور قلوب العارفين بذكره. وأنطق السنتهم بشكره. وعمر 
جوارحهم بخدمته. فهم في رياض الأنس يرتعون وإلى أوكار المحبة يأوون. ذكرهم 
فذكروه. وأحبهم فأحبوه ورضي عنهم فرضوا عنه رأس مالهم الافتقار ونظام أمرهم 
الاضطرارء علمهم دواء الذنوب, وعرفهم طب القلوب, فهم مصابيح أنوار حجته, 
ومفاتيح خزائن حكمته. إمامهم القمر الطالع. وقائدهم النور الساطع. سيد الموالي» 
العررت تحب زو عبد اله وى عبد اللا والشيرة ار اكه من اللتدكرة العيارةة : التي 
أصلها التوخيدء. وقروعها التقوى م ؤلا شَرْقِيّةِ وآ غَرْبيّة كاد رَيتَهَا يُضيء ولو 
تمسَسهُ نار نورٌ عَلى نُورٍ يَهْدي الله نور منْ يَشَاء وَيَضْرِبُ الله الأمئال للناس, واللّه 
كل شَيْءٍ ليم 204. دِوَمَنْ لم يَجْعَلٍ اللّهُ لَهُ نوراً قَمَا لَهُ مِنْ نوره9) . يه صلاة 
تلوح في السموات آثارها وتعلو في جنان الخلد أنوارها. وتطيب في مشاهد الأنبياء 
أخبارها. وعلى آله الطاهرين وأصحابه المطهرين 


باب البيان نحو المريدين 


يدور على ثلائة أصول: الخوف والرجاء.والحب. فالخوف: فرع 'العلم» 
والرجاء : فرع اليقين» والحب: فرع المعرفة. فدليل الخوف الهرب. ودليل الرجاء 
الطلب. ودليل الحب إيثار المحبوب, ومثال ذلك الحرم والمسجد والكعبة؛ فمن دخل 
حرم الإرادة أمن من الخلق . ومن دخل المسجد أمنت جوارحه أن يستعملها فى معصية 


.6 سورة النور: الآية‎ )١( 
. 14١ سورة النور: الآية‎ )9( 


50 


الله تعالئ . ومن دخل الكعبة أمن قلبه أن يشتغل بغير ذكر الله عزّ وجل . فإذا أصبح العبد 
لزمه أن ينظر في ظلمة الليل ونور النهار ويعلم أن أحدهما إذا ظهر عزل صاحبه عن 
الولاية» فكذلك نور المعرفة إذا ظهر عزل ظلمة المعاصي عن الجوارح. فإن كانت 
حالته حالة يرضاها لحلول الموت شكر الله تعالئ على توفيقه وعصمته. وإن كانت حالته 
حالة يكره معها الموت انتقل عنها بصحة العزيمة وكمال الجهد وعلم أن لا ملجأ من الله 
إلا إليه. كما أنه لا وصول إليه إلا به فندم على ما أفسد من عمره بسوء انختياره واستعان 
بالله على تطهير ظاهره من الذنوب وتصفية باطنه من العيوب, وقطع زنار الغفلة عن قلبه. 
وأطفأ نار الشهوة عن نفسهء واستقام على طريق الحق وركب أمطية الصدق, فإن النهار 
دليل الآخرة. والليل دليل الدنياء والوم > شاهد الموث. والعبد ا على ما أسلف ونادم 
على ما خلف. يقول الله عر وجلّ: : «يئياً الإنْسَانُ يَوْمئِذِ بِما قَدُمَ وأحرَع20©. 
باب الأحكام 

وإعراب القلوب على أربعة أنواع : رفع وفتح وخفض ووقف, فرفع القلب في 
ذكر الله تعالى . وفتح القلب في الرضاء عن الله تعالى . وخفض القلب في الاشتغال بغير 
الله تعالئى. ووقف القلب في الغفلة عن الله تعالى» فعلامة الرفع ثلاثة أشياء: وجود 
الموافقة. وفقد المخالفة. ودوام الشوق. وعلامة الفتح ثلاثة أشياء : التوكل والصدق 
واليقين. وعلامة الخفض ثلاثة أشياء: العجب والرياء والحرص وهو مراعاة الدنياء 
وعلامة الوقف ثلاثة أشياء: زوال حلاوة الطاعة. وعدم مرارة المعصية,. والتباس 
الحلال. 

باب الرعاية 

قال رسول الله كل : «طلب العلم فريضة على كل مسلم»؛ وهوعلم الأنفاس» 
فجت أن يكون :نفس العريد شكرا أ ودرا فإن قيل: ففضل وإن رد فعدل فطائع 
الحركة بالتوفيق. والسكون بالعصمة ولا يستقم ذلك له إلا بدوام الافتقار والاضطرار. 
ومفتاح ذلك : 

ذكر الموت لأن فيه راحة من الحبس ونجاة من العدو وقوامه برد العمر إلى يوم 


, ١ سورة القيامة: الآية‎ )١( 


ك5 


واحد ولن يلتثئم ذلك إلا بالتفكر في الأوقات» وباب الفكر الفراغ 3 وسبب الفراغ الزهد. 

وعماد الزهد التقوى. وسنام التقوى الخوف. وزمام الخوف اليقين, ونظام اليقين 

الخلوة والجوع. وتمامها الجهد والصبر وطريقهما الصدق» ودليل الصدق العلم . 
باب النية 


لا بنّ للعبد من النية في كل حركة وسكون: «فإنما الأعمال بالنيات ولكل امرىء 
ما نوى ونية المؤمن خير من عمله». والنية تختلف على حسب اختلاف الأوقات» 
وصاحب النية نفسه منه في تعب. والناس منه في راحة وليس شيء على المريد أصعب 
تر ل ْ ْ 


باب الذكر 


اجعل قلبك قبلة لسانك. واشعر عند الذكر حياء العبودية وهيبة الربوبية» واعلم 
بأن الله تعالئى يعلم سر قلبك ويرى ظاهر فعلك ويسمع نجوى قولك. فاغسل قلبك 
بالحزن وأوقد فيه نار الخوف. فإذا زال حجاب الغفلة عن قلبك كان ذكرك به مع ذكره 
لك . قال الله تعالى : ودر الله كبر . ةك ل يع الما نعلت وان كرمع 
الفقر إليه. فقال: جألا بذِكْرٍ الل نَطمَيِنُ آلقُلُوبُ 0©. فيكون اطمئنان القلب في ذكر 
الله له وؤجله في ذكره اللهه قال الله تعالى : (إنْما المُؤْمِنُونَ اللّذِينَ إذَا ذُكرّ الله وَجِلَتْ 
فلُوبُهُمْ04. والذكر ذكران ذكر خالص بموافقة القلب في سقوط النظر إلى غير الله 
وذكر صاف بفناء الهمة عن الذكر. قال رسول الله يلد : ولا أحصي ثنا ثناء عليك أنت كما 
أثنيت على نفسك»). 


باب الشكر 
وفي كل نفس من أنفاس العبد نعمة لله تتجدد عليه يلزمه القيام بشكرها. وأدن 
الشكر أن يرى النعمة من الله تعالى ويرضى بما أعطاه ولا يخالفه بشيء من نعمه وتمام 
الشكر في الاعتراف بلسان السر أن الخلق كلهم يعجزون عن أداء شكره على أصغر جزء 
)١(‏ سورة العنكبوت: الآية 10 . 


. سورة الرعد: الآية .م7‎ (١ 
. سورة الأنفال: الآية ؟‎ )5( 


من نعمه وإن بلغوا غاية المجهود, لأن التوفيق للشكر نعمة حادثة يجب الشكر عليها, 
فيلزمك على كل شكر شكر إلى مالا نهاية له. فإذا تولى الله العبد حمل عنه شكره 
فرضي عنه بيسير وحط عنه ما يعلم أنه لا يبلغه ويضعفه «وَمَا كان عَطاءُ رَبك 
مَحْظوراًع7' . 

باب اللباس 


لباسك مالا يشغل سرك عن الله تعالى . فإذا لبست ثوبك فاذكر محبة الله الستر على 
عباده فلا تفضح أحداً من خلقه بعيب تعلمه منه واشتغل بعيب نفسك فاستره بدوام 
الاضطرار إلى الله تعالى في تطهيره فإن العبد إذا نسي ذنبه كان ذلك عقوبة له وازداد به 
جزءاً على المعاصي , ولو انتبه من رقدة الغفلة لنصب ذنوبه بين عيني قلبه نصباً ولبكى 
عليه بجفون سره واستولى عليه الوجل فذاب حياءً من ربه» وما دام العبد يرجع إلى حول 
نفسه وقوتها انقطع عن حول الله وقوته. فاطرح همتك بين يدي الخوف والرجاء: 
لِوَآعْبْدُ رَبِكَ حتى يَاتِيك آليّقين2»9#4. 
باب القيام 
فإذا قمت من فراشك فأقم قلبك عن فراش البطالة. وأيقظ نفسك عن نوم 
الجهالة» وانهض بكلك إلى من أحياك. ورد إليك نفسك. وقم بفكرك عن حركتك 
وسكونك, واصعد بقلبك إلى الملكوت الأعلى. ولا تجعل قلبك تابعاً لنفسك فإن 
النفس تميل إلى الارض. والقلب يميل إلى السماء واستعمل قول الله عر وجل : « إِلْهِ 
يَصْعَدٌ آلكَلِمُ الطيّبٌ وَالعْمَل آلصَالِحٌ يَرَفْعْه298». 


واستعمل السواك فإنها مطهرة للفم مرضاة للرب. وطهر ظاهرك وباطنك عن دنس 
الإساءة. وأخلص أعمالك عن كدر الرياء والعجب» وأجل قليبك بصافي ذكره. ودع 


.١ سورة الإسراء: الآية‎ )١( 
.469 (؟) سورة الحجر: الآية‎ 
٠١ (م) سورة فاطر: الآية‎ 


1/4 


عنك ما لا ينفعك بل يضرك . 
باب التبرز 
رأس همتك. وأغلق باب الكبر. وافتح باب الندم. واجلس على بساط الندامة» واجتهد 
في إيثار أمره واجتناب نهيه والصبر على حكمه 0 0 الغعضب والشهوة. 
واستعمل الرغية والرهبة فإن الله تعالى مدح قوماً فقال: ذَإِنَهُم م كانوا يُسَارِعُْونَ في 
آلخَيْرَاتٍ وَيَدْعُوتَنا رَبَاً وَرَهُبَاً وَكانُوا لَنَا حَاشِعِينَ 2300#. 
باب الطهارة 
وإذا تطهرت ففكر في صفوة الماء ورقته وتطهيره وتنظيقه, فإن الله تعالى جعله 
مباركاً فقال: : لِوَنَزَلنَا مِنَ آلسّماءِ مَاءَ مُبَارَكاً»عي9) . فاستعمله في الأعضاء التي فرض الله 
عليك تطهيرها ولتكن صفوتك مع الله كصفوة ة الماع فاغسل وجه قلبك عن النظر إلى 
غير الله. واغسل يدك عن الامتداد إلى غيره وامسح رأسك عن الافتخار بغيره. واغسل 
رجليك عن السعي لغيره. واحمد الله على ما ألهمك من دينه . 
باب الخروج 
فإذا خرجت من منزلك إلى مسجدك, فاعلم أن لله تعالئ حقوقاً عليك يلزمك 
أداؤها . من ذلك السكينة والوقار والاعتبار بخلق الله برهم وفاجرهم» قال الله تعالى : 
«وتلك الآمثال نضر بها للناس وما يعقلها إلا العالمون» . وغض بصرك عن نظر الغفلة 
والشهوة. وأفش السلام مبتدثاً تسيا وأعن من استعانك على الحقٌّ. وأمر بالمعروف 
وانه عن المنكر إن كنت من أهله وأرشد الضالَ . 
باب دخول المسجد 
فإذا بلغت باب المسجد فاعلم أنك قصدت بيت ملك عظيم قدره لا يقبل إلا 
الطاهر ولا يصعد إليه إلا الخالص. ففكر في نفسك من أنت ولمن أنت وأين أنت ومن 
)١(‏ سورة الأنبياء : الآية 48. 


؟) سورةق: الآية 9. 


5: 


أي ديوان يخرج إسمك. فإذا استصلحت نفسك لخدمته فادخل فلك الأذن والأمان. 
وإلا فقف وقوف مضطر قد انقطعت عنه الحيل وانسدت عنه السبلء فإذا علم الله من 
قلبك الالتجاء إليه أذن لك فتكون أنت بلا أنت. والله يرحم عبده ويكرم ضيفه ويعطي 
سائله ويبر المعرض عنه. فكيف المقبل إليه. 
باب افتتاح الصلوات 
فإذا استقبلت بوجهك القبلة استقبل بقلبك الحقّ ولا تنبسط فلست من أهل 
الانبساط. واذكر وقوفك بين يديه يوم العرض الأكبرء وقف على قدمي الخوف والرجاء. 
وارفع قلبك عن النظر إلى الدنيا والخلق. وأرسل همتك إليه فإنه لا يرد الآبق ولا يخيب 
السائل . فإذا قلت الله أكبر فاعلم أنه لا يحتاج إلى خدمتك له وذكرك إياه لأن الحاجة من 
جبلة الفقراء وذلك سمة الخلق والغنى عن صفات ذاته. وإنما وظف على عبيده وظائف 
لبقربهم بها إلى غمره وإيحية ريده بها من يتتخطة وعقيوته قال :الله عر وجل : 
ٍدَالرْمَهُمْ لم آلتقُوى وَكانُو أَحَق بها وَأْهْلَهَاو0©. وقال عر من قائل : «وَلكنٌ الله 
حَبْبَ إِليكُم الإيماَ وَرْيْنَُ في فُلوبكُمْ0. . الآية. واشكر الله إذ جعلك أهلاً للوقوف 
بين بديه فإنه لأَهْلٌ التقوَى وََهْلُ المغْفِرَ 24 . أهل أن يتقيه خلقه فيغفر لمن اتقاه. 


وديم مموم » 


007 يتوكنُونَ104) ١‏ انما سانلاه عل الديد 
يتولْوْنهب»(0) «انه من ولاه انه يُضِلَهُ004 . واذكر عهد الله عليك وميثاقه في وحيه 
وتنزيله, وانظر كيف تقرأ كلامه وكتابه فرتل وتدبرء وقف عند وعذله ووعيده وأمثاله 
ومواعظه وأمره ونهيه ومحكمه ومتشابهه. داني لأخحشى أن تكون إقامتك حدوده غفلة من 


. 5١ سورة الفتح : الأية‎ )١( 
(؟) سورة الحجرات: الآية لا.‎ 
,865 (؟) سورة المدثر: الآية‎ 
.49 سورة النحل: الآية‎ )4( 
.١١١ سورة النحل: الآية‎ (02) 
. 4 سورة الحج : الآية‎ 3 


تضييعك حدوده. قال الله عزِّ وجلّ : ظقْبأيٌ حديث بَعْدَهُ يُؤْمنُونَه010. 
باب الركوع 
واركع ركوع خاشع لله بقلبه خاضعاً بجوارحه, واستوف ركوعك وانحط عن 
همتك في القيام بأمره. فإنك لا تقدر على أداء فرضه إلا بعونه ولا تبلغ دار رضوانه إلا 
الك نعي 0 0 إلا بعصمته, 1 م عذابه إلا 0 
دولا أنا إلا أن 00 الله بر ححمته) . 


باب السجود 


واسجد لله سجود عبد متواضع علم أنه خلق من تراب يطأه جميع الخلق, وأنه 
ركب من نطفة يستفذرها كل أحد, فإذا فكر في أصله وتأمل تركيب جوهره من ماء وطين 
ازداد لله تواضعاً ويقول في نفسه : ويحك لم رفعت رأسك من سجودك لِمَ لم تمت بين 
يديه وقد جعل الله السجود سبب القرب إليه؟ فقال تعالئ : لوَآسْجد وَآقتَرثْ»”». 
فمن :لتر منه بعد من كل تش« سواه ؛ واخفظ صفة سجودك في .هذه الآية: ينها 
خَلَفْنَاكُمْ وَفيهَا تميدُكُمْ وَمِنْها نُحْرِجكُمْ نَارَةَ أحرى©7”". واستعن بالله عن غيره» فإنه 
روي عن النبيّ يكلِ أنه قال: قال الله تبارك وتعالئ : (لا أطلع على قلب عبد فأعلم منه 
حب العمل بطاعتي إلا توليت تقويمه وسياسته) . 


باب التشهد 
والتشهد كنا وشكر له وتعرض لمزيد فضله ودوام كرامته. فاخرج عن دعواك 
وكن له عبداً بفعلك كما أنت عبد له بقولك, فإنه خلقك عبدا وأمرك أن تكون له عبدا 


كما لمك : : الوا كان ِمؤْينِ ولا مُؤْمِةِ ذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولَه أثرا أن يَكْونَ لَهُم, 
آلخِيرَةٌ مِنْ أمر هم »1) .ا9وَرَبْكَ يَخْلْقُ مَا يَشَاءُ وَيَحْمَارٌُ مَا كَانَ لَهُمْ الجر 04 


186 سورة الأعراف: الآية‎ )١( 
.16 (؟) سورة العلق: الآية‎ 
.66 سورة طه: الآية‎ )( 

(8) سورة الأحزاب: الآية 75. 
دم سورة القصص: الآية 74. 


اه 


فاستعمل العبودية في الرضى بحكمته. واستعمل العبادة في النزول تحت أمره. وصلءٌ 
على كيد عقب الحا ليف الإلقاوض ا فحت يسدنه وطاعنه بطاعتة وين بعتة نما رعتة + 
فقال تعالئ : اؤقَلُ إن كنتم تَجبُونَ الل فاتبُوني يُحيبكُمْ اللّه2'0 وقال: دِمَنْ بطع 
آلرّسُولَ فََدَ أطَاعٌ اللّهِخ27. وقال : «إنَ الِّينَ ينَايعُونَكَ نما يَُايمُونَ اللت06©. وأمر 
رسوله بالاستغفار لك. فقال تعالى : «فاغلم أنَّهُ لآ إل إلا الله وَآسْتَغْفِرَ لِذَنِكَ 
وَلِلْمُؤْمِينَ وَآلْمُؤْمنَاتِ404) . وأمرك بالصلاة عليهء فقال تعالى : «إِنَّ الله 0 
يُصَلُونَ عَلَى آلنبِيّ يَا أيّها الّذِينَ آمَنُوا صَلُوا عَلَئْهِ وَسَلّمُوا تَسْلِيماً*. و 

رسول الله عله : : دمْنْ صلّى علي واحدة صلَى الله عليه بها عشراً وعامله بالفضل». 3 
تعال : 9وَرَفعْنا لك ذكرك04. ثم أمره بمعاملته بالعدل فقال لغيره : جفَإِذًا قْضِيتِ 
الصَّلاة فَآنْتَشِرُوا في الأرْض 4). وقال له: (ِقَإِذًا فَرَغْتَ يالف ل ر إلى زنك 
فَارَعْبٌ م20 , 

باب السلام 


السلام اسم من أسماء الله تعالئ أودعه خلقه ليستعملوا معناه في معاملته ومعاشرة 
خلقه. فإذا أردت السلامة فليسلم منك صديقك وارحم من لا يرحم نفسه فإن الخلق بين 
فتن ومحن» إما مبتلى بالنعمة ليظهر شكره: وإما مبتلى بالشدة لبظهر صبرهء قال الله 
تعالى : ؤَأمًا الإنَْان إِذَا ما تلام َيه َه ونْعمَُ فََُولُ رئي أكْرَمن # وَأمًا إِذَا ما 
آبتلاه فَقدَرَ عَلَيْهِ رِرْقَهُ فقول رَبِي أهائن >« كلآ7». فالكرامة في طاعته والهوان في 
معصيته ومن ركب الهوى أهانه الله . 


."١ سورة آل عمران: الآية‎ )١( 
.8٠١ (؟) سورة النساء: الآية‎ 

(1') سورة الفتح : الآية ٠١‏ 

(8) سورة محمد كلك : الآية 19. 
(5) سورة الأحزاب: الآية 05. 
(+) سورة الانشراح: الآية ؛ . 

(/) سورة الجمعة: الآية .٠١‏ 

)0 سورة الانشراح: الآيتان لا و6م. 
(4)9 سورة الفجر: الآيات .١-16‏ 


وك 


باب الدعاء 


وأحفظ آداب الدعاء وانظر من تدعو وكيف تدعو ولماذا تدعو ولماذا تسأل. 
والدعاء استجابة الكل منك للحق وإن لم تأت بشرط الدعاء فلا تشترط الإجابة. قال 
مالك بن دينار: أنتم تستبطئون المطر وأنا أستبطىء الحجر. ولو لم يأمر الله سبحانه 
بالدعاء لوجب علينا أن ندعوه ولولم يشترط لنا الإجابة لكنا إذا أخلصنا له الدعاء تفضل 
بالإجابة. فكيف وقد ضمن ذلك لمن أتى بشرط الدعاء . قال الله تعالئ : ظثُلٌ ما ييا 
بِكُمْ رَئي لَوْلا دُعَاوكُمْ74. وقال تعالئ : طآدْتُوني أسْتَجِبٌ لَكُمْ2"74. وسئل أبويزيد 
البسطامي عن اسم الله الأعظم. فقال: فرغ قلبك من غيره وادعه بأي أسمائه شئت» 
وقال يحبى بن معاذ: اطلب صاحب الاسم . وقال رسول الله كله : «لا يستجيب الله 
الدعاء من قلب لاهو فإذا أخلصت فأبشر بإحدى ثلاث : إما أن يعجل لك ما سألتء وإما 
أن يدخر لك ما هو أعظم منه. وإما أن يصرف عنك من البلاء ما لو صبه عليك لهلكت 
وادع دعاء مستجير لا دعاء مشير»»؛ روي عن رسول الله يكل أنه قال: «قال الله تبارك 
وتعالئ من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين». وقال أبو الحسين 
الورّاق: دعوت الله مرة فاستجاب دعائي فنسيت الحاجة فاحفظ حق الله عزِّ وجل عليك 
في الدعاء ولا تشتغل بحظك فإنه أعلم بمصلحتك . 


باب الصوم 
فإذا صمت فانو بصومك كف النفس عن الشهوات» فإن الصوم فناء مراد النفس 
وفيه صفاء القلب وضمارة الجوارح والتنبيه على الإحسان إلى الفقراء والالتجاء إلى الله 
والشكر على ما تفضل به من النعم وتخفيف الحساب» ومنة الله في توفيقك للصوم 
باب الزكاة 
وعن كل جزء من أجزائك زكاة واجبة لله فزكاة القلب التفكر في عظمته وحكمته 
وقدرته وحجته ونعمته ورحمته. وزكاة العين النظر بالعبرة والغعض عن الشهوة. وزكاة 


)١(‏ سورة الفرقان: الآية ل/الا, 
(؟) سورة غافر: الآية 59. 


و 


الأذن الاستماع إلى ما فيه نجاتك, وزكاة اللسانالنطق بما يقربك إليه. وزكاة اليد 
القبض عن الشر والبسط إلى الخير. وزكاة الرجل السعي إلى ما فيه صلاح قاب قليك وسلامة 
دينك . 


باب الحج 
والمريد إذا حج يعقد النية خوف الرد. واستعد استعداد من لا يرجو الإياب. 
وأحسن الصحبة. وتجرد عند الإحرام عن نفسه. واغتسل من ذنبه» ولبس ثوب الصدق 
والوفاء. ولبى موافقة للحق في إجابة دعوته. وأحرم في الحرم من كل شيء يبعده عن 
الله تعالئى » وطاف بقلبه حول كرسي كرامته.؛ وصفى ظاهره. وباطنه عند الوقوف على 
الصفاء وهرول هرباً من هواه ولم يتمن على الله تمنى مالا يحل له واعترف بالخطأ 
بعرفة» وتقرب إلى الله بمزدلفة. ورمى الشهوات عند رمي الجمرات» وذبح هواه وحلق 
الذنوب. وزار البيت معظما صاحبه. واستلم الحجر رضاء بقضائه. وودع ما دون الله 
في طواف الوداع . 
باب السلامة 


واطلب السلامة فليت من طلبها وجدها فكيف لمن تعرض للبلاء. والسلامة قد 
عزت في هذا الزمان وهي في الخمول. فإن لم تكن في الخمولء؛ فالعزلة وليست 
كالخمول فإن لم تكن عزلة فالصمت وليس كالعزلة» فإن لم تكن في صمت فالكلام بما 
ينفع ولا يضر وليس كالصمت,. وإن أردت السلامة فلا تنازع الأضداد ولا تنافس 
الأشكال كل من قال أنا فقل أنت. وكل من قال لي فقل لك. والسلامة في زوال العرف». 
وزوال العرف في فقد الإرادة. وفقد الإرادة في ترك دعوى العلم فيما استاثر الل به من 
تدبير أمرك . قال الله تعالى : «البس الله بكَافٍ عَبْدَه2074. وقال: «ِيدَبِرٌ الأمْرَ مِنَّ 
آلسْمَاءٍ إلى الأْض, 4 , 


باب العزلة 
صاحب العزلة يحتاج إلى عشرة أشياء : علم الحى والباطل والزهد واختيار الشدة. 


0 سورة السجدة : الآية‎ 2١ 


6 


واغتنام الخلوة والسلامة والنظر في العواقب وأن يرى غيره أفضل منه ويعزل عن الناس 
شره ولا يفتر عن العمل. فإن الفراغ بلاء ولا يعجب بما هو فيه ويخلو بيته من الفضول. 
والفضول ما فضل عن يومك لأهل الإرادة وما فضل عن وقتك لأهل المعرفة. ويقطع ما 
يقطعه عن الله تعالئء قال رسول الله يي لحذيفة بن اليمان: «كن حلس بيتك»., وقال 
عيسى بن مريم عليه السلام: أملك لسانك وليسعك بيتك وأنزل نفسك منزلة السبع 
الضاري والنار المحرقة. وقد كان الناس ورقا بلا شوك فصاروا شوكا بلا ورقء وكانوا 
أدواء يستشفى بهم فصاروا داء لا دواء له. قيل لداود الطائي : ما لك لا تخالط الناس؟ 
فقال: كيف أخالط من يتبع عيوبي كبير لا يعرف الخلق وصغير لا يوقر. من استأنس بالله 
استوحش من غيره. وقال الفضيل : إن استطعت أن تكون في موضع لا تعرف ولا تعرف 
فافعل. وقال سليمان : همي من الدنيا أن ألبس عباءة وأكون بقرية ليس فيها أحد يعرفتي 
ولا غذاء لي ولا عشاء. وقال رسول الله يل : «يأتي زمان المتمسك يومئلٍ بدينه 
كالقابض على الجمر وله أجر خمسين منكم». وفي العزلة صيانة الجوارح وفراغ القلب 
وسقوط حقوق الخلق وإغلاق أبواب الدنيا وكسر سلاح الشيطان وعمارة الظاهر 
والباطن . 
باب العبادة 


أقبل على أداء الفرائض., فإن سلم لك فرضك فأنت أنت. واطلب بالنوافل حفظ 
الفرائض وكلما ازددت عبادة فازدد شكرا وخوفا. قال يحبى بن معاذ: عجبت لطالب 
فضيلة تارك فريضة ومن كان عليه دين فاهدى إلى صاحب الدين مثل حقه كان مطالباً 
بالحق إذا حل الأجل . وقال أبو بكر الورّاق: ابذل في هذا الزمان أربعة على أربعة: 
الفضائل على الفرائض . والظاهر على الباطن, والخلق على النفس ., والكلام على الفعل . 
باب التفكر 
تفكر في قوله عزّ وجلّ: ظِهَلْ أنَى عَلَى الإنْسَانٍ حِين مِنَ آلدهرٍ لَمْ يكْنْ عَيْئا 
مَذْكُوراًع0©. واذكر كيف أحوالك واعتبر بما مضى من الدنيا على ما تراه هل أبقت 
على أحد. وما بقي منها أشيه بما مضى من الماء بالماء("2. وقد قال رسول الله ككل : ولم 


(؟) هذه العبارات وجدت بالأصل هكذا. 


606 


ببق من الدنيا إلا بلاء وفتنة». وقيل لنوح عليه السلام : «كيف وجدت الدنيا يا أطول 
الأنبياء عمرأً؟ قال: كبيت له بايان دخلت من أحدهما وخرجت من الآخر». والفكرة أبو 
كل خخير وهي مرآة تريك الحسنات والسيئات. 

تم بحمد الله وعونه وحسن توفيقه والحمد لله وحده. 

)١(‏ قال الشيخ محمد بن علي بن الساكن في كتاب دليل الطالب إلى نهاية 
المطالب. قال: فالطالب المجتهد إذا أراد لبس الخرقة فالواجب عليه أن 
يخلع الثوب الذي كان يلبسه في أيام العادة . وأحسن ما تلبس هذه الطائفة 
الصوف إذ هم منسوبون إليه. قيل: إن أول من لبس الصوف آدم 
وحواء عليهما السلام وكان موسى وعيسى ويحبى عليهم السلام يلبسون الصوف. 
وكان نميّنا يِِ أشرف الأنبياء وكان يلبس عباءة كان مقدار ثمنهاخمس دراهم وينبغي أن 
لا يلبس الصوف إلا من صفا من كدر النفس., فقد قال الحسن البصري: بلغني أن 
النبيّ كه قال :لا تلبسوا الصوف إلا وقلوبكم نقية» فإنه من لبس الصوف على دغل وغش 
قلاه جبار السماء فإذا لبسه وجب أن يقوم بوظائف حروفه. وهي ثلاثة أما وظيفة الصاد 
فهي: الصدق والصفاء والصيانة والصبر والصلاح. وأما وظيفة الواو فهي: الوصلة 
والوفاء والوجد, وأما وظيفة الفاء فهي : الفرح والتفجع فلو لبس المرتمع وجب عليه أن 
يؤدي حق حروفه؛ وهي أربعة: فحقّ الميم المعرفة والمجاهدة والمذلة. وحق الراء: 
الرحمة والرأفة والرياضة والراحة. وحقّ القاف: القناعة والقربة ؤالقوة والقول الصدق, 
وحق العين : العلم والعمل والعشق والعبوديةء وقد أمر النبي كل بلبس المرقع حيث قال 
لعائشة رضى الله عنها: «إن سرك اللحوق بي فإياك ومجالسة الموتى ولا تستبدلى ثوبا 
حتى ترقعيه»» انتهى والله أعلم . ْ ْ 


05 


الرسّالة اللدنية 


سم آلله آلرّحمن الرَّحيم 
خطبة الرسالة: 


الحمد لله الذي زين قلوب خواص عباده بنور الولاية» وربى أرواحهم بحسن 
العناية. وفتح باب التوحيد على العلماء العارفين بمفتاح الدراية, وأصلي وأسلم على 
سيدنا محمد سيد المرسلين صاحب الدعوة والرعاية. ودليل الأمة إلى الهداية. وعلى 
آله سكان حرم الحماية. 


العلم الغيبي اللدني : 

اعلم أن واحداً من أصدقائي حكى عن بعض العلماء أنه أنكر العلم الغيبي 
اللدني الذي يعتمد عليه خواص المتصوفة, وينتمي إليه أهل الطريقة. ويقولون إن 
العلم اللدني أقوى وأحكم من العلوم المكتسبة المحصلة بالتعلم. وحكي أن ذلك 
المدعي يقول: بأني لا أقدر على تصوير علم الصوفية, لا أظن أن أحدا في العالم 
يتكلم في العلم الحقيقي من فكر وروية دون تعلم وكسب. فقلت: كأنه ما اطلع على 
طرق التحصيل. وما درى أمر النفس الإنسانية وصفاتها وكيفية قبولها لآثار الغيب وعلم 
الملكوت. فقال صديقي : نعم إن ذلك الرجل يقول بأن العلم هو الفقه وتفسير القرآن 
والكلام وحسب .وليس وراءها علم وهذه العلوم لا تتحصل إلا بالتعلم والتفقه» فقلت: 
نعم فكيف يعلم علم التفسير فإن القرآن هو البحر المحيط المشتمل على جميع الأشياء 
وليس جميع معانيه وحقائق تفسيره مذكورة في هذه التصانيف المشهورة بين العوام. بل 
التفسير غير ما يعلم ذلك المدعي. فقال ذلك الرجل : لا يعدٌ التفاسير إلا التفاسير 
المعروفة المذكورة والمنسوبة إلى القشيري والتعلين والماوردي وغيرهم . فقلت: لقد 
بعد عن منهج الحقيقة فإن السلمي جمع شيئا في التفسير من كلمات المحققين شبه 
التحقيق. وتلك الكلمات غير مذكورة في سائر التفاسير. وذلك الرجل الذي لا يعد 


/اه 


العلم إلا الفقه والكلام. وهذا التفسير العامي كأنه ما علم أقسام العلوم وتفاصيلها 
ومراتبها وحقائقها وظواهرها وبواطنهاء وقد جرت العادة بأن الجاهل بالشيء ينكر ذلك 
الشيء. وذلك المدعي ماذاق كرات الحقيقة وما اطلع على العلم اللدني فكيف يقر 
بذلك» ولا أرضى بإقراره تقليداً أو تخميناً ما لم يعرف فقال ذلك الصديق : أريد أن 
تذكر طرفاً من مراتب العلوم وتصحيح هونا العلم وتعزيه أنت لنفسك وتقر على إثباته. 
فقلت: : إن هذا المطلوب بيانه عسير جداً. لكن أشرع في مقدماته بحسب اقتضاء حالي 
وموافقة وقتي وما سنح بخاطري» ولا أريد تطويل الكلام فإن خير الكلام ما قلّ ودلٌء 
وسألت الله عر وجل التوفيق والإعانة وذكرت مطلوب صديقي الفاضل في هذا 
المفضول. 
فصل 

في شرف العلم : 

اعلم أن العلم تصور النفس الناطقة المطمئنة حقائق الأشياء وصورها المجردة 
عن المواد بأعيانها وكيفياتها وكمياتها وجواهرها وذواتها إن كانت مفردة, والعالم هو 
المحيط المدرك المتصور, والمعلوم هو ذات الشيء الذي ينتقش علمه في النفس. 
وشرف العلم على قدر شرف معلومه. ورتبة العالم تكون بحسب رتبة العلم. ولا شك 
أن أفضل المعلومات وأعلاها وأشرفها وأجلّها هو الله الصانع المبدع الحقّ الواحد, 
فعلمه هو علم التوحيد أفضل العلوم وأجلها وأكملهاء وهذا العلم ضروري واجب 
تحصيله على جميع العقلاء كما قال صاحب الشرع عليه الصلاة والسلام : وطلب العلم 
فريضة على كل مسلم<2©. أمر بالسفر في طلب هذا العلم . فقال يَكلِ : «اطلبوا العلم 
ولو بالصين»9؟2. وعالم هلا العلم أفضلٍ العلماء وبهذا السب احضوم الله تعالى بالذكر 

في أجل المراتبء فقال: «شهد الله أنه لآ إله إلا هُوَ وَآلمَلائِكَةٌ وأولُوا العلم 004 


)١(‏ جزء من حديث نبوي شريف. رواه ابن عبد البر في العلم عن أنس رضي الله عنه» وبقيته: 
«وإن طالب العلم يستغفر له كل شيء حتى الحيتان في البحره. 
)2( وإن تئمة الحديث : «فإن طلب العلم فريضة على كل مسلم» رواه العقيلي في الضعقاء» وابن 
عدي في الكامل» والبيهقي في الشعب. وابن عبد البرّ في العلم عن أنس رضي الله عنه. 
2( سورة آل عمران: الآية 14. 


8 


فعلماء علم التوحيد الإطلاق هم الأنبياء وبعدهم العلماء الذين هم ورثة الأنبياء. وهذا 
العلم وإن كان شريفاً في ذاته كاملاً في نفسه لا ينفي سائر العلوم بل لا يحصل إلا 
بمقدمات كثيرة» وتلك المقدمات لا تنتظم إلا من علوم * شتى مثل علم السموات والأفلاك 
وعلم جميع المصنوعات, ويتولد عن علم التوحيد 0 اخر كما سنذكر أقسامها في 
مواضعها. 

فاعلم أن العلم شريف بذاته من غير نظر إلى جهة المعلوم. حتى أن علم السحر 
شريف بذاته وإن كان باطلاء وذلك أن العلم ضد الجهلء والجهل من لوازم الظلمة. 
والظلمة من حيّز السكون. والسكون قريب من العدم. ويقع الباطل والضلالة في هذا 
القسم. فإذا الجهل حكمه حكم العدم؛ والعلم حكمه حكم الوجود. والوجود خير من 
العدم. والهداية والح والنور كلها في سلك الوجود. فإذا كان الوجود أعلى من العدم 
فالعلم أشرف من الجهل , فإن الجهل مثل العمى والظلمة, والعلم مثل البصر والنور. 
دِوَمَا ينوي الاممى وَالبَصِيرٌ * وَل آلظْلْمَاتُ وَل التوره0©. وصرح سبحانه بهذه 
الإشارات فقال: دقل مَلْ يُسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلْمُونَ وَآلّذِينَ لآ يَعْلَمُونَم2©. فإذا كان 
العلم ير من الجهل. والجهل من لوازم الجسم. والعلم من صفات النفس». 
والنفس أشرف من الجسمء وللعلم أقسام كثيرة نحصيها في فصل آخر. وللعالم في 
طلب العلم طرق عديدة نذكرها في فصل آخر. والآن لا يتعين عليك بعد معرفة فضل 
العلم إلا معرفة النفس التي هي لوح العلوم ومقرها ومحلهاء وذلك أن الجسم ليس 
بمحلّ للعلم لأن الأجسام متناهية, ولا يتسع لكثرة العلوم بل لا يحتمل إلا النقوش 
والرقوم(”. والنفس قابلة لجميع العلوم من غير ممانعة ولا مزاحمة وملال وزوال. ونحن 
نتكلم في شرح النفس على سبيل الاختصار. 

فصل 

في شرح النفس والروح الإنساني: 

اعلم أن الله تعالئ خلق الإنسان من شيئين مختلفين: أحدهما: الجسم المظلم 


(؟) سورة الزمر: الآية 8. 
(؟) جمع رقم. وهو الكتابة. قال تعالى : «كتاب مرقوم» . 


له 


الكثيف الداخل تحت الكون والفساد المركب المؤلف الترابي الذي لا يتم أمره إلا 
بغيره. والآخر: هو النفس الجوهري المفرد المنير المدرك الفاعل المحرك المتمم 
للآلات والأجسام , والله تعالئ ركب الجسد من أجزاء الغذاء ورباه بأجزاء الرماد. ومهد 
قاعدته وسوى أركانه وعين أطرافه وأظهر جوهر النفس من أمره الواحد الكامل المكمل 
المفيد. ولا أعني بالنفس القوة الطالبة للغذاء. ولا القوة المحركة للشهوة والغضب. ولا 
'القوة الساكنة في القلب المولدة للحياة» والمبرزة للحس والحركة من القلب إلى جميع 
الأعضاء فإن هذه القوة تسمى رحا حيوانياء. والح والخركة والشهوة والغضب من 
جنده. وتلك القوة الطالبة للغذاء الساكنة في الكبد بالتصرف يقال لها روحاً طبيعياً. 
والهضم والدفع من صفاتهاء والقوة المصورة والمولدة والنامية وباقي القوى المنطبعة 
كلها خدام للجسد. والجسد خادم الروح الحيواني لأنه يقبل القوى عنه ويعمل بحسب 
تحريكه وإنما أعني بالنفس ذلك الجوهر الكامل الفردي الذي ليس من شأنه إلا التذكر 
والتحفظ والتفكر والتمييز والروية» ويقبل جميع العلوم ولا يمل من قبول الصور المجردة 
المعراة عن المواد. وهذا الجوهر رئيس الأرواح وأمير القوى. الكل يخدمونه ويمتثلون 
أمره وللنفس الناطقة أعني هذا الجوهر عند كل قوم إسم خاص. فالحكماء يسمون هذا 
الجوهر النفس الناطقة. والقرآن يسميه النفس المطمئنة والروح الأمري. والمتصوفة 
تسميه القلب. والخلاف في الأسامي والمعنى واحد لا خلاف فيه. فالقلب والروح 
عندناء والمطمئنة كلها أسامي النفس الناطقة, والنفس الناطقة هي الجوهر الحيّ الفعال 
المدرك. وحيثما نقول الروح المطلق أو القلب فإنما نعني به هذا الجوهر. والمتصوفة 
يسمون الروح الحيواني نفساً. والشرع ورد بذلك. فقال: «أعدى عدوك نفسك)2©0. 
وأطلق الشارع اسم النفس بل أكدها بالإضافة فقال: «نفسك التي بين جنبيك» . وإنما 
أشار بهذه اللفظة إلى القوة الشهوانية والغضبية فإنهما ينبعثان عن القلب الواقف بين 
الجنبين» فإذا عرفت فرق الأسامي . فاعلم أن الباحثين يعبرون عن هذا الجوهر النفيس 
بعبارات مختلفة. ويرون فيه آراء متفاوتة. والمتكلمين المعرفين بعلم الجدل يعدون 
النفس جسماًء ويقولون أنه جسم لطيف بإزاء هذا الجسم الكثيف, ولا يرون الفرق بين 
الروح والجسد إلا باللطافة والكثافة وبعضهم يعد الروح عرضاء وبعض الأطباء يميل 
إلى هذا القول. وبعضهم يرى الدم روحاً وكلهم قنعوا بقصور نظرهم على تخيلهم وما 


(1) _روى البيهقي هذا الحديث النبوي الشريف. 


و 


طلبوا القسم الثالث. واعلم أن الأقسام ثلائة: الجسم والعرض والجوهر الفرد. فالروح 
الحيواني جسم لطيف كأنه سراج مشعل موضوع في زجاجة القلب أعني ذلك الشكل 
الصنوبري المعلق في الصدر. والحياة ضوء السراج والدم رهنه. والحس والحركة 
نورهء والشهوة حرارته. والغضب دخانه. والقوة الطالبة للغذاء الكائنة فى الكبد خادمه 
وحارسه ووكيله ‏ وهذا الروح يوجد عند جميع الحيوانات, والإنسان هو جسم وآثاره 
أعراض. وهذا الروح لا يهتدي إلى العلم ولا يعرف طريق المصنوع ولا حق الصانعء 
وإنما هو خادم أسير يموت بموت البدن. لو يزيد الدم ينطفيء ذلك السراج بزيادة 
الحرارة» ولو ينقص ينطفيء بزيادة البرودة وانطفاؤه سبب موت البدن. وليس خطاب 
الباري سبحانه ولا تكليف الشارع لهذا الروح لأن البهائم وسائر الحيوانات غير مكلفين 
ولا مخاطبين بأحكام الشرع . والإنسان إنما يكلف ويخاطب لأجل معنى آخر وجد عنده 
زائدا خاصا به. وذلك المعنى هو النفس الناطقة والروح المطمئنة» وهذا الروح ليس 
ولا عرض لأنه من أمر الله تعالئ كما قال : «قل آلرُوحُ من أَمْر بي 0904 . وقال: 
(يا أبنها الس المُظمَيةُ * ازجعي إلى رَبك رَاضِيَةَ مَرْضِيّة 4ه ) . وأمر الباري تعالى 
ليس بجسم ولا عرضء بل قوة إلهية مثل العقل الأول واللوح والقلم. وهي الجواهر 
المفردة المفارقة للمواد بل هي أضواء مجردة معقولة غير محسوسة؛, والروح والقلب 
بلساننا من قبل تلك الجواهرء ولا يقبل الفساد ولا يضمحل ولا يفنى ولا يموت. بل 
يفارق البدن وينتظر العود إليه في يوم القيامة كما ورد في الشرع. وقد صمّ في العلوم 
الحكمية بالبراهين القاطعة, والدلائل الواضحة أن الروح الناطق ليس بجسم ولا 
عرضء بل هو جوهر ثابت دائم غير فاسد. ونحن نستغني عن تكرير البرهان وتعديذ 
الدلائل لأنها مقررة مذكورة. فمن أراد تصحيحها فليرجع إلى الكتب اللائقة بذلك 
الفن راقاما في طريقنا فلاايتاتىّ بالبرهان بل نعول على العيان وتنتمد على رؤية الويمان» 
ولما أضاف الله تعالى دع إلى أمره وثارة إلى عزته. فقال: لوَنَفْحْتٌ فيه من 
رُوحي076”. وقال: قل الرُوحُ مِنْ أمر رَيي6». وقال: طِقَتْفَخْنَا فِيِهِ مِنْ 


. سورة الاسراء : الآية 86م‎ )١( 

(؟) سورة الفجر: الآيتان لاا و8؟. 

(5) سورة الحجر: الآية 4؟. سورة صص: الآية 7/ا. 
(4) سورة الإسراء: الآية 86. 


51١ 


روجِنا»”». والله تعالئ أجل من أن يضيف إلى نفسه جسماً أو عرضاً لخستهما 
وتغيرهما وسرعة زوالهما وفسادهما.ء والشارع َل قال : «الأرواح جنود مجندة». وقال: 
«أرواح الشهداء في حواصل طيور خضر». والعرض لا يبقى بعد فناء الجوهر لأنه 
لا يقوم بذاته. والجسم يقبل التحليل» كما قيل: التركيب من المادة والصورة كما هو 
مذكور في الكتب. فلما وجدنا هذه الآيات والأخبار والبراهين العقلية علمنا أن الروح 
جوهر فرد كامل حي بذاته يتولد منه صلاح الدين وفساده. والروح الطبيعي والحيواني 
وجميع القوى البدنية كلها من جنوده. وأن هذا الجوهر يقبل صور المعلومات وحقائق 
الموجودات من غير اشتغال بأعيانها وأشخاصهاء فإن النفس قادرة على أن تعلم حقيقة 
الإنسانية من غير أن ترى إنساناً كما أنها علمت الملائكة والشياطين, وما احتاجت إلى 
رؤية أشخاصها إذ لا ينالهما حواس أكثر الناس. وقال قوم من المتصوفة أن للقلب عيئاً 
كما للجسد. فيرى الظواهر بالعين الظاهرة» ويرى الحقائق بعين العقل. وقال 
رسول الله كل : «ما من عبد إلا ولقلبه عينان», وهما عينان يدرك بهما الغيب. فإذا أراد 
الله تعالئ بعبد خيراً فتح عيني قلبه ليرى ما هو غائب عن بصره. وهذا الروح لا يموت 
بموت البدن لأن الله تعللئ يدعوه إلى بابه فيقول: ظارّجعي إلى رَبّْكِ»(". وإنما هو 
يفارق ويعرض عن البدن» فمن أعراضه تتعطل أحوال القوى الحيوانية والطبيعية فيسكن 
المتحرك فيقال لذلك السكون: موت, وأهل الطريقة ‏ أعني الصوفية ‏ يعتمدون على 
الروح والقلب أكثر اعتماداً منهم على الشخص . وإذا كان الروح من أمر الباري تعالئ 
فيكون في البدن كالغريب. ويكون وجهه إلى أصله ومرجعه. فينال الفوائد من جانب 
الأصل أكثر مما ينال من جهة الشخص إذا قوي ولم يدنس بأدناس الطبيعة. وإذا علمت 
أن الروح جوهر فرد وعلمت أن الجسد لا بد له من المكان. والعرض لا يبقى إلا 
بالجوهر. فاعلم أن هذا الجوهر لا يحل في محل ولا يسكن في مكان. وليس البدن 
مكان الروح ولا محل القلب. بل البدن آلة الروح وأداة القلب ومركب النفس. والروح 
ذاته غير متصل بأجزاء البدن ولا منفصل عنه. بل هو مقبل على البدن مفيد له مفيض 
عليه. وأول ما يظهر نوره على الدماغ لأن الدماغ مظهره الخاص اتخذ من مقدمه 
حارساً. . ومن وسطه لزيا ومدبراء ومن آخره خزانة وخحازنًء ومن جميع الأجزاء رجالا 
وركباناً. ومن الروح الحيواني خادماً. ومن الطبيعي وكيلاء ومن البدن مركباً. ومن الدنيا 
)١(‏ سورة التحريم: الآبة 17 . 

(؟) سورة الفجر: الآية 584 . 


55 


يدانا :ومن الخياة بضاعة ومالاء ومن الحركة تجارة» ومن العلم ربحأء ومن الآخرة 
عقضداً ومرجعاً. ومن الشرع طريقة ومنهجاً. ومن النفس الأمَارة حارسا وفيا ومن 
اللوامة منبهاء ومن الحواس جواسيس وأعواناً. ومن الدين درعاًء ومن العقل أستاذاء 
ومن الحس تلميذاً. والربٌ سبحانه من وراء هذه كلها بالمرصاد. والنفس بهذه الصفة 
مع هذه الآلة ما أقبلت على هذا الشخص الكثيف. وما اتصلت بذاته بل تنيله الإفادة» 
ووجهها إلى بارثها وأمر بارئها بالاستفادة إلى أجل مسمى . فالروح لا يشتغل في مدة هذا 
السفر إلا بطلب العلم لأن العلم يكون حليته في دار الآخرة «لأن حلية المال والبنين زينة 
حياة الدنياء فكما أن العين مشغولة برؤية المنظورات» والسمع مواظب على استماع 
الأصوات. واللسان مستعد لتركيب الأقوال. والروح الحيواني مريد اللذات الغضبية. 
والروح الطبيعي محب للذائذ الأكل والشرب, كذلك الروح المطمئنة ‏ أعني القلب ل 
لا يريد إلا العلم ولا يرضى إلا به ويتعلم طول عمره. ويتحلّى بالعلم جميع أيامه إلى 
وقت مفارقته. ولو قبل أمرا آخر دون العلم فإنما يقبل عليه لمصلحة البدن لا لمراد ذاته 
ومحبة أصله. فإذا علمت أحوال الروح ودوام بقائه وعشقه للعلم وشغفه به. فيجب 
عليك أن تعلم أصناف العلم فإنها كثيرة ونحن نحصيها بالاختصار. 
فصل 

في أصئناف العلم وأقسامه : 

اعلم أن العلم على قسمين: أحدهما شرعي. والآخر عقلي. وأكثر العلوم 
الشرعية عقلية عند عالمها . وأكثر العلوم العقلية شرعية عند عارفها هوَمَنْ لَمْ يَجْمَلُ الله 
لَهُ ثور فَمَا لَهُمِنْ نُور04"©. 

أما القسم الأول: وهو العلم الشرعي . فينقسم إلى نوعين: 


أحدهما: في الأصول وهو علم التوحيد. وهذا العلم ينظر في ذات الله تعالى 
وصفاته القديمة. وصفاته الفعلية. وصفاته الذاتية المتعددة بالأسامي على الوجه 


المذكور. وينظر أيضاً في أحوال الأنبياء والأئمة من بعدهم والصحابة . وينظر في أحوال 
الموت والحياة وفي أحوال القيامة والبعث والحشر والحساب. ورؤية الله تعالق وأهل 


.14٠١ سورة النور: الآية‎ )١( 


1 


النظر في هذا العلم يتمسكون أولاً بآيات الله تعالئ من القرآن. ثم بأخبار الرسول يكل 
ثم بالدلائل العقلية والبراهين القياسية. وأخذوا مقدمات القياس الجدلي والعادي 
ولواحقهما من أصحاب المنطق الفلسفي. ووضعوا أكثر الألفاظ في غير مواضعهاء 

ويعبرون في عباراتهم بالجوهر والعرض والدليل والنظر والاستدلال والحجة. ويختلف 
معنى كل لفظ من هذه الألفاظ عند كل قوم حتى أن الحكماء يعون بالجوهن شيا 
والصوفية يعنون شيئاً آخر. والمتكلمون شيئاً. وعلى هذا المثال» وليس المراد في هذه 
الرسالة تحقيق معاني الألفاظ على حسب آراء القوم. فلا نسرع فيها. وهؤلاء القوم 
مخصوصون بالكلام في الأصول وعلم التوحيد ولقبهم المتكلمون. فإن اسم الكلام 
اشتهر على علم التوحيد. ومن علم الأصول التفسيرء فإن القرآن من أعظم الأشياء 
وأبينها وأجلّها وأعرّها. وفيه من المشكلات الكثيرة ما لا يحيط بها كل عقل إلا من أعطاه 
الله تعالئ فهما في كتابه. قال رسول الله يل : «ما من آية من آيات القرآن إلا ولها ظهر 
وبطن ولبطنه بطن إلى سبعة أبطن». وفي رواية إلى تسعة. وقال يكلهِ : «لكل حرف من 
حروف القرآن حدّ ولكل حدّ مطلع». والله تعالئ أخبر فى القرآن عن - جميع العلوم 
وجلي الموجودات وخفيها وصغيرها وكبيرها ومحسوسها ومعقولها: وإلى هذه الإشارة 
بقوله تعالىي : وولآ رَطبٍ ولا ياس | إلأ في ِتَاب بين 217 . وقال تعالى : «ِلِيَدَبرُوا 
آياتِه ه وَلِيَتَذَكَرَ أولُوا الألباب »04 . وإذا كان أمر القرآن أعظم الأمور فأي مفسر أدى حقه. 
وأي عالم خرج عن عهدته. نعم كل واحد من المفسرين شرع في شرحه بمقدار طاقته. 
وخاض في بيانه بحسب قوة عقله. وقدر كنه علمه. فكلهم قالواء وبالحقيقة ما قالواء 
وعلم القرآن يدل على علم الأصول والفروع والشرعي والعقلي . ويجب على المفسر 
أن ينظر في القرآن من وجه اللغة» ومن وجه الاستعارة» ومن وجه تركب اللفظ. د ومن 
وجه مراتب النحو. ومن وجه عادة العرب. ومن وجه امور الحكماء. ومن وجه كلام 
المتصوفة حتى يقرب تفسيره إلى التحقيق. ولو يقتصر على وجه واحد ويقنع في البيان 
بفن واحد لم يخرج عن عهدة البيان. ويتوجه عليه حجة الإيمان وإقامة البرهان. ومن 
علم الأصول أيضاً علم الأخبار. فإن النيّ كل انسح العرب والعجم. وكان معلماً 
يوحى إليه من قبل الله تعالئ. وكان عقله محيطاً بجميع العلويات والسفليات. فكل 


.06 سورة الأنعام : الآية‎ )١( 
.79 (؟) سورة ص: الآية‎ 


54 


كلمة من كلماته بل لفظة من ألفاظه يوجد تحتها بحار الأسرار وكنوز الرموزء فعلم أخباره 
أن يهذب نفسه بمتابعة الشارع. ويزيل الاعوجاج عن قلبه بتقويم شرع النبي يك ومن 
أراد أن يتكلم في تفسير القرآن وتأويل الأخبار ويصيب في كلامه. فيجب عليه أولا 
تحصيل علم اللغة والتبحر في فن النحو. والرسوخ في ميدان الإعراب, والتضرف في 
أصناف التصريف. فإن علم اللغة سلم ومرقاة إلى جميع العلوم. ومن لم يعلم اللغة فلا 
سبيل له إلى تحصيل العلوم . فإن من أراد أن يصعد سطحاً عليه تمهيد المرقاة أوّلا ثم 
بعد ذلك يصعد. وعلم اللغة وسيلة عظيمة. ومرقاة كبيرة. فلا يستغنى طالب العلم عن 
1 0 

أحكام اللغة فعلم اللغة أصل الاصول. وأول علم اللغة معرفة الأدوات. وهي بمنزلة 
الكلمات المفردة. وبعدها معرفة الأفعال مثل الثلاثي والرباعي وغيرهما. ويجب على 
اللغوي أن ينظر في أشعار العرب, وأولاها وأتقنها أشعار الجاهلية. فإن فيها تنقيحاً 
للخاطر. وترويحا للنفس ومع ذلك الشعر والأدوات والأسامي يجبْ تحصيل علم النحو 
للشعر. والذراع للأئواب, والمكيال للحبوب. وكل شيء لا يوزن بميزان لا يتبين فيه 
حقيقة الزيادة والنقصان . فعلم اللغة سبيل إلى علم التفسير والأخبار, وعلم القرآن 
والأخبار دليل على علم التوحيد. وعلم التوحيد هو الذي لا تنجو نفوس العباد إلا به 
ولا تتخلص من خوف المعاد إلا به» فهذا تفصيل علم الأصول. 

النوع الثاني : من العلم الشرعي هو علم الفروع. وذلك أن العلم إما أن يكون 
علمياً »وإماأن يكون عملي وعلم الاصول هو العلمئ؛ وعلم الفروع هو العملي. 
وهذا العلم العملي يشتمل على ثلاثة حقوق: 

أولها: حقّ الله تعالئ وهو أركان العبادات مثل الطهارة والصلاة والزكاة والحج 
والجهاد والأذكار والأعياد والجمعة وزوائدها من النوافل والفرائض . 

وثانيها: حق العباد وهو أبيواب العادات ويجري في وجهين : أحدهما: المعاملة 
مثل البيع والشركة والهبة والقرض والدين والقصاص وجميع أبواب الديات» والوجه 
الثاني : المعاقدة مثل النكاح والطلاق والعتق والرق والفرائض ولواحقها. ويطلق اسم 
الفقه على هذين الحقين. وعلم الفقه علم شريف مفيد عام ضروري لا يستغني الناس 
عنه لعموم الضرورة إليه. 


56 


وثالئها: حقّ النفس., وهو علم الأخلاق. والأخلاق إما مذمومة ويجب رفضها 
وقطعهاء وإما محمودة ويجب تحصيلها وتحلية النفوس بهاء والأخلاق المذمومة 
والأوصاف المحمودة مشهورة في كتاب الله تعالئ وأخبار الرسول يك : من تخلّق بواحد 
منها دخل الجنة . 

وأما القسم الثاني : من العلم فهو العلم العقلي وهو علم معضل مشكل يقع فيه 
خطأ وصواب . وهو موضوع في ثلاث مراتب: 

المرتبة الأولى : وهو أول المراتب العلم الرياضي والمنطقي . أما الرياضي فمنه 
الحساب وينظر في العدد والهندسة وهي علم المقادير والأشكال والهيئة أعني علم 
الأفلاك والنجوم وأقاليم الأرض. وما يتصل بهاء ويتفرع عنه علم النجوم وأحكام 
المواليد والطوالع. ومنه علم المسبقي الناظر في نسب الآثار. وأما المنطقي فينظر في 
طريق الحدٌ والرسم في الأشياء التي تدرك بالتصور. وينظر من طريق القياس والبرهان 
في العلوم التي تنال بالتصديق, ويدور علم المنطق على هذه القاعدة يبتدىء بالمفردات 
ثم بالمركبات» ثم بالقضاياء ثم بالقياس. ثم بأقسام القياس. ثم مطلب البرهان وهو 
نهاية علم المنطق . 

المرتبة الثانية: وهو أوسطها العلم الطبيعي. وصاحبه ينظر في الجسم المطلق. 
وأركان العالم وفي الجواهر والأعراض, وفي الحركة والسكون. وفي أحوال السموات 
والأشياء الفعلية والانفعالية» ويتولد من هذا العلم النظر في أحوال مراتب الموجودات 
وأقسام النفوس والأمزجة. وكمية الحواس» وكيفية إدراكها لمحسوساتها. م يؤدي إلى 
النظر في علم الطب وهو علم الأبدان والعلل والأدوية والمعالجات وما يتعلق بهاء ومن 


فروعه علم الآثار العلوية. وعلم المعادن. ومعرفة ة خواص الأشياء. وينتهي إلى علم 
صنعة الكيمياء وهي معالجة الأجساد المريضة في أجواف المعادن . 


المرتبة الثالئة: وهي العليا هي النظر في الموجود. ثم تقسيمه إلى الواجب 
والممكن. ثم النظر في الصانع وذاته وجميع صفاته وأفعاله وأمره وحكمه وقضائه وترتب 
ظهور الموجودات عنه. ثم النظر في العلويات والجواهر المفردة والعقول المفارقة. 
والنفوس الكاملة. ثم النظر في أحوال الملائكة والشياطين» وينتهي إلى علم النبوات 
وأمر المعجزات وأحوال الكرامات, والنظر في أحوال النفوس المقدسة وحال التوم 
واليقظة ومقامات الرؤياء ومن فروعه علم الطلسمات والنبرنجات وما يتعلّق بهاء ولهذه 


0 


العلوم تفاصيل وأعراض ومراتب. تحتاج إلى شرح جلي ببرهان بهي ولكن الاقتصار 
أولى . 
فصل 

في علم الصوفية : 

اعلم أن العلم العقلي مفرد بذاته ويتولّد منه علم مركب يوجد فيه جميع أحوال 
العلمين المفردين؛ وذلك العلم المركب علم الصوفية. وطريقة أحوالهم. فإن لهم علماً 
خاصا بطريقة واضحة مجموعة من العلمين وعلمهم يشتمل على الحال؛ والوقت 
والسماع. والوجد والشوق, والسكر. والصحوء والإثبات. والمحوء والفقرء والفناء. 
والولاية, والإرادة» والشيخ . والمريد, وما يتعلق بأحوالهم مع الزوائد والأوصاف 
والمقامات. ونحن نتكلم في هذه العلوم الثلاثة في كتاب خاص إن شاء الله تعالى» 
والآن ليس قصدنا إلا تعديد العلوم وأصنافها في هذه الرسالة. وقد اختصرناها وعددناها 
على طريق الاختصار والإيجازء ومن أراد الزيادة وشرح هذه العلوم فليرجع إلى مطالعة 
الكتب, ولما انتهى الكلام في بيان تعديد أصناف العلوم , فاعلم أنت يقيناً أن كل فن من 
هذه الفنون. وكل:علم من هذه العلوم. يستدعي عدة شرائط لينتقش في نفوس 
الطالينء فبعد تعديد العلوم يجب عليك أن تعرف طرق التحصيل فإن لتحصيل لتحصيل العلم 
طرقاً معينة نحن نفصلها (إن شاء الله) . 


فصل 

في بيان طرق التحصيل للعلوم : 

اعلم أن العلم الإنساني يحصل من طريقين». أحدهما: التعلم الإنساني» 
والثاني : التعلم الرباني . 

أما الطريق الأول: فطريق معهود. ومسلك محسوس ٠.‏ يقربه جميع العقلاء, وأما 
التعلم الرباني فيكون على وجهين, أحدهما: من خارج وهو التحصيل بالتعلم, 
والآخر: من داخل وهو الاشتغال بالتفكر. والتفكر من الباطن بمنزلة التعلم في الظاهر, 
فإن التعلم استفادة الشخص من الشخص الجزئي , والتفكر استفادة النفس من النفس 


04 


الكلي. والنفس الكلي أشد تأثيراً وأقوى تعليماً من جميع العلماء والعقلاء. والعلوم 
مركوزة في أصل النفوس بالقوة كالبذر في الأرض. والجوهر في قعر البحرء أو في قلب 
الخعدد. والتعاد إحوعاا حر زلا لخي ء من القوة إلى الفعل . والتعليم هو إخراجه 

من القوة إلى الفعل. ف: فنفس المتعلم نتشبه بنفس المعلم وتتقرب إليه بالنسبة. فالعالم 
بالإفادة كالزارع والمتعلم بالإستفادة كارف : والعلم الذي هو بالقوة كالبذر. والذي 
بالفعل كالنبات فإذا كملت نفس ال.تعلم تكون كالشجرة المثمرة أو كالجوهر الخارج من 
قعر البحرء وإذا غلبت القوى البدنية على النفس يحتاج المتعلم إلى زيادة التعلم وطول 
المدة» وتحمل المشقة والتعب وطلب الفائدة. وإذا غلب نور العقل على أوصاف 
الحس يستغني الطالب بقليل التفكر عن كثرة التعلم. فإن نفس القابل تجد من الفوائد 
بتفكر ساعة مالا تجد نفس الجامد بتعلم سنة. فإذن بعض الناس يحصلون العلوم 
بالتعلم وبعضهم بالتفكر. والتعلم يحتاج إلى التفكر. فإن الإنسان لا يقدر أن يتعلم 
جميع الأشياء الجزئيات والكليات و- جميع المعلومات, بل يتعلم شيئاً ويستخرج بالتفكر 

ب لعلو شيئاًء وأكثر العلوم النظرية والصنائع العملية استخرجها نفوس الحكماء 

بصفاء ذهنهم. وقوة فكرهم , وحدة حدسهم من غير زيادة تعلم وتحصيل. ولولا أن 
الإنسان يستخرج بالتفكر شيئاً من معلومه الأول لكان يطول الأمر على الناس ولما كانت 
تزول ظلمة الجهل عن القلوب لأن النفس لا تقدر أن تتعلم جميع مهماتها الجزئية 
والكلية بالتعليم. بل بعضها بالتحصيل وبعضها بالنظر كما يرى عادات الناس. وبعضها 
يستخرج من ضميره بصفاء فكره. وعلى هذا جرب عادة العلماء وتمهدت قواعد 
العلوم. حتى أن المهندس لا يتعلم جميع ما يحتاج إليه في طول عمره. بل يتعلم 
كليات علمه وموضوعاته» ثم بعد ذلك يستخرج ويقيس ‏ وكذلك الطبيب لا يقدر أن 
ينعلم جزئيات أدواء الأشخاص وأدويتهم بل يتفكر في معلوماته الكلية. ويعالج كل 
شخص بحسب مزاجه ‏ وكذلك المنجم يتعلم كليات النجوم ثم يتفكر ويحكم 
بالأحكام المختلفة ‏ وكذلك الفقيه والأديب ‏ وهكذا إلى بدائع الصنائع فواحد وضع 
آلة الضرب وهو العود بتفكره. وآخر استخرج من تلك الآلة آلة اخرى ‏ وكذلك جميع 
الصنائع البدنية والنفسانية أوائلها محصلة من التعلم والبواقي مستخرجة من التفكر وإذا 
انفتح باب الفكر على النفس علمت كيفية طريق التفكر وكيفية الرجوع بالحدس إلى 
المطلوب فينشرح قلبه وتنفتح بصيرته فيخرج مافي نفسه من القوة إلى الفعل من غير 
زيادة طلب وطول تعب. 


16 


الطريق الثاني : وهو التعليم الرباني على وجهين: 

الأول: إلقاء الوحي وهو أن النفس إذا كملت ذاتها يزول عنها دنس الطبيعة ودرن 
الحرص والأآمل الفانية . وتقبل بوجهها على بارئها ومنشئها وتتمسك بجود ابدعها تيد 
على إفادته وفيض نوره. والله تعالئى بحسن عنايته يقبل على تلك النفس إقبالا كليا. 
وينظر إليها نظراً إلهياً ويتخذ منها لوحاً. ومن النفس الكلي قلماً وينقش فيها جميع 
علومه. ويصير العقل الكلي كالمعلم, والنفس القدسية كالمتعلم. فيحصل جميع 
العلوم لتلك النفس وينتقش فيها جميع الصور من غير تعلم وتفكر. ومصداق هذا قوله 
تعالئ لنبيّه يكل : 9َوَعَلَّمَكَ مَالَمْ تَكُنْ تَعلمُ204©. الآية. فعلم الأنبياء أشرف مرتبة من 
جميع علوم الخلائق لأن محصوله عن الله تعالى بلا واسطة ووسيلة. وبيان هذا يوجد في 
قصّة آدم عليه السلام والملائكة. فإنهم تعلموا طول عمرهم. وحصلوا بفنون الطرق 
كثيراً من العلوم حتى صاروا أعلم المخلوقات وأعرف الموجودات, وآدمعليهالسلام 
ما كان عالماً لأنه ما تعلم وما رأى معلماً فتفاخرت الملائكة وتجبروا وتكبروا فقالوا: 
لِوَنَحْنٌ نُسَبْحُْ بحَمْدِك وَنُقَدّسُ لك74". ونعلم حقائق الأشياء. فرجع آدم عليه السلام 
إلى باب خالقف وأخرج قلبه عن جملة المكونات وأقبل بالاستعانة علي الربٌ تعالى 
فعلمه جميع الأسماء: نّم عَرَضَهُمْ عَلَى المَلائكَة204©. فقال: «الْبتُوني بِأَسْمَاءٍ 
هَوْلاءٍ إن كنتم صادقِينْ 2190# فصغر حالهم عند آدم. وقل علمهم وانكسرت سفيئة 
جبروتهم فغرقوا في بحر العجز (ِقَالُوا سُبْحَانكَ لا عِلْمَ لَنا إل ما عَلمتنَا0. فقال 
تعالى يا آدَمْ البنهُمْ بأَسْمَائهِمْ 00 . فأنبأهم آدم عليه العام عدّة مكنونات العلم 
ومستترات الأمر. فتقرر الأمر عند العقلاء أن العلم الغيبي المتولّد عن الوحي أقوى 
وأكمل من العلوم المكتسبة. وصار علم الوحي إرث الأنبياء وحقّ الرسل» وأغلق الله 
باب الوحي من عهد سيدنا محمد يَكلخْه وكان رسول الله بَكْ وحاتم النبيّين؛ وكان أعلم 
الناس وأفصح العرب والعجم وكان يقول: «أدبني ربي فأحسن تأديبي». وقال لقومه: أنا 


.1١١7 سورة النساء : الآية‎ )١( 
.7 (؟) سورة البقرة: الآية‎ 
.١ سورة البقرة: الآية‎ )( 
.”١ سورة البقرة: الآية‎ )5( 
3703 سورة البقرة: الآية‎ )6( 
سورة البقرة: الآية ؟.‎ )7( 


59 


أعلمكم وأخشاكم من الله تعالى. وإنما كان علمه أكمل وأشرف وأقوى لآنه حصل عن 
التعليم الرباني. وما اشتغل قط بالتعلم والتعليم الإنساني . قال تعالئ : 9ِعَلَّمَهُ صَدِيدُ 
القَوَْى37. 

على قدر صفائها وقبولها وقوة استعدادها والإلهام أثر الوحي فإن الوحي هو تصريح الأمر 
يحصل عن الإلهام يسمى علما لدنياء والعلم اللدني هوالذي لا واسطة في حصوله بين 
النفس وبين الباري» وإنما هو كالضوء من سراج الغيب يقع على قلب صاف فارغ 
لطيف. وذلك أن العلوم كلها حاصلة معلومة في جوهر النفس الكلية الأولى الذي هو في 
الجواهر المفارقة الأولية المحضة بالنسبة إلى العقل الأول كنسبة حواء إلى آدم عليه 
السلام. وقد بين أن العقل الكلي أشرف وأكمل وأقوى وأقرب إلى الباري تعالى من 
النفس الكلية. والنفس الكلية أعزّ وألطف وأشرف من سائر المخلوقات فمن إفاضة 
العقل الكلي يتولّد الإلهام ومن إشراق النفس الكلية يتولد الإلهام. فالوحي حلية الأنبياء 
والإلهام زينة الأولياء. فأما علم الوحي فكما أن النفس دون العقل فالولي دون النبي 
فكذلك الإلهام دون الوحي فهر ضعيف بنسبة الوحي قوي بإضافة الرؤيا والعلم عَم 
الأنبياء والأولياء. فأما علم الوحي فخاص بالرسل يولوقت عليهم كما كان لآدم وموسى 
عليهما السلام وإبراهيم ومحمّد صلَى الله عليهما وسلّم وغيرهم من الرسلء وفرّق بين 
لرمالة والنبوة. فالتبرة قبول انين القدسية حقائق الاردا والمعقولاات إلى 
من الأعذار وسبب من الأسباب. والعلم اللدني يكون لاحل النبوة والولاية ك كما كان 
للخضر عليه السلام حيث أخبر الله تعالى عنه. فقال: لِوَعَلْمْنَاهُ مِنْ لَدَنَا عِلْماً»9». 
وقال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه : «أدخلت لساني في فمي فانفتح 
في قلبي ألف باب من العلم مع كل باب ألف باب» وقال: لووضعت لي وسادة وجلست 
عليها لحكمت لأهل التوراة بتوراتهم ولأهل الإنجيل بإنجيلهم. ولأهل القرآن 
بقرآنهم» . وهذه مرتبة لا تنال بمجرد التعلم الإنسانيء بل يتحلى المرء بهذه المرتبة بقوة 


)0ن( سورة النجم : الآية ه6. 
(؟) سورة الكهف: الآية 56. 


العلم اللدني» وقال أيضاً رضي الله عنه يحكي عن عهد موسى عليه السلام أن شرح 
كتابه أربعون حملا فلو يأذن الله في شرح معاني الفاتحة لأشرع فيها حتى تبلغ مثل ذلك 
يعني أربعين وقراء وهذه الكثرة والسعة والانفتاح في العلم لا يكون إلا لدنيا إلهيا 
سماوياً. فإذا أراد الله تعالئ بعبد خيراً رفم الحجاب بين نفسه وبين النفس التي هي 
اللوح. فيظهر فيها أسرار بعض المكنونات وانتقش فيها معاني تلك المكنونات فتعبر 
النفس عنها كما تشاء لمن يشاء من عباده وحقيقة الحكمة تنال من العلم اللدتي نينا لم 
يبلغ الإنان هذه المرتبة لا يكون حكيماً لان الحكمة من مواهب الله تعالى «يؤتي 
الجكمة مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُوْتَ آالجِكْمة فَفَذْ أوتي خَبْرا كثيراً وَمايَدَُكَرُ إلا 0 
الأمباب 20 . وذلك لأن الواصلين إلى مرتبة ة العلم اللدنيٍ مستغنون عن كثرةٍ التحصيل 
وتعب التعليم فيتعلمون قليلا ويعلمون كثيراً ويتعبون يسيراً ويستريحون طويلا. 

واعلم أن الوحي إذا انقطع. وباب الرسالة إذا انسدٌ استغنى الناس عن الرسل 
وإظهار الدعوة بعد تصحيح الحبجة وتكميل الدين. كما قال تعالئ : «آليوم أكْمَلتُ لَكُمْ 
يكم 04 . وليس من الحكمة إظهار زيادة الفائدة من غير حاجة . فأما باب الإلهام فلا 
ينسدّ. ومدد نور النفس الكلية لا ينقطع لدوام ضرورة النفوس وحاجتها إلى تأكيد 
وتجديد وتذكير. وكما أن الناس استغنوا عن الرسالة والدعوة واحتاجوا إلى التذكير 
والتنبيه لاستغراقهم في هذه الوساوس وانهماكهم في هذه الشهوات فالله تعالى أغلق 
باب الوحي وهو آية العباد وفتح باب الإلهام رحمة وهيا الأمور. ورتب المراتب ليعلموا 
أن الله لطيف بعباده يرزق من يشاء بغير حساب . 


فصل 
اعلم أن العلوم مركوزة في ح ا الإنسانية وكلها قابلة لجميع العلوم . 
وإنما يفوت نفساً من النفوس 0 منه بسبب طارىء وعارض يطرأ عليها من خارج. 
كما قال النبي كلق : «خلق الناس حنفاء فاختالتهم الشياطين». وقال كَل : «كل مولود 


. 556 سورة البقرة: الآية‎ )١( 
." (؟) سصورة المائدة: الآية‎ 


ال١‎ 


يولد عى الفطرة» الحديث, فالنفس الناطقة الإنسانية أهل لإشراق النفس الكلية عليها 
ومستعدة لقبول الصور المعقولة عنها بقوة طهارتها الأصلية وصفاتهاء ولكن يبمرض 
بعضها في هذه الدنيا. ٠‏ ويمتنع عن إدراك الحقائق بأمراض مختلفة وأعراض شتى . 
رمق تمضتها فى الشاعةالأسرة بلامرض واد . يقبل أبداً ما دامت حية» والنفوس 
الصحيحة هي النفوس النبوية القابلة للوحي والتأييد القادرة على إظهار المعجزة 
والتصرف في عالم الكون والفساد. فإن تلك النفوس باقية على الصحة الأصلية» وما 
تغيرت أمزجتها بفساد الأمراض وعلل الأعراض فصار الأنبياء أطباء النفوس ودعاة الخلق 
إلى صحة الفطرة . 

وأما النفوس المريضة في هذه الدنيا الدنيئة فصارت على مراتب» بعضهم تأثر 
بمرض المنزل تأثراً معنا ودقٌ غمام النسيان في خواطرهم فيشتغلون بالتعلم . 
ويطلبون الصحة الكملة فيزول مرضهم بأدنى معالجة. وينقشع غمام نسيانهم بأقل 
تذكر.وبعضهم يتعلمون طول عمرهم ويشتغلون بالتعليم ويطلبون الصحة الأصلية فيزول 
مرضهم بأدنى معالجة. وينقشع غمام نسيانهم بأقل تذكر وبعضهم يتعلمون طول 
عمرهم ويشتغلون بالتحصيل والتصحيح - جميع أيامهم. ولا يفهمون شيئاً لفساد 
أمزجتهم . لأن المزاج إذا فسد لا يقبل العلاج, وبعضهم يتذكرون وينسون ويرتاضون 
ويذلون أنفسهم ويجدون نوراً قليلاً وإشراقاً لمعيف وهذا التفاوت إنما ظهر من إقبال 
النفوس على الدنيا واستغراقها بحسب قوتها وضعفها كالصحيح إذا مرض. والمريض 
إذا صح. وهذه العقدة إذا انحلت تقر النفوس بوجود العلم اللدني وتعلم أنها كانت 
عالمة في أول الفطرة وصافية في ابتداء الاختراع, وإنما جهلت لأنها مرضت بصحبة 
هذا الجسد الكثيف. والإقامة في هذا المنزل الكدر والمحل المظلم. وأنها لا تطلب 
بالتعلم إيجاد العلم المعدوم. ولا إبداع العقل المفقود. بل إعادتها العلم الأصلي 
الغريزي وإزالة طريان المرض بإقبالها عى زينة الجسد وتمهيد قاعدته ونظم أساسه. 
والاب المحب المشفق على ولده إذا أقبل على رعاية الولد. واشتغل بمهماته ينسى 
جميع الأمور ويكتفي بأمر واحد وهو أمر الولد, فالنفس لشدة شغفها وشفقتها أقبلت على 
هذا الهيكل واشتغلت بعمارته ورعايته والاهتمام بمصالحه. واستغرقت في بحر الطبيعة 
بسبب ضعفها وجزئيتها فاحتاجت في أثناء العمر إلى التعلم طلباً لتذكار ما قد نسيت» 
وطمعاً في وجدان ما قد فقدت وليس التعلم إلا رجوع النفس إلى جوهرها وإخراج ما في 
ضميرها إلى الفعل طلبا لتكميل ذاتها ونيل سعادتهاء. وإذا كانت النفوس ضعيفة 


؟/ 


لاتهددي إلى حميفة وهر يها حبعك وتحصم بمعلم مشدق عالم وتجتنيث به لبعينها 
على طلب مرادها ومأدولها كالمريض الذي يكون جاهلا بمعالجته ويعلم أن الصحة 
الشريفة محمودة مطلوبة. فيرجع إلى طبيب مشفق., ويعرض حاله عليه ويأوي إليه 
ليعالجه ويزيل. عه مرضة ,. وقد راينا عالما يمر بمرفن غنَاضن كالراش والضصدر 
فتعرض نفسه عن جميع العلوم وينسى معلوماته وتلتبس عليه ويستتر في حافظته وذاكرته 
جميع ما حصل في سابق عمره وماضي أيامه . فإذا صم عاد الشفاء إليه يزول النسيان عنه 
وترجع النفس إلى معلوماتها فتتذكر ما قد نسيت في أيام المرضء فعلمنا أن العلوم 
ما فنيت وإنما نسيت وفرق بين المحو والنسيان بالناس فإن المحو فناء النقوش والرسوم . 
والنسيان التباس النقوش فيكون كالغمام أو السبحاب الساتر لنور الشمس عن أبصار 
الناظرين لا كالغروب الذي هو انتقال الشمس من فوق الأرض إلى أسفل. فاشتغال 
النفس بالتعلم هو إزالة المرض العارض عن جوهر النفس لتعود إلى ما علمت في أول 
الفطرة وعرفت في بدء الطهارة. فإذا عرفت السبب والمراد من التعلم وحقيقة النفس 
وجوهرها فاعلم أن النفس المريضة تحتاج إلى التعلم وإنفاق العمر في تحصيل العلوم . 
فأما النفس التي يخف مرضها وتكون علّتها ضعيفة وشرّها دقيقاً وغمامها رقيقاً ومزاجها 
معنا فلا تحتاج إلى زيادة تعلم وطول تعب بل يكفيها أدنى نظر وتفكر لأنها ترجع به 
إلى أصلها, وتقبل على بدايتها وحقيقتها وتطلع على متخفياتها فيخرج ما فيها من القوة 
إلى الفعل ويصير ما هو مركوز فيها حلية لها فيتم أمرها ويكمل شأنها وتعلم أكثر الأشياء 
في أقل الأيام وتعبر عن المعلومات بحسن النظام» وتصير عالمة كاملة متكلمة تستضيء 
بإقبال على النفس الكلية وتفيض باستقبال على النفس الجزئية وتتشبه من طريق العشق 
بالأصل . وتقطع عرق الحسد وأصل الحقد وتعرض عن فضول الدنيا وزخارفهاء وإذا 
وصلت إلى هذه المرتبة فقد علمت ونجت وفازت» فهذا هو المطلوب لجميع الناس. 
فصل 
حقيقة العلم اللدني وأسباب حصوله : 


اعلم أن العلم اللدني وهو سريان نور الإلهام يكون بعد التسوية كما قال الله 
تعالئ : «ونفس وما سَوَاهًا274©. وهذا الرجوع يكون بثلاثة أوجه: 
)0 سورة الشمس : الآية /ا. 


أحدها: تحصيل جميع العلوم وأخذ الحظ الأوفر من أكثرها. 

والثاني : الرياضة الصادقة والمراقبة الصحيحة. فإن النبي كل أشار إلى هذه 
الحقيقة. فقال: «من عمل بما علم أورثه الله علممالم يعلم». وقال يَكةِ : «من 
أخلص لله أربعين صباحاً أظهر الله تعالئ ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه». 

والثالث: التفكر. فإن النفس إذا تعلمت وارتاضت بالعلم ثم تتفكر في معلوماتها 
بشروط الفكر ينفتح عليها باب الغيب كالتاجر الذي يتصرف في ماله بشرط التصرف 
ينفتح عليه أبواب الربح . وإذا سلك طريق الخطأ يقع في مهالك الخسران, فالمتفكر إذا 
سلك سبيل الصواب يصير من ذو الألباب. وتنفتح روزنة من عالم الغيب في قلبه 
فيصير عالما كاملا عاقلا ملهما مؤيّدا كما قال و : «تفكر ساعة خير من عبادة ستين 
سنة». وشرائط التفكر نحصيها في رسالة اخرى إذ بيان التفكر وكيفيته وحقيقته أمر مبهم 
يتاع إلى زيادة شرح وفص يعرة] له بعال “ولان يخم هله الرجبالة, فإن في هذه 
الكلمات كفاية لأهلها: هوَمَنْ لَمْ يَجَعَلُ الله لَهُ ورا فَمَا لَهُمِنْ نُور04"©. والله ولي 
المؤمنين وعليه التكلان» وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم وحسسبنا الله 
ونعم الوكيل, ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم . وبه ثقتي في كل آن وحين 
والحمد لله رت العالمين . 


تمت الرسالة اللدنية ‏ ويليها فيصل التفرقة 


. 4١ سورة النور: الآية‎ )١( 


0 


فيصل التفرقة 


بسم آللهِ آلرّحمن الرّحيم 

خطبة الرسالة: 

قال الإمام العالم العامل أبو حامد محمد بن محمد بن محمد الغزالي رحمة الله 
عليه: أحمد الله تعالئ استسلاماً لعزّته. واستتماماً لنعمته, واستغناماً لتوفيقه ومعونته 
وطاعته, واستعصاماً من خذلانه ومعصيته؛ واستدراراً لسوابغ نعمته وأصلي على محمّد 
عبده ورسوله وخير خليقته. انقياداً لنبوته» واستجلاباً لشفاعته؛ وقضاءً لحقّ رسالته. 
واعتصاماً بيمين سريرته ونقيته. وعلى آله وأصحابه وعترته . 

أما بعد: فإني رأيتك أيها الاخ المشفق. والصديق المتعصب موغر الصدر. 

منقسم الفكر لما فرغ سمعك من طعن طائفة من الحسدة على بعض كتبنا المصنفة في 
0 معاملات الدين. وزعمهم أن فيها ما يخالف مذهب الأصحاب المتقدمين. 
والمشايخ المتكلمين, وأن العدول عن مذهب الأشعري ولو في قيد شبر كفر ومباينته ولو 
في شيء نزر ضلال وخسرء فهون أيها الاخ المشفق المتعصب على مايقولون 
واهجرهم هجراً جميلاً. واستحقر من لا يحسد ولا يقذف. واستصغر من بالكفر أو 
العلال لا بعرت فآي اداع أكمل واغقل من سيدا المرقسلين كلل »اروقد قالرا : إنه مجئون 
من المجانين» وأي كلام أجل وأصدق من كلام رب العالمين» وقد قالوا: إنه أساطير 
الأولين» وإياك أن تشتغل بخصامهم وتطمع في إفحامهم فتطمع في غير مطمعء 
وتصوت في غير مسمع . أما سمعت ما قيل: 
كل العداة قد ترجى سلامتها إلا عداوة من عاداك عن حسد 

ولو كان فيه مطمع لأحد من الناس. لما تلى على أجلهم رتبة آبات اليأسء أوَ ما 
سمعت قوله تعالى : ؤِوَإِنْ كَانَ كَبْرَ علَيِكَ ِعْرَاضُهُمْ فَإنٍ نظت أنْ تَبَعي نَفْقاً في 


1,716 


الأرْض أذ سلما في الشماءفَاتِهُم با ووْضاء اله َجَمَمَهُمْ على الهدَى فلا تون 
بن ن الجاهلين 4 وفولة تعالى : ولو فتخنا عَلهِمْ بَاباً مِنَ آلسّمَاءٍ فَظَلُوا فيه 
يَعْرُجُونَ # لَقَالُوا نما سُكَرَتْ أبصَارْنًا بَلْ نحن قَوْمْ مَسحُورُونَ74". وقوله تعالئ : 
ولو تنا عَلَِكَ كتابا في قُرْطاسٍِ فَلَمَسُوه بيهم لقال الِينَ كفروا إنْ هذا إلا ِحْرٌ 
ين 74 , . وقوله تعالئ : «ولو اننا يهم الملائكة َكَلَمَهُمُ المَؤنى وَحَشَرْنَا لهم 
كُُ شيءِ و3 مَا كانوا لِيُؤْمِنوا إلا أن يَشاءَ الله وَلكنٌ أكترْهُمْ يَجْهَلُونَ بم40) . واعلم أن 
الفكر والإيمان وحدهماء والحنّ والضلال وسرهماء لا ينجلي للقلوب المدنسة بطلب 
الحاه والمال وحبهماء بل إنما ينكشف دون ذلك لقلوب طهرت عن وسخ أوضار الدنيا 
أولاً. لم صقلت بالرياضة الكاملة ثانياً. ثم نورت بالذكر الصاني ثالث ثم عذيت بالفكر 
الصائب رابع ثم زينت بملازمة حدود الشرع افا حتى فاض عليها النور من 
مشكاة النيوة. وصارت كأنها مرآة مجلوة. وصار مصباح اليمان في زجاجة قلبه مشرق 
الأنوار يكاد زيته يضيء ولولم تمسسه نار. وأنى تتجلى أسرار الملكوت لقوم إلههم 
هواهم ومعبودهم سلاطينهم . وقبلتهم دراهمهم ودنانيرهم. وشريعتهم رعونتهمء 
وإرادتهم جاههم وشهواتهم. وعبادتهم خدمتهم أغنياءهم. وذكرهم وساوسهم. 
وكنزهم سواسهم. وفكرهم استنباط الحيل لما تقتضيه حشمتهم . فهؤلاء من أين نتميز 
لهم ظلمة الكفر من ضياء الإيمان. أبإلهام إلهي ولم يفرغوا القلوب عن كدورات الدنيا 
لقبولها أم بكمال علمي. وإنما بضاعتهم في العلم مسألة النجاسة وماء الزعفران 
وأمثالهما؟ هيهات هيهات هذا المطلب أنفس وأعز من أن يدرك بالمنى. أو ينال 
بالهويناء فاشتغلٍ أنت بشأنك ولا تضيع فيهم بقية زمانك: ا(فاغرض عَمْنْ تولَى عَنْ 
ْنَا وَلمْ برذ إلا الحا آلدنْيا * ذلِك مبلمهُمْ مِنَ الجلم. إن رَبْكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلٌّ 
عَنْ سَبِلِهِ وَهُوَ أعْلَم بمَنْ آْتَدَى 24». 


. 0 سورة الأنعام: الآية‎ )١( 

(؟) سورة الحجر: الآيتان ١4‏ و6١.‏ 
(0) سورة الأنعام : الآية /ا . 

2 سورة الأنعام : الأية .١١١‏ 

(ه) سورة النجم: الآيتان 9؟ و 0". 


كلا 


فصل 

في حقيقة الكفر والإيمان : 

فأما أنت إن أردت أن تنتزع هذه الحسكة من صدرك. وصدر من هو في حالك» 
ممن لا تحركه غواية الحسود, ولا تقيده عماية التقليد. بل تعطشه إلى الاستبصار 
لحزازة إشكال آثارها فكرء وهيجها نظرء فخاطب نفسك وصاحبك وطالبه بحدّ الكفر 
فإن زعم أن حد الكفر ما يخالف مذهب الأشعري أو مذهب المعتزلي أو مذهب الحنبلي 
أوغيرهم فاعلم أنه غير بليد. قد قيّده التقليد فهو أعمى من العميان. فلا تضيع بإصلاحه 
الزمان. وناهيك حجّة في إفحامه. مقابلة دعواه بدعوى خصومه. إذ لا يجد بين نفسه 
وبين سائر المقلدين المخالفين له فرقاً وفصلاء ولعل صاحبه يميل من سائر المذاهب 
إلى الأشعري» ويزعم أن مخالفته في كل ورد وصدر كفر من الكفر الجلي. فاسأله من 
أين يثبت له أن يكون الحق وفقا عليه حتى قضى بكفر الباقلاني إذ خالفه في صفة البقاء 
لله تعالى. وزعم أنه ليس هو وصفاً لله تعالئ زائداً على الذات ولمّ صار الباقلاني أولى 
بالكفر بمخالفته الأشعري من الأشعري بمخالفته الباقلاني؟ ؟ ولم فار الحقّ وفقاً على 
أحدهمادون الثانى؟ أكان ذلك لأجل السبق في الزمان؟ فقد سبق الاشعري غيره من 
المعتزلة فليكن البق للسابق عليه! أم لأجل التفاوت في الفضل والعلم؟ فبأي ميزان 
ومكيال قدر درجات الفضل حتى لاح له أن لا أفضل في الوجود من متبوعه ومقلده؟ فإن 
رخص للباقلاني في مخالفته فلم حجر على غيره؟ وما الفرق بين الباقلاني والكرابيسي 
والقلانسي وغيرهم؟ وما مدرك التخصيص بهذه الرخصة؟ وإن زعم أن خلاف الباقلاني 
يرجع إلى لفظ لا تحقيق وراءه كما تعسف بتكلفه بعض المتعصبين زاعماً أنهها جميعاً 
متوافقان على دوام الوجود. والخلاف في أن ذلك يرجم إلى الذات أو إلى وصف زائد 
عليه خلاف قريب لا يوجب التشديدء فما باله يشدد القول على المعتزلي في نفيه 
الصفات وهو معترف بأن الله تعالى عالم محيط بجميع المعلومات قادر على جميع 
الممكنات» وإنما يخالف الأشعري في أنه عالم وقادر بالذات ]و بصفة زائدة. فما الفرق 
بين الخلافين» وأي مطلب أجل وأخطر من صفات الحقّ سبحانه وتعالى في النظر في 
نفيها وإثباتها؟ فإن قال: إنما أكفر المعتزلي لأنه يزعم أن الذات الواحدة تصدر منها فائدة 
العلم والقدرة والحياة وهذه صفات مختلفة بالحدّ والحقيقة. والحقائق المختلفة 


/ا/ا 


تستحيل أن توصف بالاتحاد أو تقوم مقامها الذات الواحدة فما باله لا يستبعد من 
الأشعري قوله: إن الكلام صفة زائدة قائمة بذات الله تعالى ومع كونه واحداً هو توراة 
وإنجيل وزبور وقرآن». وهو أمر ونهي وخبر واستخبار. وهذه حقائق مختلفة كيف لا وحدٌ 
الخبر ما يتطرق إليه التصديق والتكذيب ولا يتطرق ذلك إلى الأمر والنهي فكيف تكون 
حقيقة واحدة يتطرق إليها التصديق والتكذيب ولا يتطرق فيجتمع النفي والإثبات على 
شيء واحد فإن تخبط في جواب هذا أو عجز عن كشف الغطاء فيه. فاعلم إنه ليس من 
أهل النظر وإنما هو مقلد. وشرط المقلد أن ب يسكت ويسكت عنه لأنه قاصر عن سلوك 
طريق الحجاج» ولو كان أهلاً له كان مستتبعاً لا تابعاً. وإماماً لا مأموماً. فإن خاص 
المقلد فى المحاجة فذلك منه فضول والمشتغل به صار كضارب فى حديد بارد وطالب 
لصلاح الفاسد ‏ وهل يصلح العطار ما أفسد الدهر ‏ ولعلك إن أنصفت علمت أن من 
جعل الحق وقفاً على واحد من النظار بعينه» فهو إلى الكفر والتناقض أقرب . أما الكفرء 
فلأنه نزله منزلة النبي المعصوم من الزلل الذي لا يثبت اللإيمان إلا بموافقته ولا يلزم 
الكفر إلا بمخالفته, وأما التناقض فهو أن كل واحد من النظار يوجب النظر وأن لا ترى 
في نظرك إلا مارأيت وكل ما رأيته حجة. وأي فرق بين من يقول قلدني في مجرد 
مذهبي » وبين من يقول قلدني في مذهبي ودليلي جميعاً وهل هذا إلا التناقض . 
فصل 

في الكفر: 

لعلك تشتهي أن تعرف حدّ الكفر بعد أن تتناقض عليك حدود أصناف المقلدين» 
فاعلم أن شرح ذلك طويل ومدركه غامض. ولكني أعطيك علامة صحيحة فتطردها 
وتعكسها لنتخذها مطمح نظرك وترعوي بسببها عن تكفير الفرق» وتطويل اللسان في 
أهل الإسلام وإن اختلفت طرقهم ما داموا متمسكين بقول لا لَه إل الله محمّد رسول الله 
صادقين بها غير مناقضين لها فأقول: 

الكفر هو تكذيب الرسول عليه الصلاة والسلام في شيء مما جاء به» والإيمان 
تصديقه في جميم ماجاء به فاليهودي والنصراني كافران لتكذيبهما للرسول عليه 
الصلاة والسلام. والبرهمي كافر بالطريق الأولى لأنه أنكر مع رسولنا المرسل سائر 
الرسل. وهذا لآن الكفر حكم شرعي كالرق والحرية مثلا إذ معناه إباحة الدم والحكم 


7/4 


بالخلود في النار ومدركه شرعي فيدرك إما بنص وإما بقياس على منصوص . وقد وردت 
النصوص في اليهود والنصارى. والتحق بهم بالطريق الأولى البراهمة والثنوية والزنادقة 
والدهرية. وكلهم مشركون فإنهم مكذبون للرسول فكل كافر مكذب للرسول. وكل 
مكذب فهو كافر ‏ فهذه هي العلامة المطردة المنعكسة. 


فصل 


اعلم أن الذي ذكرناه مع ظهوره تحته غور بل تحته كل الغور لأن كل فرقة تكفر 
مخالفها وتنسبه إلى تكذيب الرسول عليه الصلاة والسلام. فالحتبلي يكفر الأشعري 
زاعماً أنه كذب الرسول في إثبات الفوق لله تعالئ وفي الاستواء على العرش, 
والأشعري يكفره زاعماً أنه مشبه وكذب الرسول في أنه ليس كمثله شيء» والأأشعري 
يكفر المعتزلي زاعماً أنه كذب الرسول في جواز رؤية الله تعالى وفي إثبات العلم والقدرة 
والصفات له. والمعتزلي يكفر الأشعري زاعماً أن إثبات الصفات تكفير للقدماء 
وتكذيب للرسول في التوحيد, ولا ينجيك من هذه الورطة إلا أن تعرف حدّ التكذيب 
والتصديق وحقيقتهمًا فيه فيتكشف لك علو هذه الفرق وإسرافها في تكفير بعضها بعضاً. 

فأقول: التصديق إنما يتطرق إلى الخبر بل إلى المخبر, وحقيقة الاعتراف بوجوه 
ما أخبر الرسول وَل عن وجوده إلا أن للوجود خمس مراتب ولأجل الغفلة عنهما نسبت 
كل فرقة مخالفها إلى التكذيب فإن الوجود ذاتي وحسي وخيالي وعقلي وشبهي. فمن 
اعترف بوجود ما أخبر الرسول عليه الصلاة والسلام عن وجوده بوجه من هذه الوجوه 
الخمسة فليس بمكذب على الإطلاق. فلنشرح هذه الاصناف الخمسة ولنذكر مثالها في 
التأويلات . 

أما الوجود الذاتي فهو الوجود الحقيقي الثابت خارج الحس والعقل . ولكن يأخذ 
الحسّ والعقل عنه صورة فيسمى أخذه إدراكاً وهذا كوجود السموات والأرض والحيوان 
والنبات وهو ظاهر بل هو المعروف الذي لا يعرف الأكثرون للوجود معنى سواه. 

وأما الوجود الحسّي : فهو ما يتمثل في القوة الباصرة من العين مما لا وجود له 
خارج العين فيكون موجوداً في الحس ويختصٌ به الحاس. ولا يشاركه غيره. وذلك كما 
يشاهده النائم بل كما يشاهده المريض المتيقظ إذ قد تتمثل له صورة ولا وجود لها خارج 
حسّه حتى يشاهدها كما يشاهد سائر الموجودات الخارجة عن حسّهء. بل قد تتمثل 


7 


للأنبياء والأولياء في اليقظة والصحّة صورة جميلة محاكية لجواهر الملائكة» وينتهي 
إليهم الوحي والإلهام بواسطتها فيتلقون من أمر الغيب في اليقظة ما يتلقاه غيرهم في 
النوم وذلك لشدة صفاء باطنهم. كما قال تعالئ : َمل لَهَابَشَرأ و2004 . وكما أنه 
عليه الصلاة والسلام رأى جبريل عليه السلام كثيراً» ولكن ما رآه في صورته إلا مرتين 
وكان يراه في صور مختلفة يتمثل بها وكما يرى رسول الله وك في المنام. وقد قال: «مَنْ 
رآني في النوم فقد رآني حقاء فإن الشيطان لا يتمثل بي». ولا تكون رؤيته بمعنى انتقال 
شخصه من روضة المدينة إلى موضع النائم» بل هي على سبيل وجود صورته في الحس 
النائم فقط. وسبب ذلك وسره طويل» وقد شرحناه في بعض الكتب فإن كنت لا تصدق 
به فصدق عينك. فإنك تأخذ قبساً من نار كآنه نقطة ثم تحركه بسرعة حركة مستقيمة فتراه 
خطاً من نارء وتحركه حركة مستديرة فتراه دائرة من نار والدائرة والخط مشاهدان وهما 
موجودان في حسك لا في الخارج عن حسك». » لآن الموجود في الخارج هي نقلة في 
كل حال وإنما تصير خخطاً في أوقات متعاقبة فلا يكون الخط موجوداً في حالة واحدة 
وهو ثابت في مشاهدتك في حالة واحدة . 

وأما الوجود الخيالي : فهو صورة هذه المحسوسات إذا غابت عن حسك فإنك 
تقدر على أن تخترع في خيالك صورة فيل وفرس, وإن كنت مغمضاً عينيك حتى كأنك 
تشاهده وهو موجود بكمال صورته في دماغك لا في الخارج . 

وأما الوجود العقلي : فهو أن يكون للشيء روح وحقيقة ومعلى فيتلقى العقل 
مجرد معناه دون أن يثبت صورته في خيال أو حس أو خارج كاليد مثلاء فإن لها صورة 
محوسة ومتخيلة وها معنى هو حقيقتها وهي القدرة على البطش. والقدرة على البطش 
هق اليلد العقليةوللقلم صورة ولكن حتفيقتهرما فشن ره العلوم + وهدا يتلقاه العف من 
غير أن يكون مقرونا بصورة قصب وخشب وغير ذلك من الصور الخيالية والحسية . 

وأما الوجود الشبهي : فهو أن لا يكون نفس الشيء مويتودا لا بضورته ول" 
بحقيقته. لا في الخارج؛ ولا في الحس ولا في الخيال؛ ولا في العقل. ولكن يكون 
الموجود شيئاً آخر يشبهه في خاصة من خواصه. وصفة من صفاته. وستفهم هذا إذا 
ذكرت لك مثاله في التأويلات . فهذه مراتب وجود الأشياء . 


4 


فصل 

اسمع الآن أمثلة هذه الدرجات في التأويلات . أما الوجود الذاتي فلا يحتاج إلى 
مثال وهو الذي يجري على الظاهر ولا يتأؤل. وهوالوجود المطلق الحقيقي. وذلك 
كإخبار الرسول يك عن العرش والكرسي والسموات السبع فإنه يجري على ظاهره ولا 
يتأول إذ هذه أجسام موجودة في أنفسها أدركت بالحس والخيال أو لم درك . وأما الوجود 
الحسّي فأمثلته في التأويلات كثيرة» واقنم منها بمثالين : 

أحدهما: قول رسول الله يَكْهَ: «يؤتى بالموت يوم القيامة في صورة كبش أملح 
فيذبح بين الجنة والنار». فإن من قام عنده البرهان على أن الموت عرض أو عدم عرض» 
وأن قلب العرض جسماً مستحيل غير مقدور ينزل الخبر على أن أهل القيامة يشاهدون 
ذلك ويعتقدون أنه الموت. ويكون ذلك موجوداً في حسّهم لا في الخارج. ويكون سبباً 
لحصول اليقين باليأس عن الموت بعد ذلك إذ المذبوح ميئوس منه. ومن يقم عنده هذا 
البرهان فعساه يعتقد أن نفس الموت ينقلب كبشا في ذاته ويذبح . 

المثال الثاني : قول رسول الله كك : «تمرضت علي الجنة في عرض هذا 
الحائط». من قام عنده البرهان على أن الأجسام لا تتداخل. وأن الصغير لا يسع الكبير 
حمل ذلك على أن نفس الجنة لم تنتقل إلى الحائط. لكن تمثل للحس صورتها في 
الحائط حنى كأنه يشاهدها ولا يمتنع أن يشاهد مثال شيء كبير في جرم صغير. كما 
نشاهد السماء في مرآة صغيرة ويكون ذلك إبصارا مفارقا لمجرد تخيل صورة الجنة إذ 
تدرك التفرقة بين أن ترى صورة السماء في المرآة وبين أن تغمض عينيك فتدرك صورة 
السماء في المرآة على سبيل التخيل . 

وأما الوجود الخيالي: فمثاله قوله يك : «كأني أنظر إلى يونس بن متى عليه 
عباءتان قطوانيتان يلبي وتجيبه الجبال والله تعالئ يقول له: لبيك يا يونس». والظاهر أن 
هذا إنباء عن تمثيل الصورة فى خياله إذ كان وجود هذه الحالة سابقا على وجود 
رسول الله كل وقد انعدم ذلك فلم يكن موجوداً في الحال؛ ولا يبعد أن يقال أيضاًء 
تمثل هذا في حسه حتى صار يشاهده كما يشاهد النائم الصورء ولكن قوله كأني أنظر 
يشعر بأنه لم يكن حقيقة النظر بل كالنظرء والغرض التفهيم بالمثال لا عين هذه 
الصورةء وعلى الجملة فكل ما يتمثل في محل الخيال فيصور أن يتمثل في محل 


4١ 


الإبصار فيكون ذلك مشاهدة وقل ما يتميز بالبرهان استحالة المشاهدة فيما يتصور فيه 
التخيل . 

وأما الوجود العقلي : فأمثلته كثيرة. فاقئع منها بمثالين : 

أحدهما: قوله كَل : «آخر من يخرج من النار يعطى من الجنة عشرة أمثال هذه 
الدتيا». فإن ظاهر هذا يشير إلى أنه عشرة أمثالها بالطول والعرض والمساحة وهو 
التفاوت الحسّي والخيال, ثم قد يتعجب فيقول: إن الجنة في السماء كما دلت عليه 
ظواهر الأخبارء فكيف تتسع السماء لعشرة أمثال الدنيا والسماء أيضاً من الدنيات. وقد 
يقطع المتأول هذا التعجب فيقول المراد به تفاوت معنوي عقلي لا حسّي ولا خيالي» 
كما يقال مثلاً هذه الجوهرة أضعاف الفرس أي في روح المالية» ومعناها المدرك دون 
مساحتها المدركة بالحس والتخيل . 


المثال الثاني : : قوله ككل : «إن الله تعالئ خمر طيئة آدم بيده أربعين صباحأ»» فقد 
أثبت لله تعالى يدا ومن قام عنده البرهان على استحالة يد الله تعالى هي جارحة 
يسوية انان فإنه يثبت لله سبحانه يدأ روحانية عقلية . أعني أنه يثبت معنى اليد 
وحقيقتها وروحها دون صورتها. إن روح اليد ومعناها ما به يبطش ويفعل ويعطي 
ويمنع. والله تعالى يعطي ويمنع بواسطة ملائكته. كما قال عليه الصلاة والسلام : «أوّل 
ما خلق الله العقل فقال يك أعطي وبك أمنع, ولا يمكن أن يكون المراد بذلك العقل 
عرضاً كما يعتقده المتكلمون إذ لا يمكن أن يكون العرض أول مخلوق بل يكون عبارة 
عن ذات ملك من الملائكة يسمى عقلا من حيث يعقل الأشياء بجوهره وذاته من غير 
حابجة إلى تعليم » ؛ وربما يسمى قلماً باعتبار أت تنقش به حقائق العلوم في ألواح قلوب 
الأنبياء والأولياء وسائر الملائكة وحياً وإلهاماً. فإله قد ورد في حديث آخر: وإن أول ما 
خلق الله تعالئ القلم». فإن لم يرجع ذلك إلى العقل تناقض الحديثان» ويجوز أن يكون 
لشيء واحد أسماء كثيرة باعتبارات مختلفة فيسمى عقلاً باعتبار ذاته وملكاً باعتبار نسبته 
إلى الله تعالىئ في كونه واسطة بينه وبين الخلق» وقلماً باعتبار إضافته إلى ما يصدر منه 
من نقش العلوم بالإلهام والوحي. كما يسمى جبريل روحاً باعتبار ذاته وأميناً باعتبار ما 
أودع من الأسرار, وذا مرة باعتبار قدرته» وشديدالقوى باعتبار كمال قوته ومكيناً عند 
ذي العرش باعتبار قرب منزّلته . ومطاعاً باعتبار كونه متبوعاً في حق بعض الملائكة. 
وهذا القائل يكون قد أثبت قلماً ويداً عقلياً لا حسياً وخيالياً وكذلك من ذهب إلى أن اليد 


ذه 


عبارة عن صفة لله تعالئ إما القدرة أو غيرها كما اختلف فيه المتكلمون. 

وأما الوجود الشبهي : فمثاله الغضب والشوق والفرح والصبر وغير ذلك مما ورد 
في حقٌّ الله تعالئ» فإن الغضب مثلا حقيقته أنه غليان دم القلب لإرادة التشفي وهذا 
لا ينفك عن نقصان وألم. ٠‏ فمن قام عنده البرهان على استحالة ثبوت نفس الغضب لله 
جالن نوا ذانا وحتنا رعيانا وعفلا لعن ترخصلة اخزئ دونه ما دكن 
الغضب كإرادة العقاب. والإرادة لا تناسب الغضب في حقيقة ذاته ولكن في صفة من 
الصفات وتقارنها وأثر من الآثار يصدر عنها وهوالإيلام . فهذه درجات التأويلات. 

فصل 

في المصدقين : 

اعلم أن كل من نزل قولاً من أقوال صاحب الشرع على درجة من هذه الدرجات 
فهو من المصدقين, وإنما التكذيب أن ينفي جميع هذه المعاني. ويزعم أن ماقاله 
لا معنى له. وإنما هو كذب محض وغرضه فيما قاله التلبيس أو مصلحة الدنيا وذلك هو 
الكفر المحض والزندقة, ولا يلزم كفر المؤولين ما داموا يلازمون قانون التأويل كما 
سنشير إليه وكيف يلزم الكفر بالتأويل. وما من فريق من أهل الإسلام إلا وهو مضطر 
إليه. فأبعد الناس عن التأويل أحمد بن حنبل رحمة الله عليه. وأبعد التأويلات عن 
الحقيقة وأغربها أن تجعل الكلام مجازاً أو استعارة هو الوجود العقلي والوجود الشبهي » 
والحنبلي مضطر إليه وقائل به» فقد سمعت الثقات من أئمة الحنابلة ببغداد يقولون إن 
أحمد بن حنبل رحمه الله صرح بتأويل ثلاثة أحاديث فقط : 

أحدها: قوله كل : «الحجر الأسود يمين الله في الأرض». 

والثاني : قوله ككل : «قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحجمن». 

والثالث : قوله يَكلِِ : «إني لأجد نفس الرحمن من قبل اليمين». 

فانظر الآن كيف أول هذا حيث قام البرهان علده على استحالة ظاهره. فيقول: 
اليمين تقبل في العادة تقرباً إلى صاحبهاء والحجر الأسود يقبل أيضاً تقرّباً إلى الله تعالئ 
فهو مثل اليمين لا في ذاته ولا في صفات ذاته. ولكن في عارض من عوارضه فسمي 
لذلك يمينا وهذا الوجود هو الذي سميناه الوجود الشبهي وهو أبعد وجوه التأويل» 


6 


فانظر كيف اضطر إليه أبعد الناس عن التأويل ‏ وكذلك لما استحال عنده وجود 
الأصبعين لله تعالئ حسّاً إذ من فتش عن صدره لم يشاهد فيه أصبعين فتأوله على روح 
الأصبعين وهي الأصبع العقلية الروحانية . أعني أن روح الأصبع مابه يتيسر تقلب 
الأشياء. وقلب الإنسان بين لمة الملك ولمة الشيطان. وبهما يقلب الله تعالئ القلوب». 
فكنى الأصبعين عنهما وإنما اقتصر أحمد بن حنبل رضي الله عنه على تأويل هذه 
الأحاديث الثلاثة لأنه لم تظهر عنده الاستحالة إلا في هذا القدر, لأنه لم يكن ممعناً في 
النظر العقلي ولو أمعن لظهر له ذلك في الاختصاص بجهة فوق وغيره مما لم يتأوله, 
والأشعري والمعتزلي لزيادة بحثهما تجاوزا إلى تأويل ظواهر كثيرة» وأقرب الناس إلى 
الحنابلة في امور الآخرة الأشعرية وفقهم الله فإنهم قرروا فيها أكثر الظواهر إلا يسيراًء 
والمعتزلة شد منهم توغلاً في التأويللات وهم مع هذا أعني الأشعرية ‏ يضطرون 
أيضاً إلى تأويلٍ امور كما ذكرناه من قوله : إنه يؤتى بالموت في صورة ة كبش أملح . وكما 
ورد من وزن الأعمال بالميزان» فإن الاشعري أول من وزن الاعمال فقال: توزن 
صحائف الأعمال ويخلق الله فيها أوزاناً بقدر درجات الأعمال. وهذا رد إلى الوجود 
الشبهي البعيد فإن الصحائف أجسام كتبت فيها رقوم تدل بالاصطلاح على أعمال هي 
أغراض» فليس الموزون إِذّا العمل بل محل نقش يدل بالاصطلاح على العمل. 
والمعتزلي تأول نفس الميزان وجعله كناية عن سبب به ينكشف لكل واحد مقدار عمله. 
وهو أبعد عن التعسف في التأويل بوزن الصحائف, وليس الخرض تصحيح أحد 
التأويلين بل تعلم أن كل فريق وإن بالغ في ملازمة الظواهر فهو مضطر إلى التأويل إلا 
أن يجاوز الحدّ في الغباوة والتجاهل , فيقول: الحجر الود يقد تحقيقاًء والموت 
وإن كان عرضاً فيستحيل فينتقل كبشا بطريق الانقلاب» والأعمال وإن كانت أعراضاء 
وقد عدمت فتنتقل إلى الميزان ويكون فيها أعراض هي الثقل. ومن ينتهي إلى هذا الحد 
من الجهل فقد انخلع من ربقة العقل. 


فصل 
في التأويل: 


فاسمع الآن قانون التأويل. فقد علمت اتفاق الفرق على هذه الدرجات الخمس 
في التأويل. وإن شيئاً من ذلك ليس من حيّز التكذيب» واتفقوا أيضاً على أن جواز ذلك 


15 


موقوف على قيام البرهان على استحالة الظاهر والظاهر الآوّل هو الوجود الذاتي فإنه إذا 
ثبت تضمن الجمع . فإن تعذّرء فالوجود الحسّي فإنه إن ثبت تضمن ما بعده . فإن تعذرى 
فالوجود الخيالي أو العقلي . وإن تعذرء فالوجود الشبهي المجازي ولا رخصة للعدول 
عن درجة إلى ما دونها إلا بضرورة البرهان فيرجع الاختلاف على التحقيق إلى 
البراهين. إذ يقول الحنبلي : لا برهان على استحالة اختصاص الباري بجهة فوق. 
ويقول الأشعري : لآ برهان على استحالة الرؤية. وكأن كل واحد لا يرضى بما ذكره 
الخصم ولا يراه دليلا قاطعاً . وكيف ما كان فلا ينبغي أن يكفر كل فريق خصمه بأن يراه 
غالطاً في البرهان . نعم يجوز أن يسميه ضالاً أو مبتدعاً. . إما ضالاً فمن حيث إنه ضلٌ عن 
الطريق عنده. وإما مبتدعاً فمن حيث إنه ابتدع قولاً لم يعهد من السلف الصالح 
التصريح به. إذ المشهور فيما بين السلف أن الله تعالى يرى. فقول القائل: لا يرى 
بدعة. وتصريحه بتأويل الرؤية بدعة. بل إن ظهر عنده أن تلك الرؤية معناها مشاهدة 
القلب. فينبغي أن لا يظهره ولا يذكره لأآن السلف لم يذكروه. لكن عند هذا يقول 
الحنبلي إثبات الفوق لله تعالى مشهور عند السلف, ولم يذكر أحد منهم أن خالق العالم 
ليس متصلا بالعالم ولا منفصلا ولا داخلاً ولا خارجاً. وأن الجهات الست خالية عنه وأن 
نسبة جهة فوق إليه كنسبة جهة تحت, فهذا قول بدع إذ البدعة عبارة عن إحداث مقالة 
غير مأثورة عن السلف, وعند هذا يتضح لك أن ههنا مقامين. 


أحدهما: مقام عوام الخلق, والح فيه الاتباع والكف عن ته تغيير الظواهر رأساًء 
والحذر عن إبداع التصريح بتأويل لم تصرح به الصحابة وحسم باب السؤال راساً 
والزجر عن الخوض في الكلام والبحث. واتباع ما تشابه من الكتاب والسنة. كما روي 
عن عمر رضي الله عنه أنه سأل سائل عن آيتين متعارضتين فعلاه بالدرة وكماروي عن 
مالك رحمه الله أنه سثل عن الاستواء فقال: الاستواء معلوم والإيمان به واجب» 
والكيفية مجهولة, والسؤال عنه بدعة. 


المقام الثاني : بين النظار الذين اضطربت عقائدهم المأثورة المروية» فينبغي أن 
يكون بحثهم بقدر الضرورة. وتركهم الظاهر بضرورة البرهان القاطم. ولا ينبغي أن 
يكفر بعضهم بعضاً بأن يراه غالطاً فيما يعتقده برهاناًء فإن ذلك ليس أمراً هيناً سهل 
المدرك وليكن للبرهان بينهم قانون متفق عليه يعترف كلهم بهء فإنهم إذا لم يتفقوا في 
الميزان لم يمكنهم رفع الخلاف بالوزن, وقد ذكرنا الموازين الخمسة في كتاب 


هم 


(القسطاس المستقيم). وهي التي لا يتصور الخلاف فيها بعد فهمها أصلاء بل يعترف 
كل من فهمها بأنها مدارك اليقين قطعاء والمحصلون لها يسهل عليهم عقد الإنصاف 
والانتصاف وكشف الغطاء ورفع الاختلاف. ولكن لا يستحيل منهم الاختلاف أيضاً إما 
لقصور بعضهم عن إدراك تمام شروطه . وإما في رجوعهم في النظر إلى محض القريحة 
والطبع دون الوزن بالميزان. كالذي يرجع بعد تمام تعلم العروض في الشعر إلى الذوق 
لاستثقاله عرض كل شعر على العروض فلا يبعد أن يغلطء ٠»‏ وإما لاختلافهم في العلوم 
التي هي مقدمات البراهين, فإن من العلوم التي هي اول البراهين تجريبية وتواترية 
وغيرهاء والناس يختلفون فى التجربة والتواتر فقد يتواتر عند واحد ما لايتواتر عند غيره» 
وقد يتولى تجربة مالا يتولاه غيره. وإما لالتباس قضايا الوهم بقضايا العقل. وإما 
لالتباس الكلمات المشهورة المحمودة بالضروريات والأوليات كما فصلنا ذلك فى كتاب 
(محكٌ النظر)» ولكن بالجملة إذا حصلوا تلك الموازين, وحققوها أمكنهم الوقوف عند 
ترك العناد على موقع الغلط على يسر 
فصل 
في التأويل بغلبات الظنون : 
من الناس من يبادر إلى التأويل بغلبات الظنون من غير برهان قاطع ولا ينبغي أن 
يبادر أيضاً إلى كفره في كل مقام بل ينظر فيهء فإن كان تأويله في أمر لا يتعلق بأصول 
العقائد ومعماتها فلا نكفره. وذلك كقول بعض الصوفية إن المراد برؤية الخليل عليه 
السلام الكوكب والقمر والشمس. وقوله هذا ربي غير ظاهرهاء بل هي جواهر نورانية 
5 ونورانيتها عقلية لا حسية ولها درجات في الكمال. ونسبة ما بينها في التفاوت 
كنسبة الكواكب والقمر والشمسء» ويستدل عليه بأن الخليل عليه السلام أجل من أن 
يعتقد في جسم أنه إله حتى يحتاج إلى أن يشاهد أفوله . أفترى أنه لولم يأفل أكان يتخذه 
إلهأء ولولم يعرف استحالة الإلهية من حيث كونه جسم مقدرأًء واستذلٌ بأنه كيف يمكن 
أن يكون أول مارآه الكوكب والشمس هي الأظهر وهي أول ما يرى . واستدل بأن الله 
تعالئ قال أوَلاً: ِوَكَذْلِك نْرِي إِيْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ آلسمْوَاتِ وَآلَأَرْض 076©. ثم حكى 


)١(‏ سورة الأنعام : الآية هلا 


اله 


هذا القول فكيف يمكن أن يتوهم ذلك بعد كشف الملكوت لهء وهذه دلالات ظنية 
وليست براهين . 

ما قوله. هو أجل من ذلك. فقد قبل إنه كان صبياً لما جرى له ذلك ولا يبعد أن 
يخطر لمن سيكون نبياً في صباء مثل هذا الخاطرء ثم يتجاوزه على قرب ولا يبعد أن 
تكون دلالة الافول على حدوث عنده أظهر من أدلّة التقدير والجسمية . 

وأما رؤية الكوكب أوَلاً فقد روي أنه كان محبوساً في صباء في غار وإنما خرج 
بالليل. 

وأما قوله تعالئ أوَلاً: «وكذلك ثري إبراهيم ملكوت السموات والأرض»» 
فيجوز أن يكون الله تعالى قد ذكر حال نهايته ثم رجع إلى ذكر بدايته ‏ فهذه وأمثالها ظنون 
يظنها براهين من لاا يعرف حقيقة البرهان وشرطه فهذا جنس تأويلهم . وقد تأولوا العصا 
والنعلين في قوله تعالى : ٠:‏ (فآخلع نغليك06». وقوله : ظوَآلْقٍ ما في يَمِينِكَ»9©). 
ولعلّ الظن في مثل هذه الامور التي لا تتعلق بأصول الاعتقاد تجري مجرى البرهان في 
ول الاعتقاد فلا يكفر فيه ولا يبدع . نعم إن كان فتح هذا الباب يؤدي إلى تشويش 
قلوب العوام فيبدع به خاصة صاحبه في كل ما لم يؤ ؤثر عن السلف ذكره. ويقرب منه قول 
بعض الباطنة أن عجل السامري مؤول إذ كيف يخلو خلق كثير عن عاقل يعلم أن المتخذ 
من الذهب لا يكون إلها؟ وهذا أيضاً ظن إذ لا يستحيل أن تنتهي طائفة من الناس إليه 
كعبدة ة الأصنام. وكونه نادراً لا يورث يقينا . 

وأماما تطلق من :هذا لحن باصيول الفقائد الحيكة افيد تكن من يخي الظاهز 
بغير برهان قاطع . كالذي ينكر حشر الأجساد وينكر العقوبات الحسية في الآخرة بظنون 
وأوهام واستبعادات من غير برهان قاطع , فيجب تكفيره قطعياً إذ لا برهان على استحالة 
رد الأرواح إلى الأجساد. وذكر ذلك عظم الضرر في الدين فيجب تكفير كل من تعلق به 
وهو مذهب أكثر الفلاسفة . وكذلك يجب تكفير من قال منهم إن الله تعالئ لا يعلم إلا 
نفسه, أو لا يعلم إلا الكلمات. فأمًا الأمور الجزئية المتعلقة بالأشخاص فلا يعلمها لأن 
ذلك تكذيب للرسول كَل قطعاً. وليس من قبيل الدرجات التي ذكرناها في التأويل إذ 
أدلة القرآن والأخبار على تفهيم حشر الأجساد وتفهيم تعلق علم الله تعالئ بتفصيل كل 
)١(‏ سورة طه: الآية .١5‏ 
(؟) سورة طه: الآية 568. 


/ا/ 


ما يجري على الأشخاص مجاوز حداً لا يقبل التأويل وهم معترفون بأن هذا ليس من 
التأويل» ولكن قالوا: لما كان صلاح الخلق في أن يعتقدوا حشر الأجساد لقصور 
عقولهم عن فهم المعاد العقلي وكان صلاحهم في أن يعتقدوا أن الله تعالى عالم بما 
يجري عليهم ورقيب عليهم ليورث ذلك رغبة ورهبة في قلوبهم. جاز للرسول عليه 
السلام أن يفهمهم ذلك وليس بكاذب من أصلح غيره. فقال ما فيه صلاحه وإن لم يكن 
كما قاله. وهذا القول باطل قطعاً لأنه تصريح بالتكذيب, ثم طلب عذراً في أنه لم 
يكذب, ويجب إجلال منصب النبوة عن هذه الرذيلة ففي الصدق وإصلاح الخلق به 
مندوحة عن الكذب, وهذه أول درجات الزندقة» وهي رتبة بين الاعتزال وبين الزندقة 
المطلقة, فإن المعتزلة يقرب منهاجهم من مناهج الفلاسفة إلا في هذا الأمر الواحدء 
وهوأن المعتزلي لا يجوز الكذب على الرسول عليه السلام بمثل هذا العذر. بل يؤول 
الظاهر مهما ظهر له بالبرهان خلافه. والفلسفي لا يقتصر على مجاوزته للظاهر على 
يقبل التأويل على قرب أو على بعد. 

وأمّا الزندقة المطلقة فهو أن تنكر أصل المعاد عقلياً وحسياً. وتنكر الصائع 
للعالم أصلاً ورأساً. 

وأما إثبات المعاد بنوع عقلي مع نفي الآلام واللذات الحسيّة وإثبات الصانع مع 
نفي علمه بتفاصيل العلوم فهي زندقة مقيدة بنوع اعتراف بصدق الانبياء وظاهر ظني - 
والعلم عند الله أن هؤلاء هم المرادون بقوله عليه الصلاة والسلام: «ستفترق أمتي 
بضعا وسبعين فرقة كلهم في الجنة إلا الزنادقة وهي فرقة» . , هذا لقا الحديثة في يعن 
الروايات وظاهر الحديث يدل على أنه أراد به الزنادقة من امتهء إذ قال: «ستفترق 
أمتي»» ومن لم يعترف بنبوته ليس من مه والذين ينكرون أصل المعاد واأصل الصانع 
فليسوا معترفين بنبوته إذ يزعمون أن الموت عدم محض. وأن العالم لم يزل كذلك 
موجوداً بنفسه من غير صانع ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر. وينسبون الأنبياء إلى 
التلبيس فلا يمكن نسبتهم إلى الآمة. فإذاً لا معنى لزندقة هذه الأمة إلا ما ذكرناه. 

فصل 

في بيان الزندقة المطلقة : 

اعلم أن شرح ما يكفر به وما لا يكفر به يستدعي تفصيلاً طويلاً يفتقر إلى ذكر كل 


44 


المقاللات والمذاهب. وذكر شبهة كل واحد, ودليله ووجه بعده عن الظاهر ووجه 
تأويله, وذلك لا يحويه مجلدات ولا تتسع لشرح ذلك أوقاتي فاقنع الآن بوصية وقانون. 

أمَا الوصية : فأن تكف لسانك عن أهل القبلة ما أمكنك ما داموا قائلين لا إله إلا 
الله محمد رسول الله غير مناقضين لها. والمناقضة تجويزهم الكذب على رسول الله يقد 
بعذر أو غير عذر. فإن التكفير فيه خطر والسكوت لا خطر فيه . 

وأمَا القانون: فهو أن تعلم أن النظريات قسمان: قسم يتعلق بأصول القواعد. 
وقسم يتعلق بالفروع , رارك الإيمان ثلاثة : الإيمان بالله وبرسوله وباليوم الآخر وما 
عداه فروع . واعلم أنه لا تكفيرة في الفروع أصلاً إل في مسألة واحدة وهي أن ينكر أصلا 
دينباً علم من الرسول وق بالتواترء لكن في بعضها تخطئة كما في الفقهيات وفي بعضها 
تبديع كالخطأ المتعلق بالإمامة وأحوال الصحابة . 

واعلم أن الخطأ في أصل الإمامة وثعينها وشروطها وما يتعلّق بها لا يوجب شيء 
منه تكفيرا. فقد أنكر ابن كيسان أصل وجوب الإمامة ولا يلزم تكفيره ولا يلتفت إلى قوم 
يعظمون أمر الإمامة ويجعلون الإيمان بالإمام مقرونا بالإيمان بالله وبرسولهء ولا إلى 
خصومهم المكفرين لهم بمجرد مذهبهم في الإمامة فكل ذلك إسراف إذ ليس في واحد 
من القولين تكذيب للرسول كَل أصلاء ومهما وجد التكذيب وجب التكفير وإن كان في 
الفروع . فلو قال قائل مثلاً: البيت الذي بمكة ليس الكعبة التي أمر الله تعالئ بحجها 
فهذا كفر إذ قد ثبت تواتراً عن رسول الله ككل خلافه. ولو أنكر شهادة الرسول لذلك 
البيت بأنه الكعبة لم ينفعه إنكاره. بل يعلم قطعاً أنه معاند في إنكاره إلا أن يكون قريب 
عهد باللإسلام, ولم يتواتر عنده ذلك. وكذلك من نسب عائشة رضي الله عنها إلى 
الفاحشة. وقد نزل القرآن ببراءتها فهو كافر لأن هذا وأمثاله لا يمكن إلا بتكذيب الرسول 
أو إنكار التواترء والتواتر ينكره الإنسان بلسانه ولا يمكنه أن يجهله بقلبه. نعم لو انكر 
ما ثبت بأخبار الأحاد فلا يلزمه به الكفر ولو أنكر ما ثبت بالإجماع. فهذا فيه نظر لأن 
معرفة كون الإجماع حببجة قاطعة فيه غموض يعرفه المحضّلون لعلم أصول الفقه . وأنكر 
النظام كون الإجماع حبّة أصل فصار كون الإجماع حجة مختلف فيه فهذا حكم 
الفروع . 

وأما الأصول الثلاثة: وكل ما لم يحتمل التأويل في نفسه وتواتر نقلهء ولم يتصور 
أن يقوم برهان على خلافه فمخالفته تكذيب محض . ومثاله ما ذكرناه من حشر الأجساد 


/13 


والجنة والنار وإحاطة علم الله تعالئ بتفاصيل الأمور وما يتطرق إليه احتمال التأويل ولو 
بالمجاز البعيد فينظر فيه إلى البرهان فإن كان قاطعاً وجب القول به ولكن إن كان في 
إظهاره مع العوام ضرر لقصور ف فهمهم فإظهاره بدعة وإن لم يكن البرهان قطعياً لكن يفيد 
ا ا ا 
فهذه بدعة وليس بكفر. 

وأما ما يظهر له ضرر فيقع في محل الاجتهاد والنظر فيحتمل أن يكفر ويحتمل أن 
الله تعالئ أسقطت عنه الصلاة وحلّ له شرب الخمرة والمعاصي وأكل مال السلطان. 
فهذا ممن لا شك في وجوب قتله وإن كان في الحكم بخلوده في النار نظرء وقتل مثل 
هذا أفضل من قتل مائة كافر إذ ضرره في الدين أعظم وينفتح به باب من الإباحة لا ينسد 
وضرر هذا فوق ضرر من يقول بالإباحة مطلقاً فإنه يمنع عن الإصغاء إليه لظهور كفره. 
وأما هذا فإنه يهدم الشرع من الشرع. ويزعم أنه لم يرتكب فيه إلا تخصيص عموم إذ 
خصص عموم التكليفات بمن ليس له مثل درجته في الدين» وربما يزعم أنه يلابس 
ويقارف المعاصي بظاهره وهو بباطنه بريء عنه . ويتداعى هذا إلى أن يدعي كل فاسق 
مثل حالة وينحل به عصام الدين. ولا ينبغي أن يظن أن التكفير ونفيه ينبغي أن يدرك 
قطعا في كل مقام, بل التكفير حكم شرعي يرجع إلى إباحة المال وسفك الدم والحكم 
بالخلود في النار. فمأخذه كمأخذ سائر الأحكام الشرعية . فتارة يدرك بيقين وتارة بظن 
غالبء وتارة يتردد فيهء ومهما حصل تردد فالوقف فيه عن التكفير أولى . والمبادرة إلى 
التعفير إلها "نعلت على طباع من يغلت عليهم الجهل: ولا بد من التنبيه على قاعدة 
أخرى وهو أن المخالف قد يخالف نصاً متواتراً ويزعم أنه مؤول» ولكن ذكر تأويله 
لا انقداح له أصلاً في اللسان لاعلى بعد ولا على قرب . فذلك كفر. وصاحبه مكذب 
وإن كان يزعم أنه مؤول. مثاله: ما رأيته في كلام بعض الباطنية أن الله تعالى واحد 
بمعنى أنه يعطي الوحدة ويخلقها. وعالم بمعنى أنه يعطي العلم لغيره ويخلقه. وموجود 
بمعنى أنه يوجد غيره: وإما أن يكون واحدأ في نفسه وموجودا وعالما على معنى اتصافه 
فلا. وهذا كفر صراح لأن حمل الوحدة على اتحاد الوحدة ليس من التأويل في شيء 
ولا تحتمله لغة العرب أصلا. ولوكان خالق الوحدة يسمى واحداً لخلقه الوحدة لسمي 
ثلاثاً وأربعاً لأنه خلق الأعداد أيضاً. فأمثلة هذه المقالات تكذيبات عبّر عنها 
بالتأويلات . 


فصل 
النظر في التكفير: 

قد فهمت من هذه التكفيرات أن النظر في التكفير يتعلق بأمور: 

أحدها: أن النص الشرعي الذي عدل به عن ظاهره هل يحتمل التأويل أم لا؟ فإن 
احتمل فهل هو قريب أم بعيد؟ ومعرفة ما يقبل التأويل» وما لا يقبل التأويل ليس بالهين 
بل لا يستقلّ به إلا الماهر الحاذق في علم اللغة العارف بأصولهاء ثم بعادة العرب في 
الاستعمال في استعاراتها وتجوزاتها ومنهاجها في ضروب الأمثال. 

الثاني : في النصّ المتروك أنه ثبت تواتراً أو آحاداً أو بالإجماع المجرد. فإن ثبت 
تواترأ فهو على شرط التواتر أم لا؟ إذ ربما يظن المستفيض تواتراً. وحدّ التواتر ما لا 
يمكن الشك فيه كالعلم بوجود الأنبياء ووجود البلاد المشهورة وغيرهاء وأنه متواتر في 
الأعصار كلها عصراً بعد عصر إلى زمان النبوة» فهل يتصور أن يكون قد نقص عدد 
التواتر في عض رمن الأعضار؟ وشرط التواتر أن لا يحتمل ذلك كما في القرآن. أما في 
غير القرآن فيغمض مدرك ذلك جداً ولا يستقل بإدراكه إلا الباحثون عن كتب التواريخ 
وأحوال القرون الماضية وكتب الأحاديث وأحوال الرجال وأغراضهم في نقل المقالات. 
إذ قد يوجد عدد التواتر في كل عصر ولا يحصل به العلم إذ كان يتصور أن يكون للجمع 
الكثير رابطة في 0 التعصب بين أرباب المذاهب, ولذلك ترى 
الروافض يدّعون النص على علي بن أب بي طالب رضي الله عنه. في الإمامة لتوائره 
عندهم. وتواتر عند خصومهم في أقباء مكيترة خلاف ماتواتر عندهم لشدة توافق 
الروافض على إقامة أكاذيبهم واتباعها. 

وأماما يستند إلى الإجماع فدرك ذلك من أغمض الأشياء إذ شرطه أن يجتمع أهل 
الحل والعقد في صعيد واحد. فيتفقوا على أمر واحد اتفاقاً بلفظ صريح . ٠‏ ثم يستمروا 
عليه مرة عند قوم وإلى تمام انقراض العصر عند قوم . أو بكاتبهم إمام في أقطار الأرض 
فيأخذ فتاويهم في زمان واحد بحيث تتفق أقوالهم اتفاقاً صريحاً حتى يمتنع الرجوع عنه 
والخلاف بعده. ثم النظر في أن من خالف بعده هل يكفر؟ لأن من الناس من قال إذا جاز 
في ذلك الوقت أن يختلفوا فيحمل توافقهم على اتفاق ولا يمتنع على واحد منهم أن 


4١ 


يرجع بعد ذلك, وهذا غامض أيضاً. 

الثالث : النظر في أن صاحب المقال هل تواتر عنده الخبر, أو هل بلغه الإجماع؟ 
إذ كل من يولد لا تكون الأمور عنده متواترة» ولا موضع الإجماع عنده متميزة عن مواضع 
الخلاف. وإنما يدرك ذلك شيئاً فشيئاًء وإنما يعرف ذلك من مطالعة الكتب المصنفة في 
الاختلاف والإجماع للسلف. ثم لا يحصل العلم في ذلك بمطالعة تصنيف ولا تصنيفين 
إذ لا يحصل تواتر الإجماع به. وقد صنّف أبو بكر الفارسي رحمه الله كتاباً في مسائل 
الإجماع وأنكر عليه كثير منه وخولف في بعض المسائل» فإذأ من خالف الإجماع ولم 
يثبت عنده بعد فهو جاهل مخطىء وليس بمكذب فلا يمكن تكفيره. والاستقلال بمعرفة 
التحقيق في هذا ليس بيسير. 

الرابع : النظر في دليله الباعث له على مخالفة الظاهر أهو على شرائط البرهان 
أم لا؟ ومعرفة شرط البرهان لا يمكن شرحها إلا في مجلدات., وما ذكرنا في كتاب 
(القسطاس المستقيم)؛ وكتاب (محكٌ النظر) أنموذج منه وتكل قريحة أكثر فقهاء الزمان 
عن قصّ شروط البرهان على الاستيفاء. ولا بد من معرفة ذلك فإن البرهان إذا كان قاطعا 
رخص في التأويل وإن كان بعيداً. فإذا لم يكن قاطعاً لم يرخص إلا في تأويل قريب 
سابق إلى الفهم . 

الخامس : النظر في أن ذكر تلك المقالة هل يعظم ضررها في الدين أم لا؟ فإن 
ما لا يعظم ضرره في الدين فالأمر فيه أسهل وإن كان القول شنيعاً وظاهر البطلان كقول 
الإمامية المنتظرة أن الإمام مختف في سرداب فإنه ينتظر خروجه. فإنه قول كاذب ظاهر 
البطلان شنيع جداء ولكن لا ضرر فيه على الدين إنما الضرر على الأحمق المعتقد 
لذلك إذ يخرج كل يوم من بلده لاستقبال الإمام حتى يدخل فيرجع إلى بيته خاسثاء 
وهذا مثال. والمقصود أنه لا ينبغي أن يكفر بكل هذيان وإن كان ظاهر البطلان. فإذا 
فهمت أن النظر في التكفير موقوف على جميع هذه المقامات التي لا يستقل بآحادها 
المبرزون علمت أن المبادر إلى تكفير من يخالف الأشعري أو غيره جاهل مجازف» 
وكيف يستفلٌ الفقيه بمجرد الفقه بهذا الخطب العظيم وفي أي ربع من أرباع الفقه 
يصادف هذه العلوم. فإذا رأيت الفقيه الذي بضاعته مجرد الفقه يخوض في التكفير 
: والتضليل فأعرض عنه ولا تشغل به قلبك ولسانك. ؛ فإن التحدي بالعلوم غريزة ة في الطبع 
لا يصبر عنه الجهال ولأجله كثر الخلاف بين الناس ولو ينكث من الأيدي من لا يدري 
لقلّ الخلاف بين الخلق. 

4 


فصل 
في حكم عوام المسلمين : 
من أشدٌ الناس غا غلوا وإسرافاً طائفة من المتكلمين كفروا عوام المسلمين وزعموا 
أن من لا يعرف الكلام معرفتنا ولم يعرف العقائد الشرعية بأدلّتنا التي حررناها فهو كافرء 
فهؤلاء ضيقوا رحمة الله الواسعة على عباده أوّلاء وجعلوا الجنة وفقاً على شرذمة يسيرة 
من المتكلمين ثم جهلوا ما تواتر من السنة ثانيأ إذ ظهر لهم في عصر رسول الله يل 
وعصر الصحابة رضي الله عنهم حكمهم بإسلام طوائف من أجلاف العرب 
كانوامشغولين بعبادة الوثئن ولم يشتغلوا بعلم الدليل. ولو اشتغلوا به لم يفهموه ومن ظن 
أن مدرك الإيمان الكلام والأدلة المجرّدة والتقسيمات المرتبة فقد أبدع حدّ الإبداع. بل 
الإيمان نور يقذفه الله في قلوب عبيده عطية وهدية من عنده. تارة ببينة من الباطن 
لا يمكنه التعبير عنهاء وتارة بسبب رؤيا في المنام. وتارة بمشاهدة حال رجل متدين 
وسرابة انور إليه عند لمعته وجب الشتة: وتارة بقرينة حال. فقد جاء أعرابي إلى 
النبيّ كل جاحداً به منكرا. ذ فلمًا وقع بصره عى طلعته البهية زادها الله شرفاً وكرامة» 
فرآها يتلألا منها أنوار النبوة. قال: والله ما هذا بوجه كذاب. وسأله أن يعرض عليه 
الإسلام فاسلم. وجاء أخر إليه عليه الصلاة والسلام وقال: أنشدك اللهء الله بعثك نبياً؟ 
فقال عليه الصلاة والسلام : [ي والله» الله بعثني نبياً . فصدقه بيمينه وأسلم. وهذا وأمثاله 
أكثر من أن يحصى ولم يشتغل واحد منهم بالكلام وتعليم الأدلّة, بل كان يدونور 
الإيمان بمثل هذه القرائن في قلوبهم لمعة بيضاء ثم لا تزال تزداد إشراقاً بمشاهدة تلك 
الأحوال العظيمة وتلاوة القرآن وتصفية القلوب. فليت شعري متى نقل عن 
رسول الله ككِةٍ أوعن الصٌحابة رضي الله عنهم إحضار إعرابي أسلم وقوله له الدليل على 
أن العالم حادث أنه لا يخلوعن الاعراض. وما لا يخلو عن الحوادث حادث, وإن الله 
تعالى عالم بعلم وقادر بقدرة زائدة عن الذات لا هي هو ولا هي غيره»؛ إلى غير ذلك من 
رسوم المتكلمين . 
ولست أقول لم تجر هذه الألفاظ. ولم يجر أيضاً ما معناه معنى هذه الأألفاظء بل 
كان لا تنكشف ملحمة إلا عن جماعة من الأجلاف يسلمون تحت ظلال السيوف» 


ك3 


وجماعة من الأسارى يسلمون واحداً واحداً بعد طول الزمان أو على القرب. وكانوا إذا 
نطقوا بكلمة الشهادة علموا الصلاة والزكاة وردوا إلى صناعتهم من رعاية الغنم وغيرهاء 
نعم. لست أنكر أنه يجوز أن يكون ذكر أدلّة المتكلمين أحد أسباب الإيمان في حقٌّ 
بعض الناس.» ولكن ليس ذلك بمقصور عليه وهو أيضاً نادر» بل الأنفع الكلام الجاري 
في معرض الوعظ كما يشتمل عليه القرآن. فأمًا الكلام المحرر على رسم المتكلمين 
فإنه يشعر. تفوس المستتمعين بان 'قيه صبتعة دل ليعجز عنه العامي لا لكونه قا فى 
نفسة : وريها بكرن ذلك سبباً لرسوخ العناد في قلبه. ولذلك لا ترى مجلس مناظرة 
للمتكلمين ولا للفقهاء يتكشف عن واحد انتقل من الاعتزال أو بدعة إلى غيره؛ ولا عن 
مذهب الشافعي إلى مذهب أبي حنيفة ولا على العكس. وتجري هذه الانتقالات 
بأسباب أخر حتى في القتال بالسيف. ولذلك لم تجر عادة السلف بالدعوة بهذه 
المجادلات» بل شدّدوا القول على من يخوض في الكلام ويشتغل بالبحث والسؤال» 
وإذا تركنا المداهنة ومراقبة الجانب صرحنا بأن الخوض في الكلام حرام لكثرة الآفة فيه 
إلا لأحد شخصين : 


رجل : وقعت له شبهة ليست تزول عن قلبه بكلام ريب وعظي ولا بخبر نقلي عن 
رسول الله فيجوز أن يكون القول المرتب الكلامي رافعاً شبهته ودواء له في مرضهء 
فيستعمل معه ذلك ويحرس عنه سمع الصحيح الذي ليس به ذلك المرض فإنه يوشك 
أن يحرك في نفسه إشكالاً ويثيرله شبهة تمرضه وتستنزلهعن اعتقاده المجزوم الصحيح . 

والثاني : شخص كامل العقل راسخ القدم في الدين ثابت الإيمان بأنوار اليقين 
يريد أن يحصل هذه الصنعة ليداوي بها مريضاً إذا وقعت له شبهة. وليفحم بها مبتدعاً إذا 
نبغ وليحرس به معتقده إذا قصد مبتدع اغواءه. فتعلم ذلك بهذا العزم كان من فروض 
الكفايات, وتعلم قدر ل ا ا 0 
لم يمكن إعادة اعتقاده المجزوم بطريق آخر سواه. والحقٌ الصريح أن كل من 
م 0 
لم يعرف أدلّته بل الإجمان المستفاد من الدليل الكلامي مبعل يدا مشرف على 
التزاول بكل شبهة بل الإيمان الراسخ إيمان العوام الحاصل في قلوبهم في الصبا بتواتر 
السماع أو الحاصل بعد البلوغ بقرائن أحوال لا يمكن التعبير عنها وتمام تأكده بلزومه 
العبادة والذكرء فإن من تمادت به العبادة إلى حقيقة التقوى وتطهير الباطن عن كدورات 


4:4 


الدنيا وملازمة ذكر الله تعالئ دائماً تجلت له أنوار المعرفة وصارت الأمور التي كان قد 
أخذها تقلنداً عنده كالمعاينة والمشاهدة. وذلك حقيقة الفخرد الى تتا |3 بعد 
انحلال عقدة الاعتقادات وانشراح الصدر ينور الله تعالى : + «فمنْ يرد الله أنْ يَهَدِيَهُ 
يَشْرَحْ صِدْرَهُ للإسلام, فْهُوٌ عَلَى نُورٍ مِنْ رَنُهه (2. كما سثل رسول الله كلد عن معنى 
شرح الصدر فقال: «نور يقذف في قلب. المؤمن». فقيل : وما علامته؟ قال: : «التجافي 
عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود». فبهذا يعلم أن المتكلم المقبل على الدنيا 
المتهالك عليها غير مدرك حقيقة المعرفة ولو أدركها لتجافى عن دار الغرور قطعا 
فصل 

في بعث النار : 

لعلّك تقول أنت تأخذ التكفير من التكذيب للنصوص الشرعية . والشارع صلوات 
الله عليه هو الذي ضيق الرحمة على لخلق دون المتكلم » إذ قال عليه السلام : «يقول الله 
تعالئ لآدم عليه السلام يوم القيامة: يا آدم ابعث من ذريتك بعث النار. فيقول: يا رب 
من كم؟ فيقول : : من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين»6. وقال عليه الصلاة والسلام : 
وستفترق أمَتي على نيف وسبعين فرقة» الناجية منها واحدة» . 

الجواب: أن الحديث الأول صحيح , ولكن ليس المعنى به أنهم كفار مخلدون 
بل إنهم يدخلون النار ويعرضون عليها ويتركون فيها بقدر معاصيهم., والمعصوم من 
البدامي يكرد في الألف إلا واعسدا: وكذلك قال الله تعالى: «وإن منكم إلا 
واردهاها؛ “ثم بعث النار عبارة عمن استوجب النار بذنوبه ويجوز أن يصرفوا عن طريق 
جهنم بالشتفاعة كما وردت به الأخبار. وتشهد له الأخبار الكثيرة الدالة على سعة رحمة 
الله تعالئى. وهي أكثر من أن تحصى . 

فمنها ما روي عن عائشة رضي الله عنهاء أنها قالت: فقدت النبي كل يه ذات ليلة 
فابتغته فإذا هو في مشربه يصلي . فرأيت على رأسه أنواراً ثلاثة فلما قضى صلاته» قال: 
مهيم من هذه؟ قلت: أنا عائشة يا رسول الله قال: أرأيت الأنوار الثلائة؟. قلت: : نعم 
يا رسول الله قال: إِنْ آتِ أتاني من ربي فبشرني أن الله تعالئ يدخل الجنة من أمتي 
)١(‏ سورة النور: الآية 77 وتصويب الآية: «وأفمن شرح الله صدره للاسلام فهو على نور من ربه». 
(؟) سورة مريم : الآية 1/و. 


م6 


سبعين ألفاً بغير حساب ولا عذابء ثم أتاني في النور الثاني آتِ من ربي فبشرني أن الله 
تعالئ يدخل الجئة من أمّتي مكان كل واحد من السبعين ألفاً سبعين ألفاً بغير حساب ولا 
عذاب, ثم أتاني في النور الثالث آتِ من ربي فبشرني أن الله تعالى يدخل الجنة من 
متي مكان كل واد هن السبعين ألفا المشاعفة تتبعين الفا بغير حساب ولا عذاب» 
فقلت:٠‏ يا رسول الله لا تبلغ أمتنك هذا » قال: يكملون لكم من الأعراب ممن لا يصوم 
ولا يصلي , فهذا وأمثاله من الأخبار الدالة على سعة رحمة الله تعالى كثير» فهذا في أمّة 
محمد يْقِ خاصّة. وأنا أقول : إن الرحمة تشمل كثيراً من الآمم السالفة وإن كان أكثرهم 
يعرضون على النار. أما عرضة خفيفة حتى في لحظة أو ساعة, وإِما في مدة حتى يطلق 
عليهم اسم بعث النارء بل أقول: إن أكثر نصارى الروم والترك في هذا الزمان تشملهم 
الرحمة إن شاء الله تعالى . أعني الذين هم في أقاصي الروم والترك ولم تبلغهم الدعوة, 
فإنهم ثلاثة أصناف: صنف لم يبلغهم اسم محمّد كَل أصلاً فهم معذورون. وصنف 
بلغهم اسمه ونعته وما ظهر عليه من المعجزات وهم المجاورون لبلاد الإسلام 
والمخالطون لهم وهم الكفار الملحدون. وصنف ثالث بين الدرجتين بلغهم اسم 
محمد ولك ولم يبلغهم نعته وصفته. بل سمعوا أيضاً منذ الصبا أن كذاباً ملبساً اسمه 
محمد ادّعى النبوة. كما سمع صبياننا أن كذاباً يقال له المقفع بعثه الله تحدى بالنبوة 
كاذياً, فهؤلاء عندي في أوصافه في معنى الصنف الأول فإنهم مع أنهم لم يسمعوا اسمه 
سمعوا ضد أوصافه, وهذا لا يحرك داعية النظر في الطلب. 


وأمًا الحديث الآخرء وهو قوله: الناجية منها واحدة. فالرواية مختلفة فيه. فقد 
روى الهالكة منها واحدة ولكن الأشهر تلك الرواية» ومعنى الناجية هي التي لا تعرض 
على النارء ولا تحتاج إلى الشفاعة بل الذي تتعلق به الزبانية لتجره إلى النار فليس 
بناج على الإطلاق وإن انتزع بالشفاعة من مخاليبهم. وفي رواية: كلّها في الجنة إلا 
الزنادقة وهي فرقة . ويمكن أن تكون الروايات كلّها صحيحة فتكون الهالكة واحدة هي 
التي تخلد في النارء ويكون الهالك عبارة عمن وقع الياس من صلاحه لأن الهالك 
لا يرجى له بعد الهلاك خير وتكون الناجية واحدة وهى .التي تدخخل الجنة بغير حساب ولا 
شفاعة لآن من نوقش الحساب فقد عذب فليس بناج إذاً. ومن عرض للشفاعة فقد عرض 
للمذلة فليس بناج أيضاً على الإطلاق» وهذان طريقان وهما عبارتان عن شرٌ الخلق 
وخخيره. وباقي الفرق كلهم بين هاتين الدرجتين: فمنهم من يعذب بالحساب فقط. 


ف 


ومنهم من يقرب من النار ثم يصرف بالشفاعة, ومنهم من يدخل النار ثم يخرج على قدر 
خطاياهم في عقائدهم وبدعتهم وعلى كثرة معاصيهم وقلتها. فأمًا الهالكة المخلدة في 
النار مع هذه الأمة فهي فرقة واحدة وهي التي كذبت وجوزت الكذب على رسول الله يَف 
بالمصلحة . 

وأما من سائر الأمم. فمن كذبه بعد ما قرع سمعه التواتر عن خروجه وصفته 
ومعجزته الخارقة للعادة كشقٌ القمر وتسبيح الحصى ونبع الماء من بين أصابعه والقرآن 
المعجز الذي تحدّى به أهل الفصاحة وعجزوا عنه. فإذا قرع ذلك سمعه فأعرض عنه 
وتولّى ولم ينظر فيه ولم يتأمّل ولم يبادر إلى التصديق. فهذا هو الجاحد الكاذب وهو 
الكافر. ولا يدخل في هذا أكثرالروم والترك الذين بعدت بلادهم عن بلاد المسلمين» 
بل أقول من قرع سمعه هذا فلا بد أن تنبعث به داعية الطلب ليستبين حقيقة الأمر إن كان 
من أهل الدين ولم يكن من الذين استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة. فإن لم تنبعث هذه 
الداعية فذلك لركونه إلى الدنيا وخلوه عن الخوف وخطر أمر الدين وذلك كفرء. وإن 
انبعثت الداعية فقصر في الطلب فهو أيضاً كفر بل ذو الإيمان بالله واليوم الآخر من أهل 
كل ملة لا يمكنه أن يفتر عن الطلب بعد ظهور الميقايل بالاسنات الخارقة للعادة. فإن 
اشتغل بالنظر والطلب ولم يقصر فأدركه الموت قبل تمام التحقيق فهو أيضاً مغفور له ثم 
له الرحمة الواسعة. فاستوسع رحمة الله تعالى ولا تزن الأمور الإلهية بالموازين 
المختصرة الرسمية . 

واعلم أن الآخرة قريب من الدنيا فما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة. فكما 
أن أكثر أهل الدنيا في نعمة وسلامة أو في حالة يغبطها إذ لو خيّر بينها وبين الإماتة 
والإعدام مثلاً لاختارهاء وإنما المعذب الذي يتمنى الموت نادرء قكذلك المخلدون 
في النار بالإضافة إلى الناجين والمخرجين منها في الاخرة نادر. فإن صفة الرحمة 
لا تنغير باختلاق أحوالها. وإنما الدنيا والآخرة عبارتان عن اختلاف أحوالك ولولا . هذا 
لما كان لقوله عليه الصلاة والسلام معنى » حيث قال : «أول ما خط الله في الكتاب الأول 


أنا الله لا إله إلا أنا سبقت رحمتي غضبي فمن شهد أن لا إله إلا الله وأنْ محمّدا عبده 
ورسوله. فله الجنة». 


واعلم أن أهل البصائر قد انكشف لهم سبق الرحمة وشمولها بأسباب ومكاشفات 


/ا3 


المطلقة إن جمعت بين الإيمان والعمل الصالح . وبالهلاك المطلق إن خلوت عنهما عنهما 
حا وإن كنت ضاحت يفن , في أصل التصديق وصاحب خطأ في , بعض التأويل.» أو 
ماحت فبك فهماء أو صاحب خلط في الأعمال» فلا تطمع في النجاة المطلقة . 


واعلم, » أنك بين أن تعذب مدة ثم تخلى , وبين أن يشفع فيك من تيقنت صدقه 
في جميع ما جاء به أو غيره. فاجتهد أن يغنيك الله بفضله عن شفاعة الشفعاء فإن الأمر 


في ذلك مخطر. 
فصل 

قد ظنْ بعض الناس أن مأخذ التكفير من العقل لا من الشرع. وأن الجاهل بالله 
كافر والعارف به مؤمن. فيقال له: الحكم بإباحة الدم والخلود في النار حكم شرعي 
لا معنى له قبل ورود الشرعء وإن أراد به أن المفهوم من الشارع أن الجاهل بالله هو 
الكافر. فهذا لا يمكن حصره فيه لأن الجاهل بالرسول وبالآخرة أيضاً كافر. ثم إن 
خصص ذلك بالجهل بذات الله تعالئ بجحد وجوده أو وحدانيته ولم يطرده في الصفات 
فربما سوعد عليه وإن جعل المخطىء ء في الصفات أيضاً جاهلا أو كافراً لزمه تكفير من 
ني صفة البقاء وصفة القدم. ومن نفي الكلام وصفاً زائداً على العلم, ؛ ومن نفي السمع 
والبصر زائداً على العلم, ومن نفي جواز الرؤية. ومن أثبت الجهة وأثبت إرادة حادثة 
لا في ذاته ولا في محل وتكفير المخالفين فيه. وبالجملة يلزمه التكفير فى كل مسألة 
صعلق تصلفات" الله تعالئ وذلك بتكم لآ مسنند له.:وإن غصصن يبعش الصفات دون 
بعض لم يجد لذلك فصلا ومرداء ولا وجه له إلا الضبط بالتكذيب ليعم المكذب 
بالرسول وبالمعاد. ويخرج منه المؤول. ثم لا يبعد أن يقع الشك والنظر في بعض 
المسائل من جملة التأويل أو التكذيب حتى يكون التأويل بعيداً ويقضى فيه بالظن 
وموجب الاجتهاد. فقد عرفت أن هذه مسألة اجتهادية . 


من الناس من قال إنما أكفر من يكفرني من الفرق. ومن لا يكفرني فلا. وهذا 
لا مأخذ له. فإن قال قائل على رضي الله عنه أولى بالإمامة إذا لم يكن كفرا فبأن يخطىء 
صاحبه. ويظن أن المخالف فيه كافر لا يصير كافرأًء وإنما هو خطا في مسألة شرعية ‏ 


48 


وكذلك الحنبلي إذا لم يكفر بإثبات الجهة فلم يكفر بأن يغلط أو يظن أن نافي الجهة 
مكذب وليس بمتأول ‏ وأما قول رسول الله كَل : «إذا قذف أحد المسلمين صاحبه 
بالكفر فقد باء به أحدهماء». معناه أن يكفره مع معرفته بحاله فمن عرف من غيره أنه 
مصدق لرسول الله كل ثم يكفره فيكون المكفر كافراً. فأما إن كفره لظنه أنه كذب 
الرسول فهذا غلط منه فى حال شخص واحد.ء إذ قد يظن به أنه كافر مكذب وليس كذلك 
وهذا لا يكون كفراً. فقد أفدناك بهذه الترديدات التنبيه على أعظم الغور في هذه القاعدة 
وعلى القانون الذي ينبغي أن يتبع فيه. فاقنع به والسلام . 


44 


أيها الوّلّد 


سه إن الم نآ يميم 


خطبة الرسالة: 

الحمد لله ربٌ العالمين, والعاقبة للمتقين, والصلاة والسلام على نبيّه محمّد وآله 

اعلم. أن واحداً من الطلبة المتقدّمين لازم خدمة الشيخ الإمام زين الدين حجة 
الإسلام أبي حامد محمد بن محمد الغزالي قدّس الله روحه واشتغل بالتحصيل وقراءة 
العلم عليه حتى جمع من دقائق العلوم » واستكمل من فضائل النفسء ٠‏ ثم إنه فكر يوماً 
في حال نفسه وخطر على باله. فقال: إفي قرأت أنواعاً من العلوم ' وصرفت ريعان 
عمري على تعلمها وجمعها . فالآن ينبغي أن أعلم أي نوعها ينفعني غداً ويؤانسني في 
قبري وأيها لا ينفعني حتى أتركه, فقد قال رسول الله يكل : «اللهم إني أعوذ بك من علم 
لا يتفع». فاستمرت له هذه الفكرة حتى كتب إلى حضرة الشيخ حجة الإسلام محمد 
الغزالي رحمة الله تعالئ عليه استفتاءً. وسأل عنه مسائل والتمس منه نصيحة ودعاء. 
وقال:وإن كان مصنفات الشيخ كالإحياء وغيره يشتمل على جواب مسائلي لكن 
مقصودي أن يكتب الشيخ حاجتي في ورقات تكون معي مدة حياتي وأعمل بما فيها مدى 
عمري إن شاء الله تعالى » فكتب الشيخ هذه الرسالة إليه في جوابه, والله أعلم . 

اعلم أيها الولد المحب أطال الله بقاءك بطاعته؛ وسلك بك سبيل أحبائه أن منشور 
النصيحة يكتب من معدن الرسالة عليه السلام إن كان قد بلغك منه نصيحة فأي حاجة 
لك في نصيحتي , وإن لم يبلغك منه فقل لي ماذا حصلت في هذه السنين الماضية . 

أيها الولد: من جملة ما نصح به رسول الله يك أمته قوله : «علامة إعراض الله عن 
العبد اشتغاله بما لا يعنيه وإنامرءا ذهبت ساعة من عمره في غير ما خلق له لجدير أن 
تطول عليه حسرته ومن جاوز الأربعين ولم يغلب خيره شره فليتجهز إلى الناره. وفي هذه 
النصيحة كفاية لأهل العلم. 


أيها الولد: النصيحة سهلة والمشكل قبولها لأنها في مذاق متبعي الهوى مرة إذ 
المناهي محبوبة في قلوبهم وعلى الخصوص لمن كان طالب العلم الرسمي مشتغل في 
فصل النفس ومناقب الدنياء فإنه يحسب أن العلم المجرد له سيكون نجاته وخلاصه 
فيه وإنه مستغن عن العمل وهذا اعتقاد الفلاسفة ‏ سبحان الله العظيم لا يعلم 
هذاالقدر أنه حين حصل العلم إذا لم يعمل به تكون الحجة عليه آكد. كما قال 
رصول الله يل : «أشدّ الناس عذاباً يوم القيامة عالم لا ينفعه الله بعلمه». 

وروي أن الجنيد قدّس الله سره رئى في المنام بعد موته. فقيل له : ما الخبر يا أبا 
القاسم؟ قال: طاحت تلك العبارات. وفنيت تلك الإشارات وما نفعنا إلا ركيعات 
ركعناها في جوف الليل . 

أيها الولد: لا تكن من الأعمال مفلساً. ولا من الأحوال ,خالياً وتيقن أن العلم 
المجرد لا يأخذ اليد, مثاله : لوكان على رجل في برية عشرة أسياف هندية مع أسلحة 
أخرىء وكان الرجل شجاعاً وأهل حرب فحمل عليه أسد عظيم مهيب فما ظنك هل 
تدفع الأسلحة شره عنه بلا استعمالها وضربها؟ : فمن المعلوم أنها لا تدفع إلا بالتحريك 
والضرب؛ فكذا لو قرأ رجل مائة ألف مسألة علمية وتعلمها ولم يعمل بها لا تفيده إلا 
بالعمل, ومثله أيضاً لو كان لرجل حرارة ومرض صفراوي يكون علاجه بالسكنجبين 
والكشكاب فلا يحصل البرء إلا باستعمالها (شعر) : 
كرمى دواهزار رطل همى بيمائى تامى نخورى نباشدت شيدائى20) 

ولو قرأت العلم مائة سنة وجمعت ألف كتاب. لا تكون مستعداً لرحمةٍ الله تعالى 
إلا بالعمل: وان ليس لِلإنْسَانٍ إلا مَا سَعَى 04" فْمَنْ كان يَرَجُو لِقَاء رَبُهِ ليَِمَلٌ 
عَمَلاً صَالِحاً6””. «ِجَرَاءٌ ما كانوا يَكْسِبُونَ»*. «إنْ الْذِينَ آمنُوا وَعَمِلُوا 


)١(‏ نعم ما ترجم به هذا البيت حضرة الأستاذ الفاضل الجليل مرشد السالكين الشيخ محمد أمين 
الكرديٍ النقشبندي عليه الرحمة فقال: 

(لَوْ كلت ألفي رطل خمر لم تكن ضير بوانت [ذا الم تلشسرت) 

(1) سورة : النجم الآية 58. 

(5) سورة الكهف: الآية .١١١‏ 

(4) سورة التوبة: الآية 4:7. 


آلصَّالِحَاتٍ كَانتْ لَهُمْ جَناتٌ الفِرْدَوْسٍ رلا # خَالِدِينَ فيها لآ يَبْغُونَ عَنهَا جوّلآً »7 

وال مَنْ َابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً9) . وما تقول في هذا الحديث: هبني الإسلام على 
خمس: شهادة أن لا إله ٍّ الله وأنَ محمّداً رسول الله وإقام الصلاة. وإيتاء الزكاق 
وصوم رمضان. وحجج البيت من ابقطاع إليه سبيااً» . والإيمان قول باللسان وتصديق 
بالجنان وعمل بالأركان» ودليل الأعمال أكثر من أن يحصى إن كان العبد يبلغ الجنة 
بفضل الله تعالى وكرمه. لكن بعد أن يستعد بطاعته وعبادته لأن رحمة الله قريب من 
المحسنين» ولو قيل أيضاً يبلغ بمجرد الإيمان. قلنا: نعم لكن متى يبلغ؟ وكم من 
عقبة كنود يقطعها إلى أن يصل؟ فأؤل تلك العقبات عقبة الإيمان وأنه هل يسلم من سلب 
الإيمان أم لا؟ وإذا وصل. هل يكون خائناً مفلسا؟ وقال الحسن البصري: يقول الله 
تعالى لعباده يوم القيامة: ادخلوا يا عبادي الجنة برحمتي واقتسموها بأعمالكم . 


أيها الولد: ما لم تعمل لم تجد الأجر. 

حكي أن رجلا من بني إسرائيل عبد الله تعالئ سبعين سنة فأراد الله تعالئ أن 
يجلوه على الملائكة فأرسل الله إليه ملكا يخبره أنه مع تلك العبادة لا يليق به دخول 
الجنة. فلما بلغه قال العابد: نحن خلقنا للعبادة فينبغي لنا أن نعبده. فلما رجع الملك 
قال: إلهي أنت أعلم بما قال. فقال الله تعالئ : إذا هو لم يعرض عن عبادتنا فنحن مع 
الكرم لا نعرض عنه. اشهدوا يا ملائكتي أني قد غفرت له. قال رسول الله كل: 
«حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوا أعمالكم قبل أن توزنوا». وقال على رضي الله 
عنه: (من ظن أنه بدون الجهد يصل فهو متمن» ومن ظن أنه ببذل الجهد يصل فهو 
مستغن). وقال الحسن رحمه الله تعالى : (طلب الجنة بلا عمل ذنب من الذنوب). 
وقال :علامة الحقيقة ترك ملاحظة العمل لا ترك العمل . وقال رسول الله يك : «الكيس 
من دان نفسه وعمل لما بعد الموت. والأحمق من اتبع هواه وتمنى على الله تعالى 
الأماني» . 

أيها الولد: كم من ليال أحبيتها بتكرار العلم ومطالعة الكتب وحرمت على نفسك 
النوم. لا أعلم ما كان الباعث فيه إن كان نيل عرض الدنيا وجذب حطامها وتحصيل 


.٠١ملو‎ ٠١ سورة الكهف: الآيتان لا‎ )1١( 
سورة الفرقان : الآية ا‎ ١ 


مناصبها والمباهاة على الأقران والأمثال فويل لك ثم ويل لك. وإن كان قصدك فيه إحياء 
شريعة النبي كله وتهذيب أخلاقك وكسر النفس الآمارة بالسوءء فطوبى لك ثم طوبى 
لك . ولقد صدق من قال شعرا: 
سَهُرٌ العيون لغير وجهك ضائمٌُ وبكاوْهنَ لغير فقدك باطلٌ 

أيها الولد: عش ما شئت فإنك ميت. وأحبب من شئت فإنك مفارقه, واعمل ما 
شئت فإنك مجزى به. 

أيها الولد : أي شيء حاصل لك من تحصيل علم 0 والخلاف والطب 
والدواوين والأشعار والنجوم والعروض والنحو والتصريف غير تضييع بيع العمر بخلاف ذي 
الجلال, ٠‏ إني رأيت في إنجيل عيسى عليه الصلاة والسلام. قال: من ساعة أن يوضع 
الميت على الجنازة إلى أن يوضع على شفير القبر يسأل الله بعظمته منه أربعين سؤالاً 
أوله يقول عبدي طهرت منظر الخلق سنين وماطهرت منظري ساعة وكل يوم ينظر في 
قلبك يقول: ما تصنع لغيري وانت محفوف بخيري» أما أنت أصم لا تسمع . 

أيها الولد : العلم بلا عمل جنون, والعمل بغير علم لا يكون. 

واعلم. أن العلم لا يبعدك اليوم عن المعاصي., ولا يحملك على الطاعة. ولن 
يبعدك غداً عن نار جهنم وإذا لم تعمل اليوم ولم تدارك الأيَام الماضية تقول غداً يوم 
القيامة» فارجعنا نعمل صالحاًء فيقال: يا أحمق أنت من هناك تجيء. 

أيها الولد: اجعل الهمة في الروح؛ والهزيمة في النفس, والموت في البدن لآن 
منزلك القبرء وأهل المقابر ينتتظرونك في كل لحظة متى تصل إليهم. إياك إياك أن تصل 
إليهم بلا زاد. وقال أبو بكر الصدّيق رضي الله عنه: هذه الأجساد قفص الطيور. 
واصطبل الدوابٌ» فتفكر في نفسك من أيهما أنت, إن كنت من الطيور العلوية فحين 
تسمع طنين طبل ارجعي إلى ربك تطير صاعدا إلى أن تقعد في أعالي بروج الجنان» 
كما قال رسول الله كَكلِِ : «اهترّ عرش الرحمن من موت سعد بن معاذ» . والعياذ بالله إن 
كنت من الدواب, كما قال الله تعالئ : ِأُولئِكَ كَالأنعَام بَلْ هُمْ أَضَلٌَ74©. فلا تأمن 
انتقالك من زاوية الدار إلى هاوية النار. وروي أن الحسن البصري رحمه الله تعالى 
أعطى شربة ماء بارد فأخذ القدح وغشي عليه وسقط من يده فلما أفاق قيل له: مالك يا 


أبا سعيد؟ قال: ذكرت أمنية أهل النار حين يقولون لأهل الجنة أفيضوا علينا من الماء أو 
ممارزقكم الله . 

أيها الولد: لو كان العلم المجرد كافياً لك ولا تحتاج إلى عمل سواهء لكان نداء 
هل من سائل؛ هل من مستغفر. هل من تائب ضائعاً بلا فائدة» وروي أن جماعة من 
الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين ذكروا عبد الله بن عمر عند رسول الله ين فقال: 
«ونعم الرجل هوء لو كان يصلي بالليل». وقال عليه الصلاة والسلام لرجل من أصحابه : 
ويا فلان لا تكثر النوم بالليل» فإن كثرة النوم الليل يلع صاحبه فقيرا يوم القيامة». 

أيها الولد: : ومن الليل فتهجد به: أمرء وبالاسحار هم يستغفرون شكرء 
والمستغفرون بالأسحار ذكرء قال عليه السلام : هثلاثة أصوات يحبها الله تعالئ : صوت 
الديك. وصوت الذي يقرأ القرآن. وصوت الممستغفرين بالأسحار». قال سفيان 
الثوري . رحمة الله تعالئ عليه : إن الله تارك وتعال. علق ريصا بالأسحار تحمل الأذكار 
والاستغفار إلى الملك الجبار. وقال أيضاً: إذا كان أوّل الليل ينادي مناد من تحت 
العرش : ألا ليقم العابدون فيقومون ويصلون ما شاء الله؛ ثم ينادي مناد في شطر الليل: 
ألا ليقم القانتون. فيقومون ويصلون إلى السحرء فإذا كان السحر نادى منادٍ: ألا ليقم 
المستغفرون. فيقومون ويستغفرون, فإذا طلع الفجر نادى مناد: ألا ليقم الغافلون. 
فيقومون من فروشهم كالموتى نشروا من قبورهم . 

أيها الولد : روي في وصايا لقمان الحكيم لابنه أنه قال: يا بني لا يكونن الديك 
أكيس منك ينادي بالأسحار وأنت نائم » ولقد أحسن من قال شعراً : 
لبد عبفت فى حنخ اليل جمامة على فنن وهناوإني لنائم 
كذبت وبيت الله لو كنت عاشقاً لماسبقتني بالبكاء الحمائم 
وأزعم أني هائم ذو صبابة لربي فلا أبكي وتبكي البهائم 

أيها الولد: خلاصة العلم أن نعلم أن الطاعة والعبادة ما هي . 

اعلم : أن الطاعة والعبادة متابعة الشارع في الأوامر والنواهي . بالقول والفعل. 
يعني كل ما تقول وتفعل وتئرك ويكون باقتداء الشرع» كما لو صمت يوم العيد وأيام 
التشريق تكون عاصياً. أو صلّيت في ثوب مغصوب وإن كانت صورة عبادة تأثم . 

أيها الولد: ينبغي لك أن يكون قولك وفعلك موافقاً للشرع إذ العلم والعمل بلا 


١٠١6 


اقتداء الشرع ضلالة؛ وينبغي لك أن لا تغتر بالشطح وطامات الصوفية لأن سلوك هذا 
الطريق يكون بالمجاهدة وقطع شهوة النفس وقتل هواها بسيف الرياضة لاا بالطامات 
والترهات . 

واعلم. أن اللسان المطلق والقلب المطبق المملوء بالغفلة والشهوة علامة 
الشقاوة. حتى لا تقتل النفمس بصدق المجاهدة لن يحي قلبك بأنوار المعرفة. 

واعلم , بأن بعض مسائلك التي سألتني عنها لا يستقيم جوابها بالكتابة والقول إن 
لم تبلغ تلك الحالة تعرف ما هي وإلا فعلمها من المستحيلات لأنها ذوقية» وكل 
ما يكون ذوقياً لا يستقيم وصفه بالقول كحلاوة الحلو ومرارة المر لا يعرف إلا بالذوق. 
كما حكي أن عنيناً كتب إلى صاحب له أن عرفني لذة المجامعة كيف تكون, فكتب له 
في جوابه: يا فلان إني كنت حسبتك عنيئاً فقط ‏ الآن عرفت أنك عنين وأحمق ‏ لأن 
هذه اللذة ذوفية إن تصل إليها تعرف» وإلا لا يستقيم وصفها بالقول والكتابة . 

أيها الولد: بعض مسائلك من هذا القبيل, وأما البعض الذي يستقيم له الجواب 
فقد ذكرناة قي [حياء العلوم وغيره . وتذكر ههنا نبدأ منه ونشير إليه فنقول: : قد وجب على 
السالك أربعة أمور: 

الأمر الأول: اعتقاد صحيح لا يكون فيه بدعة. 

والثاني : توبة نصوح لا يرجع بعدها إلى الزلة . 

والثالث: استرضاء الخصوم حتى لا يبقى لأحد عليك حق . 
الآخرة ما يكون به النجاة . 

حكي أن الشبلي رحمه الله خدم أربعمائة أستاذ. وقال: قرات أربعة آلاف 
حديث. ثم اخترت منها حديثاً واحداً وعملت به وخليت ما سواه لأني تأملته فوجدت 
خلاصي ونجاتي فيه . وكان علم الأولين والآخرين كله مندرجاً فيه فاكتفيت به. وذلك أن 
رسول الله يَِ قال لبعض أصحابه : «اعمل لدنياك بقدر مقامك فيهاء واعمل لآخرتك 
بقدر بقائك فيهاء واعمل لله بقدر حاجتك إليه. واعمل للنار بقدر صبرك عليها» . 

أيها الولد: : إذا علمت هذا الحديث لا حاجة إلى العلم الكثيرء وتأمل في حكاية 
أخرى: : وذلك أن حاتماً الأصمّ كان من أصحاب الشقيق البلخي رحمة الله تعالئ 


ال 


عليهماء فسأله يوماً قال: صاحبتني منذ ثلاثين سنة ماحصلت فيها؟ قال: حصلت 
ثماني فوائد من العلم وهي تكفيني منه لأني أرجوخلاصي ونجاتي فيهاء فقال شقيق : ما 
هي ! قال حاتم الأصم : 

الفائدة الأولى : إني نظرت إلى الخلق فرأيت لكل منهم محبوباً ومعشوقاً يحبه 
ويعشقه وبعض ذلك المحبوب يصاحبه إلى مرض الموت وبعضه إلى شفير القبرء ثم 
يرجع كله ويتركه فريداً وحيداً ولا يدخحل معه في قبره منهم أحد؛ فتفكرت وقلت: 5 
محبوب المرء ومايدخل عابي قبره ويؤانسه فيه فما وجدت غير الأعمال الصالحة 
فأخذتها محبوباً لي لتكون سراجاً لي في قبري» وتؤانسني فيه ولا تتركني فريداً . 

الفائدة الثانية : إني رأيت الخلق يقتدون بأهوا الهم ويبادرون إلى مرادات أنفسهم 
فتملت قوله تعالى : «وآمًا مَنْ حاف مَقَامَ ره وَنْهَى الْفْسَ عَن الهَوى * فَإنَ الجن جي 
آلمَأَرَى204. وتيقنت أن القرآن حق صادق فبادرت إلى خلاف نفسي وتشمرت 
بمجاهدتها وما متعتها بهواها حتى رضيت بطاعة الله سبحانه وتعالئ وانقادت . 


الفائدة الثالثة : إني رأيت كل واحد من الناس يسعى في أجمع خطام الدنيا ثم 
يمسكها قابضاً يده عليه. فتأملت في قوله تعالى : «ما عندَكُمْ يَتفَدُ وَمَا عند الله 
باقي 224 . فبذلت محصولي من الدنيا لوجه الله تعالئ ) ٠‏ ففرقته , بين المساكين ليكون ذخراً 
لي عند الله تعالى . 

الفائدة الرابعة : إني رأيت بعض الخلق ظنٍ شرفه وعزه في كثرة الأقوام والعشائر 
فاغترٌ بهم . وزعم آخر أنه في ثروة الأموال وكثرة الأولاد فافتخروا بها وحسب بعضهم 
الشرف والعرّ ففي غصب أموال الناس وظلمهم وسفك دمائهم. واغبقلات طائفة أنه في 
إتلاف المال وإسرافه وتبذيره. وتأمّلت في قوله تعالى : (إِنَ أَكَرَنَكُمْ عنْدَ الله 
أن م278 فاخترت التقوى واعتقدت أن القرآن حقّ صادق وظنهم وحسبانهم كلها 
باطل زائل . 

الفائدة الخامسة: إني رأيت الناس يذمّ بعضهم بعضاً ويغتاب بعضهم بعضاء 


.4١و‎ 5٠ سورة النازعات : الآيةتان‎ )'١( 
.95 (؟) سورة النحل: الآية‎ 
. 15 سورة الحجرات: الآية‎ )( 


فوجدت ذلك فين اعد في المال والجاه والعلم» ٠»‏ فتأملت في قوله تعالى > ْءنَحنٌ 
نَسَمْنا بَِهُمْ مَعِيشتَهُمْ في آلحيَاةٍ الدّنْيا904) . فعلمت أن القسمة كانت من الله تعالئ في 
الآزل نه عدت اخدا ووضيت بقسمة أله تغالى : 


الفائدة السادسة : إني رأيت النائن يعادي بعضهم عضا لغرض وسبب. فتأملت 
قوله تعالى «إِنّ آلشَيْطَانَ كم عَدُو اذوه عَدُوَابع0). فعلمت أنه لا يجوز عداوة 
آخر غير الشيطان. 

والفائدة السابعة: إني رأيت كل أحد يسعى يجد ويجتهد بمبالغة لطلب القوت 
والمعاش بحيث يقع به في اشببهة وخرام ؛ ويذل نفسه. وينقص قدره. فتاملت في قوله 


تعالى : هوَمًا مِنْ دَابُة في الأزض, إلا عَلَى اللَّهِ رِرْقها »5 . فعلمت أن رزقي على الله 
تعالئء وقد ضمنه فاشتغلت بعبادته وقطعت طمعي عمن سواه. 


الفائدة الثامنة : إني رأيت كل واحد معتمداً على شيء مخلوق بعضهم إلى الدينار 
والدرهم, وبعضهم إلى المال والملك. وبعضهم إلى الحرفة والصناعة» وبعضهم إلى 
اناف وال و نواد لقال : 9وَمَنْ يكل عَلَى الله َه حسْبه إن باع ره 
قد جَعل الله يكل شيءٍ قذرا»ه(!؛) . فتوكلت على الله تعالى قهو حسبي ونعم الوكيل» 
فقال شقيق : وفقك لله تعالئ إني قد نظرت التوراة والإنجيل والزبور والفرقان. فوجدت 
الكت الأربعة تدور على هذه الفوائد الثمانية» فمن عمل بها كان عاقلا بهذه الكتب 
الأربعة . 


أيها الولد: قد علمت من هاتين الحكايتين أنك لا تحتاج إلى تكثير العلم. والآن 
اين فاايضي علن الله سيل الكن: 

فاعلم, أنه ينبغي للسالك شيخ مرشد مربي ليخرج الأخلاق السيّئة منه بتربيته 
ويجعل مكانها خلقاً حسنا . . ومعنى التربية يشبه فعل الفلاح الذي يقلع الشوك ويخرج 
النباتات الأجنبية من , بين الزرع ليحسن نباته ويكمل ريعه. ولا بد للسالك من شيخ يؤديه 
ويرشده إلى سبيل الله تعالئ , لأن الله أرسل للعباد لسو للإرشاد إلى سبيله. فإذا 
)١(‏ سورة الزخرف: الآية 757 
(؟) سورة فاطر: الآية 5. 
() سورة هود: الآية 5. 
2 سورة الطلاق: الآية ". 


ارتحل بل فقد خلف الخلفاء في مكانه حتى يرشدوا إلى الله تعالى . وشرط الشيخ الذي 
يصلح أن يكون نائباً لرسول لله صلوات الله وسلامه عليهوانيكون عالماً. ولكن لا كل 
عالم يصلح للخلافة» وإني بين لك بعض علامته على سبيل الإجمال حتى لا يدعي 
كل أحد أنه مرشد 


فنقول: من يعرض عن حب الدنيا وحبٌ الجاهء وكان قد تابع لشخص بصير 
يتسلسل متابعته إلى سيّد المرسلين وَل وكان محسناً رياضة نفسه من قلة الأكل والقول 
والنوم ‏ وكثرة الصلوات والصدقة والصوم. وكان بمتابعة الشيخ البصير جاعلا محاسن 
الأخلاق له سيرة كالصبر والصلاة والشكر والتوكل واليقين والقناعة وطمانينة النفس 
والحلم والتواضع والعلم والصدق والحياء والوفاء والوقار والسكون والتأني وأمثالها. فهو 
إذا نور من أنوار النبي يلل يصلح للاقتداء به, ولكن وجود مثله نادر أعزّ من الكبريت 
الأحمره ومن ساعدته السعادة فوجد شيخاً كما ذكرنا وقبله الشيخ ينبغي أن يحترمه 
ظاهراً وباطناً . أمًا احترام الظاهر فهو أن لا يجادله ولا يشتغل بالاحتجاج معه في كل 
مسألة وإن علم خطأه. ولا يلقي بين يديه سجادته إلا وقت أداء الصلاة فإذا فرغ يرفعهاء 
ولا يكثر نوافل الصلاة بحضرته, ويعمل ما يأمره الشيخ من العمل بقدر وسعه وطاقته. 
وأمًا احترا م الباطن فهو أن كل ما يسمع ويقبل منه في الظاهر لا ينكره في الباطن لا فعلا 
ولا قولا لئلا يتسم بالنفاق. وإن لم يستطع يترك صحبته إلى أن يوافق باطنه ظاهره, 
ويحترز عن مجالسة صاحب السوء ليقصر ولاية شياطين الجنْ والإنس من صحن قلبه 
فيصفى عن لوث الشيطنة. وعلى كل حال يختار الفقر على الغنى. ثم اعلم. أن 
التصوف له خصلتان الاستقامة والسكون عن الخلق. فمن استقام وأحسن خلقه بالناس 
وعاملهم بالحلم فهو صوفي . والاستقامة أن يفدي حظ نفسه لنفسه. وحسن الخلق مع 
الناس أن لا تحمل الناس على مراد نفسك بل تحمل نفسك على مرادهم ما لم يخالفوا 
الشرع. ثم إنك سألتني عن العبودية, وهي ثلاثة أشياء : أحدها: محافظة أمر الشرع, 
وثانيها: الرضاء بالقضاء والقدر وقسمة الله تعالئ. وثالثها: ترك رضاء نفسك في طلب 
رضاء الله تعالئ » وسألتني عن التوكل هو أن تسبتحكم اعتقادك بالله تعالئ فيما وعد يعني 
تعتقد أن ما قدر لك سيصل إليك لا محالة وإن اجتهد كل من في العالم على صرفه 
عنك. وما لم يكتب لن يصل إليك وإن ساعدك جميع العالم . وسألتني عن الإخلاص. 
وهوأن تكون أعمالك كلها لله تعالئ ولا يرتاح قلبك بمحامد الناس ولا تبالي بمذمتهم . 


0. 


واعلم. أن الرياء يتولّد من تعظيم الخلق. وعلاجه أن تراهم مسخرين تحت 
القدرة وتحسبهم كالجمادات في عدم قدرة إيصال الراحة والمشقّة لتخلص من 
مراءاتهم . ومتى تحسبهم ذوي قدرة وإرادة لن يبعد عنك الرياء . 

أيها الولد: والباقي من مسائلك بعضها مسطور في مصنفاتي فاطلبه منه وكتابة 
بعضها حرام ؛ اعمل أنت بما تعلم ليكشف لك ما لم تعلم . 

أيها الولد: بعد اليوم لا تسألني ما أشكل عليك إلا بلسان الجنان قوله تعالئ : 
<«ولو نهم صَبَرُواحََى تَخْرْجَ م إليْهِمْ لْكَانَ خَيرا َهُم 04 . واقبل تصيحة الخضر عليه 
السلام حين قال: : (فلا نسأني عَنْ شَيْمٍ حَنى أخدث لَك مِنْهُ كرأ 04 . ولا تستعجل 
حتى تبلغ أو أنه يكشف لك وتراه: وَسَارِيكُمْ آياتي فلا مَْمَمْجلُونِ04». فلا تسألني 
قبل الوقت : وتيقن أنك لا تصل إلا بالسير لقوله تعالى : لأُوْلَمْ يُسِيرُوا ة في الأرْض, 
فَْنْظرٌ وا بع 2»9. 

أيها الولد : بالله إن تسر ترالعجائب في كل منزل؛ وابذل روحك فإن رأس هذا 
على بذل الروح فتعال وإلا فلا تشتغل بترهات الصوفية . 

أيها الولد : إني أنصحك بثمانية أشياء اقبلها مني لثلا يكون علمك خصماً عليك 
يوم القيامة؛ تعمل منها أربعة. وتدع منها أربعة أما اللواتي تدع : 

أحدها: أن لا تناظر أحداً في مسألة ما استطعت لأن فيها آيات كثيرة فإئمها أكبر 
من نفعها. إذ هي منبع كل خلق ذميم كالرياء والحسد والكبر والحقد والعداوة والمباهاة 
وغيرهاء نعم لووقع مسألة بينك وبين شخص أو قوم وكانت إرادتك فيها أن تظهر الحق 
ولا يضيع جاز البحث لكن لتلك الإرادة علامتان : إحداهما: أن لا تفرق بين أن ينكشف 
الحق على لسانك أو على لان غيرك, والثانية: أن يكون البحث في الخلاء أحب 
إليك من أن يكون في الما واسمع إني أذكر لك ههنا فائدة. واعلم. أن السؤال عن 
المشكلات عرض مرض القلب إلى الطبيب والجواب له سعي لإصلاح مرضه . واعلم : 
)١(‏ سورة الحجرات: الآية ه. 
(١؟)‏ سورة الكهف: الآية ./١‏ 
(. سورة الأنبياء: الآية /ا". 
)( سورة الروم : الآية ا وسورة غافر: الآية 1 


1١١6 


أن الجاهلين المرضى قلوبهم والعلماء الأطباء والعالم الناقص لا يحسن المعالجة 
والعالم الكامل لا يعالج كل مريض بل يعالج من يرجو فيه قبول المعالجة والصلاح . 
وإذا كانت العلة جرم |وأمايها لا تيل الجلااع ودافة اتاتب ني قابقزل هد الا يكل 
العلاج فلا تشتغل فيه بمداواته لأن فيه تضييع العمر. ثم اعلم. أن مرض الجهل على 
أربعة أنواع : 

أحدها: يقبل العلاج والباقي لا يقبل. أما الذي لا يقبل «أحدهاء من كان سؤاله 
واعتراضه عن حسده وبغضه فكلما تجيبه بأحسن الجواب وأفصحه وأوضحه فلا يزيد له 
ذلك إلا بغضاً وعداوة وحسداًء فالطريق أن لا تشغل بجوابه فقد قيل: 
كل العداوة قد ترجى إزالتها إلا عداوة من عاداك عن حسد 

فينبغي أن العرص نه وثار عا افع تر قال الله تعالئ : ظفَاعْرِض عَمُنْ َوَلَى عَنْ 
ذِكرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إلا آلحَيّاة الدنْيَاه0© . والحسود بكل ما يقول ويفعل أوقد النار في زرع 
علمه؛. الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب. 

والثاني : أن تكون علته من الحماقة وهو أيضاً لا يقبل العلاج» كما قال عيسى 
عليه السلام : إني ما عجزت عن إحياء الموتى وقد عجزت عن معالجة الاحمق. وذلك 
رجل يشتغل بطلب العلم زمناً قليلاً ويتعلم شيئاً من العلم العقلي والشرعي فيسأل 
ويعترض من حماقته على العالم الكبير الذي مضى عمره في العلوم العقلية والشرعية. 
وهذا الأحمق لم يعلم ويظن أن ما أشكل عليه هو أيضاً مشكل للعالم الكبير» فإذا لم 
يعلم هذا القدر يكون سؤاله من الحماقة, فينبغي أن لا يشتغل بجوابه . 

والثالث: أن يكون مسترشداً وكل ما لا يفهم من كلام الأكابر يحمل على قصور 
فهمه وكان سؤاله للاستفادة لكن يكون بليداً لا يدرك الحقائق فلا ينبغي الاشتغال بجوابه 
أيضاً. كما قال رسول الله ككل : «نحن معاشر الأنبياء أمرنا أن نكلم الناس على قدر 
عقولهم». وأما المرض الذي يقبل العلاج فهو أن يكون مسترشداً عاقلاً فهماً لا يكون 
مغلوب الحسد والغضب وحب الشهوة والجاه والمال. ويكون طالب الطريق المستقيم 
ولم يكن سؤاله واعتراضه عن حسد وتعنت وامتحان. وهذا يقبل العلاج فيجوز أن 
تشتغل بجواب سؤاله بل يجب عليك إجابته . 


. 79 سورة النجم: الآية‎ )١( 


1١1١ 


والرابع : مما تدع وهو أن تحذر من أن تكون واعظأ ومذكراً لأن فيه آفة كثيرة إلا أن 
تعمل بما تقول أولآء ثم تعظ به الناس فتفكر فيما قيل لعيسى عليه السلام» يا ابن مريم 
عظ نفسك فإن اتعظت فعظ الناس وإلا فاستحي من ربك وإن ابتليت بهذا العمل فاحترز 
عن خصلتين : 

الأولى: عن التكلف في الكلام بالعبارات والإشارات والطامات والآبيات 
والأشعار لأن الله تعالئ يبغض المتكلفين» والمتكلف المتجاوز عن الحدّ يدل على 
خراب الباطن وغفلة القلب. ومعنى التذكير أن يذكر العبد نار الآخرة وتقصير نفسه فى 
خدمة التخالق :+ ويتفكر :فى مره العاقى :الدئ افناه فيا لا يعنيه» :ويتفكر فنا بين زقديه 
من العقبات من عدم الإيمان في الخاتمة وكيفية حاله في قبض ملك الموت وهل يقدر 
على جواب منكر ونكير, ويهتم بحاله في القيامة وموابقها. وهل يعبر عن الصراط سالماً 
أم يقع في الهاوية؛ ويستمر ذكر هذه الاشياء في قله فيزعجه عن قراره. فغليان هذه 
النيران وتوجه هذه المصائب يسمى تذكيرا وإعلامهم الخلق وإطلاعهم على هذه 
الأشياء وتتتيههم على تقصيرهم وتتريطي وتتصيرهم بعيوب اننسهم التضين خزارة هذه 
النيران أهل المجلس وتجزعهم تلك المصائب ليتداركوا العمر الماضي بقدر الطاقة. 
ويتجسروا علق الأيام الخالية في غير طاعة الله تعالى, هذه الجملة على هذا الطريق 
يسمى وعظأ كما لو رأيت أن السيل قد هجم على دار أحد وكان هو وأهله فيها فتقول: 
الحذر الحذرء فرُوا من السيل وهل يشتهى قلبك فى هذه الحالة أن تخبر صاحب الدار 
خبرك بتكليف العبارات والنكت والإشارات فلا تشتهي البتة فكذلك حال الواعظ فينبغي 
أن يجتنيها . ْ 


والخصلة الثانية: أن لا تكون همتك في وعظك أن ي: ينفر الخلق في مجلسك 
ويظهروا الوجد ويشقوا الثياب ليقال نعم المجلس هذا » لأن كله ميل للدنيا وهويتولّد من 
الغفلة. بل ينبغي أن يكون عزمك وهمتك أن تدعو الناس من الدنيا إلى الآخرة.ء ومن 
المعصية إلى الطاعة ومن الحرص إلى الزهد. ومن البخل إلى السخاء. ومن الغرور إلى 
التقوى وتحبب إليهم الآخرة وتبغض إليهم الدنياء وتعلمهم علم العبادة والزهد لأن 
الغالب في طباعهم الزيغ عن منهج الشرع والسعي فيما لا يرضى الله تعالئ به 
والاستعثار بالأخلاق الردية قألق في قلوبهم الرعب وروعهم وحذرهم عما يستقبلون من 
المخاوف, ولعل صفات باطنهم تتغير ومعاملة ظاهرهم تتبدل. وينظروا الحرص والرغبة 


1١1 


في الطاعة. والرجوع عن المعصية, وهذا طريق الوعظ والنصيحة؛ وكل وعظ لا يكون 
هكذا فهو وبال على من قال ويسمع . بل قيل إنه غول وشيطان يذهب بالخلق عن طريق 
ويهلكهم . فيجب عليهم أن يفروا منه لأن ما يفيد هذا القائل من دينهم لا يستطيع يمله 
الشيطان؛ ومن كانت له يد وقدرة يجب عليه أن ينزله عن منابر المواعظ ويمنعه عما باشر 
فإنه من جملة الآمر بالمعروف والنهي عن المنكر. 

والثالث: مما تدع أنه لا تخالط الأمراء والسلاطين, ولا تراهم لأن رؤيتهم 
ومجالسهم ومخالطتهم آفة عظيمة. ولو ابتليت بها دع عنك مدحهم وثناءهم لأن الله 
تعالى يغضب إذا مدح الفاسق والظالم. ومن دعا بطول بقائهم فقد أحبٌ أن يعصى الله 
في أرضه . 

والرابع : مما تدع أن لاتقبل شيئاً من عطاء الأمراء وهداياهم وإن علمت أنها من 
الحلال لأن الطمع منهم يفسد الدين لأنه يتولد منه المداهنة ومراعاة جانبهم والموافقة 
في ظلمهم, وهذا كله فساد في الدين وأقل مضرته أنك إذا قبلت عطاياهم وانتفعت من 
دنياهم أحببتهم ومن أحب أحداً يحب طول عمره وبقائه بالضرورة» وفي محبة بقاء 
الظالم إرادة في الظلم على عباد الله تعالئ وإرادة خراب العالم. فأي شيء يكون أضر 
من هذا الدين والعاقبة. وإياك وإياك أن يخدعك استهواء الشياطين أو قال بعض الناس 
لك بأن الأفضل والأولى أن تاخذ الدينار والدرهم منهم وتفرقها بين الفقراء والمساكين. 
فإنهم ينفقون في الفسق والمعصية. وإنفاقك على ضعفاء الناس خير من إنفاقهم . فإن 
اللعين قد قطع أعناق كثير من الناس بهذه الوسوسة . وقد ذكرناه في إحياء العلوم فاطلبه 


لس 


نمه . 

وأما الأربعة التي ينبغي لك أن تفعلها: 

الأول: أن تجعل معاملتك مع الله تعالئ بحيث لوعامل معك بها عبدك ترضى بها 
منه ولا يضيق خاطرك عليه ولا تغضب» والذي لا ترضى لنفسك من عبدك المجازي فلا 
ترضى أيضاً لله تعالئ وهو سيدك ١‏ لحقيقي 5 

والثاني : كلما عملت بالناس اجعله كما ترضى لنفسك منهم لأنه لا يكمل إيمان 
عبد حتى يحب لسائر الناس ما يحبٌ لنفسه . 

والثالث: إذا قرأت العلم أو طالعته ينبغي أن يكون علمك يصلح قلبك ويزكي 


1١117 


نفسك, كما لو علمت أن عمرك ما يبقى غير أسبوع . فبالضرورة لا تشتغل فيها بعلم 
الفقه والأخلاق والأصول والكلام وأمثالها لأنك تعلم أن هذه العلوم لا تغنيك. بل 
تشتغل عرافة القلب ومعرفة صفات النفس. والإعراض عن علائق الدنياء وتزكي 
نفسك عن الأخلاق الذميمة وتشتغل بمحبة الله تعالى وعبادته, والاتصاف بالأوصافي 
الحسنة. ولا يمر على عبد يوم وليلة إلا ويمكن أن يكون موته فيه . 

أيها الولد : اسمع مني كلاماً آخر وتفكر فيه حتى تجد خلاصاً لو أنك أخبرت أن 
السلطان بعد أسبوع يختارك وزيرا. اعلم. أنك في تلك المدة لا تشتغل إلا بإصلاح 
ماعلمت أن نظر السلطان سيقع عليه من الثياب والبدن والدار والفراش وغيرهاء والآن 
تفكر إلى ما أشرت به فإنك فهم والكلام الفرد يكفي, أليس قال رسول الله كلْه: «إن الله 
لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أعمالكم. ولكن ينظر إلى قلوبكم ونيّاتكم». وإن أردت 
علم أحوال القلب فانظر إلى الآحياء وغيره من مصنفاتي . وهذا العلم فرض عين وغيره 
فرض كفاية إلا مقدار ما يؤدي به فرائض الله تعالئ وهو يوفقك حتى تحصله . 

والرابع : أن لا تجمع من الدنيا أكثر من كفاية سنة. كما كان رسول الله بك يعد 
ذلك لبعض حجراته. وقال: «اللهم اجعل قوت آل محمّد كفافا» . ولم يكن يعد ذلك 
لكل حجراته بل كان يعده لمن علم أن في قلبها ضعفاء وأمًا من كانت صاحبة يقين 
ما كان يعد لها اكثر من قوت يوم ونصفف. 

أيها الولد: إني كتبت في هذا الفصل ملتمساتك فينبغي لك أن تعمل بها ولا 
تنساني فيه من أن تذكرني في صالح دعائك, وأمًا الدعاء الذي سألت مني فاطلبه من 
دعوات الصحاح واقرأ هذا الدعاء في أوقاتك خصوصاً أعقاب صلواتك, اللهمّ إني 
أسألك من النعمة تمامها. ومن العصمة دوامها. ومن الرحمة شمولهاء ومن العافية 
حصولهاء ومن العيش أرغده. ومن العمر أسعده. ومن الإحسان أتمهء ومن الإنعام 
أعممه. ومن الفضل أعذبه. ومن اللطف أقربه. اللهم كن لناولا تكن عليناء اللهم اختم 
بالسعادة آجالناء وحقق بالزيادة آمالناء واقرن بالعافية غدونا وآصالناء واجعل إلى 
رحمتك مصيرنا ومآلناء واصبب سجال عفوك على ذنوبناء ومن علينا بإصلاح عيويناء 
واجعل التقوى زادناء وفي دينك اجتهادناء وعليك توكلنا واعتمادناء اللهم تبّتنا على 

الاستقامة. وأعذنا في الدنيا من موجبات الندامة يوم القيامة. وخفف عنا ثقل 
الأوزار وارزقنا عيشة الأبرار, واكفنا واصرف عنا شر الاشرار. واعتق رقابنا ورقاب 


11 


آبائنا وأمّهاتنا وإخواننا وأخواتنا من النار برحمتك يا عزيز يا عفار يا كريم يا ستاريا عليم 
يا جبّار يا الله يا الله يا الله برحمتك يا أرحم الرّاحمين. ويا أوّل الأولين. ويا آخر 
الآخرين ويا ذا القوّة المتين» ويا راحم المساكين, ويا أرحم الراحمينء لا إله إلا أنت 
سبحانك إنى كنت من الظالمين, وصلَى الله على سيّدنا محمّد وآله وصحبه أجمعين. 
والتحمة لك رت العالمين., 


١١6 


فهرس مجموعة رسائل الغزالي (") 
القسطاس المستقيم 
5 


ةا 


القول < في الميزان الأكبر من موازين التعادل 
القلسطون 


العلوم اليقينية 


أصوا ل الأدلة الفقهية كر د ب و لسن وخ مق ب ةن تدرو تمق و ا 


القول في الميزان الاوسط 


تعريف الحد لام م حون اي اف ل وما ام 1 اط الاق 1 اام ان 


القول في الميزان الأصغر 
القول في ميزان التلازم 


استفادة ميزان التلازم من قوله لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا 21110 


القول في ميزان التعاند 
بلدة دامغان 

مدينة أصبهان 

القول في موازين الشيطان 


بيان الطومان دكن ست رفن حوفي الوسوو كمه ميض بوط ند مج فود 


القول في طريق نجاة الخلق من ظلمات الاختلافات وام 1 
أصناف الناس ا و اول ا الف للدت اام ب وان ا ا 0 


القول في تصاوير الرأي والقياس 


1١ 117/ 


خطبة الرسالة 


باب القراءة وح لبن نك ا ب ال اا ل ل لونار لل ل بيد 1 مم و لد ا و ل ١‏ 


باب السلام 


فصل في شرف العلم 


علم الضوفية 
فصل في بيان طرق تحصيل العلوم 
حقيقة العلم اللدني وأسباب حصوله 


فيصل التفرقة 


خطبة الرسالة 


لمن تنجلي حقيقة الكفر والإيمانٍ 
ليس حد الكفر مالا يخالف مذهباً 


آماهوالكفر نمكم واد وق تو اا اضر ج تحتان الاو وام ا ات و 


حد التصديق والتكذيب 
للوجود خمس مراتب 
أمثلة درجات الوجود 
فصل في المصدقين 
قانون التأويل 


من الناس من يبادر إلى التأويل بغلبات الظنورن 1 


بيان الزندقة المطلقة 
وصية قانرن 


النظر في التكفير يتعلق بأمور انم لا سد كفو قو مو ل 
حكم عوام المسلمين وأقاقا فاه هاه هد هد فاه ندند فدا. د دقار .د قارا ردقام د افده قا مان 


فصل في بعث النار وأمور تتصل بذلك 


قد ظن بعض الناس أن مأخذ التكفير من العقل 55 ش12 


من الناس من قال إنما أكفر من يكفرني تار مح ول ارقا ماد م امورو 


إذا قذف أحد المسلمين صاحبه بالكفر فقد باء به أحدهما 


أيها الولد 


سبب تأليف الرسالة ل 


علامة إعراض الله عن العبد 
النصيحة سهلة والمشكل قبولها 


الاستعداد لرحمة الله بالعمل لو 00 
حكاية رجل عبد الله صبعين سنة صحف لاساو للك اناف 30 ولك و رول ل و2 أود قاد م" عرفالا 


طلب الجنة بلا عمل ذنب من الذنوب 
العلم بلا عمل جنون 

الهمة في الروح 

لا تكثر اليوم بالليل 


ثلاثة أصوات يحبها الله اسوك 1 عأ اما ا عو مام شه أو سار يه كر اهو كوا وف م اا لمج ار أو 
من وصايا لقمان لا سود تو ااا ا ال ا ماو يا رق مه 


خلاصة العلم الفا ون وو داتسا محتحاء اا ماسج واس وي 
على السالك أربعة أمور 0 


الفوائد الثمانية التي حصل عليها حاتم الأصم 


حاجة السالك لشيخ مرشد ا 00 
بيان العبودية مقطو نو اود اتا اطاط اه او 


بيان الإإخلاص والرياء 
لسان الجنان 


إن تسر تر العجائب في كل منزل ماف ام او ا وا 
نصيحة الغزالى بثمانية أشياء 000 


الاحتراز عن التكلف في الكلام ا ا 0 


التحذير من نعرة الخلق في مجلس الوعظ 


التوجه إلى دعوات الصحاح , وض م 1 تارق و اسم 1 


دعاء الغزالي عظيم 





ِو 


7 - هه يم -. 
بوط كوك عذكد تنك جدتن كالة لين 


سر و 2 - كتج 5 
إلامتا متت الامش كار 


متك ة الأمثواد نالخ الم لين 

«اليْسَالةِْالوَعْظينَ ه لهام العواميرعبي ل للم 
ه الضنوبت يم عساىت غيس امش لم 

« الْانَجَوَيَتَ العَرإليتَ فت السلا كل اللُححروين 


مشكاة الأنوار 


خطبة الرسالة: 

الحمد لله مفيض الأنوارء وفاتح الأبصار. وكاشف الأسرار. ورافع الأستار» 
والصلاة على محمد نور الأنوار. وسيد الأبرارء وحبيب الجبار وبشير الغفارء ونذير 
القهار. وقامع الكفار. وفاضح الفجار. وعلى آله وأصحابه الطاهرين الأخيار. 

أما بعد. فقد ساآلتني أيها الأخ الكريم قيضك الله لطلب السعادة الكبرى. 
ورشحك للعروج إلى الذروة العلياء وكحل بنور الحقيقة بصيرتك» ونفى عما سوى 
الحق سريرتك أن أبث إليك أسرار الأنوار الإلهية مقرونة بما يشير إليه ظواهر الآيات 
المتلوة والأخبار المروية مثل قوله تعالى : ظاللَّهُ نُورٌ السَّمواتٍ والآرْض)276). ومعنى 
تشبيهه ذلك بالمشكاة والزجاجة والمصباح والزيت والشجرة مع قوله كك : وإن لله سبعين 
ألف حجاب من نور وظلمة لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه كل من أدركه بصره» . ولقد 
ارئقيت بسؤالك مرتقى ضعبا تنخفض دون أعاليه مرامي أعين الناظرين, وقرعت باب 
مغلقاً لا ينفتح إلا للعلماء الراسخين, ثم ليس كل سر يكشف ويفشى . ولا كل حقيقة 
تعرض وتجلى بل صدور الأحرار قبور الأسرار. ولقد قال بعض العارفين إفشاء سر 
الربوبية كفر. بل قال سيد الأولين والآخرين: «إن من العلم كهيئة المكنون لا يعلمه إلا 
العلماء بالله فإذا نطقوا به لم ينكره عليهم إلا أهل الاغترار بالله». ومهما كثر أهل الاغترار 
بالله وجب حفظ الأسرار عن وجه الأشرار لكني أراك منشرح الصدر بالنور منزه السرعن 
ظلمات الغرور فلا أشح عليك بالإشارة إلى لوامع ولوائح والرمز إلى حقائق ودقائق. 
فليس الظلم في كف العلم عن أهله بأقل منه في بثه إلى غير أهله فقد قيل : 
فمن منح الجهال علماً أضاعه ومن منع المستوجبين فقد ظلم 


)ع2 سورة النور: الآية 0ت 


فاقنع باشارات مختصرة, وتلويحات موجزة فإن تحقيق القول فيه يستدعي تمهيد 
أصول. وشرح فصول ليس يتسع له الآن وقتي ولا ينصرف إليه ذهني ولا همتي» 
ومفاتيح القلوب بيد الله يفتحها إذا شاء كما شاء بما شاء وإنما ينفتح في هذا الوقت 
فصول ثلاثة : 


الفصل الآول 


في بيان أن النور الحق هو الله تعالى وأن اسم النور لغيره 
مجاز محض لا حقيقة له 


وبيانه بأن تعرف معنى النور بالوضع الأول عند العوام. ثم بالوضع الثاني عند 
الخواص. ثم بالوضع الثالث عند خواص الخواص. ثم تعرف درجات النور المنسوبة 
إلى الخواص وحقائقها لينتكشف لك عند ظهور درجاتها أن الله تعالى هو النور الأعلى 
الأقصى . وعند انكشاف حقائقها أنه النور الحق الحقيقي وحده لا شريك له فيه. أما 
الوضع الأول العامي فالنور يشير إلى الظهور والظهور أمر إضافي إذ يظهر الشيء لا محالة 
لغيره ويبطن عن غيره فيكون ظاهرا بالإضافة باطنا بالإضافة وإضافة ظهوره إلى 
الادراكات لا محالة. وأقوى الادراكات وأجلها عند العوام الحواس ومنها حاسة البصر. 
والأشياء بالاضافة إلى الحس البصري ثلاثة أقسام : منها ما لا يبصر بنفسه كالأجسام 
المظلمة, ومنها ما يبصر بنفسه ولا يبصر به غيره كالاجسام المضيئة مثل الكواكب وجسم 
النار إذا لم تكن مشعلة, ومنها ما يبصر به غيره كالشمس والقمر والنيران المشعلة 
والسرج. والنور اسم لهذا القسم الثالث. ثم تارة يطلق على ما يفيض من هذه الاجسام 
المنيرة على ظواهر الاجسام الكثيفة فيقال استنارت الارض ووفع نور الشمس على 
الارض» ومور السراج على الحائط والثوب. وتارة يطلق على نفس هذه الاجسام 
المشرقة أيضا لانها فى أنفسها مستنيرة. وعلى الجملة فالنور عبارة عما يببصر بنفسه 
ويبصر به غيره كالشمس ‏ هذا حده وحقيقته بالوضع الاول. 

دقيقة : لما كان سر النور وروحه هو الظهور للإدراك وكان الادراك موقوفاً على 
وجود النور وعلى وجود العين الباصرة أيضاً إذ النور هو الظاهر المظهر وليس شيء من 
الأنوار ظاهرا في حق العميان ولا مظهراء فقد ساوى الروح الباصرة النور الظاهر في كونه 


ركنا لا بدّ منه للإدارك ثم ترجح عليه في أن الروح الباصرة هي المدركة وها الادراك» 
وأما النور فليس بمدرك ولا به إدراك بل عنده الادراك؛ وكأن اسم النور بالنور أحق منه 
بالنور المبصرء فأطلقوا اسم النور على نور العين المبصرة فقالوا في الخفاش إن نور 
عينه ضعيف. وفي الأعمش إنه ضعيف نور البصر, وفي الاعمى أنه فقد نور بصره. وفي 
السواد إنه يجمع نور البصر ويقوية والاجفان إنما خصتها الحكمة الإلهية بلون السواد 
وجعل العين مجفونة بها لتجمع ضوء العين . وأما البياض فيفرق نور العين فيضعف نوره 
حتى إن إدامة النظر إلى البياض المشرق بل إلى نور الشمس يبهر نور العين ويمحقه كما 
يمحق الضعيف في جنب القوي, فقد عرفت بهذا أن الروح الباصرة يسمى نورا وأنه لم 
يكن بهذا الاسم أولى وهذا هو الوضع الثاني وهو وضع الخواص. 

حقيقة : اعلم أن نور البصر موسوم بأنواع من النقصان فإنه يبصر غيره ولا يبصر 
نفسه ولا يبصر ما بعد منه ولا ما قرب ولا يبصر ما هو وراء حجاب», ويبصر من الأشياء 
ظاهرها دون باطنهاء ويبصر من الموجودات بعضها دون كلها ويبصر أشياء متناهية 
ولا يبصر مالا نهاية له ويغلط كثيراً في |بصاره فيرى الكبير صغيراً ويرى البعيد قريباً 
والساكن متحركا والمتحرك ساكناء فهذه سبع نقائص لا تفارق العين الظاهرة فإن كان 
في الاعين عين منزهة عن هذه النقائص كلهاء فليت شعري هل هو أولى باسم النور 
فاعلم أن في قلب الانسان عينا هذه صفة كمالها وهي التي يعبر عنها تارة بالعقل وتارة 
بالروح وتارة النفئس الونساني. دع عنك هذه العبارات» فإنها إذا كثرت أوهمت عند 
الضعيف البصيرة كثرة المعاني فنعني به المعنى الذي يتميز به العاقل عن الطفل الرضيع 
وعن البهيمة وعن المجنون ولنسمه عقلا متابعة للجمهور في الاصطلاح فنقول العقل 
أولى بأن يسمى نورا من العين الظاهرة لرفعة قدره عن النقائص السبع . 

أما الأولى : فهو أن العين لا تبصر نفسها والعقل يدرك غيره ويدرك نفسه ويدرك 
صفات نفسه إذ يدرك نفسه عالما وقادراء ويدرك علم نفسه. ويدرك علمه بعلمه بنقسه 
وعلمه بعلمه بعلمه نفسه إلى غير نهاية» وهذه خاصة لا تتصور لما يدرك بآلة الاجسام 
ووراءه سر يطول شرحه. 

الثانية : أن العين لا تبصر ما قرب منها قربا مفرطاً ولا ما بعد والعقل عنده يسوي 
بين القريب والبعيد ويعرج في طرقه إلى أعلى السموات رقياًء وينزل في لحظة إلى 
تخوم الارض هوياء يل إذا حقت الحقائق انكشف أنه منزه عن أن يحوم بجنبات قدسه 


القرب واليعد الذي يعرض بين الاجسام, فإنه أنموذج من بحور الله تعالى ولا يخلو 
الانموذج عن محاكاة وإن كان لا يرقى إلى ذروة المساوقة. وهذا ربما هزك للتفطن لسر 
قوله يك : «إن الله خلق آدم على صورته». فلست أرى الآن الخوض في بيانه . 

الثالثة: أن العين لا تدرك ماوراء الحجاب, والعقل يتصرف في العرش 
والكرسي وما وراء حجب السموات وفي الملا الأعلى والملكوت كتصرفه في عالمه 
الخاص به ومملكته القريبة. أعني بها الخاصة به بل الحقائق كلها لا تحجب عن 
العقل. وإنما حجاب العقل حيث يحجب من نفسه لنفسه بسبب صفات مقارنة له 
تضاهي حجاب العين من نفسه عند تغميض الأجفان وستعرف :هذا في الفصل الثالث 
من الكتاب . 

الرابعة : أن العين تدرك من الأشياء ظاهرها وسطحها الأعلى دون باطنها بل 
قوالبها وصورها دون حقائقهاء والعقل يتغلغل إلى بواطن الأشياء وأسرارهاء ويدرك 
حقائقها وأرواحهاء ويستنبط أسبابها وعللها وحكمهاء وأنها مم حدثت وكيف خلقت 
ومن كم معنى جمع الشيء وركب وعلى أي مرتبة في الوجود نزل وما نسبته إلى سائر 
مخلوقاته ؟ إلى مباحث اخر يطول شرحها نرى الإيجاز فيها أولى . 


الخامسة : أن العين تبصر بعض الموجودات إذ تقصر عن جميع المعقولات وعن 
كثير من المحسوسات ولا تدرك الأصوات ولا الروائح والطعوم والحرارة والبرودة والقوى 
المدركة. أعنى قوة السمع والشم والذوق. بل الصفات الباطنة النفسانية كالفرح 
والسرور والغم والحزن والألم واللذة والعشقى والشهوة والقدرة والإرادة والعلم إلى غير 
ذلك من موجودات لا تحصى ولا تعد. فهو ضيق المجال مختصر المجرى لا تسعه 
مجاوزة عالم الألوان والأشكال وهما أخس الموجودات,. فإن الأجسام في نفسها أخس 
أقسام الموجودات والألوان. الأشكال من أخس أعراضهاء والموجودات كلها مجال 
العقل إذ يدرك هذه الموجودات التي عددناها وما لم نعده وهو الأكثر فيتصرف في 
جميعها ويحكم عليها حكما:يقينا صادقا فالأسرار الباطئة عنده ظاهرة والمعاني الخفية 
عنده جلية» فمن أين للعين الباصرة مساواته في استحقاق اسم النور. كلا بها نور 
بالإضافة إلى غيرها ولكنها ظلمة بالإضافة إليه. بل هي جاسوس من جواسيسه وكلها 
بأخس خزائنه وهي خزانة الألوان والأشكال لترفع إلى حضرته أخبارها فيقضي فيها بما 
يقتضيه رأيه الثاقب وحكمه النافذ؛ والحواس جواسيسه سواها وهي من خيال ووهم 


وفكر وذكر وحفظ ووراءهم خدم وجنود مسخرة له في عالمه الحاضر يسخرهم ويتصرف 
فيهم استسخار الملك عبيده بل أشد. وشرح ذلك يطول, وقد شرحناه في كتاب عجائب 
القلب من كتب الإحياء . 


السادسة: أن العين لا تبصر مالا نهاية له فإنها تبصر صفات الاجسام 
المعلومات . والأجسام لا تنتصور إلا متناهية والعقل يدرك المعقولات والمعقولات لا 
تتصور أن تكون متناهية. نعم إذا لاحظ العلوم المتحصلة فلا يكون الحاضر الحاصل 
عنده إلا متناهياً لكن في قوته إدراك ما لا نهاية له. وشرح ذلك يطول فإن أردت له مثالا 
فخذ من الحساب فإنه يدرك الأعداد ولا نهاية لها نهاية ويدرك تضعيفات الاثنين والثلاثة 
وسائر الأعداد ولا يتصور لها نهاية ويدرك أنواعاً من النسب بين الأعداد ولا يتصور لها 
نهاية, بل يدرك علمه بالشيء وعلمه بعلمه بالشيء وعلمه بعلمه يبعلمه, وفوته في هذا 
الوجه أيضاً لا تقف عند نهاية . 


السابعة : أن العين تدرك الكبير صغيراً فترى الشمس في مقدار بحر والكواكب في 
صورة دنانير منثورة على بساط أزرق والعقل يدرك أن الكواكب والشمس أكبر من الأرض 
أضعافاً مضاعفة, ويرى الكواكب ساكنة بل يرى الظل بين يديه ساكناء ويرى الصبي 
ساكناً في مقداره . والعقل يدرك أن الصبي يتحرك : في النمو والتزيد على الدوام والظل 
متحركاً دائماً والكواكب تتحرك في كل لحظة أميالاً كثيرة كما قال ول لجبريل : وأزالت 
الشمس؟ فقال: لا. نعم» قال: وكيف؟ قال: «منذ قلت لا إلى أن قلت نعم قد تحركت 
مسيرة خمسمائة عام . وأنواع غلط البصر كثيرة والعقل منزه عنهاء فإن قلت نرى العقلاء 
يغلطون في نظرهم فاعلم أن خيالاتهم وأوهامهم قد تحكم باعتقادات يظنون أن أحكامها 
أحكام العقل فالغلط منسوب إليها. وقد شرحنا مجامعها في كتاب معيار العلم وكتاب 
محك النظر, فأما العقل إذا تجرد عن غشاوة الوهم والخيال لم يتصور أن يغلط بل يرى 
الأشياء على ما هي عليه وفي تجرده عسرء وإنما يكمل تجرده عن هذه النوازع بعد 
الموت وعند ذلك ينكشف الغطاء وتنجلي الأسرار ويصادف كل أحد ما قدمه من خير أو 
شر محضراً ويشاهد كتاباً لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها وعندهًا يقال له : فكشفنا 
عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد. وإنما الغطاء غطاء الخيال والوهم. وعندها يقول 
المغرور بأوهامه واعتقاداته الفاسدة وخيالاته الباطلة : ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل 
صالحاً إنا موقنون. فقد عرفت بهذا أن العين أولى باسم النور من النور المعروف 


4 


المحسوس. ثم عرفت أن العقل أولى باسم النور من العين» بل بينهما من التفاوت ما 
يصح أن يقال معه إنه أولى بل الحق أنه د يستحق الاسم دونه . 
دقيقة : اعلم أن العقول وإن كانت مبصرة فليست المبصرات عندها كلها على 
مرتبة زاح بل بعضها تكون عندها كأنها حاضرة كالعلوم الضرورية مثل علمه بأن 
الشيء الواحد لا يكون قديماً حديثاً ولا يكون موجوداً معدوماً. والقول الواحد لا يكون 
صدقاً وكذباً وأن الحكم إذا ثبت للشيء جوازه ثبت لمثله. وأن الاخص إذا كان موجوداً 
كان الأعم واجب الوجود. فإذا وجد السواد فقد وجد اللون. وإذا وجد الإنسان فقد وجد 
الحيوان. وأما عكسه فلا يلزم في العقل إذ لا يلزم من الوجود اللون وجود السواد. 
ولا من وجود الحيوان وجود الانسان إلى غير ذلك من القضايا الضرورية في الواجبات 
والجائزات والمستحيلات, ومنها مالا يقارن العقل في كل حال إذا عرض عليه بل 
يحتاج إلى أن يهز أعطافه ويستوري زناده وينبه عليه بالتنبيه كالنظريات» وإنما ينبهه كلام 
الحكماء فعند اشراق نور الحكمة يصير الانسان مبصراً بالفعل بعد أن كان مبصراً بالقوة . 
وأعظم الحكمة كلام الله تعالى : (ومن جملة كلامه القرآن خاصة فيكون منزلة آيات 
القرآن عند عين العقل متزلة نوز الشسن عند العين الظاهرة + إذ به يتم الا نضار فبالحري 
أن يسمى القرآن نور كنا سنح نور الشمس نوراً فمثال القرآن نور الشمس ع ومثال 
العقل نور العين), وبهذا يفهم معنى قوله تعالى : طفَآمِنُوا بالل وَرَسُولِهِ والنور الذي 
أنْرَلنَاهه' وقوله تعالى : هِقَذ جَاءَكُمْ بُرَهَانٌ مِنْ رَبْكُمْ وأنْرَلنا إِليْكُمْ نُورأ مُبينا4). 
تكملة لهذه الحقيقة : فإذا فهمت من هذا أن العين عينان ظاهرة وباطنة من عالم 
الحس والمشاهدة, والباطنة من عالم آخر وهو عالم الملكوت ولكل عين من العينين 
شمس ونور عنده تصير كاملة الأبصار. إحداها ظاهرة والأخرى باطنة. والظاهرة من 
عالم الشهادة وهي الشمس المحسوسة, والباطنة من عالم الملكوت وهو القرآن وكتب 
الله المنزلة» ومهما انكشف لك هذا انكشافاً تام فقد انفتح لك باب من أبواب الملكوت 
وفي هذا العالم عجائب يستحقر بالاضافة إليها عالم الشهادة؛ ومن لم يسافر إلى هذا 
العالم وقعد به القصور في حضيض عالم الشهادة فهو بهيمة يعد ومحروم عن خاصية 
الانسانية. بل أضل من البهيمة إذ لم تعطٍ البهمة أجنحة الطيران إلى هذا العالم, ولذلك 


)غ0( سورة التغاين: الآية م. 
(؟) سورة النساء: الآية ١1/8‏ . 


قال تعالى : طأُولَيِكَ كالأنمَامٍ بَلْ هُمْ أضَلُ204 . 

واعلم أن عالم الشهادة بالاضافة إلى عالم الملكوت كالقشرة بالاضافة إلى اللب 
وكالصورة والقالب بالاضافة إلى الروح. وكالظلمة بالاضافة إلى النور وكالسفل 
بالاضافة إلى العلو. ولذلك يسمى عالم الملكوت العالم العلوي والعالم الروحاني 
والعالم النوراني » وفي مقابلته العالم السفلي والجسماني والظلماني . ولا تظئن أنا نعني 
بالعالم العلوي السموات فإنها علو وفوق في حق بعض عالم الشهادة والحس يشارك 
ادراكها البهائم. وأما العبد فلا تفتح له أبواب الملكوت ولا يصير ملكوتيا إلا وتبدل في 
حقه الأرض غير الأرض والسموات,. ولا يصير كل ما هو داخل تحت الحس والخيال 
أرضه ومن جملتها السموات, وكل ما ارتفع عن الحس سماؤه. وهذا هو المعراج الأول 
لكل سالك ابتدأ سفره لقرب حضرة الربوبية. فالانسان مردود إلى أسفل سافلين ومنه 
يترقى إلى العالم الأعلى. وأما الملائكة فإنهم من جملة عالم الملكوت عالقون في 
حضرة القدس ومنها يشرفون على العالم الأسفل. ولذلك قال رسول الله يكل : «إن الله 
خلق الخلق في ظلمة ثم أفاض عليهم من نوره». وقال : «لله ملائكة هم أعلم بأعمال 
الناس منهم». والأنبياء إذا بلغ معراجهم إلى عالم الملكوت فقد بلغوا المبلغ الأقصى 
واشرفوا على جملة من عالم الغيب. إذ من كان في عالم الملكوت كان عند الله وعنده 
مفاتيح الغيب أي من عنده تنزل أسباب الموجودات في عالم الشهادة» إذ عالم الشهادة 
أثر من آثار ذلك العالم يجري منه مجرى الظل بالإضافة إلى الشخص ومجرى الثمر 
بالاضافة إلى المثمرء والمسبب بالاضافة إلى السبب. ومفاتيح معرفة المسببات إنما 
تؤثر من الأسباب» ولذلك كان عالم الشهادة مثالاً لعالم الملكوت كما سيأتي في بيان 
المشكاة والمصباح والشجرة لأن المشبه لا يخلومن موازاة المشبه به» ومحاكاته نوعا من 
المحاكاة على قرب أو بعد وهذا الآن له غور عميق . ومن اطلع على كنه حقيقته انكشفت 
له حقائق أمثلة القرآن على يسر. 

دقيقة ترجع إلى حقيقة النور: قلنا: إن كل ما ببصر نفسه وغيره أولى باسم النور. 
فإن كان من جملته ما يبصر به غيره أيضاً مع أنه ببصر نفسه وغيره فهو أولى باسم النور من 
الذي لا يؤثر في غيره أصلاً. بل بالحري أن يسمى سراجاً منيراً لفيضان أنواره على 
غيره. وهذه الخاصة توجد للروح القدسي النبؤي إذ تفيض بواسطته أنوار المعارف على 


, ١9/4 سورة الاعراف: الآية‎ )١( 


الخلق وبه يفهم تسمية الله محمداً يأ سراجاً منيراء والأنبياء كلهم سرج. وكذلك 
العلماء ولكن التفاوت بيلهم لا يحصى . 

دقيقة : إذا كان اللائى بالذي يستفاد منه نور الأبصار أن يسمى صراجاً منيراً فالذي 
يجن م الشرح: فى لفسه جدير بأن يكت عنه بالباز: وهذه السرج الأرضية إنما تقتبس 
في أصلها من أنوار علوية والروح القدسي النبوي يكاد زيته يضيء ولو لم تمسه نار إنما 
يصير نوراً على نور إذا مسته النارء فبالحري أن يكون مقتبس الأرواح الأرضية من 
الأرواح الإلهية العلوية التي وصفها علي وابن ن عباس عليهما السلام فقالا : إن لله ملكا له 
سحو لق وجني ال رجه سود لاحي كلل موود ا لاد بسع ا 
بجميعهاء » وهو الذي قوبل بالملائكة كلهم فقيل: طيَوْمَ يَقَومُ الرُوحُ وَالمَلائِكَةٌ 
صَفَاع0). فهي إذا اعتبرت من حيث يقتبس منها السرج الارضية لم يكن لها مثال إلا 
النارء وذلك لا يؤنس إلا من جانب الطور. 

دقيقة : الأنوار السماوية التي منها تقتبس الأنوار الأرضية إن كان لها أن تترتب 
بحيث يقتبس بعضها من بعض. فالأقرب من المنبع الأول أولى ياسم النور لآنه أعلى 
رتبة . ومثال نرتيبها في عالم الشهادة لا يدركه الانسان إلا بأن يبصر ضوء القمر داخلاً في 
كوة بيت واقعاً على مرآة منصوبة على حائط منعطفاً منها على حائط آخر في مقابلتها. ثم 
منعطفاً منها على الأرض بحيث تستنير منه الارض» الا عنم انتما ل ا 
النور تابع لما على الحائط؛ وما على الحائط تابع لما على المرآة. وما على المرآة تابع 
للقمرء وما في القمر تابع لما في الشمس إذ منها يشرق النور على القمر. وهذه الأنوار 
الاربعة مترتبة بعضها أعلى من بعض وأكمل من بعض» ولكل واحد مقام معلوم ودرجة 
خاصة لا يتعداهاء فاعلم أنه قد انكشف لأرباب البصائر أن الانوار الملكوتية إنما 
وجدت على ترتيب كذلك, وأن المقرب هو الاقرب إلى النور الاقصى فلا يبعد أن تكون 
رتبة إسرافيل فوق رتبة جبريل وأن فيهم الاقرب الذي تقرب درجته من حضرة الربوبية 
التي هي منبع الأنوار كلها وأن فيهم الأدنى وبينهم درجات تستعصي عن الاحصاء. 
وإنما المعلوم كثرتهم وترقيهم في سرام وأنهم كما وصفوا به أنفسهم إذ قالوا: «وما 


واد #ام 


ِنا إلا لَه مَقَاءِ مَعْلُومْ * وإنا لنَحنُ الصّافُونَ * وإنَا لَنَحْنٌ المُسَبحُونَ 204 , 


)١(‏ سورة النيأ: الآية م". 
(؟) سورة الصافات: الآيات 155-1584 , 


دقيقة : إذا عرفت أن الأنوار لها ترتيب, فاعلم أنها لا تتسلسل إلى غير نهاية» بل 
ترتقي إلى منبع أول وهو النور لذاته وبذاته ليس يأتيه نور من غيره ومنه تشرق الأنوار كلها 
على ترتيبها. فانظر الآن هل اسم النور أحق وأولى بالمستنير المستعير نوره من غيره أو 
بالمنير في ذاته المنور لكل ما سواه؟ فما عندي أنه يخفى عليك الحق فيه وبه تتحقق أن 
اسم النور أحق بالنور الأقصى الأعلى الذي لا نور فوقه ومنه ينزل النور إلى غيره . 

حقيقة : بل أقول ولا أبالي أن اسم النور على غير النور الأولي مجاز محضء اذ 
كل ما سواه إذا اعتبرت ذاته فهو في ذاته من حيث ذاته لا نور له بل نوره مستعار من غيره 
ولا قوام لنورانيته المستعارة بنفسها بل بغيرها. ونسبة المستعار مجاز محض أفترى أن 
من استعار ثيابا وفرسا ومركباً وسرجاً وركبه في الوقت الذي أركبه المعيرء وعلى الحد 
الذي رسمه له غنى بالحقيقة أو بالمجاز أو أن المعير هو الغنى كلا بل المستعير هو فقير 
في نفسه كما كان. وإنما الغنى هو المعير الذي منه الاعارة والاعطاء وإليه الاسترداد 
والانتزاع» فإذا النور الحق هو الذي بيده الخلق والأمرء ومنه الانارة أولً. والادامة ثانياً 
فلا شركة لأحد معه في حقيقة هذا الاسم ولا في استحقاقه إلا من حيث تسميته به 
ويتفضل عليه بتسميته إياه تفضل المالك على عبده إذا أعطاه مالا ثم سماه مالكاء وإذا 
انكشف للعبد هذه الحقيقة علم أنه وما له ملك لمالكه على التفرد لا شريك له فيه 
أصلا. 

حقيقة : مهما عرفت أن النور راجع إلى الظهور والإظهار ومراتبه. فاعلم أنه 
لا ظلمة أشد من ظلمة العدم لأنه مظلم. وسمي مظلما لأنه ليس يظهر للأبصار إذ ليس 
يصير موجودا للبصر مع أنه موجود في نفسه فالذي ليس موجوداً لا لغيره ولا لنفسه كيف 
لا يستحق أن يكون هو الغاية في الظلمة وفي مقابلته الوجود فهو النورء فإن الشيء ما لم 
يظهر في ذاته لا يظهر لغيره. والوجود بنفسه أيضاً ينقسم إلى ما له الوجود من ذاته وإلى 
ماله الوجود من غيره. وماله الوجود من غيره فوجوده مستعار لا قوام له بنفسه. بل إذا 
نسبته إلى غيره وليس ذلك بوجود حقيقي كما عرفت في مثال استعارة الثوب والغنى» 
فالموجود الحقى هو الله تعالى كما أن النور الحق هو الله تعالى . 

حقيقة الحقائق : من ههنا يترقى العارفون من حضيض المجاز إلى ذروة الحقيقة 
واستكملوا معراجهم فرأوا بالمشاهدة العيانية أن ليس في الوجود إلا الله وأن كل شيء 
هالك إلا وجهه. لأنه يصير هالكاً في وقت من الأوقات. بل هو هالك أزلاً وأبداً إذ 


1١ 


لا ينتصور إلا كذلك. فإن كل شيء سواه إذا اعتبرت ذاته من حيث ذاته فهو عدم محضء 
وإذا اعتبر من الوجه الذي يسري إليه الوجود من الأول الحق رئي موجوداً لا في ذاته بل 
من الوجه الذي يلي موجده فيكون الموجود وجه الله فقط . ولكل شيء وجهان وجه إلى 

نفسهء. ووجه إلى ربه. فهو باعتبار وجه نفسه عدمء وباعتبار وجه الله وجود. فإذاً 
لا موجود إلا الله ووجهه. فإذا كل شيء هالك إلا وجهه أزلا وأبدا . ولم يفتقر هؤلاء إلى 
قيام القيامة ليستمعوا نداء الباري : اؤِلِمَنِ المُلْكُ اليوْمَ لله الواجد القَهَارٍه0©. بل هذا 
النداء لا يفارق سمعهم أبداء ولم يفهموا من معنى قوله «الله أكبر» أنه أكبر من غيره . 
حاشى لله إذ ليس في الوجود معه غيره حتى يكون هو أكبر منه. بل ليس لغيره رتبة المعية 
بل رتبة التبعية» بل ليس لغيره وجود إلا من الونجه الذي يليه فالموجود وجهه فقط. 
ومحال أن يكون أكبر من وجهه بل معناه أكبر من أن يقال له أكبر بمعنى الإضافة 
والمقايسة وأكبر من أن يدرك غيره كنه كبريائه نبياً كان أو ملكأء بل لا يعرف الله كنه 
معرفته إلا هو إذ كل معروف داخل تحت سلطان العارف واستيلائه وذلك ينافي الجلال 
والكبرياء. وهذا له تحقق ذكرناه في كتاب : «المقصد الأسنى في معاني أسماء الله 
الحستى». 

إشارة: العارفون بعد العروج إلى سماء الحقيقة اتفقوا على أنهم لم يروا في 
الوجود إلا الواحد الحق. ؛ لكن منهم من كان له هذه الحالة عرفاناً علمياً ومنهم من صار 
له ذوقاً وحالا وانتفت عنهم الكثرة بالكلية. واستغرقوا بالفردانية المحضة. واستهوت 
فيها عقولهم فصاروا كالمبهوتين فيه ولم يبق فيهم مت متسع لذكر غير الله ولا لذكر أنفسهم 
أيضاء فلم يبق عندهم إلا الله فسكروا سكراً وقع دونه سلطان عقولهم . » فقال بعضهم : 
أنا الحق. وقال الآخر: سبحاني ما أعظم شأني . وقال الآخر: مافي الجنة إلا الله 
وكلام العشاق في حال السكر يطوى ولا يحكى فلما خف عنهم سكرهم وردوا إلى 
سلطان العقل الذي هوميزان الله في أرضه عرفوا أن ذلك لم يكن حقيقة الاتحاد بل يشبه 
الاتحاد مثل قول العاشق في حال فرض العشق : 
أنامن أهوى ومن أهوى أنا نحن روحان حلنا يبدنا 

فلا يبعد أن يفجأ الإنسان مرآة فينظر فيهاء ولم ير المرآة قط. فيظن أن الصورة 
التي رآها في المرآة هي صورة المرآة متحدة بهاء ويرى الخمر في الزجاج فيظن أن 


.١5 صورة غافر: الآية‎ )١( 


الخمرة لون الزجاج فإذا صار ذلك عنده مألوفاً ورسخ فيه قدمه استغرقه فقال: 
رف الزجاج وراقتٍ الخمرٌ | وتشابها فتشاكل الأمسر 
فكأنما حمر ولا قدح ‏ وكانما قدح زلا" سكام 

وفرق بين أن يقال الخمر قدح وبين أن يقال كانه قدح. وهذه الحالة إذا غلبت 
سميت بالإضافة إلى صاحب الحال فناءء بل فناء الفناء لأنه فني عن نفسه وفني عن 
فنائه» فإنه ليس يشعر بنفسه في تلك الحال ولا بعد شعوره بنفسه. ولو شعر بعدم شعوره 
بنفسه لكان قد شعر بنفسهء وتسمى هذه الحال بالإضافة إلى المستغرق فيها بلسان 
المجاز اتحاداً؛ وبلسان الحقيقة توحيداًء ووراء هذه الحقائق أيضاً أسرار لا يجوز 
الخوض فيها. 

خاتمة : لعلك تشتهي أن تعرف وجه إضافة نور إلى السموات والأرض. بل وجه 
كونه في ذاته نور السموات والأرض. ولا ينبغى أن يخفى ذلك عليك بعد أن عرفت أنه 
النور ولا نور سواه وأنه كل الأنوار وأنه النور الكلى. لأن النور عبارة عما تتكشف به 
الأشياء وأعلى منه ما ينكشف به وله أعلى منه ما يتكشف به وله ومنه وأن الحقيقى منه 
ما ينكشف به وله ومنه وليس فوقه نور منه اقتباسه واستمداده بل ذلك له في ذاته من ذاته 
لا من غيره: ثم عرفت أن هذا لا يتصور ولن يتصف به إلا النور الأول» ثم عرفت أن 
السموات والأرض مشحونة نور من طبيعة النور. أعني المنسوب إلى البصر والبصيرة 
أي إلى الحس والعقل . 

أما البصري فما تشاهده فى السموات من الكواكب والشمس والقمر وما تشاهده 
في الأرض من الأشعة المنبسطة على كل ما في الأرض حتى ظهرت به الألوان المختلفة 
خصوصاً في الربيع. وعلى كل حال من الحيوانات والنباتات والمعادن وأصناف 
الموجودات ولولاها لم يكن للألوان ظهور بل وجودء ثم سائر ما يظهر للحس من 
الأشكال والمقادير يدرك تبعا للألوان ولا يتصور إدراكها إلا بواسطتها. 

أما الأنوار العقلية المعنوية فالعالم الأعلى مشحون بها وهي جواهر الملائكة, 
والعالم الأسفل مشحون بها وهي الحياة الحيوانية ثم الإنسانية وبالنور الانساني السفلي 
ظهر نظام العالم السفلي كما أن بالنور الملكي ظهر نظام العالم العلوي وهو المعنى 

بقوله : «هُو هُوَ َنْشأَكُمْ مِنَ الأرض وَاسْتَعْمَرَكُمْ فيهًا»ه '©. وقال: وِلَسْتَخْلِمَنَهُمْ في 


.5١ سورة هود: الآية‎ )١( 


الأرَضٍ 4). وقال: ؤِرَيَجْعَلَكُمْ حُلَفاء الأرْض »9# . وقال: «إني جَاعِل في 
الأض خَلِيفَة 94> . فإذا عرفت هذا عرفت أن العالم بأسره مشحون بالأنوار الظاهرة 
البصرية والباطنة العقلية» ثم عرفت أن السفلية فائضة بعضها من بعض فيضان النور من 
السراجء وأن السراج هو النور النبوي القدسيء وأن الارواح النبوية القدسية مقتبسة من 
الارواح العلوية اقتباس السراج من النار. وأن العلويات بعضها مقتبس من بعضء وأن 
ترتيبها ترتيب مقامات. ثم ترتقي جملتها إلى نور الأنوار ومعدنها ومنبعها الأول. وأن 
ذلك هو الله وحده لا شريك له. وأن سائر الأنوار مستعارة منه» وإنما الحقيقي نوره فقط- 
وإن الكل من نوره بل هولا هوية لغيره إلا بالمجاز. فإذأً لا نور إلا هو وسائر الأنوار أنوار 
من الوجه الذي تليه لا من ذاتها فوجه كل موجه إليه ومول شطره «قأيتمًا ولُوا َنم وبجة 
الله 42) . فإذاً لا إله إلا هو فإن الإله عبارة عما الوجوه مولية نحوه بالعبادة والتأليه ٠‏ أعني 
وجوه القلوب فإنها الأنوار والأرواح» بل كما أنه لا إله إلا هو فلا هو إلا هو فإن هو عبارة 
عما إليه الاشارة. وكيفما كان فلا اشارة إلا إليه بل كلما أشرت فهو بالحقيقة الاشارة 
إليهء وإن كنت لا تعرفه أنت لغفلتك عن حقيقة الحقائق التي ذكرناهاء ولا اشارة إلى 
نور الشمس بل إلى الشمسء فكل ما في الوجود فنسبته إليه في ظاهر المثال كنسبة النور 
إلى الشمسء فإذا لا إله إلا الله توحيد العوام ولا هو إلا هو توحيد الخواص. لأن ذلك 
أعم وهذا أخص وأشمل وأحق وأدق وأدخل بصاحبه في الفردانية المحضة والوحدانية 
الصرفة. ومنتهى معراج الخلائق مملكة الفردانية فليس وراء ذلك مرقاة إذ الرقي 
لا يتصور إلا بكثرة. فإنه نوع إضافة يستدعي مامنه الارتقاء وما إليه الارتقاء. وإذا 
ارتفعت الكثرة حقت الوحدة وبطلت الآضافة وطاحت الاشارة فلم يبق علو ولا سفل 
ولا نازل ولا مرتفع . فاستحال الترقي واستحال العروج فليس وراء الأعلى علو ولا مع 
الوحدة كثرة ولا مع انتفاء الكثرة عروج. فإن كان ثمة تغيير من حال فبالنزول إلى السماء 
الدنيا. أعني بالاشراق من علو إلى أسفل لأن الأعلى وإن لم يكن له أعلى فله أسفل . 


فهذا غاية الغايات ومنتهى الطلبات يعلمه من يعلمه وينكره من يجهله. وهومن 
)2( سورة النور: الآية 0 
(؟) سورة النمل: الآية 55. 


(”) سورة البقرة: الآية '7. 
(4) سورة البقرة: الآية 1١6‏ . 


1 


العلم الذي هو كنهه المكنون الذي لا يعلمه إلا العلماء بالله فإذا نطقوا به لم ينكره إلا 
أهل الغرة بالله ولا يبعد أن قال العلماء إن النزول إلى سماء الدنيا هو نزول ملك. فقد 
توهم بعض العارفين ما هو أبعد منه إذ قال هذا المستغرق بالفردانية له نزول إلى سماء 
الدنيا وإن ذلك هو نزوله إلى استعمال الحواس أو تحريك الأعضاء. وإليه الإشارة بقوله 
عليه الصلاة والسلام : «صرت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ولسانه الذي 
ينطق به». وإذا كان هو سمعه وبصره ولسانه فهو السامع والباصر والناطق إذا لا غيره. 
وإليه الإشارة بقوله لموسى ككل : «مرضت فلم تعدني) الحديث. فحركات هذا الموحد 
من السماء الدنيا وإحساساته من سماء فوقها وعقله فوق ذلك وهويترقى من سماء العقل 
إلى منتهى معراج الخلائق ومملكة الفردانية إلى سبع طبقات, ثم بعد يستوي على عرش 
الوحدانية ومنه يدبر الأمر إلى طبقات سماواته فربما نظر الناظر إليه أن ذلك له تأويل 
كقوله: أنا الحق وسبحاني » بل كقوله عليه الصلاة السلام("2 مرضت فلم تعدني وكنت 
سمعه وبصره ولسانه. فأرى الآن إمساك عنان البيان فما أراك تطبق من هذا الفن أكثر من 
هذا المقدار. 

مساعدة: لعلك لا تسمو إلى هذا الكلام بهمتك. بل تقصر دون ذروته همتك 
فخذ إليك كلاماً أقرب إلى فهمك وأقرب لضعفك, واعلم أن معنى كونه نور السموات 
والأرض تعرفه بالنسبة إلى النور الظاهري البصري» فإذا رأيت ألوان الربيع وخضرتها 
مثلا في ضياء النهار فلست تشك في أنك ترى الألوان. وربما ظننت أنك لست ترى مع 
الألوان غيرها فكأنك تقول لست أرى مع الخضرة غيرهاء ولقد أصر على هذا أقوام 
فزعموا أن النور لا معنى له وأنه ليس مع الألوان غير الألوان, فأنكروا وجود النور مع أنه 
أظهر الأشياء وكيف لا وبه تظهر الأشياء وهو الذي يبصر في نفسه ويبصر به غيره كما 
سبق. لكن عند غروب الشمس وغيبة السراج ووقوع الظل أدركوا تفرقة ضرورية بين 
محل الظل وبين موضع الضياء فاعترفوا بأن النور معنى وراء الألوان يدرك مم الألوان 
حتى كأنه لشدة اتحاده بها لا يدرك ولشدة ظهوره يخفى . وقد تكون شدته سبب الخفاء. 
والشيء إذا جاوز حده انعكس على ضده فإذا عرفت هذا فاعلم أن أرباب البصائر ما رأوا 
شيئاً إلا ورأوا الله معه. وربما زاد على هذا بعضهم فقال: ما رأيت شيئاً إلا رأيت الله قبله 
لأن منهم من يرى الأشياء به ومنهم من يرى الأشياء فيراه بالأشياء وإلى الأول الإشارة 


بقوله : ألم يح بِرَيكَ أله على كُلْ شيء شَهيده0". وإلى الثاني الإشارة بقوله : 
لسَثْر ريهم مم آياتنا في الآفاقٍ وفي أنفيِهِمْ 704 2. فالأول صاحب المشاهدة, والثاني 
صاحب الاستدلال بآياته. والأولى درجة الصديق. والثانية درجة العلماء الراسخين. 
وليس بعدهما إلا درجة الغافلين المحجوبين, فإذا عرفت هذا فاعلم أنه كما ظهر كل 
شيء للبصر بالنور الظاهر فقد ظهر كل شيء للبصيرة الباطنة بالله فهو مع كل شيء 
لا يفارقه وبه يظهر كل شيء» ولكن بقي ها هنا تفاوت وهو أن النور الظاهر يتصور أن 
يغيب بغروب الشمس ويحجب حتى يظهر الظل . 


أما النور الإلهي الذي به يظهر كل شيء لا يتصور غيبته بل يستحيل غروبه فيبقى 
مع الأشياء كلها دائما فانقطع طريق الاستدلال بالتفرقة ولو يضطر غيبته لانهدمت 
السموات والأرض ولأدرك به من التفرقة مايضطر معه إلى المعرفة يمابه ظهرت 
الأشياء. لكن لما تساوت الأشياء كلها على نمط واحد في الشهادة لوحدانية خالقها إذ 
كل شيء يسبح بحمده لا بعض الأشياء. وفي جميع الأوقات لا في بعض الأوقات ارتفع 
التفريق وخفي الطريق إذ الطريق الظاهر معرفة الأشياء بالأضداد فما لا ضد له ولا نقيض 
تتشابه الأحوال في الشهادة له. فلا بد أن يخفى ويكون خفاؤه لشدة جلائه والغفلة عنه 
لوشراق ضيائه: فسبحان من اختفى عن الخلق لشدة ظهوره واحتجب عنهم لإشراق 
نوره» وربما أيضاً لا يفهم هذا الكلام بعض القاصرين فيفهم من قولنا إن الله مع كل 
شيء كالنور مع الأشياء. إنه في كل مكان تعالى وتقدس عن النسبة إلى المكان. بل 
الأبعد عن إثارة هذا الخيال أن نقول لك قبل كل شيء وأنه فوق كل شيء وأنه مظهر كل 
شيء, والمظهر لا يفارق المظهر في معرفة صاحب البصيرة. فهذا الذي نعني بقولنا إنه 
مع كل شيع د ثم لا يخفى عليك أيضاً أن المظهر قبل المظهر وفوقه مع أنه معه لكنه معه 
بوجه وقبله بوجه فلا نظن أنه متناقض واعتبر بالمحسوسات التي هي قدر درجتك في 
العرفان» وانظر كيف تكون حركة اليد مع حركة ظل اليد وقبلها أيضاء ومن لم يتسع 
صدره لمعرفة هذا فليهجر هذا النمط من العلم فلكل علم رجال وكل ميسر لما خلق له . 


)ع2 سورة فصلت: الآية 7ه , 
(١‏ سورة فصلت: الآية “1ه. 


الفصل الثانى 
في بيان مثال المشكاة والمصباح والزجاجة والشحرة والزيت والتار: 


وبيان ذلك: يستدعي تقديم قطبين يتسع المجال فيهما إلى غير حد محدود. 
ولكني أشير إليهما بالرمز والاختصار. 

أحدهما : في بيان سر التمثيل ومنهاجه ووجه ضبط أرواح المعاني بقوالب 
الأمثلة, ووجه كيفية المناسبة بينهما وكنه الموازنة بين عالم الشهادة التي منها يتخذ طينة 
الأمثال؛ وبين عالم الملكوت الذي منه تنزل أرواح المعاني . 

والقطب الثاني: في طبقات أرواح الطينة البشرية ومراتب أنوارها. فإن هذا 
المثال مسوق لبيان ذلك. وقد قرأ ابن مسعود «مئلٌ : نورهٍ في قلب المؤمن كمشكاة 
فيهًا74. وقرأ أبي بن كعب «إمثل نور قلب من آمن كمشكاة فيها» . 
القطب الاول في بيان سر التمثيل ومناهجه : 

أعلم أن العالم عالمان روحاني وجسماني ١‏ وإن شئت قلت حسي وعقلي ٠»‏ وإث 
شئت قلت علوي وسفلي والكل متقارب. وإنما يختلف باختلاف العبارات»: فإذا 
اعتبرتهما في أنفسهما قلت جسماني وروحاني», وإذا اعتبرتهما بالإضافة إلى العين 
المدركة لهما قلت حسي وعقلى , وإن اعتبرتهما بإضافة أحدهما إلى الآخر قلت علوي 
وسفلي , وربما سميت أحدهما عالم الملك والشهادة» والآخر عالم الغيب والملكوت 
ومن ينظر إلى الحقائق من الألفاظ ربما يتحير من كثرتها ويتخيل كثرة المعاني والذي 
تنكشف له الحقائق يجعل المعاني أصلا والألفاظ تابعة وأمر القيعف بالعكس منه إذ 
يطلب الحقائق من الألفاظ وإلى الفريقين الإشارة بقوله تعالى : «أفْمَنْ يَمْشِي مُكِبَا عَلّى 
وَجْهٍ أهُدَى أمّن يَمْشي سَوِيَاً على صِراطٍ مُسْتَقيم ,4 9) . وإذا قد عرفت معنى العاملين» 
فاعلم أن العالم الملكوتي العلوي عالم غيب إذ هو غائب عن الأكثر. والعالم الحسي 
عالم الشهادة إذ يشهده الكافة. والعالم الحسي مرقاة إلى العالم العقلي. ولو لم يكن 
بينهما اتصال ومناسبة لانسد طريق الترقي إليه. ولو تعذر ذلك لتعذر السفر إلى الحضرة 
)١(‏ سورة النور: الآية 70. 
(؟) سورة الملك: الآية 71 . 


الربوبية والقرب من الله فلن يقرب من الله أحد ما لم يطأ بحبوحة حظيرة القدسء 
والعالم المرتفع عن إدراك الحس والخيال هو الذي نعنيه بعالم القدس. وإذا اعتبرت 
جملته بحيث لا يخرج منه شيء ولا يدخل فيه ما هو غريب منه سميناه حظيرة القدس. 
وربما سمينا الروح البشري الذي هو مجرى لوائح القدس الوادي المقدس . ثم هذه 
الحظيرة فيها حظائر بعضها أشد إمعانا في معاني القدس. ولكن لفظ الحظيرة محيط 
بجميع طبقاتها فلا تظنن أن هذه الألفاظ طامات غير معقولات عند أرباب البصائر. 


واشتغالي الآن بشرح كل لفظ مع ذكره يصدني عن المقصد. فعليك بالتشمير 
لفهم الالفاظ فأرجع إلى الغرض فأقول: لما كان عالم الشهادة مرقى إلى عالم الملكوت 
كان سلوك الصراط المستقيم عبارة عن هذا الترقي وقد يعبر عنه بالدين. وبمنازل الهدى 
فلو لم يكن بينهما مناسبة واتصال لما تصور الترقي من أحدهما إلى الآخرء فجعلت 
الرحمة الإلهية عالم الشهادة على موازنة عالم الملكوت. فما من شيء في هذا العالم 
إلا وهو مثال لشيء من ذلك العالم. وربما كان الشيء الواحد مثالا لأشياء من عالم 
الملكوت . وربما كان للشيء الواحد من الملكوت أمثلة كثيرة من عالم الشهادة. وإنما 
يكون مثالا إذا مائله نوعا من الممائلة . وطابقه نوعا من المطابقة.» وإحصاء تلك الأمثلة 
يستدعي استقصاء جميع موجودات العالمين بأسرهاء ولن تفي به القدرة البشرية» ولم 
تتسع لفهمه القوة البشرية. ولا تفي لشرحه الاعمار القصيرة. فغايتي أن أعرفك منها 
أنموذجاً لتستدل باليسير منها على الكثير وينفتح لك باب الاستبصار بهذا النمط من 
الأسرار. فأقول: إن كان من عالم الملكوت جواهر نورانية شريفة عالية يعبر عنها 
بالملائكة منها تفيض الأنوار على الأرواح البشرية ولأجلها قد تسمى أرباباً فيكون الله 
رب الأرباب لذلك. ويكون لها مراتب في نورانيتها متفاوتة فبالحري أن يكون مثالها من 
عالم الشهادة الشمس والقمر والكواكب. وسالك الطريق يترقى أولاً إلى ما درجته درجة 
الكوكب فيتضح له إشراق نوره؛ وينكشف له أن العالم الأسفل بأسره تحت سلطانه 
وتحت اشراق نوره» ويتضح له من جماله وعلو درجته ما ينادي فيقول: هذا رني» ثم إذا 
اتضح له ما فوقه مما رتبته رتبة القمر رأى أفول الأول في مضرب الهوى أي بالإضافة إلى 
ما فوقه أفولاً. فقال: لا أحب الآفلين» فكذلك يترقى حتى ينتهي إلى ما مثاله الشمس 
فيراه أكبر وأعلى قابلا للمثال سو مناسبة له معه. والمناسية مع ذي النقص نقص؟ 
وأقول أيضاً فمنه من يقول : لوَجَهْتُ وَجْهِي للّذي قَطَرَ السَّمَواتِ والأرْض حَيفا وَمَاأنَا 


18 


مِنَ المُشْرِكينَ274. ومعنى الذي اشارة مبهمة مناسبة لها إذ لو قال قائل ما مثال مفهوم 
الذي لم يتصور أن يجاب عنه فالمنزه عن كل مناسبة هو الله الحق. ولذلك لما قال بعض 
الات لوصول انها عب الله لازن سراي : لقْلْ مُوَاللُهُ أحَدُ # الله الصّمَدُ # لْمْ 
يَِدْ ولّمْ يُولَدْ # ولَمْ يكن لَهُ كفو أحَدّ2"©. معناه التقدس عن النسبة. ولذلك لما قال 
فرعون لموسى : ومارب العالمين؟ كالطالب لماهيته لم يجبه إلا بأفعاله إذا كانت 
الأفعال أظهر عند السائل». فقال: رب السموات والأرض . فقال فرعون لمن حوله : ألا 
تسععون «الدكر عليه في عدوله: ف جرابةه عن طلت الحليقة ؛ فقال موسى رَبُكُمْ 
وَرَتْ آبائِكُمْ الأوَلِينَ 074" فنسبه فرعون إلى الجنون إذ كان مطلبه المثال والماهية وهو 
يجيب عن الأفعال بالأفعال» وقال فرعون: إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون. 
ولنرجع الآن إلى الأنموذج فنقول: علم التعبير يعرفك مقدار ضرب المثال لأن الرؤيا 
جزء من النبوة. أما ترى أن الشمس في الرؤيا تعبيرها السلطان لما بينهما من المشاركة 
والمماثلة في معنى روحاني. وهو الاستعلاء على الكافة مع فيضان الآثار والأنوار على 
الجميع. والقمر تعبيره الوزير لإفاضة الشمس نورها بواسطة القمر على العالم عند 
غيبتها. كما يفيض السلطان آثاره بواسطة الوزير على من يغيب عن حضرة السلطان. 
وأن من يرى أن في يده خاتما يختم به أفواه الرجال وفروج النساء فإنه يعبر له أنه يؤذن قبل 
الصبح في رمضان, ومن رأى أنه يصب الزيت في الزيتون تعبيره أن تحته جارية هي أمه 
وهو لا يعرفها فاستقصاء أبواب التعبير في أمثال هذا الجنس غير ممكن فلا يمكن 
الاشتغال بعدهاء بل أقول: كما أن ذ في الموجودات العالية الروحانية ما مثاله الشمس 
والقمر والكواكب. كذلك منها ما له أمثلة أخرى إذا اعتبرت معها أوصاف آخر وى 
النورانية» فإن كان في تلك الموجودات ما هو ثابت لا يتغير وعظيم لا يستصغر ومنه 
تتفجر إلى أودية القلوب البشرية مياه المعارف ونفائس المكاشفات فمثاله الطور. وإن 
كانت الموجودات التي تتلقى تلك النفائس بعضها أولى من بعض فمثالها الوادي. وإن 
كانت تلك النفائس بعد اتصالها بالقلوب البشرية تجري من قلب إلى قلبء فهذه 
القلوب أيضاً أودية ومفتتح الوادي قلوب الأنبياء والأولياء والعلماء. ثم من بعدهم فإن 
كانت هذه الأودية دون الأول ومنها تغترف فبالحري أن يكون الأول هو الوادي الأيمن 
)١(‏ سورة الانعام: الآية 9/ا. 
(؟) سورة الإخلاص: الآيات ١‏ -5. 
(9) سورة الصافات : الآية 715 . 


لكثرة يمنه وعلودرجته. وإن كان الوادي الأول يتلقى من آخر درجات الوادي الأيمن فهو 
يغترف من شاطىء الرافي الأيمن دون لجته وميدانه وإن كان روح النبي سراجأً منيراً: 

وكان ذلك الروح مة مقتيسا نواسطة وحي كما قال: «أوحَينا إِلْيكْ رُوحاً مِنْ أمْرِنَاه0». 

فما منه الاقتباس مثاله النارءه وإن كان المتلقون من الأنبياء بعضهم على محض التقليد 
لمايسمعهوبعضهم على حظ من البصيرة. فمثال المقلد الغيرالمستبصر الجذوة 
والقبس والشهاب وصاحب الذوق مشارك للنبي في بعض الأحوال. ومثال تلك المشاركة 
الاصطلاء وإنما يصطلي بالنار من معه النار لا من سمع خبرهاء وإن كان أول منزل 
الأنبياء الترقي إلى العالم المقدس عن كدورة الحس والخيال؛ فمثال. ذلك المنزل 
الوادي المقدس. وإن كان لا يمكن وطء ذلك الوادي المقدس إلا باطراح الكونين أعني 
الدنيا والآخرة والتوجه إلى الواحد الحق, وكانت الدنيا والآخرة متقابلتين متحاذيتين 
وهما عارضان للجوهر النوراني البشري يمكن اطراحهما مرة والتلبس بهما أخرى. 
فمئال اطراحهما عند الاحرام والتوجه إلى كعبة القدس خلع النعلين بل نترقى إلى 
الحضرة الربوبية مرة اخرى» فنقول: إن كان في تلك الحضرة شيء بواسطته ننتقش 
العلوم المفصلة في الجواهر القابلة فمثاله القلم. وإن كان في تلك الجواهر القابلة 
للتلقي ما انتقش بالعلوم فمثاله اللوح والكتاب «والرّق المنشور»”'©. وإن كان فوق 
الناقش للعلوم شيء مسخر له فمثاله اليدء وإن كان لهذه الحضرة المشتملة على اليد 
واللوح والقلم والكتاب ترتيب منظوم فمثاله الصورة. وإن كان يوجد للصورة الانسية 
ترتيب منظوم على هذه الشاكلة فهي على صورة الرحمن., وفرق بين أن يقال على صورة 
الرحمن وبين أن يقال على صورة الله . إذ الرحمة الإلهية هي التي على صورة الحضرة 
الإلهية بهذه الصورة. ثم أنعم على آدم فأعطاه صورة مختصرة جامعة لجميع أصئاف 
ما في العالم حتى كأنه كل ما في العالم أو هو نسخة العالم مختصرة. وصورة آدم أعني 
هذه الصورة مكتوبة بخط الله. فهو الخط الإلهي الذي ليس برقم حروف إذ يتنزه خطه 
عن أن يكون رقماً وحروفاء كما يتنزه كلامه عن أن يكون صوتاً وحروفاًء وقلمه عن أن 
يكون قضنا وحديداء ويده عن أن تكن ليما وعظلما . ولولا هذه الرحمة لعجز الآدمي 
عن معرفة ربه إذلا يعرف ربه إلا من عرف نفسه. فلما كان هذا من آثار الرحمة كان على 


لق سورة الشورى: الآية 6 
(؟) سورة الطور: الآية 7 وتصويب الآية: «في رق منشور». 


0 


صورة الرحمن لا على صورة الله فحضرة الإلهية غير حضرة الرحصس وغير حضرة 
الدللكووي ناير الربوبية. ولذلك مر بامياذ بجميع مده الحضرات فقال : هق أعُودُ 
بربٌ الئاس © مَلِكِ الاس © إِلَهِ الثاس 04" . ولولا هذا المعنى لكان قوله: إن الله 
خلق آدم على صورة الرحمن غير منظوم لفظاء بل كان ينبغي أن يقول على صورته. 
واللفظ الوارد في الصحيح على صورة الرحمن. ولأن تمييز حضرة الملك عن حضرة 
الربوبية يستدعي كدري طويلاً. فلنتجاوزه ويكفيك من الأنموذج هذا القدر فإنه مجر 
لا ساحل له فإن وجدت في نفسك نفوراً عن هذه الأمثال فستأنس بقوله تعالى : جِأنْرَلَ 
مِنّ السّماءِ مَاءٌ فَسَالَتَ أودية ِقَدَرِهًا ه29 . الآية. فإنه قد ورد في التفسير أن الماء هو 
المعرفة والأودية القلوب . 

خاتمة واعتذار: لا تظنن من هذا الأنموذج وطريق ضرب الأمثال رخصة مني في 
رفع الظواهر واعتقاداً في إبطالها حتى أقول مثلاً: لم يكن مع موسى نعلان ولم يسمع 
الخطاب بقوله : «اخْلّعٌ نَعْلَيِك". حاشا لله فإن إبطال الظواهر رأي الباطنية الذين 
نظروا بالعين العوراء إلى أحد العالمين. وجهلوا جهلا بالموازنة بينهما فلم يفهموا 
وجهه. كما أن إبطال الأسرار مذهب الحشوية فالذي يجرد الظاهر حشويء, والذي 
يجرد الباطن باطني والذي يجمع بينهما كامل. ولذلك قال عليه الصلاة والسلام : 
«للقرآن ظاهر وباطن وحد ومطلع». وربما نقل هذا عن علي موقوفا عليه. بل أقول 
موسى فهم من الأمر بخلع النعلين اطرح الكونين فامتثل الأمر ظاهراً بخلع نعليه وباطناً 
بخلع العالمين, فهذا هو الاعتبار أي العبور من شيء إلى غيره ومن ظاهر إلى سرء وفرق 
بين من يسمع قول رسول الله يل : ولا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب أو صورة». فيقتني 
الكلب في البيت ويقول ليس الظاهر مرادا بل المراد تخلية بيت القلب عن كلب 
اقفن لآنه يملع المعرفة التي هي من أنوار الملائكة إذ الغضب غول العقل وبين من 
يمتثل الأمر بالظاهر. ثم يقول ليس الكلب بصورته بل بمعناه وهو السبعية والضراوة 
وإذا كان حفظ البيت الذي هو مقر الشخص والبدن واجباً عليه أن يحفظ عن صورة 
الكلبية. فلآن يجب حفظ بيت القلب وهو مقر الجوهر الحقيقي الخاص عن سر الكلبية 
كان أولى . فإن من يجمع بين الظاهر والباطن جميعاً فهذا هو الكامل. وهو المعني 
)١(‏ سورة الناس: الآيات 5-١‏ 
(؟) سورة الرعد: الآية /ا١‏ . 


(") سورة طه: الآية ١5‏ . 


"١ 


بقولهم الكامل من لا يطفىء نور معرفته نور ورعه. وكذلك ترى الكامل لا يسمح لنفسه 
بترك حد من حدود الشرع مع كمال البصيرة. 


فهذه مغلطةء منها ما وقع لبعض السالكين في إباحة طي بساط الأحكام ظاهراً 
حتى ربما ترك أحدهم الصلاة وزعم أنه دائم الصلاة بسره. وهذا أشد مغلطة الحمقاء 
من الإباحية الذين تأخذهم ترهات كقول بعضهم: إن الله غنى عن عملنا. وقول 
بعضهم : إن الباطن مشحون بالخبائث ليس يمكن تزكيته منها ولا مطمع في استئصال 
الغضب والشهوة بظنه أنه مأمور باستئصالهاء فهذه حماقات . وأما ما ذكرناه فهو ككبوة 
جواد وهفوة سالك صده الشيطان فدلاه بحبال الغرور وأرجع إلى حديث النعلين فأقول: 
ظاهر خلع النعلين منبه على ترك الكونين» فالمثال في الظاهر حق وأداؤه إلى السر 
الباطن حقيقة. ولكل حق حقيقة. وأهل هذه الرتبة هم الذين بلغوا درجة الزجاجة» كما 
سيأتي معنى الزجاجة لأن الخيال الذي من طينته يتخذ المثال صلب كثيف يحجب 
الأسرار ويحول بينك وبين الأنوارء ولكن إذا صفا صار كالزجاج الصافي. وصار غير 
حائل عن الأنوار بل صار مع ذلك مؤديا للأنوارء بل صار مع ذلك حافظا للأنوار عن 
الانطفاء بعواصف الرياح. فستأتيك قصة الزجاجة. فاعلم أن العالم الكثيف الخيالي 
السفلي صار في حق الأنبياء عليهم السلام زجاجة. ومشكاة للأنواره ومصفاة للأسرار. 
ومرقاة إلى العالم الأعلى . وبهذا يعرف أن المثال الظاهر حق ووراء هذا سر. وقس عليه 
الضوء والنهار وغيره . 

دقيقة : إذا قال عليه الصلاة والسلام : «رأيت عبد الرحمن بن عوف دخل الجنة 
حبوأ». فلا تظن أنه لم يشاهده بالبصر كذلك بل رآه في يقظته كما يراه النائم في نومه» 
وإن كان عبد الرحمن بن عوف نائما في البيت بشخصه. فإن النوم إنما أثر في أمثال هذه 
المشاهدات لقهره سلطان الحواس عن النور الباطن الإلهي فإن الحواس شاغلة وجاذبة 
إلى عالم الحس وصارفة وجهه عن عالم الغيب والملكوت. وبعض الأنوار النبوية قد 
تصفى وتستولى بحيث لا تجذبه الحواس إلى عالمهاء ولا تشغله فيشاهد في اليقظة 
ما يشاهده غيره في المنام لكنه إذا كان في غاية الكمال لم يقتصر إدراكه على محض 
الصورة المبصرة. بل عير منها إلى السر فاتكشف له أن الإيمان جاذب إلى العالم الأعلى 
الذي يعبر عنه بالجنة. والغنى والثروة جاذبة إلى الحياة الحاضرة وهي العالم الأسفل» 
فإذا كان الجاذب إلى أشغال الدنيا أقوى مقارنة من الجاذب للآخرة صد عن السير إلى 


71 


الجنة؛ فإن كان جاذب الإيمان أقوى أورث عسراً أو بطئاً فى سيره فيكون مثاله من عالم 
الشهادة الحبو. فكذلك تنجلي الاسرار من وراء زجاجات الخيال وذلك لا يقصر في 
حكمه على عبد الرحمن وإن كان إبصاره مقصوراً عليه. بل يحكم به عن كل من قويت 
بصيرته واستحكم إيمانه وكثرت ثروته كثرة تزاحم الإيمان. لكن لا تقاومه لرجحان قوة 
الإيمان. فهذا يعرفك كيفية إبصار الأنبياء الصور. وكيفية مشاهدتهم المعاني من وراء 
الصور. والأغلب أن يكون المعنى سابقاً إلى المشاهدة الباطنية» ثم يشرف منه على 
الروح الخيالي فينطبع بصورة موازية للمعنى محاكية له. وهذا الحظ من الوحي في 
اليقظة يحتاج إلى التأويل كما أنه في النوم يفتقر إلى التعبير. والواقع منه في النوم نسبته 
إلى الخواص النبوية نسبة الواحد إلى ستة وأربعين. والواقع منه في اليقظة نسبته أعظم 
من ذلك وأظن أن نسبته نسبة الواحد إلى الثلاثة. فإن الذي اتكشف لنا أن الخواص 
النبوية تنحصر شعبها في ثلاثة أجناس وهذا واحد من تلك الأجناس الثلاثة . 

القطب الثاني : في بيان مراتب الأرواح البشرية النورانية إذ بمعرفتها تعرف أمثلة 
القرآن: 

فالأول منها: الروح الحساس وهو الذي يتلقى ما تورده الحواس إذ كان أصل 
الروح الحيواني وأوله وبه يصير الحيوان حيواناً وهو موجود للصبي الرضيع . 

الثاني : الروح الخيالي وهو الذي يكتب ما أوردته الحواس ويحفظه مخزوناً عنده 
ليعرضه على الروح العقلي فوقه عند الحاجة إليه . وهذا لا يوجد للصبي الرضيع في بدء 
نشوئه ولذلك يولع بالشيء ليأخذه. فإذا غيب عنه ينساه ولا تنازعه نفسه إليه إلى أن يكبر 
قليلا بحيث إذا غيب عنه بكى وطلب ذلك لبقاء صورته محفوظة في خياله. وهذا قد 
يوجد لبعض الحيوانات دون بعض. ولا يوجد للفراش المتهافت على النار لأنه يقصد 
النار لشغفه بضياء النار فيظن أن السراج كوة مفتوحة إلى موضع الضياء فيلقي نفسه عليه 
فيتأذى به لكنه إذا جاوزه وحصل في الظلمة عاوده مرة اخرى بعد مرة» ولوكان له الروح 
الحافظ المستثبت لما أداه الحس إليه من الألم لما عاوده بعد أن تضرر به مرة. فالكلب 
إذا ضرب مرة بخشبة فإذا رأى الخشبة بعد ذلك هرب . 

الثالث: الروح العقلي الذي يدرك المعاني الخارجة عن الحس والخيال وهو 
الجوهر الإرنسي الخاص ولا يوجد للبهائم ولا الصبيان. ومدركاته المعارف الضرورية 
الكلية كما ذكرناه عند ترجيح نور العقل على نور العين. 


رف 


الرابع : الروح الفكري وهو الذي يأخذ العلوم العقلية المحضة فيوقع بينها 
تأليفات وازدواجات ويستنتج منها معارف نفيسة ثم استفاد نتيجتين مثلا ألف بينهما مرة 
ع 1 1 
اخرى واستفاد نتيجة مرة اخرى, ولا تزال تتزايد كذلك إلى غير نهاية . 


الخامس : الروح القدسي النبوي الذي به يختص الأنبياء وبعض الأولياء. وفيه 
تنجلي لوائح الغيب وأحكام الآخرة وجملة من معارف ملكوت السموات والأرض. بل 
من المعارف الربانية التي تقصر دونها الروح العقلي والفكري وإليه الإشارة بقوله تعالى : 
دِوَكَذَلِكَ أوْحيْنا إِيِتَ رُوْحَا مِنْ أمرنا مَاكنت تذري مَا الكتَابُ ولا الإيمانٌ وَلَكنْ جَعَلَْا 
نوراً نهدي به مَنْ نَشَاءُ مِنْ عبَادِنَا وإنك لَمَهْدي إلى صِرَاطٍ مُستَقيم 204. ولا يبعد أيها 
المعتكف في عالم العقل أن يكون وراء العقل طوراً آخر يظهر فيه ما لا يظهر في العقل 
كما لم يبعد كون العقل طوراً وراء التمييز والإحساس ينكشف فيه غرائب وعجائب يقصر 
عنها الاحساس والتمييز. فلا تجعل أقصى الكمال وقفاً على نفسك. وإن أردت مثالا 
مما تشاهده من جملة خواص بعض البشر فانظر إلى ذوق الشعر كيف يختص به قوم من 
الناس وهو نوع إدراك ويحرم منه بعضهم حتى لا تتميز عندهم الألحان الموزونة من 
المزحفة. وانظر كيف عظمت قوة الذوق في آخرين حتى استخرجوا منها الموسيقى 
والأغاني وصنوف الدستانات التي منها المحزن., ومنها المطرب. ومنها المنوم. ومنها 
المبكي . ومنها المجنن. ومنها القاتل. ومنها الموجب للغشي وإنما تقوى هذه الآثار 
فيمن له أصل الذوق. وأما العاطل عن خاصية الذوق فإنه يشارك في سماع الصوت 
وتضعف فيه هذه الآثار وهو يتعجب من صاحب الوجد والغشي ولو اجتمع العقلاء كلهم 
من أرباب الذوق على تفهيمه معنى الذوق لم يقدروا عليه. 

فهذا مثال في أمر خسيس لأنه قريب إلى فهمك فقس به الذوق الخاص النبوي . 
واجتهد في أن تصير من أهل الذوق بشيء من تلك الروح فإن للأولياء منه حظا وافراء 
فإن لم تقدر فاجتهد أن تصير بالأقيسة التي ذكرناها والتشبيهات التي رمزنا إليها من أهل 
العلم بها فإن لم تقدر فلا أقل من أن تكون من أهل الإيمان بها يَرْقعُاللهُ الي آمَنوا 
نَكُمْ والّذِينَ ونوا العِلَمَ درجات 2#" . والعلم فوق الإيمان. والذوق فوق العلمء 
والذوق وجدان والعلم قياس. واللإيمان قبول مجرد بالتقليد وحسن الظن بأهل الوجدان 


.87 سورة الشورى: الآية‎ )١( 
١١ (؟1) سورة المجادلة: الآية‎ 


>15 


أو بأهل العرفان. وإذا عرفت هذه الأرواح الخمسة. فاعلم أنها بجملتها أنوار إذ بها تظهر 
أصناف الموجودات والحسي والخيالي منها وإن كان يشارك البهائم في جنسهاء لكن 
الذي للإنسان منها نمط آخر أشرف وأعلى وخلقاً في الإنسان لغرض آخر أجلى وأسنى 
وأما الحيوانات فلم يخلقا لها إلا ليكونا آلتها في طلب غذائها وتسخيرها للآدميين 2 
خلقا للآدمي ليكونا شبكة له يقتص بهما في جهة ؛ العالم الأسفل مبادىء المعارف الدينية 
الشريفة إذ الإنسان إذا أدرك بالحس شخصاً معيناً اقتبس من عقله معنى عاماً مطلقاً كما 
ذكرنا في مثال عبد الرحمن بن عوف. فإذا عرفت هذه الأرواح الخمسة فلنرجع إلى 
عرض الأمثلة . 

بيان أمثلة هذه الآية: أعلم أن القول في موازنة هذه الأرواح الخمسة للمشكاة 
والزجاجة والمصباح والشجرة والزيت يمكن تطويله. لكني أوجز وأقتصر على التنبيه 
على طريقه, فأقول: أما الروح الحاس فإذا نظرت إلى خاصيته وجدت أنواره خارجة من 
ثقب عدة كالعينين والأذنين والمنخرين وغيرهما فأوفق مثال له في عالم الشهادة 
المشكاة. وأما الروح الخيالي فتجد له خواص ثلاثة: 

إحداها: أنه من طينة العالم السفلي الكثيف لأن الشيء المتخيل ذو مقدار وشكل 
وجهات محصورة مخصوصة وهو على نسبة من المتخيل من قرب أو من بعد. ومن شأن 
الكثيف الموصوف بأوصاف الأجسام أن يحجب عن الأنوار العقلية المحضة التي تتنزه 
عن الوصف بالجهات والمقادير والقرب والبعد. 

الثاني : أن هذا الخيال الكثيف إذا صفي ورقق وهذب وضبط صار موازياً للمعاني 
العقلية محاذياً لها وغير حائل عن إشراق نور منها. 

الثالثة : أن الخيال في بداية أمره محتاج إليه جد لتنضبط له المعارف العقلية 
فلا تضطرب ولا تتزلزل ولا تنتشر انتشارا يخرج عن الضبط إذ تجمع المثالات الخيالية 
للمعارف العقلية . 

وهذه الخواص الثلاثة لا تجدها في عالم الشهادة بالإضافة إلى الأنوار المبصرة 
إلا الزجاجة فإنها في الأصل من جوهر كثيف لكن صفي ورقق حتى صار لا يحجب نور 
المصباح بل يؤديه على وجهه ثم يحفظه عن الانطفاء بالرياح العاصفة والحركات العنيفة 
فهي أولى مثال به. 


>30 


وأما الثالث : وهو الروح العقلي الذي فيه إدراك المعاني الشريفة الإلهية فلا يخفى 
عليك وجه تمثيلها وقد عرفت هذا مما سبق من بيان معنى كون الأنبياء سراجاً منيراً. 

وأما الرابع : وهو الروح الفكري فمن خاصيته أن يبتدىء من أصل واحد ثم 
يتشعب شعبتين ثم كل شعبة شعبتين» وهكذا إلى أن تكثر الشعب بالتقسيمات العقلية. 
ثم يفضي بالآخر إلى نتائج تعود فتصير بذورا لأمثالها إذ يمكن أيضا تلقيح بعضها 
بالبعض فيكون مثاله من هذا العالم الشجرة. وإذا كانت ثمراتها مادة لتضاعف المعارف 
وثباتها وبقائهاء فالبحري أن لا تمثل بشجرة السفرجل والتفاح والرمان وغيرها من جملة 
سائر الأشجار إلا بالزيتونة خاصة لأن لب ثمرتها هو الزيت الذي هو مادة المصابيح 
ويختص من بين سائر الأدهان بخاصية زيادة الإشراقء وإذا كانت الشجرة التي تكثر 
مباركة . وإذا كانت شعب الأفكار العقلية المحضة خارجة عن قبول الإضافة إلى الجهات 
والقرب والبعد فأولى أن لا تكون شرقية ولا غربية . 


وأما الخامس : وهو الروح القدسي النبوي والمنسوب إلى الأولياء إذا كان في غاية 
الإشراق والصفاء وكانت الروح المفكرة منقسمة إلى ما يحتاج إلى تعليم وتنبيه ومدد من 
خارج حتى يستمر في أنواع المعارف» وبعضها يكون في شدة الصفاء كأنه تنبه من نفسه 
بغير مدد من خارج ؛ فبالحري أن يعبر عن الصافي القوي الاستعداد بأنه يكاد زيته يضيء 
ولولم تمسه نار إذ في الأولياء من يكاد يشرق نوره حتى يكاد يستغني عن مدد الأنبياء . 
وفي الأنبياء من يكاد يستغني عن مدد الملائكة فهذا المثال موافق لهذا القسم وإذا كانت 
هذه الأنوار مرتبة بعضها على بعض فالحسي هو الأول وهو كالتوطئة والتمهيد للخيالي إذ 
لا يتصور الخيالي إلا موضوعاً بعده والفكري والعقلي يكونان بعدهماء فبالحري أن 
تكون الزجاجة كالمحل للمصباح والمشكاة كالمحل للزجاجة فيكون المصباح في 
زجاجة والزجاجة في مشكاة. وإذا كانت هذه كلها أنوارا بعضها فوق بعض فبالحري أن 
تكون نوراً على نور فافهم والله الموفق. 

خاتمة : هذا مثال إنما يصلح لقلوب المؤمنين أو لقلوب الأنبياء والأولياء لا لقلوب 
الكفار, فإن النور يراد للهداية فالمصروف عن طريق الهدى باطل وظلمة. بل أشد من 
الظلمة لأن الظلمة لا تهدي إلى باطل كما لا تهدي إلى حقء. وعقول الكفار انتكست 
وكذلك سائر إدراكاتهم وتعاونت على الضلال في حقهم , فمثالهم كرجل في بحر لجي 


35 


يغشاه موج من فوقه موج من فوق سحاب ظلمات بعضها فوق بعض. والبحر اللجي هو 
الدنيا بما فيها من الأخطار المهلكة والحوادث الرديئة والمكدرات المعمية, والموج 
الأو ل: موج الشهوات الباعثة إلى الصفات البهيمية والاشتغال باللذات الحسية وقضاء 
الأوطار الدنيوية حتى أنهم يأكلون ويتمتعون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم . فبالحري 
أن يكون هذا الموج مظلماً لأ حب الشيء يعمي ويصم . والموج الثاني : موج الصفات 
السبعية الباعثة على الغضب والعداوة والبغضاء والحقد والحسد والمباهاة والتفاخر 
والتكاثر وبالحري أن يكون مظلماً لآن الغضب غول العقل وبالحري أن يكون هو الموج 
الأعلى لأن الغضب في الأكثر مستول على الشهوات., حتى إذا ماج أذهل عن الشهوات 
وأغفل عن اللذات فإن الشهرة لا تقاوم الغضب الهائج أصلا. وأما السحاب فهو 
الاعتقادات الخبيثة والظنون الكاذبة والخيالات الفاسدة التي صارت حجبا بين الكافر 
وبين الإيمان ومعرفة الحق والاستضاءة بنور شمس القرآن والعقل فإن خاصية السحاب 
أن يحجب إشراق نور الشمس.» وإذا كانت هذه كلها مظلمة فبالحري أن تكون ظلمات 
بعضها فوق بعض. وإذا كانت هذه الظلمات تحجب عن معرفة الأشياء القريبة فضللا عن 
البعيدة فلذلك تحجب الكفار عن معرفة عجائب أحوال النبي وَلِ مع قرب متناوله 
وظهوره بأدنى تأمل. فبالحري أن يعبر عنه بأنه إذا أخرج يده لم يكد يراهاء وإذا كان 
منبع الأنوار كلها من النور الأول الحق كما سبق, فبالحري أن يعتقد كل موحد أن من لم 
يجعل الله له نوراً فما له من نور ويكفيك هذا القدر من أسرار هذه الآية فاقنع . 


الفصل الثالث 


في معنى قوله كَكةِ : «إن لله سبعين حجابا من نور وظلمة 

لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه كل من أدركه بصره» : 
في بعض الروايات سبعمائة وفي بعضها سبعين ألفاً. فأقول: إن الله تعالى متجلٍ 
في ذاته بذاته لذاته ويكون الحجاب بالإضافة إلى محجوب لا محالة, وأن المحجوبين 
من الخلق ثلاثة أقسام منهم : من يحتجب بمجرد الظلمة, ومنهم : من يحتجب بمجرد 
النور المحضء ومنهم : من يحتجب بنور مقرون بظلمة . وأصناف هذه الأقسام كثيرة 
تتحقق كثرتهاء ويمكنني أن أتكلف حصرها لكني لا أثق بما يلوح من تحديد وحصر إذ 


>7/ 


لا يدري أهو المراد في الحديث أم لاء أما الحصر إلى سبعمائة أو سبعين ألفأ فذلك 
لا تستقل به إلا القوة النبوية مع أن ظاهر ظني أن هذه الأعداد مذكورة لا للتحديد. وقد 
تجري العادة بذكر أعداد ولا يراد بها الحصرء بل التكثير والله أعلم بحقيقة ذلك فهو 
خخارج عن الوسع. وإنما الذي يمكنني الآن أن أعرفك هذه الأقسام وبعض أصناف كل 
قسم فأقول: 

القسم الأول: هم المحجوبون بمحض الظلمة وهم الملاحدة الذين لا يؤمنون 
بالله ولا باليوم الآخر» وهم الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة لأنهم لا يؤمنون 
بالآخرة أصلاً وهم أصناف. 

الصنف الأول: تشوق إلى طلب سبب لهذا العالم فأحاله الطبع والطبع صفة 
مركوزة في الأجسام حالة فيهاء وهي مظلمة إذ ليس لها معرفة وإدراك ولا خبر لها من 
نفسها ولا تصور لها وليس لها نور يدرك بالبصر الظاهر أيضاً. 

الصنف الثاني : هم الذين شغلوا بأنفسهم ولم يتفرغوا لطلب السبب بل عاشوا 
عيشة البهائم فكان حجابهم أنفسهم المركوزة وشهواتهم المظلمة فلا ظلمة أشد من 
ال هوى والنفس . ولذلك قال تعالى : يت من ائحَذإلهه هَوَاة0) . وقال النبي كك : 
«الهوى أبغض إله عبد إلى الله». وهؤلاء ينقسمون فرقاً : ففرقة زعمت أن غاية المطلب 

من الدنيا هي قضاء الأوطار ونيل الشهوات وإدراك اللذات البهيمية من منكح ومطعم 

ومشرب وملبس . فهؤلاء عبيد اللذة يعبدونها ويطلبونها ويعتقدون أن نيلها غاية السعادة 
رضوا لأنفسهم بأن يكونوا بمنزلة البهائم بل كيلا ينظر الناس إليهم بعين الحقارة. وهؤلاء 
الأصناف لا يحصون وكلهم محجوبون عن الله بمحض الظلمة وهي نفوسهم المظلمة. 
ولا معنى لذكر آحاد الفرق بعد وقوع التنبيه على الأجناس». ويدخل في جملة هؤلاء 
جماعة يقولون بلسانهم لا إله إلا الله ولكن ربما حمله على ذلك خوف. أو استظهار 
بالمسلمين أو تجمل بهم. أو استمداد من مالهم. أو لأجل التعصب لنصرة مذهب 
الآباء. وهؤلاء إذا لم تحملهم هذه الكلمة على العمل الصالح فلا تخرجهم من 
الظلمات إلى النور بل أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات فأما من 
أثرت فيه الكلمة بحيث ساءته سيثاته وسرته حسناته فهو خارج عن محض الظلمة وإن 
كان كثير المعصية. 


. 77 سورة الجائية : الآية‎ )١( 


لل 


القسم الثاني : طائفة حجبوا بنور مقرون بظلمة وهم ثلاثة أصناف: صنف منشأ 
ظلمتهم من الحسء وصنف منشأ ظلمتهم من الخيال. وصنف منشا ظلمتهم من 
مقايسات عقلية فاسلة . 

الصنف الأول: المحجوبون بالظلمة الحسية وهم طوائف لا يخلو واحد منهم 
عن مجاوزة الالتفات إلى نفسه وعن التأله والتشوق إلى معرفة ربه» وأول درجاتهم عبدة 
الأوئان وآخرهم الثنوية وبينهما درجات . 

الطائفة الأولى : عبدة الأوثان علموا في الجملة أن لهم ربا يلزمهم إيثاره على 
نفوسهم المظلمة واعتقدوا أن ربهم أعز من كل شيء وأنفس من كل نفيس. ولكن 
حجبتهم ظلمة الحس عن أن يتجاوزوا المحسوس فاتخذوا من أنفس الجوهر كالذهب 
والفضة والياقوت أشخاصا:مضورة بأحسن 'الضور:واتخذوها آلهة فهؤلاء محجوبون 
بنور العزة والجمال من صفات الله وأنواره. ولكنهم ألصقوها بالأجسام المحسوسة 
وصدهم عن ذلك النور ظلمة الحس. فإن الحس ظلمة بالإضافة إلى العالم الروحاني 
كما سين 

الطائفة الثانية : جماعة من أقاصي الترك ليس لهم ملة ولا شريعة يعتقدون أن لهم 
رباً وأنه أجمل الأشياء وإذا رأوا إنساناً في غاية الجمال أو شجراً أو فرساً أو غير ذلك 
سجدوا له وقالوا إنه ربناء وهؤلاء مححوبون بنور الجمال مع ظلمة الحس وهم أدخل في 
ملاحظة النور من عبدة الأوثان لأنهم يعبدون الجمال المطلق دون الشخص الخاص 
ولا يخصصونه بشخص دون شخص ثم يعبدون الجمال المطبوع لا المصنوع من 
جهتهم وبأيديهم . 

الطائفة الثالثة: قالوا ينبغى أن يكون ربنا نورانياً فى ذاتهء بهياً فى صورته ذا 
سلطان في نفسه. مهيباً في حضرته لا يطاق القرب منه. ولكن ينبغي أن يكون محسوساً 
إذ لا معنى لغير المحسوس عندهم, ثم وجدوا النار بهذه الصفة فعبدوها واتخذوها ربا 
فهؤلاء محجوبون بنور السلطنة والبهاء. وكل ذلك من أنوار الله تعالى . 

الطائفة الرابعة: زعموا أن النار نستولى نحن عليها بالاشتعال والإطفاء فهى تحت 
تصرفنا فلا تصلح للإلهية بل ما يكون بتلك الصفة أعني السلطة والبهاء. ثم نكون نحن 
تحت تصرفه ويكون مع ذلك موصوفاً بالعلو والارتفاع . ثم كان المشهور فيما بينهم علم 
النجوم وإضدفة التأثيرات إليها. فمنهم من عبد الشعرى. ومنهم من عبد المشتري إلى 


>39 


غير ذلك من الكواكب بحسب ما اعتقدوه في النجوم من كثرة التأثيرات» فهؤلاء 
محجوبون بنور العلو والإشراق والاستيلاء وهي من أنوار الله تعالى . 

الطائفة الخامسة: ساعدت هؤلاء في المأخذ. ولكن قالت لا ينبغي أن يكون ربنا 
موسوماً بالصغر والكبر بالاضافة إلى الجواهر النورانية» بل ينبغي أن يكون أكبرها فعبدوا 
الشمس إذ قالوا هي أكبر. فهؤلاء محجوبون بنور الكبرياء مع بقية الأنوار مقرونا بظلمة 
الحواس . 

الطائفة السادسة : ترقوا من هؤلاء فقالوا النور كله لا تنفرد به الشمس بل لغيرها 
أيضاً انوارء ولا ينبغي أن يكون للرب شريك في نورانيته فعبدوا النور المطلق الجامع 
لجميع الأنوار. وزعموا أنه رب العالمين والخيرات كلها منسوبة إليهء ثم رأوا في العالم 
شرورا فلم يستحسنوا إضافتها إلى ربهم تنزيها له عن الشر فجعلوا بينه وبين الظلمة 
منازعة وأحالوا العالم إلى النور والظلمة وربما سموها: (يزدان واهرمن)200 وهم الثنوية 
فيكفيك هذا القدر تنبيهاً على هذا الصنف فهم أكثر من ذلك . 

الصنف الثاني : المحجوبون ببعض الأنوار مقروناً بظلمة الخيال وهم الذين 
جاوزوا الحس وأثبتوا وراء المحسوسات أمرأء لكنهم لم يمكنهم مجاوزة الخيال فعبدوا 
موجوداً قاعداً على العرش وأخسهم رتبة المجسمة, ثم أصناف الكرامية بأجمعهم. 
ولا يمكنني شرح مقالاتهم ومذاهبهم فلا فائدة للتكثيرء ولكن أرفعهم درجة من نفي 
الجسمية وجميع عوارضها إلا الجهة المخصوصة بجهة فوق لأن الذي لا ينسب إلى 
الجهة ولا يوصف بأنه خارج العالم ولا داخله لم يكن عندهم موجدداء إذ لم يكن 
متخيلا ولم يدركوا أن أول درجات المعقولات تجاوز النسبة إلى الجهات والحيزة. 

الصف الثالث : المحجوبون بالأنوار الإلهية مقرونة بمقايسات عقلية فاسدة 
مظلمة فعبدوا إلهاً سميعاً بصيراً عالما قادرا مريداً حي منزهاً عن الجهات, لكنهم فهموا 
هذه الصفات على حسب مناسبة صفاتهم» وربما صرح بعضهم فقال كلامه حروف 
وأصوات ككلامناء وربما ترقى بعضهم فقال: لا بل هو كحديث نفسنا ولا حرف 
ولا صوت. وكذلك إذا طولبوا بحقيقة السمع والبصر والحياة رجعوا إلى التشبيه من 
حيث المعنى وإن أنكروها باللفظ إذ لم يدركوا أصلاً معاني هذه الإطلاقات في حق 


)١(‏ يزدان واهر من: كلمتان فارسيتان ‏ الأولى معناها الله والثانية الشيطان. 


3” 


الله تعالى . ولذلك قالوا في إرادته إنها حادثة مثل إرادتنا وإنه طلب وقصد مثل قصدناء 
وهذه مذاهب مشهورة فلا حاجة إلى تفصيلها ‏ وهؤلاء محجوبون بجملة من أنوار مع 
ظلمة المقايسات العقلية الفاسدة. فهؤلاء كلهم أصناف القسم الثاني الذي حجبوا بنور 
مقرون بظلمة . 

القسم الثالث: هم المحجوبون بمحض الأنوار وهم أصناف ولا يمكن 
إحصاؤهم فأشير إلى ثلاثة أصناف منهم : 

الصنف الأول: عرفوا معنى الصفات تحقيقاً وأدركوا أن إطلاق اسم الكلام 
والارادة والقدرة والعلم وغيرها على صفاته ليس مثل إطلاقه على البشر. فتحاشوا عن 
تعريفه بهذه الصفات وعرفوه بالاضافة إلى المخلوقات كما عرف موسى فى جواب قول 
فرعون : وماازب العالمين © فقالواة إن الرن المقدس عن معان :هذه الضفات ميرك 
السموات ومدبرها ١‏ 

الصنف الثاني : ترقوا عن هؤلاء من حيث ظهر لهم أن في السموات كثرة. وأن 
محرك كل سماء خاصة موجود آخر يسمى ملكا فيهم كثرة. وإنما نسبتهم إلى الأنوار 
الإلهية نسبة الكواكب في الأنوار المحسوسة, ثم لاح لهم أن هذه السموات في ضمن 
فلك آخر يتحرك الجميع بحركته في اليوم والليلة مرة. فالرب هو المحرك للجرم 
الاقصى المحتوي على الأفلاك كلها إذ الكثرة منفية عنه. 

الصنف الثالث: ترقوا عن هؤلاء وقالوا: إن تحريك الأجسام بطريق المباشرة 
ينبغى أن يكون خدمة لرب العالمين وعبادة له وطاعة له وطاعة من عبد من عبيده يسمى 
ملكا نسبته إلى الأنوار الإلهية المحضة نسبة القمر إلى الأنوار المحسوسة. فزعموا أن 
الرب هو المطاع من جهة هذا المحرك. ويكون الرب تعالى وجد محركاً للكل بطريق 
الأمر لا بطريق المباشرة. ثم في تفهيم ذلك الأمر وماهيته غموض يقصر عنه أكثر الافهام 
ولا يحتمله هذا الكتاب. فهؤلاء أصناف كلهم محجوبون بالأنوار المحضة. وإنما 
الواصلون صنف رابع تجلى لهم أيضاً أن هذا المطاع موصوف بصفة تنافي الوحدانية 
المحضة والكمال البالغ لسر ليس يحتمل هذا الكتاب كشفه, وأن نسبة الجمر إلى جوهر 
النار الصرف فتوجهوا من الذي يحرك السموات ومن الذي أمر بتحريكهاء فوصلوا إلى 
موجود منزه عن كل ما أدركه بصر الناظرين وبصيرتهم إذ وجدوه منزهاً ومقدساً عن جميع 
ما وصفناه من قبل ثم هؤلاء انقسموا: 


نض 


فمنهم من احترق منه جميع ما أدركه بصره وانمحق وتلاشى ولكن بقي هو 
ملاحظأ للجمال والقدس وملاحظا ذاته في جماله الذي ناله بالوصول إلى الحضرة 
الإلهية. فانمحقت فيه المبصرات دون المبصرء. وجاوز هؤلاء طائفة منهم خواص 
الخواص فأحرقتهم سبحات وجهه الأعلى وغشيهم سلطان الجلال وانمحقوا وتلاشوا 

في ذاتهم. ولم يبق لهم لحاظ إلى أنفسهم الفنائهم عن أنفسهم, ٠‏ ولم يبقَ نّ إلا الواحد 

الحق وصار معنى قوله : : «كل شيءِ مَالِكُ إلا وَجَهَهُ74) . لهم ذوقاً يعالك وقد أشرنا 
إلى ذلك في الفصل الأول وذكرنا أنهم كيف أطلقوا الاتحاد وكيف ظنوه فهذه نهاية 
الواصلين . 

منهم من لم يتدرج في الترقي والعروج عن التفصيل الذي ذكرناه. ولم يطل عليه 
العروج فسبقوا من أول وهلة إلى معرفة القدس وتنزيه الربوبية عن كل ما يحب تنزيهه 
عنه فغلب عليهم أولاً ما غلب على الآخرين آخراء وهجم عليهم التجلي دفعة فأحرقت 
اك ان الوا و م 1 ويشبه أن يكون 
الأول طريق الخليل. والثاني طريق الحبيب صلوات الله وسلامه عليهماء والله أعلم 
بأسرار أقدامهما وأنوار مقامهما. 

فهذه إشارة إلى أصناف المحجوبين ولا يبعد أن يبلغ عددهم إذا فصلت المقامات 
ونتبع حجب السالكين سبعين ألفاء ولكن إذا فتشت لا تجد واحداً منهم شارك عن 
الأقسام التي ذكرناهاء فإنهم إما يحتجبون بصفاتهم البشرية أو بالحس أو بالخيال 
وبمقايسة العقل أو بالنور المحض كما سبق . 

فهذا ما حضرني في جواب هذه الأسئلة مع أن السؤال صادفني» والفكر منقسمء 
والخاطر متشعب, والهم إلى غير هذا الفن منصرف, ومقترحي عليه أن تسأل لي العفو 
عما طفى به القلم أو زلت به القدم. فإن خوض غمرة الأسرار الإلهية خطيرة. 
واستكشاف الأنوار العلوية من وراء الحجب غير يسيرء والحمد الله رب العالمين. 
وصلى الله على سيدنا محمد ؤآله الطيبين الطاهرين . 


تمت رسالة مشكاة الأنوار. ويليها رسالة الطير 


.8/ سورة القصص: الآية‎ )١( 


زضن 


بسم الله الرحمن الرحيم 
رسالة الطير 


ذكر العنقاء : 
اجتمعت أصناف الطيور على اختلاف أنواعها وتباين طباعهاء وزعمت أنه لا بِدّ 
لها من ملك : واتفقوا أنه لا يصلح لهذا الشأن إلا العنقاء وقد وجدوا الخبر عن استيطانها 
في مواطن الغرب وتقررها في بعض الجزائر فجمعتهم داعية الشوق وهمة الطلب 
فصمموا العزم على النهوض إليهاء والاستظلال بظلهاء. والمثول بفنائهاء والاستسعاد 
بخدمتهاء فتناشدوا وقالوا: 
قوموا إلى الدار من ليلى نحييها 2 نعم ونسألهم عن بعض أهليها 
وإذا الأشواق الكامنة قد برزت من كمين القلوب وزعمت بلسان الطلب. بأي 
نواحي الأرض أبغي وصالكم. وأنتم ملوك ما لمقصدهم نحو. 
وإذا هم بمنادي الغيب ينادي من وراء الحجب: «وَلا تلقُوا بأَئِدِيكُمْ ألى 
المْهنّكَةٍ0 , لازموا أماكنكم ولا تفارقوا مساكنكم. فإنكم إن فارقتم أوطانكم. 
ضاعفتم أشجانكم. فدونكم والتعرض للبلاء والتحلل بالفناء : 
إن السلامة من سعدى وجارتها أن لا تحل على حال بواديها 
فلما سمعوا نداء التعذر من جناب الجبروت ما ازدادوا إلا شوقاً وقلقاً وتحيراً 
وأرقاء وقالوا من عند آخرهم : 
ولو دازاك قل طبيه لس .بير كلام ليلى ما شفاكا 
وزعموا: 
أن المحب الذي لا شيء يقنعه أويستقر ومن يهوى به الدار 


. سورة البقرة : الآية ه18‎ )١( 


ثم نادى لهم الحنين. ودب فيهم الجنون, فلم يتلعثموا في الطلب اهتزازاً منهم 
إلى بلوغ الأرب. فقيل لهم: بين أيديكم المهامة('2 الفيح والجبال الشاهقة والبحار 
المغرقة وأماكن القر("» ومساكن الحر. فيوشك أن تعجزوا دون بلوغ الأمنية فتخترمكم 
لا يصغون إلى هذا القول. ولا يبالون. بل رحلوا.وهم يقولون : 
فريد عن الخلان في كل بلدة إذا عظم المطلوب قل المساعدٌ 
فامتطى كل منهم مطية الهمة قد ألجمها بلجام الشوق وقوّمها بقوام العشق وهو 
يقول: 
انظر إلى ناقتي في ساحة الوادي ١‏ شديدة بالسرى من تحت ميّادٍ 
إذا اشتكت من كلال البين أوعدها روح القدوم فتحياعند ميعادي 
فرحلوا من محجة الاختبار. فاستدرجتهم بحد الاضطرار. فهلك من كان من بلاد 
الحر في بلاد البرد. ومات من كان من بلاد البرد في بلاد الحر. وتصرفت فيهم 
الصواعق. وتحكمت عليهم العواصف حتى خلصت منهم شرذمة قليلة إلى جزيرة 
الملك. ونزلوا بمنائه واستظلوا بجنابه» والتمسوا من يخبر عنهم الملك وهو في أمنع 
حصن من حمى عزه. فأخبر بهم فتقدم إلى بعض سكان الحضرة أن يسألهم : ما الذي 
الملك شئتم أو أبيتم, جثتم أو ذهبتم. لا حاجة بنا إليكم. فلما أحسوا بالاستغناء 
والتعذر أيسوا وخجلوا وخابت ظنونهم فتعطلوا فلما شملتهم الحيرة» وبهرتهم العزة. 
قالوا لا سبيل إلى الرجوع فقد تخاذلت القوى وأضعفنا الجوى, فليتنا تركنا في هذه 
الجزيرة لنموت عن آخرناء وأنشأوا يقولون هذه الأبيات : 
أسكان رامة هل من قرى فقد دقع الليل ضيفاً قنوعا 
كفاه من الزاد إن تمهددوا له نظرا وكلاما وسيعا 
هذا وقد شملهم الداءء وأشرفوا على الفناء. ولجأوا إلى الدعاء: 
)0 المهامة : جمع مهمة وهي المفازة أو الصحراء. 
(5) القر: البرد الشديد. 


>36 


فلما عمّهم اليأس. وضاقت بهم الأنفاس تداركتهم أنفاس الإيناس وقيل لهم : 
هيهات فلا سبيل إلى اليأس. فلا ييأس من روح الله إلا القوم الخاسرون, فإن كان كمال 
الغنى يوجب التعزز والرد فجمال الكرم أوجب السماحة والقبول. فبعد أن عرفتم 
مقداركم في العجز عن معرفة قدرنا فحقيق بنا إيواؤكم فهودار الكرم ومنزل النعم. فإنه 
يطلب المساكين الذين رحلوا عن مساكنة الحسبان ولولاه لما قال سيد الكل وسابقهم : 
«أحيني مسكينأ ومن استشعر عدم استحقاقه فحقيق بالملك العنقاء أن يتخذه قريناء 
فلما استأنسوا بعد أن استيأسواء وانتعشوا بعد أن تعبسوا ووثقوا بفيض الكرم واطمانوا 
إلى درور النعم سألوا عن رفقائهم فقالوا: ما الخبر عن أقوام حت بهم المهامة 
والأودية. أمطلول دماؤهم أم لهم دية؟ فقيل : هيهات هيهات: «ومَن د يُخْرُجٌ من بيته 
مُهَاجراً إلى الله ورسُوِهِ نم يدرك المَْتْ فَقَد وق جره على اللو0». اجتبتهم أيادي 
الاجتباء بعد أن أبادتهم سطرة الابتلاء : ولا تقولوا لِمَنْ يُقتل في سَبيلٍ اللَّهِ أمواتٌ بَلْ 
أخيّاء274). قالوا: فالذين غرقوا في لجج البحار. ولم يصلوا إلى الدارء ولا إلى الديار 
بل التقمتهم لهوات التيار. قيل : هيهات 9لا نَحْسَبنَ الِْينَ مُتِلُوا في سَبيل, اللّه أمواتاً 
بل أخيّاة7». فالذي جاء بكم وأمهاتهم أحياهم, والذي وكُل بكم داعية الشوق حتى 
استقللتم العناء والهلاك في أريحية الطلب دعاهم وحملهم وأدناهم وقربهمء فهم 
حجب العزة وأستار القدرة : «في مَقَعَدِ صِدْقٍ عند مَليِكِ مَُتَدرٍ”*». قالوا: فهل لنا إلى 
مشاهدتهم سبيل؟ قيل : لاء فإنكم في حجاب العزة وأستار البشرية؛ وأسر الأجل 
وقيده. فإذا قضيتم أوطاركم وفارقتم أوكاركم , فعند ذلك تزاورتم وتلاقيتمء فاليرا: 
والذين فعدابهم اللؤم والعجز فلم يخرجوا؟ قيل : هيهات «وَلَوْ أرَادُوا الخر وج لأعَدُوا 
لَه عُدّة وَلْكنْ كرة اللهُ انِمَائْهُمْ فَتبْطهُمْ 4*). ولو أردناهم لدعوناهم ولكن ترام 
فطردناهم . أنتم بأنفسكم جثتم أم نحن دعوناكم؟ أنتم اشتقتم أم نحن شوقناكم؟ نحن 
أقلقناكم فحملناكم وحملناهم في البر والبحرء فلما سمعوا ذلك واستأنسوا بكمال العناية 
وضمان الكفاية كمل اهتزازهم وتم وثوقهم فاطمأنوا واستقبلوا حقائق اليقين بدقائق 


٠١٠١ سورة النساء: الآية‎ )١( 
.١68 (؟) سورة البقرة: الآية‎ 
. 1569 (؟) سورة آل عمران: الآية‎ 
سورة القمر: الآية 6ه.‎ )4( 
, 4١ سورة التوبة: الآية‎ )0( 


التمكين. وفارقوا بدوام الطمأنينة إمكان التلوين. ولتعلمن نبأه بعد حين. 
فصل 
أترى هل كان بين الراجع إلى تلك الجزيرة وبين المبتدىء من فرق؟ إنما قال : 
جئنا ملكنا من كان مبتدثاًء أما من كان راجعاً إلى عيشه الأصلي (إيا يها النفْسُ 
المُطمَئِنهُ * ازجعي» () . فرجع لسماع النداء كيف يقال له لم جئت؟ فيقول: لم 


دعيت لا بل فيقول لم حملت إلى تلك البلاد وهي بلاد القربة» والجواب على قدر 
السؤال. والسؤال على قدر التفقه والهموم بقدر الهمم. 


فصل 


من يرتاع لمثل هذه النكت فليجدد العهد بطور الطيرية. وأريحية الروحانية, 
فكلام الطيور لا يفهمه إلا من هومن الطيور. وتجديد العهد بملازمة الوضوء. ومراقبة 
أوقات الصلاة. وخلوة ساعة للذكر فهو تجديد العهد الحلو في غفلة لا بدّ من أحد 
الطريقين» فاذكروني أذكركم. أو نسوا الله فسيهم» . فمن سلك سبيل الذكر أنا جليس 
من ذكرني » ومن سلك سبيل النسيان: ووَمَنْ يَعْش عَنْ ذِكْرٍ الرّحَمَنٍ تقيض لَهُ شَيْطانا 
فَهَوَ لَهُ فَرِينُ 94) . وابن ن آدم في كل نفس مصحح أحد هاتين النسبتين ولا بد يتلوه يوم 
القيامة أحد السيماءين. إما يعرف المجرمون بسيماهم أو الصالحون بسيماهم في 
وجوهم من أثر السجود. أنقذك الله بالتوفيق. وهداك إلى التحقيق., وطوى لك الطريق» 
إنه بذلك حقيق. والحمد لله رب العالمين» وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله 
أجمعين آمين . 


تمت رسالة الطير. ويليها الرسالة الوعظية 


)١(‏ سورة الفجر: الآيتان ١1/‏ و78. 
(؟) صورة الزخرف: الآية 7. 


ها 


ب إه امن ابميم 
الرسالة الوعظية 


مقدمة الرسالة: 


لقد بلغنني عن لسان من أثق به من سيرة الشيخ الإمام الزاهد حرس الله توفيقه 
وسمره في مهم دينه ‏ ما قوى رغبتي في مؤاخاته في الله تعالى رجاء لما وعد الله به عباده 
المتحابين ‏ وهذه الأخوة لا تستدعى مشاهدة الأشخاص وقرب الأبدان» وإنما تستدعى 
قرب القلوب وتعارف الأرواح وهي جنود مجندة فإذا تعارفت ائتلفت, وها أنا عاقد معه 
الأخوة في الله تعالى ومقترح عليه أن لا يخليني عن دعوات في أوقات خلوته . وأن يسأال 
الله تعالى أن يريني الحق حقاء ويرزقني اتباعه. وأن يريني الباطل باطلاء ويرزقني 
اجتنابه. ثم قرع سمعي أنه التمس مني كلاماً في معرض النصح والوعظ . وقولاً وجيزاً 
فيما يجب على المكلف اعتقاده من قواعد العقائد. 


وعظ النفس: 

أما الوعظ. فلست أرى نفسى أهلاً له لآن الوعظ زكاة نصابها الاتعاظ ومن 
لا نصاب له كيف يخرج الزكاة. وفاقد النور كيف يستنير به غيره (ومتى يستقيم الظل 
والعود أعوج) وقد أوحى الله تعالى إلى عيسى بن مريم كل عظ نفسك فإن اتعظت فعظ 
الناس وإلا فاستحي مني . وقال نبينا يِةِ: «تركت فيكم واعظين ناطق وصامت». 
فالناطق هو القرآن والصامت هو الموت وفيهما كفاية لكل متعظ ومن لا يتعظ بهما فكيف 
يعظ غيره. ولقد وعظت بهما نفسي فصدقت وقبلت قولاً وعقلاً. وأبت وتمردت تحقيقاً 
وفعلا فقلت لنفسي : أما أنت مصدقة بأن القرآن هو الواعظ الناطق. وأنه الناصح 
الصادق. فإنه كلام الله المنزل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؟ فقالت: 


7 


نعم . فقلت: قال الله تعالى ِمَنْ كَانَ يُرِيدُ الحَياة ادا وزينتها ُوَفٌ إِللِهمْ أعمَالَهم 
ها وَهُمْ لا يبَحَسونَ # أولَيِكَ الذِينَ لئس لَهُمْ في الآجرةٍ إلا الثارٌ وحَبط مَا صَنَمُوا يها 
وَيَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ 2304 فقد وعدك الله تعالى بالنار على إرادة الدنياء وكل 
مالا يصحبك بعد الموت فهو من الدنياء فهل تنزهت عن إرادة الدنيا أو حبهاء ولو أن 
طبيبا نصرانياً وعدك بالموت أو المرض على تناولك ألذ الشهوات لتحاشيتها واتقيتها. 
أكان النصرانى عندك أصدق من الله تعالى؟ فإن كان ذلك فما أكفرك. أو كان المرض 
أشد عندك من النارء فإن كان كذلك فما أجهلك؛ فصدقت ثم ما انتفعت بل أصررت 
على الميل إلى الماجلة واستمرزت: اذم اقيلت عليها ترعظتها بالواعظ الغايت القلنت: 
فد اتحبر الناطق غير النافاف د00 لي : «إنْ المَوْتَ الذي تَفِرونَ مِنْهُ فل مُلاقِيكُمْ ثم 2 
َرَدُونَ إلى عَالِم الغَيب والشْهَاَةٍ فَننكُمْ بمَا كُْمْ تَعْمَلُونَ 94 . وقلت لها 7 
ملت إلى العاجلة أفلست مصدقة بأن الموت لا محالة آتيك وقاطع عليك كل ما أنت 
تمدع بواوجالل نك كر هاااتت راغة فيه وكل ماهر آت قرب والعيدها الس نات 
وقد قال الله تعالي : ؤِأفَرَاَيْتَ إن متَعْنَاهُمْ سِنينَ +« : ثم جَاءَهُمْ ما كَانُوا يُوعدُونَ # ما 
أعغتى عَنْهُمْ ما كَانُوا يُمَتمُونَ 04 . أفانت مخرجة هذا عن جميع ما أنت فيه؟ والحر 
الحكيم يخرج من الدنيا قبل أن يخرج منها . واللائم يتمسك بها إلى أن يخرج من الدنيا 
خائباً خاسراً مسرا فقالت: صدقت. فكان ذلك منها قولاً لا تحصيل وراءه إذ لم 
تجتهد قط في التزود للآخرة كاجتهادها في تدبير العاجل. ولم تجتهد قط في رضاء 
الله تعالى كاجتهادها في رضاها بل كاجتهادها في طلب الخلق. ولم تستح قط من 
الله تعالى كما تستحي من واحد من الخلق. ولم تشمر للاسنتعداد للآخرة كتشميرها في 
الصيف. فإنها لا نطمثن في أوائل الشتاء ما لم تفرغ من جميع ما تحتاج إليه فيه من آلاته 
مع أن الموت ربما يختطفهاء والشتاء لا يدركهاء والآخرة على يقين لا يتصور أن 
ل وقلت لها: ألا تستعدين للصيف بقدر طوله وتصنعين آلة الصيف بقدر 
صبرك على الحر؟ قالت: نعم. قلت: فاعصي الله بقدر صبرك على النار واستعدي 
للآخرة بقدر بقائك فيها. فقالت: هذا هو الواجب الذي لا يرخص في تركه إلا 
الأحمق. ثم استمرت على سجيتها فوجدتني كما قال بعض الحكماء : إن في الناس من 
)١(‏ سورة هود: الآيتان: 1١6‏ و5١.‏ 
(؟) سورة الجمعة: الآية 4. 
7) سورة الشعراء: الآيات 7١6‏ و/ا١7.‏ 


ل 


يموت نصفه ولا ينزجر نصفه الآخر. ا 1 
غير منتفعة بوعظ الموت والقرآن. رأيت يت أهم الأمور التفتيش عن سبب تماديها مع 
اعترافها وتصديقهاء فإن ذلك من العجائب العظيمة. فطال عليه تفتيشيى حتى وقفت 
على سببه. وها أنا مؤنس وإياه بالحذر منه. فهو الداء العضال وهو السبب الداعي إلى 
الغرور والإهمال. وهو اعتقاد تراخي الموت واستبعاد هجومه على القرب . فإنه لو أخبره 
صادق في بياض نهاره أنه يموت في ليلته أو يموت إلى أسبوع أو أشهر. لاستقام على 
الطريق المستقيم . ولترك - جميع ما هو فيه مما يظن أنه مما يتعاطاه لله تعالى ومغرور فيه 
فد مها بن أن لح ل بدا ٠‏ فانكشف تحقيقاً أن من أصبح وهو يأمل أن يمسي أو 
أمسى وهو يأمل أن يصبح لم يخل من الفتور والتسويف, ولم يقدر إلا على سير ضحياف: 
فأوصيه ونفسي بما أوصى به رسول الله يله حيث قال: : وصلٌ صلاة مودع». ولقد اش 
جوامع الكلم وفصل الخطاب . ولا ينتفم بوعظ إلا بهء فمن غلب على قلبه في كل صلاة 
أنها آخر صلاته, حضر معه قلبه في الصلاة وتيسر له الاستعداد بعد الصلاة. ومن عجز 
عن ذلك فلا يزال في غفلة دائمة وغرور مستمر. وتسويف متتابع إلى أن يدركه الموت 
فتدركه حسرة الفوت. وأنا مقترح عليه أن يسأل الله تعالى أن يرزقني هذه الرتبة فإني 
طالب لهاء وقاصر عنهاء. وأوصيه أن لا يرضى من نفسه إلا بهاء وأن يحذر من مواقع 
الغرور. فإذا وعدت النفس بذلك طالبها بموثئق غليظ من الله تعالى , فإن نخداع النفس 
لا يقف عليه إلا الأكياس . 

وأما أقل مايجب اعتقاده على المكلف فهو ما يترجمه قوله لا إله إلا الله 
محمد رسول الله . ثم إذا صدق الرسول فينبغي أن يصدقه في صفات الله تعالى فإنه حي 
قادر عالم متكلم مريد ليس كمثله شيء وهو السميع البصير وليس عليه بحث عن حقيقة 
هذه الصفات. وأن الكلام والعلم وغيرهما قديم أو حادث,. بل لو لم تخطر لهحهذه 
المسألة حتى مات مؤمناً وليس عليه تعلم الأدلة التي حررها المتكلمون. بل كلما حصل 
في قلبه التصديق بالحق.بمجرد الإيمان من غير دليل وبرهان فهو مؤمن. ولم يكلف 
رسول الله كل أكثر من ذلك. وعلى هذا الاعتقاد المجمل استمرت الأعراب وعوام 
الخلق إلا من وقع في بلدة يقرع سمعه فيها هذه المسائل مقدم الكلام وحدوثه ومعنى 
الاستواء والنزول وغيره فإن لم يأخذ ذلك قلبه وبقي مشغولا بعبادته وعمله فلا حرج عليه 
وإن أخذ ذلك بقلبه فأقل الواجبات عليه ما اعتقده السلف فيعتقد في القرآن القدم. كما 
قال السلف: القرآن كلام الله غير مخلوق, ويعتقد أن الاستواء حق والسؤال عنه مع 


78 


الاستغناء بدعة» والكيفية فيه مجهولة . فيؤمن بجميع ما جاء به الشرع إيماناً مجملاً من 
غير بحث عن الحقيقة والكيفية فإن لم ينفعه ذلك وغلب على قلبه الإشكال والشك فإن 
أمكن إزالة شكه وإشكاله بكلام قريب من الافهام. وإن لم يكن قويا عند المتكلمين 
ولا مرضيا عندهم. فذلك كاف ولا حاجة به إلى تحقيق الدليل» بل الأولى أن يزال 
إشكاله من غير برهان حقيقة الدليل؛ فإن الدليل لا يتم إلا بدرك السؤال والجواب عنهء 
ومهما ذكرت الشبهة فلا يبعد أن ينكر بقلبه ويكل فهمه عن درك جوابه إذ الشبهة قد تكون 
جلية والجواب دقيقاً لا يحتمله عقله ‏ ولهذا زجر السلف عن البحث والتفتيش عن 
الكلام - وإنما زجروا عنه لضعفاء العوام . 

وأما المشتغلون بدرك الحقائق فلهم خوض غمرة الإشكال ومنع الكلام للعوام 
يجري مجرى منع الصبيان من شاطىء نهر دجلة خوفاً من الغرق. ورخصة الأقوياء فيه 
تضاهي رخصة الماهر في صنعة السباحة, إلا أن ههنا موضع غرور ومزلة قدم. وهو أن 
كل ضعيف في عقله ‏ راض من الله تعالى في كمال عقله ‏ يظن بنفسه أنه يقدر على 
إدراك الحقائق كلها وأنه من جملة الأقوياء فربما يخوضون فيغرقون في بحر الجهات 
حيث لا يشعرونء. فالصواب للخلق كلهم إلا الشاذ النادر الذي لا تسمح الأعصار إلا 
بواحد منهم أو اثنين سلوك مسلك السلف في الإيمان بالرسل والتصديق المجمل بكل ما 
نزله الله تعالى وأخبر به رسوله من غير بحث وتفتيش عن الأدلة» بل الاشتغال بالتقوي 
عليه شغل شاغل إذ قال كه حيث رأى أصحابه يخوضون بعد أن غضب حتى احمرت 
وجنتاه: «أبهذا أمرتم تضربون كتاب الله بعضه ببعض انظروا ما أمركم الله به فافعلوه 
وما نهاكم عنه فانتهواء». فهذا تنبيه على المنج الحق. واستيفاء ذلك شرحناه في كتاب 
(قواعد العقائد) فيطلب منه والسلام . 

تمت الرسالة الوعظية, ويليه رسالة إلجام العوام عن علم الكلام 


سمل امالس جيم 


إإجل البراع عن علم الكلدم 


خطبة الرسالة: 

الحمد لله الذي تجلى لكافة عباده بصفاته وأسمائه وتاهت عقول الطالبين في 
بيداء كبريائه , وقفقص أجنحة الأفكار دون حمى عزته وتعالى بجلاله عن أن تدرك الافهام 
كنه حقيقته . واستوفى قلوب أوليائه وخاصته واستغرق أرواحهم حتى احترقوا بنار محبته 
وبهتوا في اشراق أنوار عظمته» وخرست ألسنتهم عن الثناء على جمال حضرته إلا 
أصحابه وعترته . 

أما بعد: فقد سألتني أرشدك الله عن الأخبار الموهمة للتشبيه عند الرعاع والجهال 
واليد والقدم والنزول والانتقال والجلوس على العرش والاستقرار» وما يجري مجراه مما 
أخذوه من ظواهر الأخبار وصورهاء وأنهم زعموا أن معتقدهم فيه معتقد السلف. وأردت 
أن أشرح لك اعتقاد السلف, وأن أبين ما يجب على عموم الخلق أن يعتقدوه في هذه 
الأخبار» وأكشف فيه الغطاء عن الحق. وأميز ما يجب البحث عنه عما يجب الإمساك 
والكف عن الخوض فيهء فأجبتك إلى طلبتك متقرباً إلى الله سبحانه وتعالى بإظهار 
مذهب, فالحق أولى بالمراقبة.» والصدق والإنصاف أولى بالمحافظة عليه. وأسأل الله 
التسديد والتوفيق وهو بإجابة داعيه حقيق » وها أنا أرتب الكتاب على ثلاثة أبواب : 

باب فى بيان حقيقة مذهب السلف فى هذه الأخبار. 

وباب في البرهان على أن الح فيه مذهب السلف وأن من خالفهم فهو مبتدع . 


:١ 


الباب الأول 

في شرح اعتقاد السلف في هذه الأخبار. 

اعلم : أن الح الصريح الذي لا مراء فيه عند أهل البصائر هو مذهب السلف 
أعني مذهب الصحابة والتابعين وها أنا أورد بيانه وبيان برهانه . 

فأقول: حقيقة مذهب السلف وهو الحق عندنا أن كل من بلغه حديث من هذه 
الأحاديث من عوام الخلق يجب عليه فيه سبعة امور: التقديس, ثم التصديق. ثم 
الاعتراف بالعجز, ثم السكوت, ثم الإمساك, ثم الكف. ثم التسليم لأهل المعرفة. 

أما التقديس : فأعني به تنزيه الرب تعالى عن الجسمية وتوابعها . 

وأما التصديق : فهو الإيمان بما قاله بل وأن ما ذكره حق وهوفيما قاله صادق وأنه 
حق على الوجه الذي قاله وأراده. 

وأما الاعتراف بالعجز : فهو أن يقر بأن معرفة مراده ليست على قدر طاقته وأن ذلك 
ليس من شأنه وحرفته . 

وأما السكوت: فأن لا يسأل عن معناه ولا يخوض فيه ويعلم أن سؤاله عنه بدعة» 
وأنه في خوضه فيه مخاطر بدينه. وأنه يوشك أن يكفر لو خاض فيه من حيث لا يشعر. 

وأما الإمساك : فآن لا يتصرف في تلك الألفاظ بالتصريف والتبديل بلغة أخرى 
والزيادة فيه والنقصان منه والجمع والتفريق بل لا ينطق إلا بذلك اللفظ وعلى ذلك الوجه 
من الإيراد والإعراب والتصريف والصيغة . 

وأما الكف : فأن يكف باطنه عن البحث عنه والتفكر فيه . 

وأما التسليم لأهله: فأن لا يعتقد أن ذلك إن خفي عليه لعجزه فقد خفي على 
رسول الله يَِةِ أوعلى الأنبياء أو على الصديقين والأولياء. فهذه سبع وظائف أعتقد كافة 
السلف وجوبها على كل العوام لا ينبغي أن يظن بالسلف الخلاف في شيء منهاء 
فلنشرحها وظيفة وظيفة إن شاء الله تعالى : 

الوظيفة الأولى : التقديس ومعناه أنه إذا سمع اليد والإصبع وقوله ككل إن الله خمر 
طينة آدم بيده. وإن قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن, فينبغي أن يعلم أن 


5 


اليد تطلق لمعنيين أحدهما هو الموضع الأصلي وهو عضو مركب من لحم وعصب. 
واللحم والعظم والعصب جسم مخصوص وصفات مخصوصة أعني بالجسم عبارة عن 
مقدار له طول وعرض وعمق يمنع غيره من أن يوجد بحيث هو إلا بأن يتنحى عن ذلك 
المكان. (وقد يستعار هذا اللفظ) أعني اليد لمعنى آخر ليس ذلك المعنى بجسم أصلا 
كما يقال: البلدة في يد الأمير فإن ذلك مفهوم وإن كان الأمير مقطوع اليد مثلا فعلى 
العامي وغير العامي أن يتحقق قطعاً ويقيناً أن الرسول يل لم يرد بذلك جسماً هو عضو 
مركب من لحم ودم وعظم, وأن ذلك في حق الله تعالى محال وهو عنه مقدس. فإن 
خطر بباله أن الله جسم مركب من أعضائه فهو عابد صنم فإن كل جسم فهو مخلوق» 
وعبادة المخلوق كفر. وعبادة الصنم كانت كفرا لأنه مخلوق, وكان مخلوقا لأنه جسم 
فمن عبد جسما فهو كافر بإجماع الأئمة السلف منهم والخلف. سواء كان ذلك الجسم 
كثيفاً كالجبال الصم الصلاب. أو لطيفاً كالهواء والماء. وسواء كان مظلماً كالارض أو 
مشرقاً كالشمس والقمر والكواكب. أو مشفاً لا لون له كالهواء: أو عظيماً كالعرش 
والكرسي والسماء. أو صغيراً كالذرة والهباء. أوجماداً كالحجارة» أو حيواناً كالإنسان. 
فالجسم صنم فإن يقدر حسنه وجماله أو عظمه أو صغره أو صلابته وبقاؤه لا يخرج عن 
كونه صنماء ومن نفى الجسمية عنه وعن يده وإصبعه فقد نفى العضوية واللحم 
والعصب وقدس الرب جل جلاله عما يوجب الحدوث. وليعتقد بعده أنه عبارة عن معنى 
من المعاني ليس بجسم ولا عرض في جسم يليق ذلك المعنى بالله تعالى» فإن كان 
لا يدري ذلك المعنى ولا يفهم كنه حقيقته فليس عليه في ذلك تكليف أصلاً فمعرفة 
تأويله ومعناه ليس بواجب عليه بل واجب عليه أن لا يخوض فيه كما سياتي . 


مثال آخر: إذا سمع الصورة في قوله كلع : وإن الله خلق آدم على صورته»». «وإني 
رأيت ربي في أحسن صورة» فينبغي أن يعلم أن الصورة اسم مشترك قد يطلق ويراد به 
الهيئة الحاصلة في أجسام مؤلفة مرتبة ترتيبا مخصوصا مثل الأنف والعين والفم والخد 
التي هي أجسام وهي لحوم وعظام. وقد يطلق ويراد به ما ليس بجسم ولا هيئة في جسم 
ولا هوترتيب في أجسام . كقولك عرف صورته وما يجري مجراه. فليتحقق كل مؤمن أن 
الصورة في حت الله لم تطلق لإرادة المعنى الأول الذي هوجسم لحمي وعظمي مركب 
من أنف وفم وخدء فإن جميع ذلك أجسام وهيئات في أجسامء وخالق الأجسام 
والهيئات كلها منزه عن مشابهتها وصفاتهاء وإذا علم هذا يقيناً فهو مؤمن فإن خطر له أنه 


رذ 


إن لم يرد هذا المعنى فما الذي أراده فيتبغي أن يعلم أن ذلك لم يؤمر به بل أمر بأن 
لا يخوض فيه فإنه ليس على قدر طاقته. لكن ينبغي أن يعتقد أنه أريد به معنى يليق 
بجلال الله وعظمته بما ليس بجسم ولا عرض في جسم . 

مثال آخر: إذا قرع سمعه النزول في قوله ك: «ينزل الله تعالى في كل ليلة 
إلى السماء الدنيا». فالواجب عليه أن يعلم أن النزول اسم مشترك قد يطلق إطلاقاً يفتقر 
فيه فيه إلى ثلاثة أجسام : جسم عال هو مكان لساكنه, وجسم سافل كذلك. وجسم منتقل 
من السافل إلى العالي ومن العالي إلى السافل: فإن كان من أسفل إلى علو سمي صعوداً 
وعروجاً ورقياً. وإن كان من علو إلى أسفل سمي نزولا وهبوطاً. وقد يطلق على معنى 
أخر ولا يفتقر فيه إلى تقدير انتقال وحركة في جسمء كما قال الله تعالى : (وَائْرَلَ لَكُمْ 
بِنَ الانعام َمَانيَة ة أرْوَاج 04 . وما رئي البعير والبقر نازلاً من السماء بالانتقال بل هي 
مخلوقة في الأرحام ولإنزالها معنى لا محالة. كما قال الشافعي رضي الله عنه: دخحلت 
مضر فلم يقيموا كلامي» فنزلت ثم نزلت ثم نزلت فلم يرد به انتقال جسده إلى أسفل 
فتحقق المؤمن: قطعا أن النزول في حق الله تعالى ليس بالمعنى الأول وهو انتقال 
شخص وجسد من علو إلى أسفل؛ فإن الشخص والجسد أجسام والرب جل جلاله ليس 
بجسم فإن خطر له أنه ل يرد هذا فم الذي أراد فيقال له : أنت إذا عجزت عن فهم نزول 
البعير من السماء فأنت عن فهم نزول الله تعالى أعجز. فليس هذا بعشك فادرجي , 
واشتغل بعبادتك أو حرفتك واسكت, واعلم أنه أريد به معنى من المعاني التي يجوز أن 
يراد بالنزول في لغة العرب. ويليق ذلك المعنى بجلال الله تعالى وعظمته وإن كنت 
لا تعلم حقيقته وكيفيته . 

ومثال آخر: إذا سمع لفظ الفوق في قوله تعالى : طوهو القاهِرٌ فوق عِبَادِِ4ه27). 
وفي قوله تعالى : هِيَخَافُونَ رَبهُمْ مِنْ فَوقِهِم74©. فليعلم أن الفوق اسم مشترك يطلق 
لمعنيين . 

أحدهما: نسبة جسم إلى جسم بأن يكون أحدهما أعلى والآخر أسفل يعني أن 
الأعلى من جانب رأس الأسفل وقد يطلق لفوقية الرتبة» وبهذا المعنى يقال: الخليفة 
)١(‏ سورة الزمر: الآية 5. 
0( سورة الأنعام : الآية 18. 
(9) سورة النحل : الأية .6٠‏ 


5: 


فوق السلطان والسلطان فوق الوزير. وكما يقال: العلم فوق العلم. والأول يستدعي 
جسماً ينسب إلى جسيم 

والثاني : لا يستدعيه فليعتقد المؤمن قطعاً أن الأول غير مراد وأنه على الله تعالى 
محال. فإنه من لوازم الأجسام أو لوازم أعراض الأجسام وإذا عرف نفى هذا المحال 
فلا عليه إن لم يعرف أنه لماذا أطلق وماذا أريد فقس على ما ذكرناه ما لم نذكره . 

الوظيفة الثانية: الإيمان والتصديق وهو أنه يعلم قطعاً أن هذه الألفاظ أريد بها 
معنى يليق بجلال الله وعظمته. وأن رسول الله يكِ صادق في وصف الله تعالى به. 
فليؤمن بذلك وليوقن بأن ما قاله صدق وما أخبر عنه حق لا ريب فيه وليقل آمنا وصدقناء 
وأن ما وصف الله تعالى به نفسه أو وصفه به رسوله فهو كما وصفه وحق بالمعنى الذي 
أراده وعلى الوجه الذي قاله. وإن كنت لا تقف على حقيقته فإن قلت التصديق إنما 
يكون بعد التصور. والإيمان إنما يكون بعد التفهم. فهذه الألفاظ إذا لم يفهم العبد 
معانيها كيف يعتقد صدق قائلها فيها؟ فجوابك أن التصديق بالأمور الجملية ليس بمحال 
وكل عاقل يعلم أنه أريد بهذه الألفاظ معان وأن كل اسم فله مسمى إذا نطق به من أراد 
مخاطبة قوم قصد ذلك المسمى فيمكنه أن يعتقد كونه صادقاً مخبراً عنه على ما هو عليه 
نهذا ستول على سيل ال جمال» بل يمكق اذا بقوع من هله الألفاظ اموز خملية غير 

مفصلة. ويمكن التصديق كما إذا قال في البيت حيوان أمكن أن يصدق دون أن يعرف أنه 
إنسان أو فرس أو غيره» بل لو قال فيه شيء أمكن تصديقه وإن لم يعرف ما ذلك الشيء. 
فكذلك من سمع الاستواء على العرش فهم على الجملة أنه أريد بذلك نسبة خاصة إلى 
العرش فيمكنه التصديق قبل أن يعرف أن تلك النسبة هى نسبة الاستقرار عليه أو الإقبال 
على خلقه أو الاستيلاء عليه بالقهر أو معنى آخر من معانى النسبة فأمكن التصديق به 
وإن قلت فأي فائدة في مخاطبة الخلق يمالا فيسرة وجرايك أنه تضد بهذا الخطاب 
تفهيم من هو أهله وهم الأولياء والراسخون في العلم وقد فهمواء. وليس من شرط من 
خاطب العقلاء بكلام أن يخاطبهم بما يفهم الصبيان والعوام بالاضافة إلى العارفين 
كالصبيان بالاضافة إلى البالغين» ولكن على الصبيان أن يسألوا البالغين عما يفهمونه. 
وعلى البالغين أن يجيبوا الصبيان بأن هذا ليس من شأنكم ولستم من أصله فخوضوا في 
حديث غيره فقد قيل للجاهل: لَفَاسْأَنُوا أهل الذّكْرٍ204. فإن كانوا يطيقون فهموهم 


. 15 سورة النحل : الآية‎ )١( 


5:6 


وإلا قالوا لهم: «وَمًا يتم مِنَ العلم, إل قليلد>'' فلا تسألوا عن أشياء إن تبدلكم 
تسؤكم مالكم ولهذا السؤال هذه معان الإيمان بها واجب والكيفية مجهولة أي لكم. 
والسؤال عنها بدعة كما قال مالك : الاستواء معلوم والكيفية مجهولة والإيمان به واجب» 
فإذن الإيمان بالجمليات التي ليست مفصلة في الذهن ممكن ولكن تقديسه الذي هو 
نفي للمحال عنه ينبغي أن يكون مفصلً. فإن المنفى هي الجسمية ولوازمها ونعني 
بالجسم ههنا الشخص المقدر الطويل العريض العميق الذي يمنع غيره من أن يوجد 
بحيث هو الذي يدفع ما يطلب مكانه إن كان قوياً ويندفع ويتنحى عن مكانه بقوة دافعة إن 
كان ضعيفاًء وإنما شرحنا هذا اللفظ مع ظهوره لأن العامي ربما لا يفهم المراد به. 


الوظيفة الثالثة : الاعتراف بالعجز ويجب على كل من لا يقف على كنه هذه 
المعاني وحقيقتها ولم يعرف تأويلها والمعنى المراد به أن يقر بالعجز. فإن التصديق 
واجب وهوعن دركه عاجزء فإن ادعى المعرفة فقد كذب وهذا معنى قول مالك : الكيفية 
مجهولة يعني تفصيل المراد به غير معلوم . بل الراسخون في العلم والعارفون من الأولياء 
إن جاوزوا فى المعرفة حدود العوام وجالوا في ميدان المعرفة وقطعوا من بواديها أميال 
كثيرة فما بقي لهم مما لم يبلغوه ؛ بين أيديهم أكثر بل لا نسبة لما طوى عنهم إلى ما كشف 
لهم لكثرة المطوى وقلة المكشوف بالاضافة إليه والإضافة إلى المطوى المستور. قال 
سيد الأنبياء صلوات الله عليه(" : ولا أحصي ثناء عليك أنت كما اثنيت على نفسك». 
وبالاضافة إلى المكشوف. قال صلوات الله عليه : «أعرفكم بالله أخوفكم لله وأنا أعرفكم 
بالله» . ولأجل كون العجز والقصور ضرورياً في آخر الأمر بالاضافة إلى منتهى الحال قال 
سيد الصديقين”) : العجز عن درك الادراك إدراك. فأوائل حقائق هذه المعاني بالاضافة 
إلى عوام الخلق كأواخرها بالاضافة إلى خواص الخلق, فكيف لا يجب عليه الاعتراف 
بالعجز. 

الوظيفة الرابعة: السكوت عن السؤال وذلك واجب على العوام لأنه بالسؤال 
متعرض لما لا يطيقه وخائض فيما ليس أهلا له حا ا و 
ورطه في الكفر من حيث لا يشعرء وإن سأل عارفاً عجز العارف عن تفهيمه بل عجز عن 
)١(‏ سورة الإسراء: الآية 6م. 


(1) أي وسلامه: قال الله تعالى : فيا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً» . 
() هو سيدنا أبو.بكر: رضي الله عنه. 


تفهيم ولده مصلحته في خروجه إلى المكتب. بل عجز الصائغ عن تفهيم النجار دقائق 
صناعته. فإن النجار وإن كان بصيرا بصناعته فهو عاجز عن دقائق الصياغة لأنه إنما يعلم 
دقائق النجر لاستغراقه العمر في تعلمه وممارستهء فكذلك يفهم الصائغ الصياغة أيضاً 
لصرف العمر إلى تعلمه وممارسته وقبل ذلك لا يفهمه فالمشغولون بالدنيا وبالعلوم التي 
ليست من قبيل معرفة الله عاجزون عن معرفة الأمور الإلهية عجز كافة المعرضين عن 
الصناعات عن فهمهاء بل عجز الصبي الرضيع عن الاعتذار بالخبز واللحم لقصور في 
فطرته لا لعدم الخبز واللحم ولا لأنه قاصر على تغذية الأقوياء» لكن طبع الضعفاء قاصر 
عن التغذي به فمن أطعم الصبي الضعيف اللحم والخبز وأمكنه من تناوله فقد أهلكه. 
وكذلك العوام إذا طلبوا بالسؤال هذه المعاني يجب زجرهم ومنعهم وضربهم بالدرة كما 
كان يفعله عمر رضي الله عنه بكل من سأل عن الآيات المتشابهات. وكما فعله 
رسول الله يك في الإنكار على قوم رآهم خاضوا في مسألة القدر وسألوا عنه. فقال كَل : 
«فبهذا أمرتم وقال: إنما هلك من كان قبلكم بكثرة السؤال» أو لفظ هذا معناه كما اشتهر 
في الخبر ولهذا أقول يحرم على الوعاظ على رؤوس المنابر الجواب عن هذه الأسئلة 
بالخوض في التأويل والتفصيل؛ بل الواجب عليهم الاقتصار على ماذكرناه وذكره 
السلف. وهو المبالغة في التقديس ونفي التشبيه وأنه تعالى منزه عن الجسمية وعوارضها 
وله المبالغة في هذا بما أراد حتى يقول: كل ماخطر يبالكم وهجس في ضميركم 
وتصور في خاطركم فإنه تعالى خالقها وهو منزه عنها وعن مشابهتها وأن ليس المراد 
بالأخبار شيئا من ذلك. وأما حقيقة المراد فلستم من أهل معرفتها والسؤال عنهاء 
فاشتغلوا بالتقوى فا أمركم الله تعالى به فافعلوه وما نهاكم عنه فاجتنبوه وهذا قد نهيتم عنه 
فلا تسألوا عنه ومهما سمعتم شيئا من ذلك فاسكتوا وقولوا آمنا وصدقنا وما أوتينا من العلم 
إلا قليلاً» وليس هذا من جملة ما أوتيناه. 

الوظيفة الخامسة : الإمساك عن التصرف في ألفاظ واردة يجب على عموم الخلق 
الجمود على ألفاظ هذه الأخبار والإمساك عن التصرف فيها من ستة أوجه: التفسيرء 
والتأويل والتصريف. والتفريع» والجمعء والتفريق. 

الأول: التفسير وأعني به تبديل اللفظ بلغة أخرى يقوم مقامها في العربية أو معناها 
بالفارسية أو التركية. بل لا يجوز النطقى إلا باللفظ الوارد لأن من الألفاظ العربية 
مالا يوجد لها فارسية تطابقها. ومنها ما يوجد لها فارسية تطابقها لكن ما جرت عادة 
الفرس باستعارتها للمعاني التى جرت عادة العرب باستعارتها منها. ومنها ما يكون 


اع 


مشتركاً في العربية ولا يكون في العجمية كذلك. 

أما الأول: مثاله لفظ الاستواء فإنه ليس له في الفارسية لفظ مطابق يؤدي بين 
الفرس من المعنى الذي يؤديه لفظ الاستواء بين العرب بحيث لا يشتمل على مزيد إيهام 
إذ فارسيته أن يقال راستا باستان وهذان لفظان: الأول: ينبىء عن انتصاب واستقامة فيما 
يتصور أن ينحني ويعوج . 

والثاني : ينبىء عن سكون وثبات فيما يتصور أن يتحرك ويضطرب وإشعاره بهذه 
المعاني وإشارته إليها في العجمية أظهر من إشعار لفظ الاستواء وإشارته إليهاء فإذا 
تفاوت في الدلالة والإشعار لم يكن هذا مثل الأول وإنما تجوز تبديل اللفظ بمثله 
المرادف له الذي لا يخالفه بوجه من الوجره لا بما يباينه أو يخالفه ولو بأدنى شىيء وأدقه 
وأخفاة: : 

ومثال الثاني : أن الأصبع يستعار في لسان العرب للنعمة يقال لفلان عندي أصبع 
أي نعمة ومعناها بالفارسية انكشفت وما جرت عادة العجم بهذه الاستعارة. وتوسع 
العرب في التجوز والاستعارة أكثر من توسع العجم بل لا نسبة لتوسع العرب إلى جمود 
العجم» فإذا أحسن إرادة المعنى المستعار له في العرب وسمج ذلك في العجم نفر 
القلب عما سمج ومجه السمع ولم يمل إليه, فإذا تفاوتا لم يكن التفسير تبديلا بالمثئل بل 
بالخلاف ولا يجوز التبديل إلا بالمثل. 

مثال الثالث: العين فإن من فسره فإنما يفسره بأظهر معانيه. فيقول هو جسم وهو 
مشترك في لغة العرب بين العضو الناصر وبين الماء والذهب والفضة. وليس اللفظ اسم 
وهو مشترك هذا الاشتراك وكذلك لفظ الجنب والوجه يقرب منه. فلأجل هذا نرى المنع 
من التبديل والاقتصار على العربية. فإن قيل: هذا التفاوت إن ادعيتموه في جميع 
الألفاظ فهو غير صحيح إذ لا فرق بين قولك خبز ونان وبين قولك لحم وكوشت. وإن 
اعترف بأن ذلك في البعض فامنع من التبديل عند التفاوت لا عند التمائل. فالجواب 
الحق أن التفاوت في البعض لا في الكل فلعل لفظ اليد ولفظ دست يتساويان في 
اللغتين وفي الاشتراك والاستعارة وسائر الأمور ولكن إذا انقسم إلى ما يجوز وإلى 
مالا يجوز وليس إدراك التمبيز بينهما والوقوف على دقائق التفاوت جلياً سهلاً يسيرأً على 
كافة الخلق بل يكثر فيه الاشكال ولا يتميز محل التفاوت عن محل التعادل. فنحن بين 
أن نحسم الباب احتياطا إذ لا حاجة ولا ضرورة إلى التبديل وبين أن نفتح الباب ونقحم 


1/6 


عموم الخلق ورطة الخطرء فليت شعري أي الأمرين أعزم وأحوط والمنظور فيه ذات 
الإله وصفاته وما عندي أن عاقلا متدينا لا يقر بأن هذا الأمر مخطر. فإن الخطر فى 
الصفات الإلهية يجب اجتنابه. كيف وقد أوجب الشرع على الموطوءة الععدة لبراءة 
الرحم وللحذر من خلط الأنساب احتياطا لحكم الولاية والورائة وما يترتب على النسب. 
فقالوا مع ذلك تجب العدة على العقيم والآيسة والصغيرة وعند العزل, لأن باطن الأرحام 
إنما يطلع عليه علام الغيوب فإنه يعلم ما في الأرجام. فلو فتحنا باب النظر إلى التفصيل 
كنا راكبين متن الخطر فايجاب العدة حيث لا علوق أهون من ركوب هذا الخطرء فكما 
أن إيجاب العدة حكم شرعي فتحريم تبديل العربية حكم شرعي عن ثبت بالاجتهاد 
وترجيح طريق الأول. ويعلم أن الاحتياط في الخبر عن الله وعن صفاته وعما أراده 
بألفاظ القرآن أهم وأولى من الاحتياط في العدة وكل ما احتاط به الفقهاء من هذا القبيل . 

أما التصرف الثاني: التأويل. وهو بيان معناه بعد إزالة ظاهره وهذا إما يقع من 
العامي نفسه. أو من العارف مع العامي. أو من العارف مع نفسه وبينه وبين ربه فهذه 
ثلاثة مواضع . 

الأول: تأويل العامي على سبيل الاشتغال بنفسه وهو حرام يشبه خوض البحر 
المغرق ممن لا يحسن السباحة. ولا شك في تحريم ذلك؛, وبحر معرفة الله أبعد غوراً 
وأكثر معاطب ومهالك من بحر الماء. لأن هلاك هذا البحر لا حياة بعده وهلاك بحر 
الدنيا لا يزيل إلا الحياة الفانية وذلك يزيل الحياة الأبدية فشتان بين الخطرين . 


الموضع الثاني : أن يكون ذلك من العالم مع العامي وهو أيضاً ممنوع» ومثاله: 
أن يجر السباح الغواص في البحر مع نفسه عاجزا عن السباحة مضطرب القلب والبدن 
وذلك حرام لأنه عرضة لخطر الهلاك فإنه لا يقوى على حفظه في لجة البحر. وإن قدر 
على حفظه في القرب من الساحل ولو أمره بالوقوف بقرب الساحل لا يطيعه» وإن أمره 
بالسكون عند التطام الأمواج واقبال التماسيح وقد فغرت فاها للالتقام اضطرب قلبه وبدنه 
ولم يسكن على حسب مراده لقصور طاقته. وهذا هوالمثال الحى للعالم إذا فتح للعامي 
باب التأويلات والتصرف في خلاف الظواهر, وفي معنى العوام الأديب والنحوي 
والمحدث والمفسر والفقيه والمتكلم بل كل عالم سوى المتجردين لتعلم السباحة في 
بحار المعرفة القاصرين أعمارهم عليه الصارفين وجوههم عن الدنيا والشهوات. 
المعرضين عن المال والجاه والخلق وسائر اللذات المخلصين لله تعالى في العلوم 


5: 


والأعمال. العاملين بجميع حدود الشريعة وآدابها في القيام بالطاعات وترك المنكرات» 
المفرغين قلوبهم بالجملة عن غير الله تعالى لله, المستحقرين للدنيا بل الآخرة 
والفردوس الأعلى في جنب محبة الله تعالى. فهؤلاء هم أهل الغوص في بحر المعرفة. 
وهم مع ذلك كله على خطر عظيم يهلك من العشرة تسعة إلى أن يسعد واحد بالدر 
المكونا والسر المخزون, أولئنك الذين سبقت لهم من الله الحسنى فهم الفائزون: 
9ِوَرَبْكَ يَعْلَمُ مَاكنْ صَدُورُهُمْ وما يُْلُِونَ04©. 

الموضع الثالث: تأويل العارف مع نفسه في سر قلبه بينه وبين ربه وهو على ثلاثة 
أوجه. فإن الذي انقدح في سره أن المراد من لفظ الاستواء والفوق مثلاً إما أن يكون 
مقطوعاً به أو مشكوكاً فيه أو مظنوناً ظناً غالباً. فإن كان قطعياً فليعتقده وإن كان مشكوكاً 
فليجتنبه ولا يحكمن على مراد الله ورسوله كفِ من كلامه باحتمال يعارضه مثله من غير 
ترجيح » بل الواجب على الشاك التوقف. وإن كان مظنوناً فاعلم أن للظن متعلقين: 
أحدهما: أن المعنى الذي انقدح عنده هل هو جائز في حق الله تعالى أم هو محال؟ 
والثاني : أن يعلم قطعا جوازه لكن تردد في أنه هل هومراده أم لا؟ 

مثال الأول: تأويل لفظ الفوق بالعلو المعنوي الذي هو المراد بقولنا: السلطان 
فوق الوزيرء الإنالا نننك في ثبوث معناها ل تال لكنارينا ترد في أن لفظ القوق فيه 
قوله : ؤِيَخَاُونَ رَبْهُمْ مِنْ فَوْقِهِم04©. هل أريد به العلو المعنوي أم أريد به معنى آخر 
يليق بجلال الله تعالى دون العلو بالمكان الذي هو محال على ما ليس بجسم ولا هو 

ومثال الثاني : تأويل لفظ الاستواء على العرش. بأنه أراد به النسبة الخاصة التي 
للعرش ونسبته أن الله تعالى يتصرف في جميع العالم ويدبر الأمرمن السماء إلى الأرض 
بواسطة العرش فإنه لا يحدث في العالم صورة ما لم يحدثه في العرش. كما لا يحدث 
النقاش والكاتب صورة وكلمة على البياض ما لم يحدثه في الدماغ . بل لا يحدث البناء 
صورة الأبنية مالم يحدث صورتها في الدماغ فبواسطة الدماغ يدبر القلب أمر عالمه 
الذي هو بدنه فربما نتردد في أن إثبات هذه النسبة للعرش إلى الله تعالى هل هو جائز إما 
لوجوبه في نفسه أو لأنه أجرى به سنته وعادته وإن لم يكن خلافه محالاً كما أجرى عادته 
)١(‏ سورة القصص: الآية 56. 
(9) سورة التحل : الآية .6٠‏ 


في حق قلب الإنسان بأن لا يمكنه التدبير إلا بواسطة الدماغ. وإن كان في قدرة 
الله تعالى تمكينه منه دون الدماغ لوسبقت به إرادته الأزلية وحقت به الكلمة القديمة التي 
هي علمه فصارخلافه ممتنعا لا لقصور في ذات القدرة لكن لاستحالة ما يخالف الإرادة 
القديمة والعلم السابق الأزلي: ولذلك قال: (ِوَلَنْ تَجِدَ لِسنْةِ الله تبِيلاً206©. وإنما 
لا تتبدل لوجوبها وإنما وجوبها لصدورها عن إرادة أزلية واجبة؛ ونتيجة الواجب واجبة 
ونقيضها محال وإن لم يكن محالاً في ذاته» ولكنه محال لغيره وهو إفضاؤه إلى أن ينقلب 
العلم الأولي جهلاً ويمنع نفوذ المشيئة الأزلية فإذاً إثبات هذه النسبة لله تعالى مع 
العرش في تدبير المملكة بواسطته إن كان جائزاً عقلاً. فهل واقع وجوداً؟ هذا مما قد 
يترد فيه الناظر وربما يظن وجوده هذا مثال الظن في نفس المعنى , والأول مثال الظن 
في كون المعنى مراداً باللفظ مع كون المعنى في نفسه صحيحاً جائزا وبينهما فرقان» 
لكن كل واحد من الظنين إذا انقدح في النفس وحاك في الصدر فلا يدخل تحت الاختيار 
دفعه عن النفس ولا يمكنه أن لا يظن. فإن للظن أسباباً ضرورية لا يمكن دفعها 
ولا يكلف الله نفساً إلا وسعهاء لكن عليه وظيفتان: 

إحداهما: أن لا يدع نفسه تطمئن إليه جزماً من غير شعور بإمكان الغلط فيه» 
ولا ينبغي أن يحكم من نفسه بموجب ظنه حكماً جازماً . 

والثانية : أنه إن ذكره لم يطلق القول بأن المراد بان بالاستوا دكا أو المراد بالفوق 
كذا لأنه حكم بما لا بعلم؛ وقد قال الله تعالى : ولا تف ما ليس لَك به عِلْم 2©04. 
لكن يقول: أنا أظن أنه كذا فيكون صادقاً فى خبره عن نفسه وعن ضميره ولا يكون 
حكماً على صفة الله ولا على مراده بكلامه؛ بل حكماً على نفسه ونبا عن ضميره» فإن 
قيل: وهل يجوز ذكر هذا الظن مع كافة الخلق والتحدث به كما اشتمل عليه ضميره» 
وكذلك لو كان قاطعاً. فهل له أن يتحدث به؟ قلنا: تحدثه به إنما يكون على أربعة 
أوجه : فإما أن يكون مع نفسه أو مع من هو مثله في الاستبصار أو مع من هو مستعد 
للاستبصار بذكائه وفطنته وتجرده لطلب معرفة الله تعالى» أو مع العامي فإن كان قاطعا 
ور اه امازل 
مشعد له نخال عن الميل إلى الدنيا والشهوات والتعصبات للمذاهب وطلب المباهاة 


. 7 سورة الاحزاب: الآية 255 وسورة الفتتح : الآية‎ )١( 
زفة سورة اللإسراء: الآية ضرت‎ 


ه١‎ 


بالمعارف والتظاهر بذكرها مع العوام؛ فمن اتصف بهذه الصفات فلا باس بالتحدث 
معه لأن الفطن المتعطش إلى المعرفة للمعرفة لا لغرض آخر يحيك في صدره أشكال 
الظواهر وربما يلقيه في تأويلات فاسدة لشدة شرهه على الفرار عن مقتضى الظواهر 
ومنع العلم أهله ‏ علم ‏ كبثه إلى غير أهله, وأما العامي فلا ينبغي أن يحدث به وفي 
معنى العامي كل من لا يتصف بالصفات المذكورة بل مثاله ما ذكرناه من إطعام الرضيع 
الأطعمة القوية التي لا يطيقهاء وأما المظنون فتحدثه مع نفسه اضطرار فإن ما ينطوي 
عليه الذهن من ظن وشك وقطع لا زالت النفس تتحدث به ولا قدرة على الخلاص منه 
فلا منع منه ولا شك في منع التحدث به مع العوام بل هو أولى بالمنع من المقطوع أما 
تحدثه مع من هو في مثل درجته في المعرفة أو مع المستعد له ففيه نظرء فيحتمل أن يقال 
هوجائز ولا يزيد على أن يقول أظن كذا وهو صادق. ويحتمل المنع لأنه قادر على تركه 
وهو بذكره متصرف بالظن في صفة الله تعالى أو في مراده من كلامه وفيه خطر وإباحته 
تعرف بنص أو إجماع أو قياس على منصوص ولم يرد شيء من ذلك بل ورد قوله تعالى : 
ؤولا نَقَُ ما لَيْسَ لَك بهِ عِلْم2274. فإن قيل يدل على الجواز ثلاثة أمور: 

الأول: الدليل الذي دل على إباحة الصدق وهو صادق. فإنه ليس يخبر إلا عن 
ظنه وهو ظان. 

والثاني: أقاويل المفسرين في القرآن بالحدس والظن, إذ كل ما قالوه غير 
مسموع من الرسول وَل بل هو مستنبط بالاجتهاد ولذلك كثرت الأقاويل وتعارضت . 

والثالث: اجماع التابعين على نقل الأخبار المتشابهة التي نقلها آحاد الصحابة 
ولم تتواتر. وما اشتمل عليه الصحيح الذي نقله العدل عن العدل فإنهم جوزوا روايته 
ولا يحصل بقول العدل إلا الظن . 

والجواب عن الأول: أن المباح صدق لا يخشى منه ضررء وبث هذه الظنون 
لا يخلوعن ضرر فقد يسمعه من يسكن إليه ويعتقده جزماً فيحكم في صفات الله تعالى 
بغير علم وهو خطر والنفوس نافرة عن أشكال الظواهرء فإذا وجد مستروحاً من المعنى 
ولو كان مظنوناً سكن إليه واعتقد جزماء وربما يكون غلطأ فيكون قد اعتقد في صفات 
الله تعالى ما هو الباطل أو حكم عليه في كلامه بما لم يرد به. 


.85 سورة الاسراء: الآية‎ )١( 


0 


وأما الثاني : وهو أقاويل المفسرين بالظن فلا نسلم ذلك فيما هومن صفات 
الله تعالى كالاستواء والفوق وغيره. بل لعل ذلك في الأحكام الفقهية أو في حكايات 
أحوال الأنبياء والكفار والمواعظ والأمثال وما لا يعظم خطر الخطأ فيه . 

وأما الثالث: فقد قال قائلون لا يجوز أن يعتمده في هذا الباب إلا ما ورد في 
القرآن أو تواتر عن الرسول كك تواتراً يعيد العلم. فأما أخبار الآحاد. فلا يقبل فيه 
ولا نشتغل بتأويله عند من يميل إلى التأويل ولا بروايته عند من يقتصر على الرواية لأن 
ذلك حكم بالمظنون واعتماد عليه. وما ذكروه ليس ببعيد لكنه مخالف لظاهر ما درج 
عليه السلف, فإنهم قبلوا هذه الأخبار من العدول ورووها وصححوها فالجواب من 
وجهين : 

أحدهما: أن التابعين كانوا قد عرفوا من أدلة الشرع أنه لا يجوز اتهام العدل 
بالكذب لا سيما فى صفات الله تعالى. فإذا روى الصديق رضى الله عله يرا وقال 
سمعت رسول الله يل يقول كذا فرد روايته تكذيب له ونسبة له إلى الوضع أو إلى السهو 
فقبلوه وقالوا: قال أبو بكر. قال رسول الله كله قال أنس قال رسول الله بَكِ وكذا في 
التابعين. فالآن إذا ثبت عندهم بأدلة الشرع أنه لا سبيل إلى اتهام العدل التقي من 
الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين. فمن أين يجب أن لا يتهم ظنون الآحاد وأن ينزل 
الظن منزله نقل العدل مع أن بعض الظن إثم . فإذا قال الشارع : ما أخبركم به العدل 
فصدقوه واقبلوه وانقلوه واظهروه. فلا يلزم من هذا أن يقال ما حدئتكم به نفوسكم من 
ظنونكم فاقبلوه واظهروه وارووا عن ظنونكم وضمائركم ونفوسكم ما قالته. فليس هذا 
في معنى المنصوص. ولهذا تقول ما رواه غير العدل من هذا الجنس ينبغي أن يعرض 
عنه ولا يروى ويحتاط فيه أكثر مما يحتاط في المواعظ والأمثال وما يجري مجراها. 

والجواب الثاني : أن تلك الأخبار روتها الصحابة لأنهم سمعوه يقيناً فما نقلوا إلا 
تيقنوه والتابعون قبلوه ورووه. وما قالوا قال رسول الله يلخ كذا. بل قالوا قال فلان قال 
رسول الله يَكِْةِ كذا وكانوا صادقين. وما أهملوا روايته لاشتمال كل حديث على فوائد 
سوى اللفظ الموهم عند العارف معنىّ حقيقياً يفهمه منه ليس ذلك ظنياً في حقه مثاله 
رواية الصحابي عن رسول الله كلم قوله: «ينزل الله تعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا 
فيقول هل من داع فأستجيب له. هل من مستغفر فأغفر له». الحديث. فهذا الحديث 
سيق لنهاية الترغيب في قيام الليل وله تأثير عظيم في تحريك الدواعي للتجهد الذي هو 


0 


أفضل العيادات» فلو ترك هذا الحديث لبطلت هذه الفائدة العظيمة ولا سبيل إلى 
إهمالها وليس فيه إلا إيهام لفظ النزول عند الصبي », والعامي الجاري مجرى الصبي » 
وما أهون على البصير أن يغرس في قلب العامي التنزيه والتقديس عن صورة النزول بأن 
يقول له: إن كان نزوله إلى السماء الدنيا ليسمعنا نداءه وقوله فما أسمعنا فأي فائدة في 
نزولهء ولقد كان يمكنه أن ينادينا كذلك وهو على العرش أو على السماء العلياء فهذا 
القدر يعرف العامي أن ظاهر النزول باطل بل مثاله أن يريد من في المشرق إسماع 
شخص في المغرب ومناداته. فيتقدم إلى المغرب بأقدام معدودة اح يناديه وهويعلم 
أنه لا يسمع. فيكون نقله الأقدام عملا باطلاً وفعلا كفعل المجانين» فكيف يستقر مثل 
هذا في قلب عاقل. بل يضطر بهذا القدر كل عامي إلى أن يتيقن نفي صورة النزول» 
وكيف وقد علم استحالة الجسمية عليه واستحالة كال على خير الأجبام كاستحالة 
النزول من غير انتقال. فإذا الفائدة في نقل هذه الأخبار عظيمة والضرر يسيرء فأنى 
يساوي هذا حكاية الظنون المنقدحة في الأنفسء ومسل تجائ طق الاجهاوني 
إباحة ذكر التأويل المظنون أو المنع, ولا يبعد ذكر وجه ثالث وهو أن ينظر ينظر إلى قرائن حال 
السائل والمستمع. فإن علم أنه ينتفع به ذكره. وإن علم أنه يتضرر تركه وإن ظن أحد 
الأمرين كان ظنه كالعلم في إباحة الذكرء وكم من إنسان لا تتحرك داعيته باطناً إلى 
معرفة هذه المعاني ولا يحيك في نفسه إشكال من ظواهرهاء فذكر التأويل معه مشوشء 
وكم من إنسان يحيك في نفسه إشكال الظاهر حتى يكاد أن يسوء اعتقاده ة فى الرسول يهو 
وينكر قوله الموهم. فمثل هذا لوذكر معه الاحتمال المظنون بل مجرد الاحتمال الذي 
ينبو عنه اللفظ انتفع به ولا بأس بذكره معه فإنه دواء لدائه. وإن كان داء في غيره. ولكن 
لا ينبغي أن يذكر على رؤوس المنابر لآن ذلك يحرك الدواعي الساكنة من أكثر 
المستمعين., وقد كانوا عنه غافلين وعن إشكاله منفكين, ولما كان زمان السلف الأول 
زمان سكون القلب بالغوا في الكف عن التأويل خيفة من تحريك الدواعي وتشويش 
القلوب. فمن خالفهم في ذلك الزمان فهو الذي حرك الفتنة وألقى هذه الشكوك في 
القلوب مع الاستغناء عنه فباء بالإثم . أما الآن وقد فشا ذلك في بعض البلاد فالعذر في 
إظهار شيء من ذلك رجاء لإماطة الأوهام الباطلة عن القلوب أظهر واللوم عن قائله أقل . 
فإن قيل فقد فرقتم بين التأويل المقطوع والمظنون فبماذا يحصل القطع بصحة التأويل؟ 
قلنا بأمرين : 
أحدهما: أن يكون المعنى مقطوعا ثبوته لله تعالى كفوقية المرتبة . 


6 


الثاني : أن لا يكون اللفظ محتملا إلا لأمرين وقد بطل أحدهما وتعين الثاني مثاله 
قوله تعالى : ظوَهُوَ القاهِرٌ فَوْقَ عِبَادِ04©. فإنه إن ظهر في وضع اللسان أن الفوق 
لا يحتمل إلا فوقية المكان أو فوقية الرتبة» وقد بطل فوقية المكان لمعرفة التقديس لم 
يبى إلا فوقية الرتبة كما يقال: السيد فوق العبد. والزوج فوق الزوجة. والسلطان فوق 
الوزير فالله فوق عباده بهذا المعنى وهذا كالمقطوع به في لفظ الفوق وأنه لا يستعمل 
لسان العرب إلا في هذين المعنيين, أما لفظ الاستواء إلى السماء وعلى العرش ربما 
لا ينحصر مفهومه في اللغة هذا الانحصارء وإذا تردد بين ثلاثة معان معنيان جائزان على 
الله تعالى ومعنى واحد وهو الباطل. فتنزيله على أحد المعنيين الجائزين أن يكون بالظن 
وبالاحتمال المجرد وهذا تمام النظر في الكف عن التأويل . 

التصرف الثالث : الذي يجب الإمساك عنه التصريف. ومعناه أنه إذا ورد قوله 
تعالى : «استوى على العرش4. فلا ينبغي أن يقال مستو ويستوي, لآن المعنى يجوز 
أن يختلف لأن دلالة قوله هو مستو على العرش على الاستقرار أظهر من قوله : رفع 
السّموات بِفَيْرِعَمَدٍتَروْنها م استوى عَلَى المررش 204 . بل هو كقوله : وِخَلَقَ لَكُمْ ما 
في الأررضٍ جَميعاً ثم استوى إلى السّماء94) . فإن هذا يدل على استواء قد انقضى من 
إقبال على خلقه أو على تدبير المملكة بواسطته. ففي تغيير التصاريف ما يوقع في تغيير 
الدلاللات والاحتمالات», فليجتنب التصريف كما يجتنب الزيادة فإن تحت التصريف 
الزيادة والنقصان . 


التصرف الرابع : الذي يجب الإمساك عنه القياس والتفريغ مثل : أن يرد لفظ اليد 
فلا يجوز اثبات الساعد والعضد والكف مصيراً إلى أن هذا من لوازم اليدء وإذا ورد 
الأصبع لم يجز ذكر الأنملة كما لا يجوز ذكر اللحم والعظم والعصب. وإن كانت اليد 
المشهورة لاتنفك عنه وأبعد من هذه الزيادة إثبات الرجل عند ورود اليد. واثبات الفم 
عند ورود العين أو عند ورود الضحك. واثبات الأذن والعين عند ورود السمع والبصر. 
وكل ذلك محال وكذب وزيادة. وقد يتجاسر د بعض. الحمقى من المشبهة الحشوية 
فلذلك ذكرناه. 
)١(‏ صورة الانعام: الآية .١4‏ 
(؟) سورة الرعد: الآية ؟. 
؟) سورة البقرة: الآية 9؟, 


06 


التصرف الخامس : لا يجمع بين متفرق ولقد بعد عن التوفيق من صف كتاباً في 
جمع الأخبار خاصة ورسم في كل عضو بابا فقال: باب في إثبات الرأس وباب في اليد 
إلى غير ذلك. وسماه: كتاب الصفات. فإن هذه كلمات متفرقة صدرت من 
رسول الله عند في أوقات متفرقة متباعدة اعتمادا على قرائن مختلفة تفهم السامعين 
معاني صحيحة » فإذا ذكرت مجموعة على مثال خلق الإنسان صار جمع تلك المتفرقات 
في السمع دفعة واحدة عظيمة في تأكيد الظاهر وإيهام التشبيه وصار الإشكال فى أن 
رسول الله كَلخِ لما نطق بما يوهم خلاف الحق أعظم في النفس وأوقع. بل الكلمة 
الواحدة يتطرق إليها الاحتمال, فإذا اتصل بها ثانية وثالثة ورابعة من جنس واحد صار 
متوالياً يضعف الاحتمال بالاضافة إلى الجملة, ولذلك يحصل من الظن بقول المخبرين 
وثلاثة مالا يحصل بقول الواحد. بل يحصل من العلم القطعي بخبر التواتر 
ما لا يحصل بالآحاد ويحصل من العلم القطعي باجتماع التواتر ما لا يحصل بالآحاد. 
وكل ذلك نتيجة الاجتماع إذ يتطرق الاحتمال إلى قول كل عدل وإلى كل واحدة من 
القرائن» فإذا انقطع الاحتمال أو ضعف فلذلك لا يجوز جمع المتفرقات . 

التصرف السادس: التفريق بين المجتمعات فكما لآ يجمع بين متفرفة فلا يفرق 
بين مجتمعة. فإن كل كلمة سابقة على كلمة أو لاحقة لها مؤثرة في تفهم معناه مطلقاً 
ومرجحة الاحتمال الضعيف فيه فإذا فرقت وفصلت سقطت دلالتها مثال قوله تعالى : 
طِوَهُوٌ القاهِرٌ فَوقٌ عِبَادِه27. لا تسلط على أن يقول القائل هو فوق. لأنه إذا ذكر القاهر 
قبله ظهر دلالة الفوق على الفوقية التي للقاهر مع المقهور وهي فوقية الرتبة ولفظ القاهر 
يدل عليه بل لا يجوز أن يقول وهو القاهر فوق غيره. بل ينبغي أن يقول فوق عباده لأن 
ذكر العبودية في وصفه في الله فوقه يؤكد احتمال فوقية السيادة إذ لا يحسن أن يقال زيد 
فوق عمر. وقبل أن يتبين تفاوتهما في معنى السيادة والعبودية أو غلبة القهر أو نفوذ الأمر 
بالسلطنة أو بالأبوة أو بالزوجية, فهذه الأمور يغفل عنها العلماء فضلا عن العوام. فكيف 
يسلط العوام في مثل ذلك على التصرف بالجمع والتفريق والتأويل والتفسير وأنواع 
التغيير» ولأجل هذه الدقائق بالغ السلف في الجمود والاقتصار على موارد التوقيف كما 
ورد على الوجه الذي ورد وباللفظ الذي ورد والحق ما قالوه والصواب ما رأوه. فأهم 
المواضع بالاحتياط ما هو تصرف في ذات الله وصفاته وأحق المواضع بإلجام اللسان 


١8 سورة الانعام: الآية‎ )١( 


65 


وتقبيده عن الجريان فيما يعظم فيه الخطر وأي خطر أعظم من الكفر. 

الوظيفة السادسة : فى الكف بعد الإمساك . وأعنى بالكف كف الباطن عن التفكر 
فون عه الأموزير فل القجواحب عله كما يعن كلب نماك اللببافاعة السؤالوالتصرفت» 
وهذا أثقل الوظائف وأشدها وهوواجب كما وجب على العاجز الزمن أن لا يخوض غمرة 
البحار. وإن كان يتقاضاه طبعه أن يغوص في البحار ويخرج دررها وجواهرهاء ولكن 
لا ينبغي أن تغره نفاسة جواهرها مع عجزه عن نيلهاء بل ينبغي أن ينظر إلى عجزه وكثرة 
معاطبها ومهالكها ويتفكر أنه إن فاته نفائس البحار فما فاته إلا زيادات وتوسعات في 
المعيشة وهو مستغن عنهاء فإن غرق أو التقمه تمساح فإنه أصل الحياة. فإن قلت: إن لم 
ينصرف قلبه من التفكر والتشوف إلى البحث فما طريقه؟ قلت: طريقه أن يشغل نفسه 
بعبادة الله وبالصلاة وقراءة القرآن والذكر, فإن لم يقدر فبعلم آخر لا يناسب هذا الجنس 
من لغة أو نحو أو خط أو طب أو فقه. فإن لم يمكنه فبحرفة أو صناعة ولو الحراثة 
والحياكة. ٠‏ فإن لم يقدر فب فبلعب ولهو وكل ذلك خير له من الخوض في هذا البحر البعيد 
غوره وعمقه العظيم خطره وضررهء بل لو اشتغل العامي بالمعاصي البدنية ربما كان 
أسلم له من أن يخوض في البحث عن معرفة الله تعالى ‏ فإن ذلك غايته الفسق وهذا 
عاقبته الشرك «إِنْ الله لا يَغْفِرَ أنْ يُشْرَكَ به وَيَغفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَعَاه0©. 

فإن قلت: العامي إذا لم تكن نفسه إلى الاعتقادات الدينية !لا بدليل» فهل يجوز 
أن يكون له الدليل فإن جوزت ذلك فقد رخصت له في التفكر والنظر. وأي فرق بينه 
وبين غيره؟ 

الجواب: أني أجوز له أن يسمع الدليل على معرفة الخالق ووحدانيته وعلى 
صدق الرسول وعلى اليوم الآخر ولكن بشرطين: أحدهما: أن لا يزاد معه على الأدلة 
التي في القرآن. والآخر: أن لا يماري فيه إلا مراء ظاهرا ولا يتفكر فيه إلا تفكراً سهلاً 
جلياً ولا يمعن في التفكر ولا يوغل غاية الايغال في البحث, وأدلة هذه الأمور الأربعة 
ما ذكر في القرآن. 

أما الدليل على معرفة الخالق فمثل قوله تعالى : ظقُلَ مَنْ يرَوُفكُمْ مِنَ السّماءٍ 
والأزض أمْنْ يَمْلِكُ السّمُعٌ والأبْصَارَ وَمْنْ يُخْرِجُ الحي مِنَ المَيْتِ وَيُخْرِحُ المَيْتَ مِنْ 


)1( سورة النساء : الآية ذلك 


/اه 


الحي ومن يُذَبرٌ رالآمر فَسَيَقُولُون اللَّهُ»ى") . وقوله : فلم ينظرُوا إلى السّماءِ فوقهم 
َيف بَْنَاهَا وَرَينْاهَا وَمَا لََا مِنْ روج # والأَرْض مَدَدْنامًا وألقينا فيا رَواسِي وانبتنا 
فيهَا مِنْ كل دح بهي * تَنْصِرَة ودِكْرَى لكل عَبْدٍ ميب # وَنَرْلنَا مِنَ السّماءِ مَاءْ 
مباركا اننا به جناتٍ وحَبٌّ الحصيدٍ ‏ والنّْلَ بَاسِقاتٍ لها طَلَعُنَضِيدٌ9©. . وكقوله: 
َفَلينَظر الإنْسَانُ إلى طَعَامِهٍ * أنا صََبنا الماء صَبَاً # ثم شَففَنا الأرْضٌ شَقاً + فالبتنا 
فيها با * وعِنبا وقَضباً ‏ وَريْتونا ونلا # وَحَدَا بن علا * وفَاكهَة وآبَا “وقوله: 
ألم نَجْمَل الأرْض مِهَاداً * والجبالَ أؤتاداً» إلى قوله : طوَجِنَاتِ ألقَافاه2»9. وأمثال 
ذلك هي قريب من خمسائة آية جمعناها في كتاب جواهر القرآن بها ينبغي أن يعرف 
الخلق جلال الله الخالق وعظمته لا بقول المتكلمين أن الأعراض حادثة. وأن الجواهر 
لا تخلو عن الأعراض الحادثة فهي حادثة ثم الحادث يفتقر إلى محدث. فإن تلك 
التقيسمات والمقدمات وإثباتها بأدلتها الرسمية يشوش قلوب العوام والدلالات الظاهرة 
القريبة من الأفهام على مافي القرآن تنفعهم وتسكن نفوسهم وتغرس في قلوبهم 
الاعتقادات الجازمة . 

.وأما الدليل على الوحدانية فيقنع فيه بما في القرآن من قوله تعالى : لكان فِيهمًا 
آلِهَةٌ ل الله ه لَفسَدَنا 0) . فإن اجتماع المدبرين سبب إفساد التدبير» وبمثل قوله : «لو 
كَانَ مَعَهُ آلِهَة كُمَا يَقُولُونَ إذا لابتغوا إلى ذي العْرشٍٍ سَبيلا74*». وقوله تعالى : «ما 
الخد الله من ولد وَمَا كان مََهُمنْ إل إذا لَذهَبَ كل إل ما حلْقَ وَلْمَلاَْضْهُمْ عَلَى 
بض 04" . وأما صدق الرسول محدن ل يه تعالى : قل لَئنِ اجمَمَتِ الإنس 
والجنْ عَلَى أن يَأنُوا يشل هَذَا الَرْآنٍ لآ يون بمثله ولَوْ كان بَْضْهُمْ لبَْض, 
هرأ)” 0 : ا9فَأنُوا سُورَةٍ مِنْ بِكْلِهِ04. وقوله : قل فَنُوا ِمَشْرِ سُوَرٍ مله 
)١‏ صورةق: الآيات .١٠١-5‏ 
(9) سورة عَبّس: الآيات .71١-714‏ 
(14) سورة النبأ: الآيات ١1-5‏ . 
(9) سورة الأنبياء : الآية 517 . 
(3) سورة الإسراء : الآية 47 . 
(*) سورة المؤمنون: الآية .4١‏ 
(4) سورة الاسراء: الآية غمم. 
)4( سورة البقرة : الآية 77 , 


لك 


مُفْتريَات )ه(1) . وأمثاله. وأما اليومٍ الآخر: فيستدل عليه بقوله تعالى : لقال مَنْ يحي 
العِظَامَ اوهي رَميمٌ # قُلْ يُحْبِيهَا الذي أَنَشَاهًا أوّلَ مَرَة06) . وبقوله: وان 
الإنسَان أن يثرَكَ سد * ألم يَكْ نطفة مِنْ مني يُمنى» . إلى قوله : «أليْسَ ذَلِك بقاير 
عَلَى أن يْحيّ المَوتى» 9© . وبقوله : (يا أبها الناسُ إِنْ كثنَم في رَيْبٍ مِنَ الث فَإنا 
حَلَقناكمْ مِنْ راب إلى قوله: (فإذا أنْرَلْنا عَلَيْها المَاء امَْرْت وَرَبَت إن الذي أَحْيَّاهَا 
لمخي المَوْتى » ؛) . وأمثال ذلك كثير في القرآن» فلا ينبغي أن يزاد عليه : 

فإن قيل: فهذه الأدلة التي اعتمدها المتكلمون وقرروا وجه دلالتها. فما بالهم 
يمتنعون عن تقرير هذه الأدلة ولا يمتنعون عنها. وكل ذلك مدرك بنظر العقل وتأمله فإن 
فتح للعامي باب النظر فليفتح مطلقاً أو ليسد عليه طريق النظر رأساً وليكلف التقليد من 
غير دليل. 

الجواب: أن الدلالة تنقسم إلى ما يحتاج فيه إلى تفكر وتدقيق خارج عن طاقفة 
العامي وقدرته؛ وإلى ما هو جلي سابق إلى الأفهام ببادىء الرأي من أول النظر مما 
يدركه كافة الناس بسهولة, فهذا لا خطر فيه. وما يفتقر إلى التدقيق فليس على حد 
وسعه, فأدلة القرآن مثل الغذاء ينتفع به كل إنسان. وأدلة المتكلمين مثل الدواء ينتفع به 
آحاد الناس وتستضر به الأكثرون, بل أدلة القرآن كالماء الذي ينتفع به الصبي الرضيع 
والرجل القوي وسائر الآأدلة كالاطعمة التي ينتفع بها الأقوياء مرة ويمرضون بها اخرى 
ولا ينتفع بها الصبيان أصلاء ولهذا قلنا أدلة القرآن أيضا ينبغي أن يصغى إليها إصغاء 
إلى كلام جلي ولا يماري في إلا مراء ظاهراً. ولا يكلف نفسه تدقيق الفكر وتحقيق 
النظرء ْ فمن الجليٍ أن من قدر على الابتداء فهو على الإعادة أقدر. كما قال: «وَهُو 
الْذِي يبَأ الْخَلْقَ : ثم يُعيدَُهُ وَهُوٌ أَهْوَنُ عَلَيِْه(». وأن التدبير لا ينتظم في دار واحدة 
بمدبرين؛ فكيف ينتظم في كل العالم؟ وأن من خلق علم كما قال تعالى : «ألآ يَعْلَمُ مَنْ 


.١7 سورة هود: الآية‎ )١( 

(؟) سورةيس: الآيتان 4لا و قلا. 

8 سورة القيامة: الآيات 5" و١4.‏ 

(4) سورة الحج: الآية ه. وتصويب الآية: «فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل 
زوج بهيج». ولكن المذكور في الأصل بعد كلمة «وريت» هومن سورة فصلت: الآية 79. 

(9) سورة الروم : الآية /ا33. 


لك 


خَلَّقَ06 . فهذه الأدلة تجري للعوام مجرى الماء الذي جعل الله منه كل شيء حي . 
وما أخذه المتكلمون وراء ذلك من تنقير وسؤال وتوجيه إشكال ثم اشتغال بحله فهو بدعة 
وضرره في حق أكثر الخلق ظاهرء فهو الذي ينبغي أن يتوقى والدليل على نضرر الخلق 
به المشاهدة والعيان والتجربة وما ثار من الشر منذ نبغ المتكلمون وفشت صناعة الكلام 
مع سلامة العصر الأول من الصحابة عن مثل ذلك ويدل عليه أيضاً أن رسول الله كلد 
والصحابة بأجمعهم ما سلكوا في المحاجة مسلك المتكلمين في تقسيماتهم وتدقيقاتهم 
لا لعجز منهم عن ذلك. فلو علموا أن ذلك نافع لأطنبوا فيه ولخاضوا في تحرير الأدلة 
خوضاً يزيد على خوضهم في مسائل الفرائض . 

فإن قبل : إنما أمسكوا عنه لقلة الحاجة, فإن البدع إنما نبغت بعدهم فعظم حاجة 
المتأخرين وعلم الكلام راجع إلى علم معالجة المرضى بالبدع, فلما قلْت في زمانهم 
أمراض البدع قلت عنايتهم بجميع طرق المعالجة. فالجواب من وجهين. 

أحدهما: أنهم في مسائل الفرائض ما اقتصروا على بيان حكم الوقائع. بل 
وضعوا المسائل وفرضوا فيها ما تنقضي الدهور ولا يقع مثله لأن ذلك مما أمكن وقوعه 
فصفوا علمه ورتبوه قبل وقوعه إذ علموا أنه لا ضرر في الخوض فيه وفي بيان حكم 
الواقعة قبل وقوعهاء والعناية بإزالة البدع ونزعها عن النفوس أهم فلم يتخذوا ذلك 
صناعة لأنهم عرفوا أن الاستضرار بالخوض فيه أكثر من الإنتفاعء ولولا أنهم كانوا قد 
حذروا من ذلك وفهموا تحريم الخوض لخاضوا فيه . 

والجواب الثاني : أنهم كانوا محتاجين إلى محاجة اليهود والنصارى في إثبات نبوة 
محمد يَك. وإلى إثبات البعث مع منكريه, ثم ما زادوا في هذه القواعد التي هي أمهات 
العقائد على أدلة القرآن. فمن أقنعه ذلك قبلوه ومن لم يقنع قتلوه وعدلوا إلى السيف 
والسنان بعد إفشاء أدلة القرآن وما ركبوا ظهر اللجاج في وضع المقاييس العقلية وترتيب 
المقدمات وتحريم طريق المجادلة وتذليل طرقها ومنهاجهاء كل ذلك لعلمهم بأن ذلك 
مثار الفتن ومنبع التشويش ومن لا يقنعه أدلة القرآن لا يقمعه إلا السيف والسنان. فيما 
بعد بيان الله بيان على أننا ننصف ولا ننكر أن حاجة المعالجة تزيد بزيادة المرض وأن 
لطول الزمان وبعد العهد عن عصر النبوة تأثيرا في إثارة الاشكالات وأن للعلاج طريقين. 


.١4 سورة الملك: الآية‎ )١( 


أحدهما: الخوض في البيان والبرهان إلى أن يصلح واحد يفسد به اثنان. فإن 
صلاحه بالإضافة إلى الأكياس وفساده بالإضافة إلى البله وما أقل الأكياس وما أكثر البله 
والعناية بالأكثرين أولى . 


والطريق الثاني : طريق السلف في الكف والسكوت والعدول إلى الدرة والسوط 
والسيف. وذلك مما يقنع الأكثرين وإن كان لا يقنع الأقلين وآية إقناعه أن من يسترق من 
الكفار منٍ العبيد والإماء تراهم يسلمون تحت ظلال السرم يستمرون عليه حتى 
يصير طوعاً ما كان في البداية كرهاً ويصير اعتقاداً جزماً ما كان في الابتداء مراء وشكاًء 
وذلك بمشاهدة أهل الدين والمؤانسة بهم وسماع كلام الله ورؤية ة الصالحين وخبرهم. 
وقرائن من هذا الجنس تناسب طباعهم مناسبة أشد من مناسبة الجدل والدليل, فإذا كان 
كل واحد من العلاجين يناسب قوماً دون وجب ترجيح الأنفع في الأكثر. فالمعاصرون 
للطبيب الأول المؤيد بروح القدس المكاشف من الحضرة الإلهية الموحى إليه من 
الخبير البصير بأسرار عباده وبواطنهم أعرف بالآصوب والأصلح قطعاء فسلوك سبيلهم 
لا محالة أولى . 


الوظيفة السابعة: التسليم لأهل المعرفة وبيانه أنه يجب على العامي أن يعتقد أن 
ما انطوى عنه من معاني هذه الظواهر وأسرارها ليس منطوياً عن رسول الله يلو وعن 
الصديق. وعن أكابر الصحابة. وعن الأولياء والعلماء الراسخين, وأنه إنما انطوى عنه 
لعجزه وقصور معرفتهء فلا ينبغي أن يقيس بنفسه غيره فلا تقاس الملائكة بالحدادين 
وليس ما يخلوعنه مخادع العجائز يلزم منه أن يخلوعنه خزائن الملوك. فقد خلق الناس 
أشتاتاً متفاوتين كمعادن الذهب والفضة وسائر الجواهر, فانظر إلى تفاوتهما وتباعد 
فاانينهما ضوزة ولوناً وتخاصية ونفاشة: فكذلك القلوت معادن لستائر جواهر المعارفك 
فبعضها معدن النبوة والولاية والعمل ومعرفة الله تعالى. وبعضها معدن للشهوات 
البهيمية والأخلاق الشيطانية.» بل ترى الناسن يتفاونون في الحرف والصناعابتا فقد يقلدز 
الواحد بخفة يده وحذاقة صناعته على مور لآ يطمع الآخر في بلوغ أوائله فضلاٌ عن 
غايته , ولو اشتغل بتعلمه جميع عمره فكذلك معرفة الله تعالى» » بل كما ينقسم الناس 
إلى جبان عاجز لا يطيق النظر الى التطام أمواج البحر وإن كان على ساحله. وإلى من 
يطيق ذلك ولكن لا يمكنه الخوض في أطرافه وإن كان قائماً في الماء على رجله؛ وإلى 
من يطيق ذلك لكن لا يطيق رفع الرجل عن الأرض اعتماداً على السباحة» وإلى من 


5١ 


يطيق السباحة إلى حد قريب من الشط لكن لا يطيق خوض البحر إلى لجته والمواضع 
المغرقة المخطرة, وإلى من يطيق ذلك لكن لا يطيق الغوص في عمق البحر إلى مستقره 
الذي فيه نفائسه وجوهره. فهكذا مثال بحر المعرفة وتفاوت الناس فيه مثله حذو القذة 
بالقذة من غير فرق . 


فإن قيل : فالعارفون محيطون بكمال معرفة الله سبحانه حتى لا ينطوي عنهم 
شيء . 

قلنا: هيهات فقد بينا بالبرهان القطعي في كتاب المقصد الأقصى في معاني 
أسماء الله الحسنى أنه لا يعرف الله كنه معرفته إلا الله وأن الخلائق وإن اتسعت 
معرفتهم وغزر علمهم. فإذا أضيف ذلك إلى علم الله سبحانه فما أوتوا من العلم إلا 
قليلاًء لكن ينبغي أن يعلم أن الحضرة الإلهية محيطة بكل ما في الوجود إذ ليس في 
الوجود إلا الله وأفعاله» فالكل من الحضرة الإلهية كما أن جميع أرباب الولايات في 
المعسكر حتى الحراس هم من المعسكر فهم من جملة الحضرة السلطانية؛ وأنت 
لا تفهم الحضرة الإلهية إلا بالتمثيل إلى الحضرة السلطانية» فاعلم أن كل ما في الوجود 
داخل في الحضرة الإلهية. ولكن كما أن السلطان له مملكته قصر خاص وفي فناء قصره 
ميدان واسع. ولذلك الميدان عتبة يجتمع عليها جميع الرعايا ولا يمكنون من مجاوزة 
العتبة ولا إلى طرف الميدان ثم يؤذن لخواص المملكة في مجاوزة العتبة ودخول 
الميدان والجلوس فيه على تفاوت في القرب والبعد بحسب مناصبهم , وربما لم يطرق 
إلى القصر الخاص إلا الوزير وحده. ثم إن الملك يطلع الوزير من أسرار ملكه على 
ما يريد ويستآثر عنه بأمور لا يطلعه عليهاء فكذلك فافهم على هذا المثال تفاوت الخلق 
في القرب والبعد من الحضرة الإلهية, فالعتبة التي هي آخر الميدان موقف جميع العوام 
ومردهم لا سبيل لهم إلى مجاوزتهاء فإن جاوزوا أحدهم استوجبوا الزجر والتنكيل, وأما 
العارفون فقد جاوزوا العتبة وانسرحوا في الميدان ولهم فيه جولان على حدود مختلفة في 
القرب والبعد وتفاوت ما بينهم كثيرء وإن اشتركوا في مجاوزة العتبة وتقدموا على العوام 
المفترشين . وأما حظيرة القدس في صدر الميدان فهي أعلى من أن يطأها أقدام العارفين 
وأرفع من أن يمتد إليها أبصار الناظرين» بل لا يلمح ذلك الجناب الرفيع صغير وكبير 
إلا غض من الدهشة والحيرة طرفه فانقلب إليه البصر خاسئا وهو حسيرء فهذا ما يجب 
على العامي أن يؤمن به جملة وإن لم يحط به تفصيلاء فهذه هي الوظائف السبع الواجبة 


51 


على عوام الخلق في هذه الأخبار التي سألت عنها وهي حقيقة مذهب السلف. وأما الآن 
فنشغل بإقامة الدليل على أن الحق هو مذهب السلف. 
الباب الثاني 


في إقامة البرهان على أن الحق مذهب السلف وعليه برهانان عقلي وسمعي . 

أما العقلي فائنان كلي وتفصيلي . أما البرهان الكلي على أن الحق مذهب السلف 
فيتكشف بتسليم أربعة أصول هي مسلمة عند كل عاقل . 

الأول: أن أعرف الخلق بصلاح أحوال العباد بالإضافة إلى حسن المعاد هو 
النبي ككل فإن ما ينتفع به في الآخرة أو يضر لا سبيل إلى معرفته بالتجربة» كما عرف 
الطبيب إذ لا مجال للعلوم التجريبية إلا بما يشاهد على سبيل التكرر. ومن الذي رجع 
من ذلك العالم فأدرك بالمشاهدة ما نفع وضر وأخبر عنه ولا يدرك بقياس العقل» فإن 
العقول قاصرة عن ذلك والعقلاء بأجمعهم معترفون بأن العقل لا يهتدي إلى ما بعد 
والمسليد كما ور الشرائع بل أقروا بجملتهم أن ذلك لا يدرك إلا رن الزة وه 
قوة وراء العقل يدرك بها من أمر الغيب في الماضي والمستقبل أمور لا على طريق 
التعرف بالأسباب العقلية. وهذا مما اتفق عليه الأوائل من الحكماء فضلا عن الأولياء 
والعلماء والراسخين القاصرين نظرهم على الاقتباس من حضرة النبوة المقرين بقصور 
كل قوة سوى هذه القوة. 

الأصل الثاني : أنه ولِةِ أفاض إلى الخلق ما أوحى إليه من صلاح العباد في 
معادهم ومعاشهم . وأنه ما كتم شيئا من الوحي وأخفاه وطواه عن الخلق فإنه لم يبعث إلا 
لذلك. ولذلك كان رحمة للعالمين فلم يكن منهما فيه وعرف ذلك علما ضروريا من 
قرائن أحواله في حرصه على اصلاح الخلق وشخفه بارشادهم إلى صلاح معاشهم 
ومعادهم . فما ترك شيئا مما يقرب الخلق إلى الجنة ورضاء الخالق إلا دلهم عليه وأمرهم 
به وحثهم عليه ولا شيئا مما يقربهم إلى النار وإلى سخط الله إلا حذرهم منه ونهاهم 
عنه وذلك في العلم والعمل جميعا. 


الأصل الثالث : أن أعرف الناس بمعاني كلامه وأحراهم بالوقوف على كنهه ودرك 


إن 


أسراره الذين شاهدوا الوحي والتنزيل وعاصروه وصاخيوة بل لازموه آاناء الليل والنهار 
متشمرين لفهم معاني كلامه وتلقيه بالقبول للعمل به أولا وللنقل إلى من بعدهم ثانياء 
وللتقرب إلى الله سبحانه وتعالى بسماعه وفهمه وحفظه ونشره» وهم الذين حثهم 
رسول الله يل على السماع والفهم والحفظ والأداء فقال: «نضر الله أمرا سمع مقالتي 
فوعاها فأداها كما سمعها» الحديث. فليت شعري أيتهم رسول الله بكْةِ بإخفائه وكتمانه 
عنهم حاشا منصب النبوة عن ذلك. أو يتهم أولئك الأكابر في فهم كلامه وإدراك مقاصده 
أو يتهمون في إخفائه وأسراره بعد الفهم أو يتهمون في معاندته من حيث العمل ومخالفته 
على سبيل المكابرة مع الاعتراف بتفهيمه وتكليقه . فهذه الأمور لا يتسع لتقديرها عقل 
عاقل. 

الأصل الرابع : أنهم في طول عصرهم إلى آخر أعمارهم ما دعوا الخلق إلى 
البحث والتفتيش والتفسير والتأويل والتعرض لمثل هذه الأمور بل بالغوا في زجر من 
خاض فيه وسأل عنه وتكلم ؛ به على ما سنحكيه عنهم . » فلو كان ذلك من الدين أو كان من 
مدارك اا يم الدين لأقبلوا عليه ليلا ونهارً ودعوا لاإ و ور 
الفرائض لتر كه فنعلم بالقطع من هذه الأصول أن الحق ما الوه قرت 
ما رأوه. لا سيما وقد أثنى عليهم رسول الله كي وقال : «خير الناس قرني ثم الذين 
يلونهم ثم الذين يلونهم». وقال كله : «ستفترق امتي نيفا وسبعين فرقة الناجية منهم 
واحدة». فقيل من هم؟ فقال: «أهل السئة والجماعة». فقال: «ما أنا عليه الآن 
وأصحابي» . 


البرهان الثاني : هو التفصيلي . فتقول ادعينا أن الحق هو مذهب السلف وأن 
مذهب السلف هو توظيف الوظائف السبع على عوام الخلق في ظواهر الأخبار 
المتشابهة. وقد ذكرنا برهان كل وظيفة معها فهو برهان كونه حقا فمن يخالف؟ ليت 
شعري يخالف في قولنا الأول أنه يجب على العامي التقديس للحق عن التشبيه ومشابهة 
الأجسام , أو في قولنا الثاني إنه يجب عليه التصديق والإيمان بما قاله الرسول يِل 
بالمعنى الذي أراده أو في قولنا الثالث إنه يجب عليه الاعتراف بالعجز عن درك حقيقة 
تلك المعاني., أو في قولنا الرابع إنه يجب عليه السكوت عن السؤال والخوض فيهما 
وراء طاقته. أو في قولنا الخامس إنه يجب عليه إمساك اللسان عن تغيير الظواهر بالزيادة 


5 


والنقصان والجمع والتفريق, أو في قولنا السادس إنه يجب عليه كف القلب عن التذكير 
فيه والفكر مع عجزه عنه وقد قيل لهم تفكروا ة في الخلق ولا تفكروا في الخالق ٠‏ أو في 
قولنا السابع إنه يجب عليه التسليم لأهل المعرفة من الأنبياء والأولياء والعلماء ء الراسخين 
فهذه أمور بيانها برهانها ولا يقدر أحد على جحدها وإنكارها إن كان من أهل التمييز 
فضللاً عن العلماء والعقلاء. فهذه هي البراهين العقلية. 

النمط الثاني: البرهان السمعي على ذلك. وطريقه أن نقول: الدليل على أن 
الحق مذهب السلف أن نقيضه بدعة والبدعة مذمومة وضلالة. والخوض من جهة العوام 
في التأويل. والخوض بهم فيه من جهة العلماء بدعة مذمومة, وكان نقيضه وهو الكف 
عن ذلك سنة محمودة فههنا ثلائة اصول: 

أحدها: أن البحث والتفتيش والسؤال عن هذه الأمور بدعة. 

والثاني : أن كل بدعة فهي مذمومة . 

والثالث: أن البدعة إذا كانت مذمومة كان نقيضهاء وهى السنة القديمة محمودة 
ولا يمكن النزاع في شيء من هذه الأصول. فإذا سلم ذلك ينتج أن الحق مذهب 
السلف ,. 

فإن قيل: فبم تنكرون على من يمنع كون البدعة مذمومة. أو يمنع كون البحث 
والتفتيش بدعة فينازع في هذين وإن لم ينازع في الثالث لظهوره؟ 

فنقول : الدليل على إثبات الأصل الأول من كون البدعة مذمومة اتفاق الأمة قاطبة 
على ذم البدعة وزجر المبتدع وتغبير من يعرف بالبدعة, وهذا مفهوم على الضرورة من 
الشرع وذلك غير واقع في محل الظن, فذم رسول الله يكل البدعة علم بالتواتر بمجموع 
أخبار يفيد العلم القطعي جملتهاء وإن كان الاحتمال يتطرق إلى آحادهاء وذلك كعلمنا 
بشجاعة علي رضي الله عنه.» وسخاوة حاتمء» وحب رسول الله كَل لعائشة رضي الله 
عنها وما يجري مجراه. فإن علم قطعاً بأخبار آحاد بلغت في الكثرة مبلغاً لا يحتمل 
كذب ناقليهاء وإن لم تكن آحاد تلك الأخبار متواترة» وذلك مشل ماروي عن 
رسول الله يليد أنه قال: «عليكم بسنتي وسة ة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي 
عضو عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة 
وكل ضلالة في النار». وقال كَل : «اتبعوا ولا تبتدعوا وإنما هلك من كان قبلكم لما 


16 


ابتدعوا في دينهم وتركوا سنن أنبيائتهم وقالوا بآرائهم فضلوا وأضلواء وقال كو : وإذا مات 
صاحب بدعة فقد فتح على الإسلام فتح». وقال وَل : «من مشى إلى صاحب بدعة 
ليوقره فقد أعان على هدم الإسلام». وقال يكل : دس أعرض عن صاحب بدعة بغضاً له 
في الله ملأ الله قلبه أمناً وؤيماناً. ومن انتهر صاحب بدعة رفع الله له مائة درجة» ومن سلّم 
على صاحب بدعة أو لقيه بالبشر أو استقبله بمنا يسره فقد استخف بما أنزل على 
محمد كلِ». وقال : دإن الله لا يقبل لصاحب بدعة صوماً ولا صلاة ولا زكاة 
ولا حجاً ولا عمرة ولا جهاداً ولا صرفاً ولا عدلاً. ويخرج من الإسلام كما يخرج السهم 
من الرمية أو كما تخرج الشعرة من العجين». فهذا وأمثاله مما يجاوز حد الحصر أفاد 
علما ضروريا بكون البدعة مذمومة. 

فإن قيل: سلمنا أن البدعة مذمومة؛ ولكن ما دليل الأصل الثاني وهو أن هذه بدعة 
فإن البدعة عبارة عن كل محدث. فلم قال الشافعي رضي الله عنه الجماعة في التراويح 
بدعة وهي بدعة حسنة. وخوض الفقهاء في تفاريع الفقه ومناظرتهم فيها مع ما أبدعوه 
من نقض وكسر وفساد وضع وتركيب ونحوه من فنون مجادلة والزام كل ذلك مبدع لم يؤثر 
عن الصحابة شىء من ذلك فدل على أن البدعة المذمومة ما رفعت سنة مأثورة» 
ولا نسلم أن هذا رافع لسنة ثابتة لكنه محدث خاض فيه الألوان إما لاشتغالهم بما هو أهم 
منه وإما لسلامة القلوب في العصر الأول عن الشكوك والترددات فاستغنوا لذلك وخاض 
فيه من بعدهم لمسيس الحاجة. حيث حدثت الأهواء والبدع إلى إبطالها وافحام 
منتحلها؟ 

الجواب : أما ما ذكرتموه من أن البدعة المذمومة ما رفعت سئة قديمة هو الحق 
وهذا بدعة رفعت سنة قديمة. إذ كان سئة الصحابة المنع من الخوض فيه. وزجر من 
سأل عنه. والمبالغة في تأديبه ومنعه بفتح باب السؤال عن هذه المسائل» والخوض 
بالعوام في غمرة هذه المشكلات على خلاف ما تواتر عنهم, وقد صح ذلك عن 
الصحابة بتواتر النقل عند التابعين من نقلة الآثارء وسير السلف حجة لا يتطرق إليها 
ريب ولا شك كما تواتر خوضهم في مسائل الفرائض ومشاورتهم في الوقائع الفقهية. 
وحصل العلم به أيضا بأخبار آحاد لا يتطرق الشك إلى مجموعهاء كما نقل عن عمر 
رضي الله عنه أنه سأل سائل عن آيتين متشابهتين فعلاه بالدرة» وكما روي أنه سأله سائل 
عن القرآن أهو مخلوق أم لا فتعجب عمر من قوله فأخذ بيده حتى جاء به إلى علي 


11 


رضي الله عنهء فقال: يا أبا الحسن استمع ما يقول هذا الرجل . قال: وما يقول يا أمير 
المؤمنين؟ فقال الرجل : سألته عن القرآن أمخلوق هو أم لا؟ فوجم لها رضي الله عنه 
وطاطأ رأسه. ثم رفع رأسه وقال: سيكون لكلام هذا نبأ في آخر الزمان ولووليت من أمره 
ما وليت لضربت عنقه . 

وقد روى أحمد بن حنبل هذا الحديث عن أبي هريرة» فهذا قول علي بحضور 
عمر وأبي هريرة رضي الله عنهم ولم يقولا له ولا أحد ممن بلغه ذلك من الصحابة. 
ولا عرف علي رضي الله عنه في نفسه أن هذا سؤال عن مسألة دينية وتعرف لحكم كلام 
الله تعالى وطلب معرفة لصفة القرآن الذي هو معجزة دالة على صدق الرسول. بل هو 
الدليل المعرف لأحكام التكليف, فلم يستوجب طالب المعرفة هذا التشديد, فانظر إلى 
فراسة علي وإشرافه على أن ذلك قرع لباب الفتنة» وأن ذلك سينتشر في آخر الزمان 
الذي هو موسم الفتن ومطيتها بوعد رسول الله يو وانظر إلى تشديده وقوله : ولو وليت 
لضربت عنقه. فمثل أولئك السادة الأكابر الذين شاهدوا الوحي والتنزيل واطلعوا على 
أصرار الدين وحقائقه, وقد قال كِخِ في أحدهما: «لولم أبعث لبعث عمر». وقال في 
الثاني : «أنا مدينة العلم وعلي بابها». يزجرون النائل عن مكل هذا السؤال. ثم يزعم 
من بعدهم من المشغوفين بالكلام والمجادلة وممن لو أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مدّ 
أحدهم ولا نصيفه. أن الحق والصواب قبول هذا السؤال والخوض في الجواب وفتح 
هذا الباب, ثم يعتقد فيه أنه محق. وفي عمر وعلي أنهما مبطلان. هيهات ما أبعد عن 
التحصيل وما أخلى عن الدين من قاس الملائكة بالحدادين ويرجح المجادلين على 
الائمة الراشدين والسلف, فإذاً قد عرف علي القطع أن هذه بدعة مخالفة لسنة السلف 
لا كخوض الفقهاء في التفاريع والتفاصيل, فإنه ما نقل عنهم زجر عن الخوض فيه بل 
إمعانهم في الخوض» وأما ما أبدع من فنون المجادلات فهي بدعة مذمومة عند أهل 
التحصيل ذكرنا وجه ذمها في كتاب قواعد العقائد من كتب الاحياء. وأما مناظراتهم إن 
كان القصد منها التعاون على البحث عن مأخذ الشرع ومدارك الأحكام. فهي سنة 
السلف ولقد كانوا يتشاورون ويتناظرون في المسائل الفقهية كما نقل في مسألة الجد 
وميراث الأم مع الزوج والاب ومسائل سواها. نعم إن أبدعوا ألفاظاً وعبارات للتنبيه على 
مقاصدهم الصحيحة فلا حرج في العبارات بل هي مباحة لمن يستعيرها ويستعملهاء 
وإن كان مقصدهم المذموم من النظر الافحام دون الاعلام والإلزام دون الاستعلام» 
فذلك بدعة على خلاف السنة المأثورة . 


034 


الباب الثالث 
فى فصول متفرقة وأبواب نافعة في هذا الفن 
فصل 
إن قال قائل: ما الذي دعا رسول الله يَكلِِ إلى إطلاق هذه الألفاظ الموهمة مع 
الاستغناء عنهاء أكان لا يدري أنه يوهم التشبيه ويغلط الخلق ويسوقهم إلى اعتقاد 
الباطل في ذات الله تعالى وصفاته. وحاشا منصب النبوة أن يخفى عليه ذلك. أو عرف 
لكن لم يبال بجهل الجهال وضلالة الضلال. وهذا أبعد وأشنع لأنه بعث شارحاً لا 
ويا عليسا ملدرا وهذا إشكال له وقع في القلوب حتى جرٌ بعض الخلق إلى سوء 
الاعتقاد فيه فقالوا : لوكان نبي لعرف الله ولوعرفه لما وصفه بما يستحيل عليه في ذاته 
وصفاته. ومالت طائفة فرق إلى اعتقاد الظواهر. وقالوا: لولم يكن حقاً لما ذكره 
كذلك مطلقاً ولعدل عنها إلى غيرها أو قرنها بما يزيل الايهام عنها في سبيل حل هذا 
الإشكال العظيم . 
الجواب : أن هذا الإشكال منحل عند أهل البصيرة» وبيانه أن هذه الكلمات ما 
جمعها رسول الله دفعة واحدة وما ذكرهاء وإنما جمعها المشبهة وقد بينا أن لجمعها من 
التأثير في الإيهام والتلبيس على الأفهام ما ليس لآحادها المفرقة. وإنما هي كلمات لهج 
بها في جميع عمره في أوقات متباعدة وإذا اقتصر منها على ما في القرآن والأخبار 
المتواترة رجعت إلى كلمات يسيرة معدودة» وإن أضيفت إليها الأخبار الصحيحة فهى 
افيا قليلة» وإنما كثرت الروايات الشاذة الضعيفة التي لا يجوز التعويل عليهاء 8 
تواتر منها إن صح نقلها عن العدول. فهي آحاد كلمات وما ذكر يل كلمة منها إلا مع 
قرائن وإشارات يزول معها إيهام التشبيه وقد أدركها الحاضرون المشاهدون. فإذا نقل 
الألفاظ مجردة عن تلك القرائن ظهرالإيهام .وأعظم القرائن في زوال الإيهام المعرفة 
السابقة بتقديس الله تعالى عن قبول هذه الظواهر. ومن سبقت معرفته بذلك كانت تلك 
المعرفة ذخيرة له راسخة في نفسه مقارنة لكل ما يسمع. فينمحق معه الإيهام انمحاقاً لا 
يشك فيه» ويعرف هذا بأمثله : 


14 


الأول: أنه يكيخِ سمى الكعبة بيت الله تعالى. وإطلاق هذا يوهم عند الصبيان 
وعند من تقرب درجتهم منهم أن الكعبة وطنه ومثواه. لكن العوام الذين اعتقدوا أنه في 
السماء وأن استقراره على العرش ينمحق في حقهم هذا الإيهام على وجه لا يشكون 
فيه, فلوقيل لهم : ما الذي دعا رسول الله يك إلى اطلاق هذا اللفظ الموهم المخيل إلى 
السامع أن الكعبة مسكنه لبادروا بأجمعهم , وقالوا: هذا إنما يوهم في حق الصبيان 
والحمقى . أما من تكرر على سمعه أن الله مستقر على عرشه, فلا يشك عند سماع هذا 
اللفظ أنه ليس المراد به أن البيت مسكنه ومأواه. بل يعلم على البديهة أن المراد بهذه 
الإضافة تشريف البيت أو معنى سواه غير ما وضع له لفظ البيت المضاف إلى ربه 
وساكنه. أليس كان اعتقاده أنه على العرش قرينة افادته علماً قطعياً بأنه ما اريد بكون 
الكعبة بيته إنه مأواه. وإن هذا إنما يوهم في حق من لم يسبق إلى هذه العقيدة. فكذلك 
رسول الله يل خاطب بهذه الألفاظ جماعة سبقوا إلى علم التقديس ونفي التشبيه وإنه 
منزه عن الجسمية وعوارضهاء وكان ذلك قرينة قطعية مزيلة للإيهام لا يبقى معه شك. 
وإن جاز أن يبقى لبعضهم تردد في تأويله وتعيين المراد به من جملة ما يحتمله اللفظ 
ويليق بجلال الله تعالى . 


المثال الثاني : إذا جرى لفقيه في كلامه لفظ الصورة بين يدي الصبي أو العامي 
فقال: صورة هذه المسألة كذا وصورة الواقعة كذا. ولقد صورت للمسألة صورة في غاية 
الحسن ربما توهم الصبي أو العامي الذي لا يفهم معنى المسألة أن المسألة شيء له 
صورة, وفي تلك الصورة انف وفم وعين على ما عرفه واشتهر عنده. أما من عرف حقيقة 
المسألة وإنها عبارة عن علوم مرتبة ترتيباً مخصوصاً فهل يتصور أن يفهم عيناً وأنفاً وفما 
كصورة الأجسام؟ هيهات . بل يكفيه معرفته بأن المسألة منزهة عن الجسمية وعوارضهاء 
فكذلك معرفة نفي الجسمية عن الإله وتقدسه عنها تكون قرينة في قلب كل مستمع 
مفهمة لمعنى الصورة في قوله خلق الله آدم على صورته ويتعجب العارف بتقديسه عن 
الجسمية ممن يتوهم لله تعالى الصورة الجسمية. كما يتعجب ممن يتوهم للمسألة صورة 

المثال الثالث : إذا قال القائل : بين يدي الصبي بغداد في يد الخليفة ربما يتوهم 
أن بغداد بين اصابعه. وإنه قد احتوى عليها براحته كما يحتوي على حجره ومدره. 
وكذلك كل عامي لم يفهم المراد بلفظ بغداد. أما من علم أن بغداد عبارة عن بلدة كبيرة 


538 


هل يتصور أن يخطر له ذلك أو يتوهم وهل يتصور أن يعترض على قائله ويقول: لماذا 
قلت بغداد في يد الخليفة؟ وهذا يوهم خلاف الحق ويفضي إلى الجهل حتى يعتقد أن 
بغداد بين أصابعه بل يقال له: يا سليم القلب هذا انما يوهم الجهل عند من لا يعرف 
حقيقة بغداد» فأما من علمه فبالضرورة يعلم أنه ما اريد بهذه اليد العضو المشتمل على 
الكف والأصابع بل معنى آخر ولا يحتاج في فهمه إلى قرينة سوى هذه المعرفة. فكذلك 
جميع الألفاظ الموهمة في الأخبار يكفي في دفع ايهامها قرينة واحدة وهي معرفة الله 
وإنه ليس بجسم وليس من جنس الأجسام, وهذا مما افتتح رسول الله كك بنيانه في أول 
بعثته قبل النطق بهذه الألفاظ . 

المثال الرابع : قال رسول الله كل في نسائه : «أطولكن يداً أسرعكن لحاقاً بي » 
فكان بعض نسوته يتعرف الطول بالمساحة ووضع اليد على اليد حتى ذكر لهن أنه أراد 
بذلك السماحة في الجود دون الطول للعضو. وكان رسول الله كد ذكر هذه اللفظة مع 
قرينة أفهم بها إرادة الجود بالتعبير بطول اليد عنهء فلما نقل اللفظ مجرداً عن قرينته 
حصل الإيهام. فهل كان لأحد أن يعترض على رسول الله ِِ في إطلاقه لفظاً جهل 
بعضهم معناه؟ إنما ذلك لأنه أطلق إطلاقاً مفهماً في حقى الحاضرين مقروناً مثلا بذكر 
السخاوة, والناقل قد ينقل اللفظ كما سمعه ولا ينقل القرينة. أو كان بحيث لا يمكن 
نقلهاء أو ظن أنه لا حاجة إلى نقلهاء وأن من يسمع يفهمه كما فهمه هو لما سمعه. 
فربما لا يشعر أن فهمه إنما كان بسبب القرينة. فلذلك يقتصر على نقل اللفظ. فبمثل 
هذه الأسباب بقيت الألفاظ مجردة عن قرائنها فقصرت عن التفهيم مع أن قرينة معرفة 
التقديس بمجردها كافية في نفي الإيهام. وإن كانت ربما لا تكفي في تعيين المراد به. 
فهذه الدقائق لا بدّ من التنبه لها كالمثال الخامس . 


إذا قال القائل بين يدي الصبي ومن يقرب منه درجة ممن لم يمارس الأحوالء ولا 
عرف العادات في المجالسات فلان دخل مجمعاً وجلس فوق فلان ربما يتوهم السامع 
الجاهل الغبي أنه جلس على رأسه أو على مكان فوق رأسه. ومن عرف العادات وعلم 
أن ما هو أقرب إلى الصدر في الرتبة» وأن الفوق عبارة عن العلويفهم مئه أنه جلس بجنبه 
لا فوق رأسه. لكن جلس أقرب إلى الصدرء فالاعتراض على من خاطب بهذا الكلام 
وأهل المعرفة بالعادات من حيث أنه يجهله الصبيان أو الأغبياء اعتراض باطل لا أصل 
لهء وأمثلة ذلك كثيرة. فقد فهمت على القطع بهذه الأمثلة أن هذه الألفاظ الصريحة 


.نب 


انقلبت مفهوماتها عن أوضاعها الصريحة بمجرد قرينة» ورجعت تلك القرائن إلى 
معارف سابقة ومقترنة. فكذلك هذه الظواهر الموهمة انقلبت عن الويهام بسبب تلك 
القرائن الكثيرة التي بعضها هي المعارف. والواحدة منها معرفتهم أنهم لم يؤمروا بعبادة 
الأصنام , وأن من عبد جسماً فقد عبد صنماً كان الجسم صغيراً أو كبيراً ناا 
جميلاً. سافلا أو عالياً على الأرض أو على العرش. وكان نفي الجسمية ونفي لوازمها 
معلوما لكافتهم على القطع بإعلام رسول الله و المبالغة في التنزيه بقوله : ليس كَمِثْلِهِ 
شي 2»746. وسورة الإخلاص وقوله: «إفلا تَجْعَلُوا الله أنذادًه0 . وبألفاظ كثيرة لا 
حصر لها مع قرائن قاطعة لا يمكن حكايتهاء وعلم ذلك إلا علماً لا ريب فيه وكان ذلك 
كافياً في تعريفهم استحالة يد هي عضو مركب من لحم وعظم» وكذا في سائر الظواهر 
لأنها لا تدل إلا على الجسمية وعوارضها لو أطلق على جسم ولو أطلق على غير الجسم 
على ضرورة أنه ما أريد به ظاهره بل معنى آخر مما يجوز على الله تعالى ربما يتعين ذلك 
المعنى وربما لا يتعين. فهذا مما يزيل الإشكال. 

فإن قيل: فلم لم يذكر بألفاظ ناصة عليها بحيث لا يوهم ظاهرها جهلا ولافي حق 
العامي والصبي؟ 

قلنا: لأنه إنما كلم التاس بلغة العرب. وليس في لغة العرب ألفاظ ناصة على 
تلك المعاني. فكيف يكون في اللغة لها نصوص وواضع اللغة لم يفهم تلك المعاني» 
فكيف وضع لها النصوص بل هي معان أدركت بنور النبوة خاصة أو بنور العقل يعد طول 
البحث. وذلك أيضا في بعض تلك الأمور لا في كلهاء فلما لم يكن لها عبارات 
موضوعة كان استعارة الألفاظ من موضوعات اللغة ضرورة كل ناطق بتلك اللغة. كما أنا 
لا نستغني عن أن نقول صورة هذه المسألة كذا وهي تخالف صورة المسألة الأخرى» 
وهي مستعارة من الصورة الجسمانية. لكن واضع اللغة لما لم يضع لهيئة المسألة 
وخصوص ترتيبها إسما نصاً إما لأنه لم يفهم المسألة أوفهم, لكن لم تحضره أو حضرته 
لكن لم يضع لها نصا خاصا اعتمادا على إمكان الاستعارة أو لأنه علم أنه عاجز عن أن 
يضع لكل معنى لفظا خاصا ناصاء لأن المعاني غير متناهية العدد والموضوعات بالقطع 
يجب أن تناهى فتبقى معان لا نهاية لها يجب أن يستعار اسمها من الموضعء فاكتفى 


.1١ سورة الشورى: الآية‎ )١( 
. 77 (؟) سورة البقرة: الآية‎ 


الا 


بوضع البعض وسائراللغات أشد قصوراً من لغة العرب» فهذا وأمثاله من الضرورة يدعو 
إلى الاستعارة لمن يتكلم بلغة قوم إذ لا يمكنه أن يخرج عن لغتهم . كيف, ونحن نجوز 
الاستعارة حيث لا ضرورة اعتمادا على القرائن» فإنا لا نفرق بين أن يقول القائل: جلس 
زيد فوق عمروء وبين أن يقول جلس أقرب منه إلى الصدرء وأن بغداد في ولاية الخليفة 
أو في يده إذا كان الكلام مع العقلاء. وليس في الإمكان حفظ الألفاظ عن إفهام الصبيان 
والجهال, فالاشتغال بالاحتراز عن ذلك ركاكة في الكلام وسخافة في العقل وثقل في 
اللفظ . 

فإن قيل: فلم لم يكشف الغطاء عن المراد بإطلاق لفظ الإله ولم يقل إنه موجود 
ليس بجسم ولا جوهر ولا عرض ولا هو داخل العالم ولا خارجه ولا متصل ولا منفصل 
ولا هو في مكان ولا هو في جهة. بل الجهات كلها خالية عنه. فهذا هو الحق عند قوم 
والإفصاح عنه كذلك, كما أفصح عنه المتكلمون ممكن ولم يكن في عبارته وَل قصور, 
ولا في رغبته في كشفه الحق فتورء ولا في معرفته نقصان؟ 

قلنا: من رأى هذا حقيقة الحق اعتذر بأن هذا لو ذكره لنفر الناس عن قبوله» 
ولبادروا بالإنكار وقالوا: هذا عين المحال ووقعوا في التعطيل ولا خير في المبالغة في 
تنزيه ينتج التعطيل في حق الكافة إلا الأقلين» وقد بعث رسول الله كل داعياً لخلق إلى 
سعادة الآخرة رحمة للعالمين. كيف ينطق بما فيه هلاك الأكثرين» بل أمر أن لا يكلم 
الناس إلا على قدر عقولهم , وقال ككل : «مَنْ حدّْ الناس بحديث لا يفهمونه كان فتنة 
على بعضهم». أو لفظ هذا معناه. 

فإن قيل: إن كان في المبالغة في التنزيه خوف التعطيل بالإضافة إلى البعض ففي 
استعماله الألفاظ الموهمة خوف التشبيه بالإضافة إلى البعض. 

قلنا: بينهما فرق من وجهين . 

أحدهما : أن ذلك يدعو إلى التعطيل في حق الأكثرين» وهذا يعود إلى التشبيه 
في حق الأقلين. وأهون الضررين أولى بالاحتمال. وأعلم الضررين أولى بالاجتناب . 

والثاني : أن علاج وهم التشبيه أسهل من علاج التعطيل. إذ يكفي أن يقال مع 
هذه الظواهر: «ليسّ كمثله شيء2©2246. وأنه ليس بجسم ولا مثل الأجسام . وأما اثبات 


فى 


موجود في الاعتقاد على ما ذكرناه من المبالغة فى التنزيه شديد جداً. بل لا يقبله واحد 
من الآلف لا سيما الأمة العربية . 


فإن قيل : فعجز الناس عن الفهم هل يمهد عذر الأنبياء في أن يثبتوا في عقائدهم 
أموراً على خلاف ما هي عليها ليثبت في اعتقادهم اصل الإلهية حتى توهموا عندهم مثلاً 
أن الله مستقر على العرش وأنه في السماء وأنه فوقهم فوقية المكان؟ 

قلنا: معاذ الله أن نظن ذلك أو يتوهم بنبي صادق أن يصف الله بغير ما هو متصف 
به» وأن يلقى ذلك في اعتقاد الخلق, فانما تأثير قصور الخلق في أن يذكر لهم ما يطيقون 
فهمه وما لا يفهمونه . فكيف عنه فلا يعرفهم بل يمسك عنهم. وإنما ينطق به مع من 
يطيقه ويفهمه ويحسن في ذلك علاج عجز الخلق وقصورهم ولا ضرورة في تفهيمهم 
خلاف الح قصدا لا سيما في صفات الله . نعم. به ضرورة في استعمال الألفاظ 
مستعارة ربما يغلط الأغبياء فى فهمهاء وذلك لقصور اللغات وضرورة المحاورات . فأما 
تفهيمهم خلاف الحق قصداً إلى التجهيل فمحال. سواء فرض فيه مصلحة أو لم 
تفرض . 

فإن قيل: قد جهل أهل التشبيه جهلاً يستند إلى ألفاظه في الظواهر تفضي إلى 
جهلهم . فمهما جاء بلفظ مجمل ملبس فرضي به لم يفترق الحال بين أن يكون مجرد 
قصده إلى التجهيلء» وبين أن يقصد التجهيل مهما حصل التجهيل, وهو عالم به 
وراض. 

قلنا: لا نسلم أن جهل أهل التشبيه حصل بألفاظه؛ بل بتقصيرهم في كسب معرفة 
التقديس وتقديمه على النظر في الالفاظ. ولو حصلوا تلك المعرفة. أولا وقدموها لما 
جهلوها. كما أن من حصل علم التقديس لم يجهل عند سماعه صورة المسألة. وإنما 
الواجب عليهم تحصيل هذا العلم. ثم مراجعة العلماء إذا شكوا في ذلك. ثم كف 
النفس عن التأويل والزامها التقديس . إذا رسم لهم العلماء, فإذا لم يفعلوا جهلوا وعلم 
الشارع بأن الناس طباعهم الكسل والتقصير والفضول بالخوض فيما ليس من شأنهم 
ليس رضاً بذلك ولا سعياً في تحصيل الجهل» لكنه رما متضاء 0 
حيث قال : «وَتَمْتْ كَلِمَةُ رَبْكَ لأملأنٌ جَهَنْمَ مِنَ الجنةٍ والناس, أجمعين2)2076. و 


.١46 سورة هود: الآية‎ )١( 


و وَلَوْغَاءَ رَبكَ لَجَعَلَ الثاس أَمةٌ واجدةً10» . ولو شَاء رَبْكَ لآمَنَ مَنْ في الأضي, 
كُلَهُمْ جميعاً أفأنتَ نَكرِهُ الناس حتى يَكُونُوا مُوْمِنينَ 94) ٠‏ هوَمَا كان لنفسٍ أن نؤْمِنَ إلا 

بإِذْنٍ اللو ». ٠ِوَلآ‏ يَرَانُونَ مُْمَلِفِينَ * إلا مَنْ رَجِمَ رَبك ولِذَلِكَ خَلَمَهُمم9». فهذا 
هو القهر الإلهي في فطرة الخلق ولا قدرة للأنبياء في تغيير سنته التي لا تبديل لها . 


فصل 


في جواب مالك رضي الله عنه : 

لعلك تقول الكف عن السؤال والإمساك عن الجواب من أين يغني» وقد شاع في 
اللاد هذه الاختلافات وظهرت التعصبات»: فكيف سبيل الجواب إذا سئل عن هله 
المسائل؟ 

قلنا: الجواب ما قاله مالك رضي الله عنه في الاستواء إذ قال: الاستواء معلوم 
الحديث فيذكر هذا الجواب في كل مسألة سثل عنها العوام لينحسم سبيل الفتنة. 

فإن قيل: فإذا سثل عن الفوق واليد والأصبع فبم يجب. 

قلنا: الجواب أن يقال الحق فيه ما قاله الرسول يق . وقال الله تعالى وقد صدق' 
حيث قال: ِالرَّحْمَنُ عَلى العَرّش اسْتَوَّى*». فيعلم قطعاً أنه ما أراد الجلوس 
والاستقرار الذي هو صفة ة الأجسام ‏ ولا ندري ما الذي أراده ولم نكلف معرفته وصدق 
حيث قال: طِوَهُوْ القاهِرٌ فَوْقَ عِبَادو174». وفوقية المكان محال. فإنه كان قبل المكان 
فهوالآن كما كان وما أراده فلسنا نعرفه وليس علينا ولا عليك أيها السائل معرفته فكذلك 
نقول ولا يجوز إثبات اليد والأصبع مطلقاء بل يجوز النطق بما نطق به رسول الله 46 
على الوجه الذي نطق به من غير زيادة ونقصان وجمع وتفريق وتأويل وتفصيل كما سبق » 
)20 سورة هود: الآية م١١‏ . 
0) صورة يونس: الآية16. 
(4) سورة هود: الآيتان ١١4‏ و9١١.‏ 
(6) سورة طه: الآية 0. 
)١(‏ صورة الأنعام : الآية ١4‏ . 


37: 


فنقول صدق حيث قال: وخمر طينة آدم بيده» وحيث قال: وقلب المؤمن بين اصبع من 
أصابع الرحمن» فنؤمن بذلك ولا نزيد ولا ننقص. وننقله كما روي ونقطع بنفي العضو 
المركب من اللحم والعصب. وإذا قيل : القرآن قديم أو مخلوق؟ قلنا: هوغير مخلوق 
لقوله كَل : «القرآن كلام الله غير مخلوق». فإن قال: الحروف قديمة أم لا؟ قلنا: 
الجواب في هذه المسألة لم يذكرها الصحابة؛ فالخوض فيها بدعة فلا تسألوا عنهاء فإن 
ابتلي الإنسان بهم في بلدة غلبت فيها الحشوية وكفروا من لا يقول بقدم الحروف. 
فيقول المضطر إلى الجواب : إن عنيت بالحروف نفس القرآن فالقرآن قديم. وإن أردت 
بها غير القرآن وصفات الله تعالى فما سوى الله وصفاته محدث ولا يزيد عليه لأن تفهيم 
العوام حقيقة هذه المسألة عسرة جداً» فإن قالوا: قد قال النبي ككل : «من قرأ حرفاً من 
القرآن فله كذا». فأئبت الحروف للقرآن ووصف القرآن بأنه غير مخلوق, فلزم منه أن 
الحروف قديمة. قلنا: لا نزيد على ما قاله الرسول كَكةِ. وهو أن القرآن غير مخلوق 
وهذه مسألة. وإن كان للقرآن حروف فهي مسألة أخرى. وأما أن الحروف قديمة فهي 
مسألة ثالثة ولم نزد عليه فلا نقول به. ولا نزيد على ما قاله الرسول كلو فإن زعموا أنه 
يلزم المسألتين السابقتين هذه المسألة . قلنا: هذا قياس وتفريع . وقد بينا أن لا سبيل إلى 
القياس والتفريع, بل يجب الاقتصار على ما ورد من غير تفريق ) وكذلك إذا قالوا عربية 
القرآن قديمة لأنه قال القرآن قديم وقال: طأْنْرْلناهُ قرّآناً عَرَبياً»ه7). فالعربي قديم . 
فنقول: أما أن القرآن عربي فحق إذ نطق به القرآن, وأما إن القرآن. قديم فحق إذ نطق 
به الرسول كَل وأما أن عربية القرآن قديمة فهي مسألة ثالثة لم يرد فيها أنها قديمة فلا 
يلزم القول بهاء فعلى هذا الوجه يلجم العوام والحشوية عن التصرف فيه ونزمهم عن 
القياس والقول باللوازم» بل نزيد في التضييق على هذا ونقول: إذا قال القرآن كلام الله 
غير مخلوق فهذا لا يرخص في أن يقول القرآن قديم ما لم يرد لفظ القديم إذ فرق بين 
غير المخلوق والقديم» إذ يقال: كلام فلان غير مخلوق أي غير موضوع. وقد يقال: 
المخلوق بمعنى المختلق فلفظ غير مخلوق يتطرق إليه هذا ولا يتطرق إلى لفظ القديم, 
فبينهما فرق. ونحن نعتقد قدم القرآن لا بمجرد هذا اللفظ, فإن هذا اللفظ لا ينبغي أن 
يحرف ويبدل ويغير ويصرف, بل يلزم أن يعتقد أنه حق بالمعنى الذي أراده. وكل من 
وصف القرآن بأنه مخلوق من غير نقل نص فيه مقصودء فقد أبدع وزاد ومال عن مذهمب 
السلف وحاد. 


. سورة يوسف: الآية ؟‎ )١( 


في أن الإيمان قديم : 

فإن قيل: من المسائل المعروفة قولهم إن الإيمان قديم, فإذا سئلنا عنه فبم 
نجيب؟ 

قلنا* إن ملكنا زمام الأمر واستولينا على السائل منعناه عن هذا الكلام السخيف 
الذى لا جدوى له. وقلنا: إن هذا بدعة. وإن كنا مغلوبين في بلادهم فنجيب ونقول: ما 
الذي أردت بالإيمان؟ إن أردت شيئا من معارف الخلق وصفاتهم فجميع صفات الخلق 
مخلوقة وإن أردت به شيئاً من القرآن أو من صفات الله تعالى فجميع صفات الله تعالى 
قديمة وإن أردت ما ليس صفة للخلق ولا صفة الخالق فهو غير مفهوم ولا متصور وما لا 
يفهم ولا يتصور ذاته. كيف يفهم حكمه في القدم والحدوث والأصل زجر السائل 
والسكوت عن الجواب هذا صفو مقصود مذهب السلف ولا عدول عنه إلا بضرورة 
وسبيل المضطر ما ذكرناء فإن وجدنا ذكياً مستفهماً لفهم الحقائق كشفنا الغطاء عن 
المسألة وخلصناه عن الاشكال في القرآن وقلنا: 

اعلم أن كل شيء فله في الوجود أربع مراتب: وجود في الأعيان. ووجود في 
الأذهان. ووجود في اللسان. ووجود في البياض المكتوب عليه كالنار مثلاء فإن لها 
وجودا في التنور ووجودا في الخيال والذهن. وأعني بهذا الوجود العلم بنفس النار 
وحقيقتها ولها وجود في اللسان وهي الكلمة الدالة عليه أعني لفظ النار ولها وجود في 
البياض المكتوب عليه بالرقوم واللاحراق صفة خاصة للنار كالقدم للقرآن ولكلام الله 
تعالى » والمحرق من هذه الجملة الذي في التنور دون الذي فى الأزذهان, وفى اللسان 
وعلى البياض إذ لو كان المحرق في البياض أو اللسان لاحترق. ولكن لوقيل لنا: النار 
محرقة؟ قلنا: نعم . فإن قيل لنا: كلمة النار محرقة؟ قلنا: لاء فإن فيل : حروف النار 
محرقة؟ قلنا: لا فإن فيل : مرقوم هذه الحروف على البياض محرقة؟ قلنا: لا فإن 
قيل: المذكور بكلمة النار أو المكتوب بكلمة النار محرق؟ قلنا: نعم. لأن المذكور 
والمكتوب بهذه الكلمة ما في التنور وما في التنور محرق. فكذلك القدم وصف كلام الله 
تعالى كالاحراق وصف النار وما يطلق عليه اسم القرآن وجوده على أربع مراتب. أولها : 
وهي الأصل وجوده قائماً بذات الله تعالى يضاهي وجود النار في التنور «وللّهِ المَكَلُ 


كلا 


الأعلى 2074. ولكن لا بدّ من هذه الأمثلة في تفهيم العجزة والقدم وصف خاص لهذا 
الوجود . والثانية : وجوده العلمي في أذهاننا عند التعلم قبل أن ننطق بلسانناء ثم وجوده 
في لساننا بتقطيع أصواتناء ثم وجوده في الأوراق بالكتب, فإذا سئلنا عما في أذهاننا من 
علم القرآن قبل النطق به. قلنا: علمنا صفته وهي مخلوقة لكن المعلوم به قديم. كما أن 
علمنا بالنار وثبوت صورتها في خيالنا غير محرق لكن المعلوم به محرق. وإن سئلنا عن 
صوتنا وحركة لساننا ونطقنا قلنا: ذلك صفة لساننا فلساننا حادث وصفته توجد بعده وما 
هو بعد الحادث حادث بالقطع. لكن منطوقنا ومذكورنا ومقروؤنا ومتلونا بهذه الأصوات 
الحادثة قديم. كما إن ذكرنا حروف النار بلساننا كان المذكور بهذه الحروف محرقا 
وأصواتنا وتقطيع أصواتنا غير محرق إلا أن يقول قائل : حروف النار عبارة عن نفس النار. 
قلنا: إن كان كذلك. فحروف النار محرقة وحروف القرآن إن كان عبارة عن نفس 
المقروء فهي قديمة. وكذلك المخطوط برقوم النار والمكتوب به محرق لأن المكتوب 
هو نفس النار. أما الرقم الذي هو صورة النار غير محرق لأنه في الاوراق من غير احراق 
واحتراق. فهذه أربع درجات في الوجود تشتبه على العوام لا يمكنهم ادراك تفاصيلها 
وخاصة كل واحدة منهن». فلذلك لا نخوض بهم فيها لا لجهلنا بحقيقة هذه الأمور وكنه 
تفاصيلها. أن النار من حيث إنها في التنور توصف بأنها محرقة وخامدة ومشتعلة. ومن 
حيث إنها في اللسان يوصف بأنها عجمي وتركي وعربي وكثيرة الحروف وقليلة 
الحروف, وما في التنور لا ينقسم إلى العجمي والتركي والعربي, وما في اللسان لا 
توصف بالخمود والاشتعال. وإذا كان مكتوبا على البياض يوصف بأنه أحمر وأخضر 
وأسود وأنه بقلم المحقق أو الثلث والرقاع , أو قلم النسخ وهو في اللسان لا يمكن أن 
يوصف بذلك. واسم النار يطلق على ما في التنور وما في القلب وما في اللسان وما على 
القرطاس» لكن باشتراك الاسم فأطلق على ما في التنور حقيقة وعلى ما في الذهن من 
العلم لا بالحقيقة. ؛ لكن بمعنى إنه صورة محاكية للنار الحقيقي ؛ كما إن ما يرى في 
المرآة يسمى إنساناً وناراً لا بالحقيقة ولكن بمعنى إنها صورة محاكية للنار الحقيقي 
والإنسان وما في اللسان من الكلمة يسمى باسمه بمعنى ثالث. وهو إنه دلالة دالة على ما 
في الذهن وهذا يختلف بالاصطلاحات, والأول والثاني لا اختلاف فيهماء ومافي 
القرطاس يسمى نار بمعنى رابع. وهو إنها رقوم تدل بالاصطلاح على ما في اللسان 


٠ سورة النحل: الآية‎ )١( 


//ا 


ومهما فهم اشتراك اسم القرآن والنار وكل شيء من هذه الامور الأربعة؛ فإذا ورد الخبر 
أن القرآن في قلب العبد وإنه في لسان القارىء وإنه صفة ذات الله صدق بالجميع وفهم 
معنى الجميع ٠‏ ولم يتنافض عند الاذكياء وصدق بالجميع مع الاحاطة بحقيقة المراد. 
وهذه امور جلية دقيقة لا اجلى منها عند الفطن الذكي ولا ادق. واغمض منها عند البليد 
الغبي , فحق البليد أن يمنع من الخوض فيها ويقال له : قل القرآن غير مخلوق واسكت 
ولا نزد عليه ولاتنقص ولا تفتش عنه ولا تبحث. وأما الذكي فيروح عن غمة هذا 
الإشكال في لحظة ويوصى بأن لا يحدث العامي به حتى لا يكلفه ما ليس في طاقته. 
وهكذا جميع موضع الإشكالات في الظواهر فيها حقائق جلية لأرباب البصائر ملتبسة 
على العميان من العوام. فلا ينبغي أن يظن بأكابر السلف عجزهم عن معرفة هذه 
الحقيقة؛ وإن لم يحرروا ألفاظها تحرير صنعة ولكنهم عرفوه وعرفوا عجز العوام فسكتوا 
عنهم وأسكتوهم وذلك عين الحق والصواب لا أعني بأكابر السلف الأكابر من حيث 
الجاه والاشتهارء ولكن من حيث الغوص على المعاني والاطلاع على الأسرار. وعند 
هذا ربما انقلب الأمر في حق العوام واعتقدوا في الأشهر أنه الأكبر وذلك سبب آخر من 
فصل 

فإن قال قائل : العامي إذا منع من البحث والنظر لم يعرف الدليل» ومن لم يعرف 
الدليل كان جاهلاً بالمدلول» وقد أمر الله تعالى كافة عبادة بمعرفته. أي بالإيمان به 
والتعيديق وسوة ازلا.وعتده عه ستاك الحزادت ومشابهة غيم ثانا روم رانين 
ثالثاء وبصفاته من العلم والقدرة ونفوذ المشيئة وغيرها رابعاً. وهذه الأمور ليست 
ضرورية فهي إذأ مطلوبة» وكل علم مطلوب فلا سبيل إلى اقتناصه وتحصيله إلا بشبكة 
الادلة والنظر في الأدلة والتفطن لوجه دلالتها على المطلوب وكيفية إنتاجها وذلك لا يتم 
إلا بمعرفة شروط البراهين وكيفية ترتيب المقدمات واستنتاج النتائج . وينجز ذلك شيئاً 
فشيثاً إلى تمام علم البحث واستيفاء علم الكلام إلى آخر النظر في المعقولات. وكذلك 
يجب على العامي أن يصدق الرسول يَكِدِ في كل ما جاء به. وصدقه ليس بضروري بل 
هو بشر كسائر الخلق فلا بدّ من دليل يميّزه عن غيره ممن تحدي بالنبوة كاذباً ولا يمكن 
ذلك إلا بالنظر في المعجزة ومعرفة حقيقة المعجزة وشروطها إلى آخر النظر في النبوات 


7,77 


وهو لب علم الكلام. 

قلنا: الواجب على الخلق الإيمان بهذه الأمور. والإيمان عبارة عن تصديق جازم 
لا تردد فيه ولا يشعر صاحبه بإمكان وقوع الخطأ فيهء وهذا التصديق الجازم يحصل على 
ست مراتب . 

الأولى : وهي أقصاها ما يحصل بالبرهان المستقصى المتسوفى شروطه المحرر 
أعتزلة ومقدماته درجة درجة وكلمة كلمة حتى لا يبقى مجال احتمال وتمكن التباس» 
وذلك هو الغاية القصوى, وربما يتفق ذلك في كل عصر لواحد أو اثنين ممن ينتهي إلى 
تلك الرتبة» وقد يخلو العصر عنه ولو كانت النجاة مقصورة على مثل تلك المعرفة لقلت 
النجاة وقل الناجون . 

الثانية: أن يحصل بالأدلة الوهمية الكلامية المبنية على أمور مسلمة مصدق بها 
لاشهارها بين أكابر العلماء وشناعة إنكارها ونفرة النفوس عن إبداء المراء فيهاء وهذا 
الجنس أيضاً ب: يفيد في بعض الأمور وفي حق بعض الناس تصديقاً جازماً بحيث لا يشعر 
صاحبه بإمكان خلافه أصلا . 

الثالثة: أن يحصل التصديق بالأدلة الخطابية» أعني القدرة التي جرت العادة 
باستعمالها في المحاورات والمخاطبات الجارية في العادات. وذلك يفيد في حق 
الاكثرين تصديقاً ببادىء الرأي وسابق الفهم إن لم يكن الباطن مشحوناً بالتعصب 
وبرسوخ اعتقاد على خلاف مقتضى الدليل» ولم يكن المشنع مشغوفاً بتكلف المماراة 
والتشكك ومنتجعاً بتحديق المجادلين في العقائد. وأكثر أدلة القرآن من هذا الجنسء» 
فمن الدليل الظاهر المقيد للتصديق قولهم : لا ينتظم تدبير المنزل بمدبرين» فلو كان 
فيهما آلهة إلا الله لفسدتاء فكل قلب باق على الفطرة غير مشوش بمماراة المجادلين 
يسيق من هذا الدليل إلى فهمه تصديق جازم بوحدانية الخالق. لكن لو شوشه مجادل 
وقال: لم يبعد أن يكون العالم بين إلهين يتوافقان على التدبير ولا يختلفان فإسماعه هذا 
القدر يشوش عليه تصديقه. لع ريما يشمر سل هذا السؤال ودفعه في حق بعض الأفهام 
القاصرة فيستولى الشك ويتعذرالرفع » وكدلك هن الجلي أن من قدر على الخلق فهو 
على الاعادة أقدر. كما قال: دقل يَحَبيها الذي أنشأمًا أوْل مَرَةِ04©. فهذا لا يسمعه 
أحد من العوام ذكي أو غبي إلا ويبادر إلى التصديق. ويقول: نعم ليست الاعادة بأعسر 


)١(‏ صورةيس: الآية 9/ا. 


,/ 


من الابتداء بل هي أهون. ويمكن أن يشوش عليه بسؤال ربما يعسر عليه فهم جوابه» 
والدليل المتسوفى هو الذي يفيد التصديق بعد تمام الأسئلة وجوابها بحيث لا يبقى 
للسؤال مجال والتصديق يحصل قبل ذلك . 

الرابعة : التصديق لمجرد السماع ممن حسن الاعتقاد فيه بسبب كثرة ثناء الخلق 
عليه فإن من حسن اعتقاده في أبيه وأستاذه أو في رجل من الأفاضل المشهورين قد 
يخبره عن شيء كموت شخص أو قدوم غائب أو غيره» فيسبق إليه اعتقاد جازم وتصديق 
بما أخبره عنه بحيث لا يبقى لغيره مجال في قلبه ومستنده حسن اعتقاده فيه فالمجرب 
بالصدق والورع والتقوى مثل الصديق رضي الله عنه إذا قال قال رسول الله كَل كذاء 
فكم من مصدق به جزما وقابل له قبولا مطلقا لا مستند لقوله إلا حسن اعتقاده فيه. فمثله 
إذا لقن العامي اعتقادا وقال له: اعلم أن خالق العالم واحد وأنه عالم قادر وأنه بعث 
محمدا يَلِِ رسولا بادر إلى التصديق ولم يمازجه ريب ولا شك في قوله. وكذلك اعتقاد 
الصبيان في آبائهم ومعلميهم فلا جرم يسمعون الاعتقادات ويصدقون بها ويستمرون 
عليها من غير حاجة إلى دليل وحجة. 

الرتبة الخامسة : التصديق به الذي يسبق إليه القلب عند سماع الشيء مع قرائن 
أحوال لا تفيد القطع عند المحقى ولكن يلقي في قلب العوام اعتقاداً جازماًء كما إذا 
سمع بالتواتو مرض رئيس البلد ثم ارتفع صراخ وعويل من داره. ثم يسمع من أحد 
غلمانه أنه قد مات اعتقد العامي جزما أنه مات وبنى عليه تدبيره ولا يخطر بباله أن الغلام 
ربما قال ذلك عن إرجاف سمعه؛ وأن الصراخ والعويل لعله عن غشية أو شدة مرض أو 
سبب آخرء لكن هذه خواطر بعيدة لا تخطر للعوام فتنطبع في قلوبهم الاعتقادات 
الجازمة. وكم من أعرابي نظر إلى أسارير وجه رسول الله يق وإلى حسن كلامه ولطف 
شمائله وأخلاقه فآمن به وصدقه جزما لم يخالجه ريب من غير أن يعالجه بمعجزة يقيمها 
ويذكر وجه دلالتها . 

الرتبة السادسة: أن يسمع القول فيناسب طبعه وأخلاقه. فيبادر إلى التصديق 
لمجرد موافقته لطبعه لا من حسن اعتقاده في قائله» ولا من قرينة تشهد له لكن لمناسبة ما 
في طباعه, فالحزيص على موت عدوه وقتله وعزله يصدق جميع ذلك بأدنى إرجاف 
ويستمر على اعتقاده جازماًء ولو أخبر بذلك في حق صديقه أو بشيء يخالف شهوته 
وهواه توقف فيه أو أباه كل الاباء» وهذه أضعف التصديقات وأدنى الدرجات لأن ما قبله 


قي 


استند إلى دليل ماء وإن كان ضعيفا من قرينة أوحسن اعتقاد في المخبر أو نوع من ذلك 
وهى أمارات يظنها العامى أدلة فتعمل فى حقه عمل الأدلة فإذا عرفت مراتب التصديق». 
فاعلم أن مستند إيمان العوام في هذه الاسباب وأعلى الدرجات في حقه أدلة القرآن وما 
يجري مجراه مما يحرك القلب إلى التصديق. ولا ينبغي أن يجاوز بالعامي إلى ما وراء 
أدلة القرآن وما في معناه من الجليات المسكنة للقلوب المستجرة لها إلى الطمانينة 
والتصديق وما وراء ذلك ليس على قدر طاقته. وأكثر الناس آمنوا في الصبا وكان سبب 
تصديقهم مجرد التقليد للآباء والمعلمين لحسن ظنهم بهم وكثرة ثنائهم على أنفسهم 
وثناء غيرهم عليهم وتشديدهم النكير بين أيديهم على مخالفيهم. وحكايات ابوج 
النكال النازل بمن لا يعتقد اعتقادهم وقولهم إن فلاناً اليهودي في قبره مسخ كلباً. وفلاناً 
الرافضي انقلب خنزيراء أو حكايات منامات وأحوال هذا الجنس ينغرس في نفوس 
الصبيان النفرة عنه والميل إلى ضده حتى ينزع الشك بالكلية عن قلبه؛ فالتعلم في 
الصغر كالنقش في الحجرء ثم يقع نشوؤه عليه ولا يزال يؤكد ذلك في نفسه. فإذا بلغ 
استمر على اعتقاده الجازم وتصديقه المحكم الذي لا يخالجه فيه ريب. ولذلك ترى 
أولاد النصارى والروافض والمجوس والمسلمين كلهم لا يبلغون إلا على عقائد آبائهم 
واعتقاداتهم في الباطل والحق جازمة . لو قطعوا إربا إرباً لما رجعوا عنها وهم قط لم 
يسمعوا عليه دليلا لا حقيقيا ولا رسمياء وكذا ترى العبيد والاماء يسبون من المشرك ولا 
يعرفون الإسلام. فإذا وقعوا في أسر المسلمين وصحبوهم مدة ورأو ميلهم إلى الإسلام 
مالوا معهم واعتقدوا اعتقادهم وتخلقوا بأخلاقهم. كل ذلك لمجرد التقليد والتشبيه 
بالتابعين» والطباع مجبولة على التشبيه لا سيما طباع الصبيان وأهل الشباب فبهذا يعرف 
أن التصديق الجازم غير موقوف على البحث وتحرير الادلة. 
فصل 

لعلك تقول: لا أنكر حصول التصديق الجازم في قلوب العوام بهذه الاسباب. 
ولكن ليس ذلك من المعرفة فى شىء», وقد كلف الناس المعرفة الحقيقية دون اعتقاد هو 
فخ حدس الجهل الذي لآ يتمير فيه اللاظل على التدى . فالجوات + أن هد غلط معن 


ذهب إليه. بل سعادة الخلق في أن يعتقدوا الشيء على ما هوعليه اعتقادا جازماً لتنتقش 
قلوبهم بالصورة الموافقة لحقيقة الحق. حتى إذا ماتوا وانكشف لهم الغطاء فشاهدوا 


8م 


الامور على ما اعتقدوها لم يفتضحوا ولم يحترقوا بنار الخزي والخجلة ولا بنار جهنم 
انياء وصورة الحق إذا انتقش بها قلبه فلا نظر إلى السبب المفيد له أهودليل حقيقي أو 
رسمي أو إقناعي . أو قبول بحسن الاعتقاد في قائله أو قبول لمجرد التقليد من غير سبب 
فليس المطلوب الدليل المقيد. بل الفائدة وهي حقيقة الحق على ما هي عليه فمن 
اعتقد حقيقة الحق في الله وفي صفاته وكتبه ورسله واليوم الآخر على ما هو عليه فهو 
سعيد. وإن لم يكن ذلك بدليل محرر كلامي ولم يكلف الله عباده إلا ذلك وذلك معلوم 
على القطع بجملة أخبار متواترة من رسول الله ككل في موارد الأعراب عليه وعرضه 
الإيمان عليهم وقبولهم ذلك وانصرافهم إلى رعاية الإبل والمواشي من غير تكليفه إياهم 
التفكر في المعجزة. ووجه دلالته والتفكر في حدوث العالم وإثبات الصانع . وفي أدلة 
الوحدانية وسائر الصفات, بل الأكثر من أجلاف العرب لو كلفوا ذلك لم يفهموه ولم 
يدركوه بعد طول المدةء بل كان الواحد منه يحلفه ويقول: الله أرسلك رسولاً . فيقول: 
والله الله أرسلني رسولاً وكان يصدقه بيمينه وينصرف, ويقول الآخر إذا قدم عليه ونظر 
إليه : والله ما هذا وجه كذاب وأمثال ذلك مما لا يحصىء بل كل يسلم في غزوة واحدة 
في عصره وعصر أصحابه آلاف لا يفهم الأكثرون منهم أدلة الكلام » ومن كان يفهمه 
يحتاج إلى أن يترك صناعته وييختلف إلى مسلم مدة مد يده ولم ينقل قط شيء من ذلك. 
فعلم علماً ضرورياً أن الله تعالى لم يكلف الخلق إلا الإيمان والتصديق الجازم بما قاله 


كيفما حصل التصديق . 
نعم . لا ينكر أن للعارف درجة على المقلد. ولكن المقلد في الحق مؤمن كما أن 
العارف مؤمن . 


فإن قلت: فبم يميز المقلد بين نفسه وبين اليهود والمقلد؟ 

قلنا: المقلد لا يعرف التقليد ولا يعرف أنه مقلد. بل يعتقد في نفسه أنه محق 
عارف ولا يشك في معتقده ولا يحتاج مع نفسه إلى التمييز لقطعه بأن خصمه مبطل وهو 
محق, ولعله أيضاً يستظهر بقرائن وأدلة ظاهرة وإن كانت غير قوية يرى نفسه مخصوصاً 
بها ومميزاً بسبيها عن خصومه. فإن كان اليهودي يعتقد في نفسه مثل ذلك فلا يشوس 
ذلك على المحق اعتقاده. كما أن العارف الناظر يزعم أنه يميز نفسه عن اليهودي 
بالدليل؛ واليهودي المتكلم الناظر أيضاً يزعم أنه مميز عنه بالدليل ودعواه ذلك لا يشكك 
الناظر العارف,. وكذلك لا يشكك المقلد القاطع ويكفيه في الإيمان أن لا يشككه في 


م/ 


اعتقاده معارضة المبطل كلامه بكلامه. فهل رأيت عامياً فقط قد اغتم وحزن من حيث 
يعسر عليه الفرق بين تقليده وتقليد اليهودي. بل لا يخطر ذلك ببال العوام, وإن خخطر 
ببالهم وشوفهوا به ضحكوا من قائله وقالوا: ما هذا الهذيان وكان به بين الحق والباطل 
مساواة حتى يحتاج إلى فرق فارق تببيناً أنه على الباطل» وإني على الحق. وأنا متيقن 
لذلك غير شاك فيه . فكيف أطلب الفرق حيث يكون الفرق معلوما قطعا من غير طلب» 
فهذه حالة المقلدين الموقنين وهذا إشكال لا يقع لليهودي المبطل لقطعه مذهبه مع 
نفسه. فكيف يقع للمسلم المقلد الذي وافق اعتقاده ما هوالحق عند الله تعالى» فظهر 
بهذا على القطم أن اعتقاداتهم جازمة. وأن الشرع لم يكلفهم إلا ذلك . 

فإن قيل: فإن فرضنا عامياً مجادلاً لجوجاً ليس يقلد وليس يقنعه أدلة القرآن ولا 
الأقاويل الجليلة المفرقة السابقة إلى الإفهام فماذا تصنع به؟ 

قلنا: : هذا مريض مال طبعه عن صحة الفطرة وسلامة النخلقة الأصلية فينظر في 
شمائله فإن وجدنا اللجاج والجدل غالباً على طبعه لم نجادله» وطهرنا وجه الأرض عنه 
إن كان بجاحدنا في أصل من فول الوريمان» وإن توسمنا فيه بالفراسة مخائل الرشد 
والقبول إن جاوزنا به من الكلام الظاهر إلى توفيق في الأدلة عالجناه بما قدرنا عليه من 
ذلك. وداوينا بالجدال المر والبرهان الحلو. وبالجملة فنجتهد أن نجادله بالأحسن كما 
أمر الله تعالى ورخصتنا في القدر من المداواة لا تدل على فتح باب الكلام مع الكافة. 
فإن الأدوية تستعمل في حق المرضى وهم الأقلون. وما يعالج به المريض بحكم 
الضرورة يجب أن يوقى عنه الصحيح . والفطرة الصحيحة الأصلية معدة لقبول الإيمان 
دون المجادلة وتحرير حقائق الأدلة» وليس الضرر في استعمال الدواء مع الأصحاء بأقل 

من الضرر في إهمال المداواة فع الترصن» فليوضم كل شى «مزضيفة كنا ابر الله تغالن 

به نبيه حيث قال : «أدْعُ إلى سَبيلٍ رَبْكَ بِالجِكْمَةٍ والمَوْعِطَةٍ الحَسَنَةٍ وَجَاِلَهُمْ بالي هي 
أَحْسَن 4( . والمدعو بالحكمة إلى الحق قوم. وبالموعظة الحسئة قوم آخرون» 
وبالمجادلة الحسنة قوم آخرون على ما فصلنا أقسامهم في كتاب القسطاس المستقيم 
فلا نطول باعادته . 


. ١76 سورة النحل : الآية‎ )١( 


,8م 


9 5 7 َه ءّ. 
المضئون به على غير اهله 

خطبة الرسالة: 

الحمد لله على موجب ما هدانا إلى حمده» ووفقنا للقيام بشكرهء والصلاة 
والسلام على سيدنا محمد أشرف من انتسب إلى آدم عليه السلام وعلى صحبه الأخيار. 

اعلم أن لكل صناعة أهلا يعرف قدرهاء ومن أهدى نفائس صناعة إلى غير أربابها 
فقد ظلمها, وهذا علق نفيس مضنون به على غير أهله فمن صانه عمن لا يعرف قدره 
فقد قضى حقه أكرمت بهذا العلق على سبيل التهادي. أخي وعزيزي أحمد صانه الله 
عن الركون إلى دار الغرور وأهله لمعرفة بعض حقائق الأشياء التي كانت معرفة جميعها 
مطلوبة لسيد ولد آدم عليه السلام حيث قال: أرنا الاشياء كما هي. وهذا العلق 
المضنون به على غير أهله يشتمل على أربعة أركان: 

الركن الأول: في معرفة الربوبية. 

الركن الثاني : في معرفة الملائكة . 

الركن الثالث : في حقائق المعجزات . 

الركن الرابع : في معرفة ما بعد الموت والانتقال من الدنيا إلى العقبى وفقنا 
الله تعالى لما يرضى ويحب. فإنه خير موفق ومعين وإليه المرجع والمصير. 

الركن الأول: في علم الربوبية 

الزمان لا يكون محدوداً وخلق الزمان في الزمان أمر محال, فاليوم هو الكون 
الحادث في اللغة وأيام الله حيث قال: ظِودْكرَهُمْ بأيّام اللّو204©. مراتب مخلوقاته 
ومصنوعاته ومبدعاته من وجوه منها قوله : «ني أرَبَعَة أيام 94 . فيوم مادة السماء. ويوم 


٠١ سورة إبراهيم : الآية‎ )١( 
.١١ (؟) سورة فصلت: الآية‎ 


صورتهاء ويوم كواكبها ويوم نفوسها. وقوله: خَلَقَ الأرْض في يوْمَيْنَ204. المادة 
والصورة. ومادة السموات ومادة بروجها صورة واحدة. ومادة الأرض مادة مشتركة بين 
أزواج وفحول وهي أخس لأنها مثل مومسة تقبل كل ناكح . ومنها: الجماد والمعدنيات 
داخلة في الجماد والنبات والحيوانات العجم والإنسان. ومنها: الأرض والماء والهواء 
والنار والآثار العلوية والأجرام السماوية وكل ما هو فوق الأرض فهو سماء من طريق 
اللغة. لأن أهل اللغة : تقول : كل ما علاك فهو سماؤك؛ وكل ما دون الفلك يعني فلك 
القمر بالنسبة إلى الأفلاك أرض لقوله: «وَمِنَ الأزض, مِتْلْهَنٌ 04). 

الأولى : كرة النار. 

والثانية : كرة الهواء . 

والثالثة : كرة الطين المجفف الذي فوق الماء. 

والرابعة : الماء . 

والخامسة : الأرض البسيطة . 

والسادسة : الممتزجات من هذه الأشياء : 

والسابعة : الآثار العلوية. 
في تعليقات على آيات كريمة : 

جِفلَيْرَ تقوا في 0 0 تقاء : 00 2 إلى الأشرة ف حتى يتتهي 
نطوي السّماه عطي السّجلّ للكتب»©. وقوله تعالى : «أنّ التيرات والأرْضٌ كاننا 
(؟) سورة الطلاق: الآية ؟11. 
25 سورة ص : الآية .٠١‏ 


[63) سورة النجم : الآية 7 . 
(6) سورة الأنبياء : الآية 4 .٠١‏ 


كم 


مممهمه 


هرد الليل. 
تعد 

في أن الرزق مقدر مضمون: 

وهومن المعقولات لا من المنقولات. لأن الحق تعالى عقل ذاته وما توجبه ذاته 
فهو قد عقل جميع الموجودات, وإن كان بالقصد الثاني وإنما يوجب وجود كل واحد 
منها. أعني من الموجودات المبدعات على ما وجد لأنه سبحانه وتعالى يعقل وجود 
الكل من ذاته. فكما أن تعقله ذاته لا يجوز أن يتغير» كذلك تعقله لكل ما توجبه ذاته 
ولكل ما يعقله وجوده من ذاته لا يتغير. .بل يجب وجود كل ذلك ووجود أنواع الحيوانات 
وبقاؤها متعقل لا شك فيه ختضوفا النوع الإنساني» والنوع إنما يبقى مستحفظاً 
بالأشخاص وبلوغ كل شخص إلى الغاية التي يمكن أن يولد شخصاً آخر مثله لا يمكن 
إلا ببقائه مدة. وبقاؤه تلك المدة لا يصح إلا بما فيه قوام الحياة. وقوام الحياة بالرزق 
لأنه تعالى يعقل وجود الكل من ذاته ووجود ما يعقله من ذاته واجب. وتعقل بقاء النوع 
الإنساني ببقاء الاشخاص وتناسلهم . وتعقل تناسلهم ببقاء كل شخصء وتعقل بقاء كل 
شخص مدة بما فيه قوام حياته وهو الرزق. والرزق إنما يكون من النبات والحيوان وهما 
الخبز واللحمء والفواكه من جملة النبات وأكثر الحلاوى. فوجب أن يكونٍ الرزق 
مضموناً بتقدير الرؤوف الرحيم , لذلك قال تعاليٍ (وفي السَّماءِ رِرْقُكُمْ وما 
تَوعَدُونَ # فَوَرَبُ السّمَاءٍ والأرض إنْهُ لَحَقْ مِثْلَ ما أنْكُمْ تَنطِفُونَ204. 


في من لا يعرف حقيقة الرؤيا: 
ان رن ابر قم وا ا 
الرسول 345 وسائر الرسل» بل رؤيا الذين ماتوا لا يعرف رؤيا الله تعالى في المنام. 


)22 سورة الأنبياء : الآية 0 
20 صورة الذاريات : الآيتان ؟١؟‏ و77 . 


اام 


والعامي يتصور أن من رأى رسول الله في المنام فقد رأى حقيقة شخصه. وكما أن 
المعنى الذي وقع في النفس حاكي الخيال عنه بلفظ. فكذلك كل نقش ارتسم في 
النفس يمثل الخيال له صورة ولا أدري أنه كيف يتصور رؤية شخص الرسول في المنام 
وشخصه مودع في روضة المدينة وما شق القبر وما خرج إلى موضع يراه النائم» ولئن 
سلمنا ذلك فربما يراه في ليلة واحدة ألف نائم في ألف موضع على صور مختلفة. 
والوهم يساعد العقل في أنه لا يمكن تصور شخص واحد في حالة واحدة في مكانين ولا 
على صورتين طويل وربع. وشاب وكهل وشيخ ., ومن لا تحيط معرفته بفساد هذا 
التصورء. فقد قنع من غريزة العقل بالاسم والرسم دون الحقيقة والمعنى , ولا ينبغي أن 
يعاتب بل لا ينبغي أن يخاطب». فلعله يقول مايراه مثاله لا شخصه. ويقال هو مثال 
شخصه أو مثال حقيقة روحه المقدسة عن الصورة والشكل فإن قال: هو مثال شخصه 
الذي هو عظمه ولحمه, فأي حاجة إلى شخصه وشخصه في نفسه متخيل ومحسوسء 
ثم من رأى شخصه بعد الموت دون الروح فكأنه ما رأى النبي» بل رأى جسماً كان 
يتحرك بتحريك النبي عليه الصلاة والسلام فكيف يكون رائيا له برؤية مئال شخصه. بل 
الحق أنه مئال روحه المقدسة التي هي محل النبوة فما رآه من الشكل ليس هو روح النبي 
وجوهره ولا شخصه بل مثاله على التحقيق . 

فإن قيل : فأي معنى لقوله عليه الصلاة والسلام : «من رآني في المنام فقد رآاني 
فإن الشيطان لا يتمثل بي». 

قلنا: لا معنى له إلا أن ما رآه مثال واسطة بين النبي وبينه من تعريف الحق إياه. 
فكما أن جوهر النبوة أعني الروح المقدسة الباقية من النبي بعد وفاته منزهة عن اللون 
والشكل والصورة. ولكن تنتهي تعريفاته إلى الامة بواسطة مثال صادق ذي شكل ولون 
وصورةء وإذا كان جوهر النبوة منزهًا عن ذلك. فكذلك ذات الله منزه عن الشكل 
والصورة. ولكن تنتهي تعريفاته إلى العبد بواسطة مثال محسوس من نور أو غيره من 
الصورة الجميلة التي تصلج أن تكون مثالا للجمال المعنوي الحقيقي الذي لا صورة له 
ولا لون. ويكون ذلك المثال صادقا وحقا وواسطة في التعريف.. فيقول النائم : رأيت الله 
تعالى في المنام لا بمعنى أني رأيت ذاته. كما يقول: رأيت النبي لا بمعنى أنه رأى ذات 
النبي وروحه أوذات شخصه بمعنى أنه رأى مثاله . 


فإن قيل : إن النبي له مثل والله تعالى لا مثل له . 


4 


قلنا: هذا جهل بالفرق بين المثل والمثال. فليس المثال عبارة عن المثل فالمثل 
عبارة عن المساوي في جميع الصفات. والمثال لا يحتاج فيه إلى المساواة فإن للعقل 
معنى لا يماثله غيره . 

ولنا أن نصور الشمس له مثالاً لما بينهما من المناسبة فى شىء واحد. وهو أن 
المحسرسات تنكشف بنور الشمس كما تنكشف المعقولات بالعقل فهذا القدر من 
المناسبة كاف في المثال. بل السلطان يمثل في النوم بالشمس وبالقمر الوزيرء 
والسلطان لا يماثل الشمس بصورته ولا بمعناه. ولا الوزير يمائل القمر. إلا أن السلطان 
له استعلاء على الكافة ويعم أثره الجميع والشمس تناسبه في هذا القدر. والقمر واسطة 
بين الشمس والأرض في إفاضة أثر النور. كما أن الوزير واسطة بين السلطان والرغبة في 
إفاضة أثر العدل. فهذا مثال وليس بمثل والله تعالى قال: «اللَّهُ نور السّمُواتِ والأرْض 
مَل نُورِه كَمِشْكَاةٍ فيها مِصبَاحَ217. فأي ممائلة بين نوره وبين الزجاجة والمشكاة 
والشجرة والزيت؟ قال الله تعالى : أُنْزّلَ من السّماءٍ مَاءِ فَسَالْتْ أَوْدِية بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ 
السَيْلُ رَبَدَاْ رَابيً2©. ذكر ذلك تمثيلاً للقرآن» والقرآن صفة قديمة لا مثل له» فكيف 
صار الماء له مثالاً؟ وكم من المنامات عرضت على رسول الله بل من رؤيا لبن أو حبل . 
فقال: اللبن هو الإسلام» والحبل هو القرآن إلى أمثال له لا تحصى وأي ممائلة بين اللبن 
والإسلام والحبل والقرآن إلا في مناسبة؛ وهو أن الحبل يتمسك به النجاة والقرآن 
كذلك. واللبن غذاء تغذى به الحياة الظاهرة والإسلام غذاء تغذى به الحياة الباطنة. 
فهذا كله مثال وليس بمثل. بل هذه الاشياء لها. والله تعالى لا مثل له لكن له أمثلة 
محاكية لمناسبات معقولة من صفات الله تعالى. فإنا إذا عرفنا المسترشد أن الله تعالى 
كيف يخلق الأشياء وكيف يعلمها وكيف يزيدها وكيف يتكلم وكيف يقوم الكلام بنفسه . 
مثلنا جميع ذلك بالإنسان. ولولا أن الإنسان عرف من نفسه هذه الصفات لما فهم مثاله 
فى حق الله تعالى. فالمثال في حق الله تعالى جائزء والمثل باطل. فإن المثال هو ما 
يوضح الشيء والمثل ما يشابه الشيء . 

فإن قيل: هذا التحقيق الذي ذكرتموه ليس يفضي إلى أن الله تعالى يرى في 
المنام. بل إلى أن الرسول أيضا لا يرى. فإن المرئي مثاله لا عينه فقوله : «من رآني في 


)1غ( سورة النور: الآية نه 
(١؟)‏ سورة الرعد: الآية /ا١.‏ 


3 


المنام فقد رآني» فهو نوع تجوز معناه كأنه رآني وما سمع من المثال كأنه سمع مني . 

قلنا: وهذا مايريده القائل بقوله : رأيت الله تعالى في المنام لا غير. أما أن يريد به 
أنه رأى ذاته على ما هو عليه فلاء فإنه حصل الاتفاق على أن ذات الله تعالى لا ترى وإن 
مثالاً يعتقده النائم ذات الله تعالى أو ذات النبي يجوز أن يرى» وكيف ينكر ذلك مع 
وجوده في المنامات, فإن لم يره بنفسه فقد تواتر إليه من جماعة أنهم رأوا ذلك» إلا أن 
المثال المعتقد قد يكون صادقاً وقد يكون كاذباً» ومعنى الصادق أن الله تعالى جعل رؤياه 
واسطة بين الرائي وبين النبي في تعريف بعض الأمور, وفي قدرة الله تعالى خلق مثل 
هذه الواسطة بين العبد وبين اتصال الحق به وهو موجود. فكيف يمكن إنكاره؟ 

فإن قيل : إذا كانت رؤية الرسول تجوزاًء فالتجوز مما قد أذن في إطلاقه في حقه 
ولا يجوز في حق الله تعالى من الإطلاقات إلا ما ورد الإذن به. 

قلنا: قد ورد الإذن باطلاق ذلك. فإن رسول الله كي قال: «رأيت ربي في أحسن 
صورة». وهذا مما أورد في الأخبار التي وردت في إثبات الصورة لله تعالى حيث قال: 
وإن الله خلق آدم على صورته». وليس المراد به صورة الذات إذ الذات لا صورة لها إلا 
من حيث التجلي بالمثال» كما تجلى جبريل في صورة دحية الكلبي وفي غيرها من 
الصور. حتى إنه رآه مراراً كثيرة وما رآه في صورته الحقيقية إلا مرة أومرتين» وتمثل 
جبريل في صورة دحية الكلبي ليس بمعنى أنه انقلب ذات جبريل صورة دحية الكلبي . 
بل إنه ظهرت تلك الصورة للرسول مثالا مؤدياً عن جبريل ما أوحى إليهء وكذلك قوله 
تعالى : «فتمثل لها بشرا سويا(' وإذا لم يكن ذلك استحالة في ذات الملك وانقلاباً, 
بل يبقى جبريل على حقيقته وصفته» وإن ظهر النببي في صورة دحية الكلبي فلا يستحيل 
مثل ذلك في حق الله تعالى في يقظة ولا في منام. فهذا مايدل من جهة الخبر على جواز 
إطلاقه. وقد ورد عن السلف إطلاق ذلك ونقلت فيه آثار وأخبار. ولو لم يرد فيه إطلاق 
لكنا نقول: يجوز إطلاق كل لفظة في حق الله تعالى صادقة لا منع منه ولا تحريم إذا كان 
لا يوهم الخطأ عند المستمع. وهذا لا يوهم رؤية الذات عند الأكثرين لكثرة تداول 
الألسنة له فإن فرض شخص توهم عنده خلاف الحق فلا ينبغي أن يطلق معه القول بل 
يفسر له معناه كما يجوز أن تقول: إنا نحب الله تعالى أو نشتاق إليه ونريد لقاءهء وقد سبق 
إلى فهم قوم من هذه الاطلاقات خيالات فاسدة, والأكثرون يفهمون معناه على وجهه 


)3( صررة مريم : الآية /ل1١‏ . 


من غير خيال فاسد. ويراعى في هذه الاطلاقات حال خيال المخاطب فيجوز الاطلاق 
من غير كشف ولا تفسير حيث لا إبهام . ويجب الكشف عند الابهام . وعلى الجملة هذا 
يرد الخلاف إلى اطلاق اللفظ وجوازه بعد حصول الاتفاق على لفظ المعنى من أن ذات 
الله تعالى مرئية. وأن المرئي مثال. وظن من ظن استحالة المثال في حق الله تعالى 
خطأاء بل نضرب لله تعالى ولصفاته الأمثال وننزهه عن المثل ولا ننزهه عن المثال وله 


المثل الأعلى . 
فصل 


في الكلام على الفرق بين الواحد والأحد ومعنى الصمد: 

قوله تعالى : طقل هُوْ الله أَحَدّ74». فرق بين الواحد والأحد, قال الله تعالى : 
لِوإلَهْكُمْ إِلَهُ واجدّه0©. فيقال الإنسان شخص واحد وصنف واحد, والمراد به أنه 
جملة هي جملة واحدة. ويقال ألف واحدة؛ فالواحد المشار إليه من طريق العقل 
والحس هو الذي يمتنع مفهومه عن وقوع الشركة فيه. والأحد هو الذي لا تركيب فيه ولا 
جزء له بوجه من الوجوه. فالواحد نفي الشريك والمثل» والأحد نفي الكثرة في ذاته 
وقوله تعالى : «الله الصمّدا”) الصمد الغني المحتاج إليه غيره وهذا دليل على أن الله 
تعالى إحدى الذات وواحد لأنه لو كان له شريك في ملكه لما كان صمدا غنيا يحتاج 
إليه غيره. بل كان هو أيضا يحتاج إلى شريكه في المشاركة أو التثنية» ولو كان له أجزاء 
تركيب واحد لما كان صمدا يحتاج إليه غيره؛ بل هو محتاج في قوامه ووجوده إلى أجزاء 
تركيبه وحده. فالصمدية دليل على الواحدية والأحدية ولم يلد دليل على أن وجوده 
المستمر ليس مثل وجود الإنسان الذي يبقى نوعه بالتوالد والتناسل. بل هو وجود مستمر 
أزلي وأبدي ولم يولد دليل على أن وجوده ليس مثل وجود الإنسان الذي يحصل بعد 
العدم. ويبقى دائماً إما في جنّة عالية لا تفنى وإما في هاوية لا تنقطع ولم يكن له كفؤا 
أحد دليل على أن الوجود الحقيقي الذي له تبارك وتعالى وهو الوجود الذي يفيد وجود 
غيره ولا يستفيد الوجود من غيره ليس إلا له تبارك وتعالى فقوله : «إقل هو الله أحد» دليل 
على إثبات ذاته المنزه المقدس والصمدية نفي وإضافة نفي الحاجة عنه واحتياج غيره 
)١(‏ صورة الإخلاص: الآية ١‏ . 
(1) سورة البقرة: الآية 1517 . 


(7) سورة الإخلاص: الآية؟ . 


4١ 


إليه» والأحدية ولم يلد إلى آخر السورة سلب ما يوصف به غيره تعالى عنه. فلا طريق 
في معرفة ذات الله تعالى أبين وأوضح من سلب صفات المخلوقات عنه . 
فصل 

في كلام حول الصفات: 

يتخيل بعض الناس كثرة في ذات الله تعالى من طريق تعدد الصفات وقد صح قول 
من قال في الصفات لا هو ولا غيره» وهذا التخيل يقع من توهم التغاير ولا تغاير في 
الصفات مثال ذلك : أن إنسانا يعلم صورة الكتابة وله علم بصورة بسم الله التي تظهر 
تلك الصورة على القرطاس. وهذه صفة واحدة وكمالها أن يكون المعلوم تبعاً لهاء فإنه 
إذا حصل العلم بتلك الكتابة ظهرت الصورة على القرطاس بلا حركة يد وواسطة قلم 
ومداد. فهذه الصفة من حيث إن المعلوم انكشف بها يقال لها علم. ومن حيث إن 
الألفاظ تدل عليها يقال لها كلام, فإن الكلام عبارة عن مدلول العبارات» ومن حيث إن 
وجود المعلوم تبع لها يقال لها القدرة. ولا تغاير ههنا بين العلم والقدرة والكلام فإن 
هذه صفة واحدة في نفسها ولا تكون هذه الاعتبارات الثلاث واحدة. وكل من كان أعور 
ينظر بالعين العوراء فلا يرى إلا مطلق الصفة فيقول: هوهوء وإذا التفت إلى الاعتبارات 
الثلاث فقال: هي غيره. ومن اعتبر مطلق الصفة مع الاعتبارات فقد نظر بعينين 
صجيحتين اعتقد أنها لا هوولا غيره, والكلام في صفات الله تعالى وإن كان مناسباً لهذا 
المثال فهو مباين له بوجه آخر. وتفهيم هذه المعاني بالكتابة عسير غير يسير. وأما الوهم 
الذي وقع لبعض الناس أن المثال في حق أوصاف الله تعالى لا يجوز فيدفعه أن ذلك 
المتوهم لم يميز بين المثل والمثال. فإن المثال يحتاج إليه كما ذكرناه في أن يسترق 
للمعنى المعقول من الصور المحسوسة صورة توضحه. وتوصل ذلك المعنى المعقول 
إلى فهم المستفيد, وأما المحسوس فلا يحتاج إلى مثال لأن المحسوس بعينه مندرج في 
الخيال. ألا ترى أن من رأى المقدحة والزند والنارتحصل بينهما لا يحتاج إلى مثال لهذه 
الأشياء. ولكن المعقول المحض الذي لا بندرج في الخيال ولا يضبطه الخيال فإنه 
يحتاج إلى الاستعانة بالخيال حتى يصل إلى فهم الضعفاء. وليس لله تعالى مثل كما 
قال «ليس كمثله شيء2»6). ولكن له مثال. وقول النبي عليه الصلاة والسلام : «إن 


.1١ سورة الشورى: الآية‎ )١( 


04١ 


الله تعالى خلق أدم على صورته) . إشارة إلى هذا المثال. فإنه لما كان تعالى وتقدس 
جردا قائماً بنفسه حياً سميعاً بصيراً عالماً قادراً متكلماً فالانسان كذلك». ولو لم يكن 
الانسان بهذه الأوصاف مُوضوقا لم يعرف الله تعالى. ولذلك قال النبي عليه الصلاة 
والسلام : «من عرف نفسه فقد عرف ربه»» فإن كل مالم يجد الإنسان له من نفسه مثالا 
يعسر عليه التصديق به والاقرارء وقد أوحى الله تعالى إلى بعض الأنبياء عليهم الصلاة 
والسلام : أيها الإنسان أعرف نفسك تعرف ربك, ولذلك لا يحيط علم الإنسان بأخص 
وصف الله تعالى. لأنه ليس في المبدعات والمخلوقات مثال وأنموذج من ذلك الوصف 
الخاص, وكذلك الاسم للوصف الخاص الذي له تعالى لأن الإنسان إنما يسمي الشيء 
بعد معرفته إياه. وإذا لم يكن للإنسان إليه طريق وأنموذج فلا علم له به ولا اسم له عنده 
ولا علامة. فكيف يعرفه؟ فلذلك لا يعرف الله إلا الله . أعني أخص وصفه وكنه معرفته 
فمن قال: إن الإنسان حي عالم قادر سميع بصير متكلم والله تعالئ كذلك لا يكون هذا 
القائل مشبهاء فإن التشبيه اثبات المشاركة في الوصف الأخص. ومن قال: إن السواد 
عرض موجود وهو لون, والبياض عرض موجود وهو لون لا يكون مشبهاً السواد 
بالبياض. فإن الاشتراك في اللونية ا والوجودية لا يكون تشبيها بينهماء فإن هذه 
أوصاف تعمها تعمها والموجودات كلها مشتركة مشتركة في الوجود العام ولا تمائل بينهاء ولذلك لا 
تمائل بين السواد والبياض مع اشتراكهما في اللونية والعرضية والوجودية. فالمثال في 
حق الله سائغ جائز والمثل مستحيل » فإنا نقول: الله تعالى مدبر متصرف في العالم وليس 
في العالم مثال ذلك أن أصبع الإنسان يتحرك ويحركه علمه وارادته وليس فيها العلم 
والارادة. فيقع التفهيم بسبب ذلك وتصور الضعيف أنه كيف يكون مدبر فاعل في شيء 
غير مجاور له ولا حال فيه . 
فصل 


في تكليف الله تعالى عباده : 

تكليف الله تعالى عباده لا يضاهي تكليف الإنسان عبده الأعمال التي يرتبط بها 
غرضه وما لا حظ له فيه وما لا يحتاج إليه فلا يكلفه به. وتكليف الله تعالى عباده يجري 
مجرى تكليف الطبيب المريض» فإذا غلبت عليه الحرارة أمره بشرب المبردات 
والطبيب غني عن شربه لا يضره مخالفته ولا ينفعه موافقته» ولكن الضر والنفع يرجعان 
إلى المريض وإنما الطبيب هادٍ ومرشد فقط . فإن وفق المريض حتى وافق الطبيب شفي 


0 


وتخلص. وإن لم يوفق فخالفه تمادى به المرض وهلك,. ويقاؤه وهلاكه عند الطبيب 
سيان. فإنه مستغن عن بقائه وفنائه. فكما أن الله تعالى خلق للشفاء سبباً مفضياً إليه 
كذلك خلق للسعادة سبباً وهو الطاعات, ونهى النفس عن الهوى بالمجاهدة المزكية لها 
عن رذائل الأخلاق منجيات ورذائل الأخلاق في الآخرة مهلكات. كما أن رذائل 
الأخلاط ممرضات في الدنيا ومهلكات والمعاصي بالإضافة إلى حياة الآخرة كالسموم 
بالإضافة إلى حياة الدنيا وللنفوس طب كما أن للأجساد طباً والأنبياء عليهم الصلاة 
والسلام أطباء النفوس يرشدون الخلق إلى طريق الفلاح بتمهيد الطريق المزكية 
للقلوب. كما قال الله تعالى : ظقَدْ أفْلّحَ مَن رّكاها * وَقَدْ حاب مَنْ دَسّاهَاه0). ثم 
يقال: إن الطبيب أمره بكذا ونهاه عن كذاء وأنه زاد مرضه لأنه خالف الطبيب» وأنه صح 
لأنه راعى قانون الطبيب ولم يقصر في الاحتماء. وبالحقيقة لم يتماد مرض المريض 
بمخالفة الطبيب لعين المخالفة. بل لأنه سلك غير طريق الصحة التى أمره الطبيب بهاء 
فكذلك التفوى هى الاحتماء الذي ينفي عن القلوب أمراضها وأمراضن القلوب تفوت 
حياة الآخرة كما تفوت أمراض الأجساد حياة الدنياء والمثال الآخر أن ملكا من ملوك 
الناس يمد بعض عبيده الغائب عن مجلسه بمال ومركوب ليتوجه تلقاءه لينال رتبة القرب 
منه» ويسعد بسببه مع استغناء الملك عن الاستعانة به وتصميم العزم على أن لا 
يستخدمه أصلاء ثم إن العبد إن ضيع المركوب وأهلكه وأنفق المال لا في زاد الطريق 
كان كافراً للنعمة» وإن ركب المركوب وأنفق المال في الطريق متزوداً به كان شاكراً 
للنعمة لا بمعنى أنه أنال الملك حظأً. فإنه لم يرد في الإنعام عليه وفي تكليفه الحضور 
حظاً لنفسه ولكن أراد سعادة العبد. فإذا وافق مراد السيد فيه كان شاكراً وإن خالف عدت 
مخالفته كفراناً, والله تعالى يستوي عنده كفر الكافرين وإيمانهم بالإضافة إلى جلاله 
واستغنائه, ولكنه لا يرضى لعباده الكفر. فإنه لا يصلح لعباده فإنه يشقيهم. كما لا 
يرضى الطبيب هلاك المرضى ويعالجهم. ولا يرضى الملك المستغني عن عبده لعبده 
الشقاوة بالبعد عنه ويريد له السعادة بالقرب منه وهو غني عنه قرب أو بعد. فهكذا ينبغي 
أن يفهم أمر التكليف فإن الطاعات أدوية والمعاصي سموم وتأثيرها في القلوب, ولا 
ينجو إلا من أتى الله بقلب سليم, كما لا تسعد الصحة إلا من أتى بمزاج معتدل. وكما 
يصح قول الطبيب للمريض قد عرفتك ما يضرك وما ينفعك. فإن وافقتني فلنفسك وإن 
خالفت فعليهاء كذلك قال الله تعالى : ظمَنٍ اهْتَدَى فإنما يَهُتدي لِتَفْسِهٍ وَمَنْ ضَل فإنما 
)١(‏ سورة الشمس: الآيتان 4 و .٠١‏ 


15 


يَغِلُ عَلَيّهاه”). وقوله : ظمَنْ خَمِلَ صَالجاً فَلَِفْسِهِ وَمَنْ أساء فَعَلَيْها©ه7. وأما العقاب 
على ترك الأمر وارتكاب النهي فليس العقاب من الله تعالى غضباً وانتقاماً. ومثال ذلك أن 
من غادر الوقاع عاقبه الله تعالى بعدم الولد. ومن ترك إرضاع الطفل عاقبه بهلاك الولد. 
ومن ترك الأكل والشرب عاقبه بالجوع والعطش. ومن ترك تناول الأدوية عاقبه بألم 
المرض وغضب الله تعالى على عباده غير إرادته الإيلام» كما أن الأسباب والمسببات 
يتأدى بعضها إلى بعض في الدنيا بترتيب مسبب الأسباب فبعضها يفضي إلى الآلام 
وبعضها إلى اللذات ولا يعرف عواقبها إلا الأنبياء. فكذلك نسبه الطاعات والمعاصي 
إلى آلام الآخرة ولذاتها من غير فرق فالسؤال عن أنه لم تفض المعصية إلى العقاب 
كالسؤال في أنه لم يهلك الحيوان عن السم. ولم يؤد السم إلى الهلاك؛ ولم يخلق جسد 
الونسان على وجه يفعل فيه السم أثرا وينفعل البدن عنه وهو لا ينفعل عن البدن. فكذلك 
الكلام في أنه لما خلق الله تعالى نفس الإنسان على وجه تكملها وتنجيها الفضائل 
وتهلكها الرذائل. هذا والله تعالى غير عاجز عن الإشباع من غير أكل والإدواء من غير 
شرب . والإنشاء من غير مصاحبة وقاع. والإنماء من غير رضاع., ولكنه قد رتب الأسباب 
والمسببات. ولذلك سر وحكمة لا يعلمها إلا الله تعالى والراسخون في العلم. وليس 
هذا بعجب. وإنما العجب من هذا التدبير المحكم والنظام المتقن. ولعمري إن من لا 
يهتدي إلى سر الحكمة فيه يتعجب منه لقصور هدايته» ولو كان كذلك لضاع حظ النبات 
والحيوانات التي هي ألطف الحيوانات وأقربها إلى الأعتدال مثل الغنم والنعاج والقباج 
والدجاج وغيرهاء وكمال النبات أن يصير غذاء لما هو أعلى منه بالرتبة وهو الحيوان. 
ولذلك يقوم بدل ما يتحلل منه فيصير جزء منه متشبها به وهذا كماله. وكذلك نسبة 
الحيوانات المذبوحة الى الإنسان ونسبة ة الرنسان إلى الملائكة في جنات عدن كما قال 
تعالى : طوَالمَلائِكَةٌ يَدْحْلُونَ عَلَيِهِم مِنْ كل باب 76(”©. وأما كون بعض الحيوانات 

العجم غذاء لبعض السباع الضارية ففي السباع الضواري فوائد ومنافع سياسية وطبية 
يعرفها أرباب السياسة والأطباء. ومثال من يتعجب من وضع هذه الأشياء على ترتيب 
النظام الكلي على موجب تقدير العزيز الحكيم كمثل الأعمى الذي دخل دارا فتعثر 


. 16 سورة الإسراء: الآية‎ )١( 
.16 (؟) سورة فصلت: الآية 55 . وسورة الجائية الآية:‎ 
. 77 سورة الرعد: الآية‎ )( 


زان 


بالأواني الموضوعة في صحن الدارء فقال لأهل الدار: ما الذي أزال عقولكم؟ لماذا 
لا تردون هذه الأواني إلى مواضعها؟ وَلِمّ تركتموها على الطريق؟ فقيل له: إنها موضوعة 
في مواضعهاء وإنما الخلل من فقد البصر, وكمثل الأخشم الذي لا يدرك الروائح فيلوم 
واضع اللخالخ والمثلثات والفواكه العطرة الطيبة بين يديه. فقال: هذا قد شغل المكان 
فقط. فقيل له في العودة فائدة سوى اتخاذه على جهة الحطب. وإنما المانع من إدراكه 


هو الخشم . 


وههنا مباحثة أخرى منها: أن الله تعالى كيف يأمر بالشيء ويمنع من البحث عنه 
والبصيرة لا تحصل إلا بالبحث عنه وهذا تعجب فاسدء فإن العمل يستدعي اعتقادا 
جازماً أو معرفة حقيقية» والاعتقاد الجازم يعرف بالتقليد المجرد على سبيل التصديق 
والإيمان. والمعرفة تحصل بالبرهان والوصول إليها بالبحث,. ولم يمنع عن البحث 
الخلائق كلهم. بل الضعفاء العاجزون عن الإطلاع على حقائق البرهان ومعضلات 
البحث, ومثل ذلك الطبيب الذي يأمر العليل بشرب الدواء ويمنعه عن البحث عن سبب 
كون هذا الدواء شافياء فإنه يقصر عنه فهمه ويشى عليه ويعجز عنه ويزداد المرض 
ويستضر به فإن وجد على سبيل الندور مريضاً ذكياً سالكاً منهاج الطب وعلل الأمراض 
لم يمنعه من البحث ولم يمنعه عن ذكر المناسبة بين دوائه وبين مرضه, بل إذا علم أنه 
ليس يؤمن بمجرد قوله وليس يقلد محض التقليد لما خص به من الذكاء وما يفهم من 
أسباب العلة. وعلم أنه إذا فهم العلة والمناسبة اشتغل بالعلاج. وإن لم يكن يفهم اأعرض 
عن التقليد وجب عليه ذكر المناسبة والعلة ولم يمنع من البحث إذا علم استقلاله به. إلا 
أن ذلك نادر في المرضى جداء والأكثرون يضعفون عن ذلك وكذلك معرفة العلل 
والأسرار والبحث عنها في الشرعيات من هذا القبيل» وأما تسخير البهائم للإنسان مثل 
من يمشي خطوات مثلا ينظر إلى منتزهات ووجوه حسان. فيقال له : كيف أتعب رجله 
وسخرها لأجل عينيه والعين آلته. كما أن الرجل آلته فما باله جعل إحداهما خادمة 
وأتعبهاء وجعل الآخرى مخدومة وطلب راحتهاء وهذا جهل بالاقدار والمراتب» بل 
العاقل يعلم أن الكامل أبدا يفدى بالناقص, وأن الناقص يستسخر لأجل الكامل وهوعين 
الحكمة وليس ذلك بظلم» فإن الظلم هو التصرف فنٍ ملك الغير, والله تعالى لا يصادف 
لغيره ملكا حتى يكون تصرفه فيه ظلماً فلا يتصور منه ظلم. بل له أن يفعل ما يشاء في 
ملكه ويكون عادلاً. والوحي الإلهي والشرع الحق لا يرد بما ينبوعنه العقل فإن أراد 


45 


بنبو العقل أن برهان العقل يدل على استحالته كخلق الله تعالى مثل نفسه أو الجمع بين 
المتضادين» فهذا مالا يرد الشرع به وإن أراد به ما يقصر العقل عن إدراكه ولا يستقل 
بالاحاطة بكنهه فهذا ليس بمحال أن يكون في علم الأطباء مشلا جلب المغناطيس 
للحديد, وأن المرأة لومشت فوق حية مخصوصة ألقت الجنين وغير ذلك من الخواص. 
وهذا مما ينبوعنه العقل بمعنى أنه لا يقف على حقيقته ولا يستقل بالاطلاع عليه فلا ينبو 
عنه الحكم باستحالته. وليس كل ما لا يدركه العقل محالاً في نفسه بل لولم نشاهد قط 
النار واخخراجها فأخبرنا مخبر وقال: إني أصك خشبة بخشبة واستخرج من بينهما شيثاً 
أحمر بمقدار عدسة فتأكل هذه البلدة وأهليها حتى لا يبقى منهم شيء من غير أن ينتقل 
ذلك إلى جوفهاء ومن غير أن يزيد في حجمها بل تأكل نفسها فلا تبقى هي ولا البلد. 
لكنا نقول: هذا الشيء ينبو عنه العقل ولا يقبله. وهذه صورة النار والحس قد صدق 
ذلك. وكذلك قد يشتمل الشرع على مثل هذه العجائب التي ليست مستحيلة؛ وإنما 
هي مستبعدة وفرق بين البعيد والمحال» ا الي 
يتصور كونه. وأما معنى قول الله تعالى : الآ يُسالْ عَمًا يَفْعَلْ وَهُمْ يُسألُونَ204. وقوا 
تعالى :لم حَشْرْتي أعفى وَقَدْ كنت بُصيراً©0©. ا و" 
يقال : : ناظر فلان فلاناً وتوجه عليه سؤاله وقد يطلق ويراد به الاستخبار كما يسأل التلميذ 
أستاذه, والله تعالى لا يتوجه عليه السؤال بمعنى الإلزام وهو المعنى بقوله: «لا يسأل 
عما يفعل؟ . إذ لا يقال له: لم قول إلزام؟ فأما أن لا يستخبر ولا يستفهم فليس كذلك 
وهو المراد بقوله: «لم حشرتني أعمى » . وهذا القدركاف في جواب هذه الأسئلة.؛ ومن 
ترقى عن محل التقليد بأدنى كياسة ولم ينته إلى رتبة الاستقلال كان من الهالكين. فنعوذ 
بالله من كياسة لا تنفع فإن الجهالة أدنى إلى الخلاص والنجاة منهاء شعر: 
ولم أرّفي عيوب الثاس شيئاً كنقص القادرين على التمام 
فصل 

إذا عرفت أنك حادث, وأن الحادث لا يستغني عن محدث فقد حصل لك 

البرهان على الإيمان بالله. وما أقرب إلى العقل من هاتين المعرفتين. أعني أنك حادث 


. 77 سورة الأنبياء : الآية‎ )١( 
. 1176 (؟) سورة طه: الآية‎ 


/ا04 


وأن الحادث لا يحدث بنفسه, وإذا عرفت نفسك وانك جوهر خاصيتك معرفة الله 
ومعرفة ما ليس بمحسوس وليس البدن من قوام ذاتك. فانهدام البدن لا يعدمك فقد 
عرفت اليوم الآخر بالبرهان فإنه لا معنى له إلا أن لك يومين يوم حاضر أنت فيه مشغول 
بهذا البدن. ويوم آخر أنت فيه مفارق لهذا الجسد. وإذ لم يكن قوامك بالجسد وقد 
فارقته بالموت فقد حصل اليوم الآخر. وإذا عرفت أنك إذا فارقت المحسوسات بمفارقة 
الجسد تلقيت إما نعمة هى معرفة الله تعالى التى هى خاصية ذاتك ومنتهى لذاتك 
بمقتضى طبعك الأصلي لولم تمرض بالميل إلى الشهوات؛ وإما عذاباً بالحجاب عن 
الله تعالى : «وَجِيل بَنَهُمْ وَيْينَ مَا يَشْتَهُونَ212. وعرفت أن سبب المعرفة الذكر والفكر 
واللإعراض عن غير الله تعالى» وسبب المرض المانع عن ذكر الله ومعرفته الإقبال على 
الشهوات والحرص على الدنياء وعرفت أن الله تعالى قادر على أن يعرف عموم عباده 
ذلك بواسطة الكشف لبعض خواص عباده. وعرفت أنه قد فعل ذلك فقد عرفت رسله 
بالبرهان وآمنت, وإذا عرفت أن هذه التعريفات للأنبياء إنما تكون في كسرة ألفاظ 
وعبارات توحى إليهم وتلقى في سمعهم إما في يقظة أو في منام. فقد آمنت بالكتب. 
وإذا عرفت أن أفعال الله تعالى منقسمة إلى ما فعله بواسطة وإلى ما فعله بغير واسطة وأن 
وسائطه مختلفة المراتب فالوسائط القريبة هم المقربون وعنهم يعبر بالملائكة.» لكن 
معرفة هذا بطريق البرهان عسير والقول فيه طويل فصدق الرسل في أخبارهم عنهم بعد 
أن عرفت صدق ار ظل بالبر هان. واكتف بذلك فإنه درجة من درجات الإيمان 9يَرْقَم 
الله الذِينَ آمَنوا منكم والْذِينَ اوتوا العلم دَرَجَاتٍ»9#). 
فصل 
كل ما يتوالد فلا يستحيل أن يتولد أصلاً. وما يتولد لا يستحيل أن يتوالد فقوله 


تعالى : «إنَا خََفْنَا الإنْسَانَ مِنْ نظفَةٍ<". إنما عنى به الإنسان التوالدي, وقوله: 
<َحَلف 4 مِنْ تُراب 94. عنى به الإنسان التولدي, وقد تتولد العقارب من الباذروج 
)١(‏ سورة سبأ: الآية غ+ه. 

(؟) صورة المجادلة: الآية ١١‏ 

(6) سورة الدهر: الآية 37. 

(4) صورة الجج : الآية 4. 


56 


ولباب الخبز والحيات من العسل والنحل من العجل المنخنق المنكسرة عظامه والبق من 
الخل وسام أبرص من القرنبيط والخنافس من البعرة ومن نوى النبق العقرب الجراوة ومن 
الشعر الحيات ومن الطين والمدر الفأر ومن طين أصول القصب الدائم الرطوبة الطير ولا 
سيما طير الماء وأمثال ذلك . كما ذكر في كتب الطلسمات وغيرهاء ثم يتوالد هذا المتولد 
ويبقى نوعه بالتوالد وانطباق دائرة معدل النهار على فلك البررج مما يدل على خراب 
العالم السفلي وتغييره للفصول. أعني الربيع والصيف والخريف والشتاء فلا يبقى 
الحرث والنسل كما قال تعالى : (كُلّ مَنْ عَلَيْها فَان4©. يعني على الأرض؛ فخلق 
الله تعالى آدم من تراب ثم حصل منه التوالد ونظير ذلك مشاهد, وكذا الصنائع والحرف 
تحصل من طريق الإلهام ثم تستفاد وتتعلم » وتحصل النار من المقدحة والزند ثم تقتبس 
بعد حصولها: 9ِذَلِك تقدِيرٌ العَرِيزٍ الُلِيم 2<4. الذي خلق عند انفراج الدائرتين معدل 
النهار وفلك البروج الذي يتزايد الميل الذي خلق بينهما آدم من تراب ثم جعل نسله من 
سلالة من ماء مهين, ثم سواه ونفخ فيه من روحه. فمن شك في كيفية بدء الخلق ووضع 
الصائع الحكيم في التوالد والتولد؛ فلينظر إلى المحسوسات التي ذكرناهاء وأما النشأة 
الأخرى وكيفية عود النفوس والأرواح إلى أشباحها فمذكورة في بابها. 
فصل 

في المبدعات : 

المبدعات والمخلوقات أحدثها الله تعالى بالترتيب» فهو الأول الذي لا أول قبله 
ومنه تحصل المبدعات بل الممكنات بأسرهاء ثم ينزل الترتيب من الأشرف فالأشرف 
حتى ينتهي إلى المادة التي هي أخس الأشياء. ثم ابتتدأ تعالى من الاخس عائدا إلى الأشرف 
حتى انتهىٍ إلى الونسان ويعود الإنسان عند زكاء نفسه إلى حيث قال: «ارجعي إلى 
رَبْكِ رَاضِيةٌ مُرْضِية04». ولذلك قال : لهُوَ الأوّلُ والآخِرٌ والظاهرٌ وَالبَاطِنْ 94». أما 
الظاهر فمركوز في غرائز العقول أن للكل مبدأ وأن للحادث محدثاً وللممكن موجداً 
واجباً. وأما الباطن فلأن وصفه الخاص لا يعرفه إلا هو وربما كان باطناً لغاية ظهوره. 
(؟) سورة يس: الآية م7. 


(5) سورة الفجر: الآية م7 . 
(4) سورة الحديد: الآية ". 


44 


كما أن الشمس التي هي في غاية البعد عن هذا المثال ظاهر باهر وبسبب غاية ظهورها لا 
تدركها الحاسة المبصرة محاذاة ومقابلة. 

والميزان: ما يعرف به حقائق الأشياء ويميز به صحبح العقيدة من الفاسد وهو 
الواسطة بين السماء والأرض حيث قال: طوالسُّماء رَفْمَها وَوَضْمْ الميزانَ # ألا نَظفََا 
في الميزان * وأقِيمُوا الوَرْنَ بِالقِسْطٍ ولا تَخْسِرُوا الميزانَ # والأرْض وَضَعَها 
للانام 204. وذلك الميزان سر من أسرار الربوبية لا يعرفه إلا الراسخون في العلم والله 
أعلم . 
الركن الثاني في معرفة الملائكة : 

الملائكة والجن والشياطين جواهر قائمة بأنفسها مختلفة بالحقائق اختلافاً يكون 

مثال ذلك : القدرة فإنها مخالفة للعلم والعلم مخالف للقدرة وهما مخالفا اللون 
واللون والقدرة والعلم أعراض قائمة بغيرهاء فكذلك بين الملك والشيطان والجن 
اختلاف ومع ذلك؛, فكل واحد جوهر قائم بنفسه وقد وقع الاختلاف بين الجن والملك 
فلا يدري أهو اختلاف بين النوعين كالاختلاف بين الفرس والإنسان, أو الاختلاف في 
الأعراض كالاختلاف بين الإنسان الناقص والكاملء, وكذا الاختلاف بين الملك 
والشيطان. وهو أن يكون النوع واحداً والاختلاف واقعا في العوارض, كالاختلاف بين 
الخير والشريرء والاختلاف بين النبي والولي, والظاهر أن اختلافهم بالنوع والعلم عند 
الله تعالى . وهذه الجواهر المذكورة لا تنقسم . أعني أن محل العلم بالله تعالى واحد لا 
ينقسم. فإن العلم الواحد لا يحل إلا في محل واحد وحقيقة الإنسان كذلك. فالعلم 
والجهل بشيء واحد في محل واحد متضادان وفي المحلين غير متضادين» وأما أن هذا 
الجوهر غير منقسم وهل هو متحيز أم لا؟ فهذا الكلام عائد إلى معرفة الجزء الذي لا 
يتجزأ. فإن استحال الجزء الذي لا يتجرأ فهذا الجوهر غير منقسم ولا متحيزء وإن لم 
يستحل الجزء الذي لا يتجزأ فيمكن أن يكون هذا الجوهر متحيزاً وقد قال قوم لا يجوز 
أن يكون غير منقسم ولا متحيز, فإن الله تعالى غير منقسم ولا متحيز فما الذي يفصل هذا 
من ذلك. وهذا غير مبرهن عليه لأنه ربما تباينا في حقيقة الذات. وإن سلب عنهما 


.١١ / سورة الرحمن : الآيات‎ )١( 


الانقسام والتحيز والأمور المكانية وتلك سلوب والاعتبار بالحقائق لان ما سلب عن 
الحقائق كالعرضين المختلفين بالحد والحقيقة أن الحالين في محل واحدء فإن إيجاب 
احتياجهما إلى المحل وكونهما في المحل لا يفيد تمائلهماء فكذلك سلب الاحتياج إلى 
المحل والمكان لا يفيد اشتراك الشيئين» ويمكن أن تشاهد هذه الجواهر. أعني جواهر 
الملائكة وإن كانت غير محسوسة, وهذه المشاهدة على ضربين إما على سبيل التمثل 
كقوله تعالى : لفْتَمَئْلَ لَهَا بَشَراً سَويَاً204©. وكما كان النبي عليه الصلاة والسلام يرى 
جبريل في صورة دحية الكلبي القسم الثاني أن يكون لبعض الملائكة بدن محسوسء 
كما أن نفوسنا غير محسوسة ولها بدن محسوس هو محل تصرفها وعالمها الخاص بهاء 
فكذلك بعض الملائكة» وربما كان هذا البدن-المحسوس موقوفاً على اشراق نور النبوة 
كما أن محسوسات عالمنا هذا موقوف عند الادراك على اشراق نور الشمس. وكذا فى 
الجن والشياطين . 1 
فصل 

في وقوع مزاج قريب من مزاج آخر: 

وقوع مزاج قريب من مزاج آخر غير مستحيل, فنسبة نفس مزاج واحد هو قريب 
إلى مزاج آخر إلى نفس ذلك المزاج نسبة مقارنة؛ فإن كان لإنسان مزاج خاص وله نفس 
خاصة ثم مات صاحب ذلك المزاج وحدث بعده مزاج خاص وله نفس خاصة ثم مات 
صاحب ذلك المزاج وحدث بعده مزاج آخر قريب منه» وذلك عند الأدوار والتشكلات 
الفذكية مال ذلك ححدث مزاج وتشكل الفلك على هيئة مخصوصة. ثم عادت تلك 
التشكلات بأسرها عوداً يمكن لها وإن لم كن بالنسبة المخصوصة إلى مبدأ واحد. 
فحدث مزاج آخر استحق المزاج الحادث نفساً أخرى لتلك النفس مع النفس المفارقة 
التي كانت للمزاج المناسب له مناسبة لهاء فلا تتعلق النفس المفارقة بهذا المزاج تعلقا 
كليا لاستحالة تصرف النفسين في بدن واحد. فتتعلق بذلك المزاج تعلقا دون تعلق تلك 
اللنفس الحادثة معه. فتزداد خيرا إن كانت خيرة وشرا إن كانت شريرة. ولذلك يقال: 
لكل إنسان جنى يشاكله ويعاونه أو شيطان يغويه ويضله. وإن حدث مزاجان في زمان 
واحد في بدنين أو في مكانين وحدثت لهما نفسان كانتا تربين ففي الأبدان تربان وفي 


)3غ( صورة مريم : الآية /ا1. 


النفوس تربان» وكل من تكون مناسبة الأرواح المفارقة إلى روحه أكثر حدت به من تلك 
الاتصالات أنواع من الأخلاق؛ فيكون عرافاكاهناً أو صاحب تنجيم أوغير ذلك وربما 
كانت القوة الوهمية بعد المفارقة بحيث يصير لها العالم المحسوس بدنا ولا تتعداه إلى 
العالم الأعلى , فتطالع الأسباب الجزئية في هذا العالم فتستفيد النفس البدنية المتصلة 
بها معرفة ما والشرير منها في غاية الشرء لأنها خرجت عن المادة. فالشرير شيطان 
والخير من الطبقة الناقصة جن والجن والشياطين علائق يتمسك بها البشر وأفعال 
روحانية هي مولدات لأفعال طبيعية» والخلاص عن المادة دليل كمال القوة سواء كانت 
تلك القوة قوة رداءة أو قوة خير. وأما القاعد عن اليمين والشمال فقالوا فيهما ما قالواء 
والحق أن هذا سر إنما يعرفه الأنبياء والمرسلون عليهم السلام. وملائكة السموات 
المدبرون المتصرفون في أجرام السموات لا يعلم أعداد تلك الأجرام إلا الله تعالى. 
كما قال الله تعالى : وما يَعْلَمُ جُنود رَنْكَ إلا مُو20©. وملك الموت هو الملك الذي 
يأمره الله تعالى بقبض الأرواح متضمناً تفريق المزاج الذي استحق قبول تلك النفس مثاله 
مثال مطفىء السراج بالنفخ . والنفخ نفخان لع بويد كما وال تقل : هفَنَفَحْنًا فيه مِنْ 
رُوجنا04. ونفخ يطفىء كما قال تعالى : (وَنفِحَ في الصّورٍ فصق مَنْ في السُموات وَمَنْ 
في الأرض 74 2. وقال تعالى : ْنم نف فيه أخرى فإذا ه هُمْ قِيامْ يُنظرونَ»(*». 


الركن الثالث: في المعجزات وأحوال الأنبياء عليهم السلام: 

تسبيح الحصاء وقلب العصا حية تسعى » وكلام البهائم وكلام الشاة التي قالت 
للنبي عليه الصلاة والسلام حين سمتها اليهودية لا تأكل مني فإني مسمومة» وأمثال ذلك 
على ثلاثة أقسام : القسم الأول الحسي . والثاني الخيالي والثالث العقلي . 

القسم الأول: الحسي. وهو أن يخلق الله العلم والحياة والقدرة في الحصى 
حتى يتكلمء وفي البهمية العقل والقدرة والنطق وذلك ليس بمحال فإن الله تعالى قادر 
على أن يخلق في الباذروج حياة وقدرة وسماً. ويخلق منه عقرباًء ويخلق من نوى النبق 
كذلك. ويخلق من لحوم البقر النحل,. ومن النطفة الإنسان وسائر الحيوانات من 
)١(‏ سورة المدثر: الآية ."١‏ 
(؟) سورة الأنبياء : الآية .9١‏ 
5) سصورة الزمر: الآية 58,. 
(4) صورة الزمر: الآية 54. 


موادهاء فهو قادر على أن يخلق بإعجاز نفس مقدسة نبوية في الحصاة حياة وقدرة» ومن 
شاهد خلق الجية النضناضة من شعر إمرأة ويحس ذلك ولا يتعجب من قلب الشعر حية» 
فكيف يتعجب من قلب العصا حية , والخشب كان ذا نفس نامية نباتية» والشعر لم يكن 
قط ذا نفسء والأجسام متماثلة فكما جاز ذلك في أجسام الناس جاز ذلك في سائر 
الأجسام. وإن كان الجسم الإنساني بسبب اعتدال المزاج قابلا لهذه الأشياء. فكل 
جسم مستعد لقبول المزاج المعتدل. وإن كان الاعتدال موقوفا على الحرارة والرطوية, 
فليس يمتنع أن يكون كل جسم قابلاً للحرارة والرطوبة ويكون دعاء النبي وهمته يؤثران 
فى كينونة هذه الأشياء من غير مهلة ومدة. وإن جرت العادة أن يخلق الله تعالى مثل هذه 
الأشياء في مدة وبذلك يظهر شرف الأنبياء وخرق العادة ليس بمحال مثال ذلك : الشمس 
والنارء فإن ما يحص لمن تأثير الشمس في المائعات وغيرها إنما يحصل بمدة على سبيل 
التدريج » وما يحصل من إسخان النار يكون دفعة فلم استحال أن يكون تأثير مراد الأنبياء 
على وجه تكون نسبته نسبة إسخان النار إلى إسخان الشمس . 

القسم الثاني: العقلي. وهوقول الله تعالى: «وإِنْ مِنْ شَيءٍ إل يسم 
بحمدِو274. وهو شهادة كل مخلوق ومحدث على خالقه وموجده كشهادة البناء على 
الباني والكتابة على الكاتب. ويقال لذلك لسان الحال والمتكلمون يقولون هذه دلالة 
الدليل على المدلول؛ والحمقى من الناس لا يعرفون هذه الرتبة ولا يقرون بها. 

القسم الثالث: الخيالي؛ أن لسان الحال يصير مشاهداً محسوساً على سبيل 
التمثيل. وهذه خاصية الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام» كما أن لسان الحال 
يتمثل في المنام لغير الأنبياء ويسمعون صوتاً وكلاماً كمن يرى في منامه أن جملا يكلمه 
أو فرساً يخاطبه أو ميتا يعطيه شيئاً أو يأخذ بيده أويسلب منه شيئاً أوتصير أصبعه شمساً أو 
قمر أو يصير ظفره أسداً أو غير ذلك مما يراه النائم في منامه» فالأنبياء عليهم الصلاة 
والسلام يرون ذلك في اليقظة وتخاطبهم هذه الأشياء في اليقظة, فإن المتيقظ لا يميز 
بين أن يكون ذلك نطقاً خيالياً أو نطقاً حسياً من خارج» والنائم إنما يعرف ذلك بسبب 
انتباهه والتفرقة بين النوم واليقظة. ومن كانت له ولاية تامة تفيض تلك الولاية أشعتها 
على خيالات الحاضرين حتى أنهم يرون ما يراه ويسمعون ما يسمعه, والتمثل الخيالي 
أشهر هذه الأقسام والإيمان بهذه الأقسام كلها وأجمعها واجب. 


. 44 سورة الإسراء: الآية‎ )١( 


فصل 

في الشفاعة : 

وأما شفاعة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والأولياء؛ فالشفاعة عبارة عن نور 
يشرق من الحضرة الإلهية على جوهر النبوة وينتشر منها إلى كل جوهر استحكمت 
مناسبته مع جوهر النبوة لشدة المحبة وكثرة المواظبة على السنن وكثرة الذكر بالصلاة 
عليه يَِدِ ومثاله. نور الشمس إذا وقع على الماء فإنه ينعكس منه إلى موضع مخصوص 
من الحائط لا إلى جميع المواضع. وإنما اختص ذلك الموضع لمناسبة بينه وبين الماء 
في الموضع وتلك المناسبة مسلوبة على سائر أجزاء الحائط. وذلك الموضع هو الذي 
إذا خرج منه خط إلى موضع النور من الماء حصلت منه زاوية إلى الأرض مساوية للزاوية 
الحاصلة من الخط الخارج من الماء إلى قرص الشمس بحيث لا يكون أوسع منه ولا 
أضيق . مثال ذلك لائح وهذا لا يمكن إلا في موضع مخصوص من الجدارء فكما إن 
المناسبات الوضعية تقتضي الاختصاص بانعكاس النور فالمناسبات المعنوية العقلية 
أيضاً تقتضي ذلك في الجواهر المعنوية» ومن استولى عليه التوحيد فقد تأكدت مناسبته 
مع الحضرة الإلهية فأشرق عليه النور من غير واسطة, ومن استولت عليه السنن والاقتداء 
بالرسول ومحبة أتباعه ولم ترضخ قدمه في ملاحظة الوحدانية لع تتتحكم متاضبته إلا مع 
الواسطة» فافتقر إلى واسطة في اقتباس النار كما يفتقر الحائط الذي ليس مكشوفا 
اللشمس إلى واسطة الماء المكشوف للشمس إلى مثل هذا ترجع حقيقة الشفاعة في 
الدنياء فالوزير الممكن في قلب الملك المخصوص بالعناية قد يغضي الملك عن 
هفوات أصحاب الوزير يعفوعنهم لا لمناسبة بين الملك وأصحاب الوزيرء لكن لأنهم 
يناسبون الوزير المناسب للملك. ففاضت العناية عليهم بواسطة الوزير لا بأنفسهم» ولو 
ارتفعت الواسطة لم تشملهم العناية أصلاء لأن الملك لا يعرف أصحاب الوزير 
واختصاصهم به إلا بتعريف الوزير وإظهاره الرغبة في العفو عنهم فيسمى لفظه في 
التعريف وإظهاره الرغبة في العفو عنهم فيسمى لفظه في التعريف إظهار شفاعة على 
سبيل المجاز وإنما الشفيع مكانته عند الملك وإنما اللفظ لإظهار الغرض والله مستغن 
عن التعريف, ولو عرف الملك حقيقة اختصاصه بالوزير لاستغنى عن اللفظ وحصل 
العفو بشفاعة لا نطق فيها ولا كلام والله تعالى عالم به فلو أذن للأنبياء عليهم الصلاة 


6. 


والسلام في التلفظ بما هو معلوم عند الله تعالى لكانت ألفاظهم ألفاظ الشفعاء. وإذا أراد 
الله تعالى أن يمثل حقيقة الشفاعة بمثال يدخل فى بي الحس والخيال لم يكن ذلك التمثيل 
إلا بألفاظ مألوفة بالشفاعة ويدل على ذلك انعكاس النور بطريق المناسبة» وإن جميع ما 
ورد في الأخبار عن استحقاق الشفاعة متعلق بما يتعلق بالرسول عليه الصلاة والسلام من 
صلاة عليه أو زيارة لقبره أو جواب المؤذن والدعاء له عقيبه وغير ذلك مما يحكم علاقة 
المودة والمحبة والمناسبة معه. 


الركن الرابع في أحوال ما بعد الموت : 
فصل 

في عذاب القبر: 

في عذاب القبرء النفس إذا فارقت البدن حملت القوة الوهمية معها كما ذكرناهاء 
وتتجرد عن البدن منزهة ليس يصحبها شيء من الهيئات البدنية» وهي عند الموت عالمة 
بمفارقتها عن البدن وعن دار الدنيا متوهمة نفسها الإنسان المقبور الذي مات. وعلى 
صورته كما كان في الدنيا يتخيل ويتوهم وتتخيل بدنها مقبوراً ويتخيل الآلام الواصلة 
اليها على سبيل العقوبات الحية على ما وردت به الشرائع الصادقة؛ فهذا عذاب القبرء 
وإن كانت سعيدة تتخيله على صورة ملائمة على وفق ما كانت تعتقده من الجنات 
والأنهار والحدائق والغلمان والولدان والحور العين والكأاس من المعين» فهذا ثواب 
القبرء فلذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام : «القبر إما روضة من رياض الجنة أو حفرة 
من حفر النيران». فالقبر الحقيقي هذه الهيئات. وعذاب القبر وثوابه ما ذكرناهماء 
والنشأة الأخرى خروج النفس عن غبار هذه الهيئات كما يخرج الجنين من القرار 
المكين كما قال تعالى : (ثُل يحبا ادي أنشأهًا أولَ مرةِ وَهُوَ كل حَلْق ليم 4 


وقوله تعالى : : «الذي جَعَلٌ لَكُمْ من نّ الشجَرٍ الأخضر ناراً فإذا أنتم 'منه توقِدُونْ 06 
دليل ظاهر ومثال بين لهذه النشأة. 


)١(‏ سورة يس: الآية 8/ا. 
9*) سورة يس: الأآية ١م.‏ 


فصل 

قول النبي كل : «مَنْ مات فقد قامت قيامته», الفاء هنا للتعقيب يعني قامت قيامة 
الميت عند موته . مثال ذلك : من سرق نصاباً كاملا من حرزء فقد استحق قطع يده 
وهذا عقاب لا يتأخر عن هذا الفعل. وقال تعالى أيضاً: ومن يُولْهِمْ يوميذ ديرة إل 
مُتَحَرفا لقتال أ مُتَحَياً إلى فِةِ فقَدْبَاه بِقَضَب مِنَ اللّوه(1) . والقيامة الكبرى ميعاد عند 
اهله تعالى لا يجليها لوقتها إلا هو. وعلمها عند الله والأوقات والأزمنة وإن كان فيها 
تشابه فلكل واحد منها خواص ببعض أنواع الوجود يعتبر ذلك في أوقات الحرث والنسل 
وغيرهماء وعند االمتكلمين يرجع ذلك إلى مشيئة الله تعالى » فإنه تعالى يخصص وقتاً 
يوجد فيه أنوتعوداً بإرادته ومشيئته مع أن الأوقات متشابهة بالإضافة إلى القدرة وإلى ذات 
القديم سبحانه وتعالى ‏ والفلاسفة يقولون: إن مبادىء الحوادث حركات الأفلاك», وإن 
أدوارها مختلفة, وكل شكل من تشكلات مباين غيره من التشكلات مقرر ذلك في 
براهين إقليدس. إذ كل تشكل وكل عودة من تلك التشكلات لا تعود بعينهاء وبذلك 
يبطلون دعوى المنجمين في التجربة لكل عودة وتشكل من تشكلات الفلك. فيجوز أن 
يتجند دور مباين لسائر الأدوار تحدث فيه حيوانات غريبة الشكل لم ير مثلها قبلها قط. 
وإذا القينا حجراً في الماء يحدث فيه شكل مستدير تكون استدارة هذا الشكل مناسبته 
لعمقه وكلما ازداد عمقه ازدادت تلك الدائرة» فإذا ألقينا حجر آخر قبل تمام هذه الدائرة 
لم يلزم أن تكون حركة الماء في النوبة الثانية كحركته في النوبة الأولى » لأن الماء في 
الأولى ساكن وفي الأخرى متحرك, فإن تشكيل الحجر للمتحرك خلاف تشكيله 
للساكن. فتخلف الاشكال مع تساوي الأسباب لامتزاج أثر السابق باللاحق. وهب أن 
تشكلا للمتحرك وافق شكلا آخر فكيف يكون مقومات الثوابت والاوجات وسائر 
الجواهر على مثل ما كان عليه في التشكل الأول. فلا يستحيل أن يكون في التقدير 
الأزلي للأدوار دور يخالف هذه الادوار يقتضي نمطا من نظام الوجود والاابداع على 
خلاف النمط المعهود. ولا يستحيل أن يكون ذلك النمط بديعاً لم يسبق له نظيرء ولا 
أن يكون حكمه باقياً لا يلحقه مثل الدور السابق المنسوخ, فيبقى النمط الحاصل من 
الإبداع مستمراً في جنسه, وإن كانت تتبدل أحواله فيكون ميعاد القبامة الكبرى حصول 


. ١5 سورة الأنفال: الآية‎ )١( 


ذلك التشكل الغريب من الاسباب العالمية. فيكون سبباً كلياً جامعا لجميع الارواح» 
فيعم حكمها كافة الارواح فتكون قيامة عامة مخصوصة بوقت لا تتسع القوة البشرية 
لمعرفتها. أعني لمعرفة وقتها ولا الأنبياء المرسلون عليهم الصلاة والسلام, فإن الأنبياء 
أيضاً يكشف لهم ما يكشف بقدر احتمالهم وقبولهم. فإذا لم يقم برهان كلامي ولا 
فلسفي على استحالته وجب التصديق به إذا ورد الشرع به تشريحا لا يتطرق إليه 
الاحتمال والتأويل» وقد صرح الشرع به تصريحاً ضرورياً يجب الإيمان به ولا يمكن 
تأؤيله. وكما جاز أن يحدث دور بشكل يحدث بسببه أنواع من الحيوانات لم يعهد 
مثلها. فكذلك يجب أن يحدث زمان يحشر فيه الموتى وتجمع أجزاؤهم وتعود إلى 
أشباحهم وأرواحهم. فكما أن الجاهل يتأمل فصل الشتاء ويتعجب أن يحصل فيه نبات 
وثمار إذا ورد فصل الربيع عاين ذلك وبين زماني الفصلين بعد في هذه الدار. فكذلك 
بين زمان النشأة الأولى التي تحصل للإنسان بالتناسل» وزمان النشأة الأخرى التي 
تحصل للإنسان بالإحياء والإعادة كون بعيد لا يقاس أحدهما على الثاني . ١‏ 
فصل 

في إعادة النفس إلى البدن : 

عود النفس إلى البدن بعد مفارقتها عنه في القيامة أمر ممكن غير مستحيل» ولا 
ينبغي أن يتعجب منه؛ بل التعجب من تعلق النفس بالبدن في أول الأمر أظهر من تعجب 
عودها إليه بعد المفارقة. وتأثير النفس في البدن تأثير فعل وتسخير. ولا برهان على 
استحالة عود هذا وصيرورة هذا البدن سيعهذا ره اخرف لعو تائيره وتسخيره بقي 
ههنا تعجب من ضجعفاء العقول. وهو أن ذلك الاستعداد الإنساني يحصل قليلاً قليلا 
بالتدريج من نطفة في قرار مكين ثم من علقة إلى تمام الخلقة. وإذا لم يكن كذلك لا 
يقبل استعداد قبول التسخير ودفع هذا التعجب. 'إنا قد بينا أن ما هو ممكن بالتدريج إنما 
هو التوالد, وأما التولد فلا يكون بالتدريج بل حدوثه ممكن دفعة واحدة. ألا ترى أن 
الفار الذي يتوالد يكون بالتدريج وباجتماع الذكر والأنئى وبعد حمل وسفاد. وأن 
التولدي منه يكون دفعة فإنه لم يوجد قط مدر ولا تراب بعضه فأر وبعضه بالقوة قريب إلى 
حجم الفار. وكذلك الذباب الذي يتولد في الصيف من العفونات يكون دفعة ولم توجد 
عفونة تغيرت عن حالها وصارت بالقوة قريبة إلى أن تستحيل ذباباً من غير مهلة وتدريج . 


/ا16 


والنشأة الثانية تولدية من تلك الأجزاء التي كانت في الاصل وإن تفرقت وانخلعت 
صورها فيرد الله تعالى واهب الصور تلك الصور إلى موادها ويحصل المزاج الخاص مرة 
اخرى» ولها نفس حدئت عند حدوث ذلك المزاج ابتداءٌ فتعود بالتسخير والتصرف إليها 
مع العلاقة التي بينهماء مثال ذلك راكب سفينة قد غرقت وتفرقت أجزاؤهاء ال 
الراكب بالسباحة إلى جزيرة» ثم ترد تلك الأجزاء بعينها إلى الهيئة اي وتوطد وتؤ 
عاد إليها راكب السفينة وأجراها وتصرف فيها كما شاء. ولايجب أن يستحق هذا 00 
وجميع الاجزاء والمزاج المجدد نفساً أخرى , فإن حدوث المزاج يستحق حدوث نفس 
له. أما عود المزاج إلى الحالة الأولى فلا يستحق إلا عود النفس إلى الحالة الأولى, وأما 
ظن من ظن أن الاجزاء الارضية لا تفي بذلك فظن ووهم لا اعتبار بهماء فمن قاس 
الإنسان والأجزاء الارضية التي فيها بأجزاء الأرضء وأي مهندس استخرج بالمساحة 
ذلك الحدء وأما الاختلاف الراجع إلى ذلك في الكتب الإلهية في التوراة: أن أهل 
الجنة يمكثون في النعيم خمسة عشر ألف سنة ثم يصيرون ملأئكة, وأن أهل النار كذا أو 
أزيد ثم يصيرون شياطينء وفي الإنجيل أن الناس يحشرون ملائكة لا يطعمون ولا 
ينامون ولا يشربون ولا يتوالدون., وفي القرآن أن الناس يحشرون كما خلقهم الله تعالى 
أول مرة كما قال تعالى : وَسَيقُولُونَ من يُِيدنا فل الي قَطرَكُمْ أولَ مَرو2104 0 
إبراهيم عليه الصلاة والسلام عن الله تعالى : (رَبٌ أرني كيف نحي المَوْتَى274. وقو 

عزير بك حكاية منه : «ألى يُحِيهَدِه الله بَْدَ متها َماَهُ الله ماقة عام 0 
ومكث أصحاب الكهف وهو قوله تعالى : «وَكَذَلِك بَعثْنَاهُمْ ليتَسَاءَلُوا ينهم » إلى قوله : 
لِلِيَعْلَمُوا أن وَتد اللَّهِ حَقُّ6*». دلائل على أن هذه النشأة كائنة ممكنة يجب الإيمان 
بهاء وكان في قديم الدهر فيها اختلاف الناس والأنبياء عليهم السلام يثبتون تلك 
بالبراهين والأمثلة المحسوسة, والتعجب من النشأة الأولى أكثر من الآخرى إلا أن النشأة 
الأولى محسوسة مشاهدة معتادة فسقط التعجبء فإنا لو سمعنا أن إنساناً حرك نفسه فوق 
امرأة كما يحرك الممخض وخرج من أجزائه شيء مثل زبد سيال فيخفى ذلك الشيء في 
بعض أعضاء المرأة ويبقى مدة على هذه الحالة ثم يصير علقة, ثم العلقة تصير مضغة. 
)١(‏ سورة الإسراء: الآية .6١‏ 

(؟) سورة البقرة: الآية 7١‏ . 

(*) سورة البقرة: الآية 766 . 

(4) سورة الكهف الآيتان: ١9‏ و١؟.‏ 


ثم المضغة تصير عظاماً, ثم تكسى العظام لحماء ثم يحصل فيه الحركة, ثم يخرج من 
موضع لم يعهد خروج شيء منه على حالة لا يهلك أمه ولا يشق عليها في ولادته» ثم 
يفتح عينيه ويحصل في لدي الام شيء مثل شراب مائع لم يكن قبل ذلك فيها ويغتذي به 
الطفل إلى أن يصير هذا الطفل بالتدريج صاحب صناعات واستنباطات» بل ربما هذا 
الشيء الذي أصله نطفة وهو عند الولادة أضعف خلق الله يصير عن قريب ملكا جباراً 
قهاراً يملك أكثر العالم ويتصرف فيهء فإن التعجب من ذلك أكثر وأوفر من التعجب من 
النشأة الأخرى. والأصل أن كل شيء لم يشاهده الإنسان ولم يعرف سببه يحصل له منه 
التعجب. والتعجب هيئة تحصل للإنسان عند مشاهدة شيء لم يشاهده قبل ذلك أو 
ماع فيء لم يعرف سبيه ولم يميه قبل ذللكه» 
فصل 

تعلق النفس بالبدن كالحجاب لها عن حقائق الأمور. وبالموت ينكشف الغطاء 
كما قال الله تعالى : طفَكَشَفْنًا عَنكَ غِطَاءَكٌه237. ومما يكشف له تأثير أعماله مما يقربه 
إلى الله تعالى ويبعده وهي مقادير تلك الآثارء وأن بعضها أشد تأثيراً من البعضء ولا 
يمتنع في قدرة الله تعالى أن يجري سبباً يعرف الخلق في لحظة واحدة مقادير الاعمال 
ا ل ا ا ا اج 
ومثاله في العالم المحسوس مختلف, فمنه الميزان المعروف. ومنه القبان للأثقال. 
والاسطرلاب لحركات الفلك. والاوقات والمسطرة للمقاديرء والخطوط والعروض 
لمقادير حركات الاصوات. فالميزان الحقيقى وإذا مثله الله عز وجل للحواس مثله بما 
شاء من هذه الأمثلة أوغيرهاء فحقيقة الميزان وحده موجودة في جميم ذلك وهوما يعرف 
به الزيادة من النقصان وصورته تكون مقدرة للحس عند التشكيل, وللخيال عند. 
التمثيل. والله تعالى أعلم مما يقدره من صنوف التشكيلات والتصديق بجميع ذلك 


واجب. 
فصل 
في الحساب : 
والحساب جمع متفرقات المقادير وتصريف مبلغها وما من إنسان إلا وله أعمال 


0 سورة ص: الآية‎ )١( 


متفرقة نافعة وضارة ومقربة ومبعدة لا تعرف فذلكتها وقد لا تحصر آحاد متفرقاتهاء فإذا 
حصرت المتفرقات وجمع مبلغها كان حساباء ؛ فإن كان في قدرة الله تعالى أن يكشف في 
لحظة واحدة للعالمين متفرقات أعمالهم ومبلغ آثارها فهو أسرع الحاسبين» ومعلوم أن 
في قدرته ذلك فإذن هو أسرع الحاسبين قطعا. وسئل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب 
كرم الله وجهه : كيف يحاسب الله الخلق في لحظة من غير تشويش ولا غلط؟ فقال رضي 
الله عنه : كما يرزقهم مع سائر الحيوانات بلا تشويش ولا غلط . 
فصل 
في الصراط : 
الصراط حق . وما قيل إنه مثل الشعرة في الدقة فهو ظلم في وصفه. بل أدق من 

الشعرء بل لا مناسية بين دقته ودقة الشعر.ء وحدته وحدة السيف, كما لا هناسبة في الدقة 
بين الخط الهندسي الفاصل بين الظل والشمس الذي ليس من الظل ولا من الشمسء 
وبين دقة الشعر ودقة الصراط مثل دقة الخط الهندسي الذي لا عرض له أصلا لأنه على 
مثال الصراط المستقيم» والصراط المستقيم عبارة عن الوسط الحقيقي بين الأخلاقي 
المتضادة. لذلك قد بين الله بهذا الدعاء في سورة الفاتحة حيث قال: : امنا الصَّرّاط 
المُلْعتِيم 04 . وقال في حق المصطفى صلوات الله عليه : «وإِنْكٌ لَتَهُدي إلى صِرَاطٍ 
متهي 4".. وقال وكو: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق». وقال تعالى شأنه : 
«وإنك لَعَلىَ خلقٍ عَظيمٍ 4". مثال ذلك السخاوة بين التبذير والبخل, والشجاعة بين 
التهور والجبن, والاقتصاد بين الإسراف والإقتار» والتواضع بين التكبر والدناءة» والعفة 

بين الشهوة والخمود. فهذه الأخلاق لها طرف إفراط وطرف تقصير وهما مذمومان. 
والوسط ليس من الإفراط ولا من التقصير فهو على غاية البعد من كل طرف. ولذلك قال 
النبي كَقْةِ : «خير الأمور أوساطها». مثال ذلك الوسط الخط الهندسي الفاصل بين الظل 
والشمس لا من الظل ولا من الشمس . والتحقيق في ذلك أن كمال الآدمي في المشابهة 
بالملائكة وهم منفكون عن هذه الأوصاف المضادة, وليس في إمكان الإنسان الانفكاك 


(') سورة الشورى: الآية 017. 
59) سورة القلم : الآية 4 . 


عنها بالكلية. فكلفه الله تعالى بما يشبه الانفكاك. وإن لم يكن حقيقة الانفكاك وهو 
الوسط فإن الفاتر لا حار ولا بإردء والعودي لا أبيض ولا أسود. فالبخل والتبذير من 
صفات الإنسان, والمقتصد السخي كأنه لا بخيل ولا مبذر. فالصراط المستقيم وهو 
الوسط الحق بين الطرفين الذي لا ميل له إلى أحد الجانبين وهو أدق من الشعرء فالذي 
يطلب غاية البعد من الطرفين يكون على الوسط. ولو فرضنا حلقة حديد محماة بالنار 
وقعت نملة فيها وهي تهرب بطبعها من الحرارة فلا تموت إلا على المركز لآنه الوسط 
الذي هوغاية البعد من المحيط المحرق. وتلك النقطة لاعرض هاء فإذا الصراط المستقيم هو 
الوسط بين الطرفين ولا عرض له . فهو أدق من الشعرء ولذلك خرج عن القدرة البشرية 
الوقوف عليه فلا جرم بورود أمثالنا النار بقدر ميله عنه. كما قال تعالى : ودان يتم إلا 
وَارِدُها كَانَ عَلَى رَبك ختما مَقْضِيَا0"©. وقال تعالى : هِوَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أنْ تَعْدِلُوا بيْنَ 
النَْاهِ وَلَوْ حَرَضْكْمْ فلا تميلوا كل كل المَيْل »2»07. فإن العدل بين المراتين في المحبة 
والوقوف على درجة متوسطة لا ميل فيه إلى إحداهما كيف يدخل تحت الإمكان؟ فمن 
استقام في هذا العالم على الصراط المستقيم الذي يحكي الله تعالى حقيقته عن 
النبي كل : «وأن هَذَا صِرَاطي مُسْتقِيما فاْبعُوة9) . مرٌعلى صراط الآخرة مستوياً من 
غير ميل لأنه في هذا العالم عود نفسه التحفظ عن الميل. فصار ذلك وصفا طبيعياً له فإن 
العادة طبيعة خامسة . هذا حق قطعا كما ورد به الشرح وجاء في الحديث : ويمر المؤمن 
على الصراط كالبرق الخاطف». 

فصل 
في الجنان : 


اللذات المحسوسة الموجودة في الجنان من أكل وشرب ونكاح يجب التصديق 
أما الحسي » فبعد رد الروح إلى البدن كما ذكرناء وأما الكلام في أن بعض هذه 
اللذات مما لا يرغب فيها مثل اللبن والاستبرق والطلح المنضود والسدر المخضود. 
)١(‏ صورة مريم: الآية الا. 
(؟) سورة النساء: الآية ١159‏ . 
(؟) سورة الأنعام: الآية "1617 . 


1١1١ 


فهذا مما خوطب به جماعة يعظم ذلك في أعينهم ويشتهونه غاية الشهوة؛ وفي كل صنف 
وكل إقليم مطاعم ومشارب أوملابس تيختصن :يفوم دون قوم ولكل واحد في الجنة ما 
يشتهيه كما قال تعالى : طِوَلَكُمْ فيها مَاتَشْتهِي أنَفُسَكُمْ وَلَكُمْ فيهًاما تدّعُونَ2©7. وربما 
يعظم الله تعالى في الآخرة شهوة لا تكون تلك الشهوة معظمة في دار الدنياء كالنظر إلى 
ذات الله تعالى, فإن الشهوة والرغبة الصادقة فيها في الآخرة دون الدنيا. 

وأما الخيالي, فلا يخفى إمكانه ولذته كما في النوم إلا أنه مستحقر لانقطاعه عن 
قريب» فلو كانت دائمة لم يدرك فرق بين الخيالي والحسي لأن التذاذ الإنسان بالصور 
من حيث انطباعها في الخيال والحس لا من حيث وجودها من خارج» فلو وجد من 
خارج ولم يوجد في حسه بالانطباع فلا لذة. ولو بقي المنطبع في الحس وعدم الخارج 
لدامت اللذة وللقوة المتخيلة قدرة على اختراع الصور ني هذا العالم. إلا أن صورها 
المخترعة متخيلة وليست بمحسوسة ولا منطبعة في القوة والباصرة. فلذلك لو اخترع 
صورة جميلة في غاية الجمال وتوهم حضورها ومشاهدتها لم تعظم لذته لأنه ليبس يصير 
مبصراً كما في النوم » فلو كانت له قوة على تصويرها في القوة الباصرة كما له قوة على 
تصويرها في القَوة المتخيلة لعظمت لذته ونزلت منزلة الصورة الموجودة من خارج ‏ ولا 
تفارق الآخرة الدنيا في هذا المعنى إلا من حيث كمال القدرة على تصوير الصورة في 
القوة الباصرة» وكل ما يشتهيه يحضر عنده في الحال فتكون شهوته بسبب تخيله وتخيله 
بسبب إبصاره أي بسبب انطباعه في القوة الباصرة فلا يخطر بباله شيء يميل إليه إلا 
ويوجد في الحال أي يوجد بحيث يراه وإليه الاشارة بقوله عليه الصلاة والسلام: «إن 
في الجنة سوقا تباع فيه الصور». والسوق عبارة عن اللطف الإلهي الذي هومنبع القدرة 
على اختراع الصور بحسب المشيئة. وانطباع القوة الباصرة بها انطباعا ثابتاً إلى دوام 
المشيئة لا انطباعاً هو معرض للزوال من غير اختيار كما في النور في هذا العالم. وهذه 
القدرة أوسم وأكمل من القدرة على الإيجاد خارج الحسء لأن الموجود من خارج 
الحسٍ لا يوجد في مكانين وإذا صار مشغولا باجتماع واحد ومشاهدته وممارسته صار 
مشغوفاً به محجوباً عن غيره. وأما هذا فيتسع اتساعاً لا ضيق فيه ولا منع حتى إذا اشتهى 
مشاهدة الشيء ء مثلاً ألف شخص في ألف مكان في حالة واحدة» لشاهدوه كما خطر 
ببالهم في أماكنهم المختلفة, وأما الإيصار الحاصل عن شخص الشيء الموجود من 


.7١ سورة فصلت: الآية‎ )١( 


١1 


خارج الحس لا يكون إلا في مكان واحد. وحمل أمر الآخرة على ما هو أوسع وأتم 
للشهوات وأوفق بها أولى ولا نقص في قدرة الإيجاد. 

وأما الوجه الثالث: وهو الوجود العقلي. فأن تكون هذه المحسوسات أمثلة 
للذات العقلية التي ليست بمحسوسة., لكن العقليات تنقسم إلى أنواع كدر متحلفه مختلفة 
اللذات كالحسيات». فتكون الحسيات أمثلة لها وكل واحد يكون مثالا للذة أخرى مما 
رتبته في العقليات توازي رتبة المثال في الحسيات فإنه لورأى في المنام الخضرة والماء 
الجاري والوجه الحسن والأنهار المطردة باللبن والعسل والخمرة» والاشجار المزينة 
بالجواهر واليواقيت واللالىء» والقصور المبنية من الذهب والفضة. والسرر المرصعة 
بالجواهر. والغلمان المائلين بين يديه للخدمة., لكان المعبر يفسر ذلك بالسرور ولا 
يحمله على نوع واحد. بل يحمل كل واحد على نوع آخر من أنواع السرور وقرة العين 
يرجع بعضه إلى سرور العلم وكشف المعلومات» وبعضه إلى سرور الملكة ونفاذ الأمر. 
وبعضه إلى قهر الأعداء. وبعضه إلى مشاهدة الاصدقاء. وإن شمل الجميع اسم اللذة 
والسرور فهي مختلفة المراتب مختلفة الذوق لكل واحد مذاق يفارق الآخر. فكذلك 
اللذات العقلية ينبغي أن تفهم كذلك,. وإن كان مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا 
خطر على قلب بشرء فجميع هذه الاقسام ممكنة فيجوز أن يجمع بين الكل لواحد. 
ويجوز أن يكون نصيب كل واحد بقدر استعداده فالمشغوف بالتقليد والجمود على 
الصور الذي لم تنفتح له طرق الحقائق تمثل له هذه الصور واللذات» والعارفون 
المستصغرون لعالم الصور واللذات المحسوسة يفتح لهم من لطائف السرور واللذات 
العقلية مايليق بهم ويشفي شرههم وشهوتهم إذ حد الجنة أن فيها لكل امرىء ما يشتهيه ‏ 
وإذا اختلفت الشهوات لم يبعد أن تختلف العقليات واللذات. والقدرة واسعة والقوة 
البشرية عن الإحاطة بعجائب القدرة قاصرة والرحمة الإلهية ألقت بواسطة النبوة إلى كافة 
الخلق الفدر الذي احتملته أفهامهم , فيجب التصديق بما فهموه والإقرار بما وراء منتهى 


الفهم في أمور تليق بالكرم الإلهي ولا تدرك بالقهم البشري وإنما يدرك ذلك في مقعد 
صدق عند مليك مقتدر. 
فصل 


أما التقرب لمشاهدة الأنبياء والأئمة عليهم الصلاة والسلام» فإن المقصود منه 
الزيارة والااستمداد من سؤال المغفرة وقضاء الحوائج من أزواج الأنبياء والأئمة عليهم 


1١117 


الصلاة والسلام. والعبارة عن هذا الإمداد الشفاعة. وهذا يحصل من جهتين. 
الاستمداد من هذا الجانب» والإمداد من الجانب الآخر ولزيارة المشاهد أثر عظيم في 
هذين الركنين . أما الاستمدادء فهو بانصراف همة صاحب الحاجة باستيلاء ذكر الشفيع 
والمزور على الخاطر حتى تصير كلية همته مستغرقة في ذلك., ويقبل بكليته على ذكره 
وخطوره بباله وهذه الحالة سبب منه لروح ذلك الشفيع , أو المزور حتى تمده تلك الروح 
الطيبة بما يستمد منهاء ومن أقبل في الدنيا بهمته وكليته على إنسان في دار الدنيا. فإن 
ذلك الإنسان يحس بإقبال ذلك المقبل عليه ويخبره بذلك. فمن لم يكن في هذا العالم 
فهو أولى بالتنبيه وهو مهيا لذلك التنبيه. فإن إطلاع من هو خارج عن أحوال العالم إلى 
بعض أحوال العالم ممكن, كما يطلع في المنام على أحوال من هو في الآخرة أهومثئاب 
أو معاقب. فإن النوم صنو الموت وأآخره؛ فبسيب النوم صرنا مستعدين لمعرفة أحوال لم 
نكن مستعدين في حالة اليقظة لها. فكذلك من وصل إلى الدار الآخرة ومات موتاً حقيقياً 
كان بالاطلاع على هذا العالم أولى وأحرى. فأما كلية أحوال هذا العالم في جميع 
الأوقات لم تكن مندرجة في سلك معرفتهم , كما لم تكن أحوال الماضين حاضرة في 
معرفتنا في منامنا عند الرؤيا ولآحاد المعارف معينات ومخصصات منها همة صاحب 
الحاجة وهي استيلاء صاحب تلك الروح العزيزة على صاحب الحاجة. وكما تؤثر 
مشاهدة صورة الحي في حضور ذكره وخطور نفسه بالبال. فكذلك تؤثر مشاهدة 5 
الميت ومشاهدة تربته التي هي حجاب ق/البه, فإن أثر ذلك الميت في 0 
قالبه ومشهده ليس كأثره في حال حضوره ومشاهدة قالبه ومشهده. ومن ظن أنه قادر على 
أن يحضر فى نفس ذلك الميت عنده غيبة مشهده كما يحضر عند مشاهدة مشهده. فذلك 
ظن خحطاء فإن للمشاهدة أثرا ينا ليس للغيبة مثله. ومن استعان في الغيبة بذلك الميت 
لم تكن هذه الاستعانة أيضاً جزافاً ولا تخلو من أثر ما كما قال النبي عليه الصلاة 
والسلام: «مَنْ صَلَىّ علي مرّة صليت عليه عشرأ» ؛. دومن أجاب المؤذن حلت له 
شفاعتي» . «ومن زار قبري حلت له شفاعتي»» فالتقرب بقالبه الذي هو أخص الخواص 
به وسيلة تامة متقاضية للشفاعة والتقرب بولده الذي هو بضعة منه. ولو بعد توالد 
وتناسل » والتقرب بمشهده ومسجده وبلدته وعصاه وسوطه وبعله وعضادته والتقرب 
بعلاته وسيرته والتقرب بكل ما له منها مناسبة إليه تقرب موجب للقرب إليه مقتيض 
لشفاعته. فإنه لا فرق عند الأنبياء في كونهم في دار الدنيا وفي كونهم في دار الآخرة لا 
في طريق المعرفة, فإن آلة المعرفة في الدنيا الحواس الظاهرة وفي العقبى آلة يعرف بها 


1 


الغيب إما في كسوة مثال. وإما على سبيل التصريح . وأما الأحوال الآخر في التقرب 
والقرب والشفاعة فلا تتغير. والركن الأعظم في هذا الباب الامداد والاهتمام من جهة 
الممد. وإن لم يشعر صاحب الوسيلة بذلك المدد. فإنه لووضع شعر رسول الله كَل أو 
عضادته أو سوطه على قبر عاص أو مذنب نجا ذلك المذنب ببركات تلك الذخيرة من 
العذاب , وإن كان في دار إنسان أو بلدة لا يصيب تلك الدار وأهلها وتلك البلدة وسكانها 
ببركاتها بلاء» وإن لم يشعر بها صاحب الدار وساكن البلدة. فإن اهتمام النبي كَل وهو 
في العقبى مصروف إلى ما هو به منسوب. ودفع المكاره والأمراض والعقوبات مفوضة 
من جهة الله تعالى إلى الملائكة. وكل ملك حريص على إسعاف ما حرص النبي 
صلوات الله عليه بهمته إليه عن غيره. كما كان فى حال حياته» فإن تقرب الملائكة 
بروحه المقدسة بعد موته أزيد من تقربهم به في حال حياته . 


وقد حكي أن أبا طاهر الهجري القرمطي رفع إنساناً على عنقه حتى يجر ميزاب 
الكعبة» فمات الإنسان على عاتقه وخر هو ميتاء وأن جماعة من المصريين نقبوا في 
جدار روضة النبي كَل وقصدوا إخراخ شتفي ولقله إلى مصر كان ذلك في نتصف 
الليل. فسمع أهل القذينة صبوتا من الهواء احفظوا نبيكم معاشر المسلمين» احفظوا 
نبيكمء 5 السراج بل أوقدوا السرج والشموع والمشاعل ورأوا ذلك النقب في 
الجدار وحوله جماعة من المصريين موتى . 

ونقل أنه يق غرس غصناً رطباً في قبر إنسان وقال: رفع الله تعالى عن صاحبه 
العذاب ما دام هذا الغصن رطباً. وذلك من بركات يديه يخْ وكل من أطاع سلطاناً 
وعظمهء فإذا دخل بلده ورأى فيها سهماً من جعبة ذلك السلطان أو سوطاً له فإنه يعظم 
تلك البلدة» فالملائكة عليهم السلام يعظمون النبي . فإذا رأوا ذخائره في دار أو بلدة أو 
قبر عظموا صاحبه وخففوا عليه العذاب, ولذلك السبب ينفع الموتى أن توضع على 
قبورهم المصاحف. ويتلى القرآن على رؤوس قبورهم, ويكتب القرآن على قراطيس 
وتوضع القراطيس في أيدي الموتى » فهذه أنواع المناسبات على حسب حال من يريد أن 
يسوي كل سمو ومشروع على قضية معقولة. والأصل في ذلك أن وراء ما يتصوره 
العقلاء أموراً ورد الشرع بها ولا يعلم حقائقها إلا الله تعالى والأنبياء الذين هم وسائط بين 
الله تعالى وبين عباده. وإ اجتمع الحذاق وتفكروا في الشكل الموضوع على مناسية 
الأعداد لسهولة الولادة حالة الطلق ما عرفوا تلك الخاصية. فكيف يطمع الإنسان أن 


1١16 


يعرف حقائق ما ورد به الشرع من الأوامر والنواهي والاخبار والوعد والوعيد وغير ذلك. 
والعقل ضعيف وتصرفه مختصر بالإضافة إلى تلك العجائب, والخواص . قد قررت يا 
أخي طيب الله عيشك بعض ما يمكن التلويح إليه على وفق ما انتهت فطانتي إليه. 
وأوصيك ومن معك بالإيمان بهذه الأشياء التي ورد الشرع بتصحيحها دون التوقف فيهاء 
ونعوذ بالله من التوقف. وسأهدي إليك من بعد أن وفقني الله تعالى علقاً مضنوناً آخر 
اسمه المضنون به على غير أهله أحق وأولى من هذا المصنف فإن في هذا مسائل قررتها 
في عدة مواضع ومسائل لم أقررها إلا في ذلك المصنف. أما المضنون الموجود فقد كان 
عزيمتي على تقرير أشياء فيه لم أقررها في شيء من كتبي » اللهم إلا في إحياء العلوم . 
فإن علي تقرير أشياء فيه تلويحات وإشارات إلى رموز لا يعرفها إلا أهلها والله المعين 
الهادي وهو حسبنا وإليه المرجم والمصير. 


7 شما لمَنَ ايم اس ب ب وو 
الأجوبة الغزاليّة في المسَائل الأخروية 


المضدون الصغير: 

سئل الشيخ الإمام الأجل الزاهد السيد حجة الإسلام زين الدين مقتدي الأمة 
قدوة الفريقين أبوحامد محمد بن محمد بن محمد الغزالي قدس الله روحه ونور ضريحه 
عن معنى قوله تعالى : طفإذًا سَوَيْتهُوَتَفخْتٌ فيه مِنْ رُوحي23246). ما التسوية وما النفخ 
وما الروح؟ 

فقال: التسوية فعل في المحل القابل للروح. وهوالطين في حق آدم كَل 
والنطفة في حق أولاده بالتصفية وتعديل المزاج. فإنه كما لا يقبل النار يابس محض 
كالتراب والحجر ولا رطب محض كالماء. بل لا تتعلق النار إلا بمركب من يابس ورطب 
ولا كل مركبء فإن الطين مركب ولا تشتعل فيه النارء بل لابدٌ بعد تركيب الطين الكثيف 
من تردد فى أطوار الخلقة حتى يصير نباتاً لطيفاً. فتثبت فيه النار وتشتعل فيهء وكذلك 
الطين بعد أن يفشئه الله خلقاً بعد خلق في أطوار متعاقبة يصير نباتاء فيأكله الآدمي فيصير 
دما فتنتزع القوة المركبة في كل حيوان صفوة الدم الذي هو أقرب إلى الاعتدال. فيصير 
نطفة فيقبلها الرحم ويمتزج بها مني المرأة فتزداد عند" ذلك اعتدالاً» ثم ينضجها الرحم 
بحرارته فتزداد تناسباً حتى تنتهي في الصفاء. واستواء نسبة الأجزاء إلى الغاية فتستعد 
لقبول الروح وإمساكهاء كالفتيلة التي تستعد عند شرب الدهن لقبول النار وإمساكهاء 
فالنطفة عند تمام الاستواء والصفاء تستحق باستعدادها روحا يدبرها ويتصرف فيهاء 
فتفيض إليها الروح من جود الجواد الحق الواهب لكل مستحق ما يستحقه. ولكل 
مستعد ما يقبله على قدر قبوله واحتماله من غير منع ولا بخل. فالتسوية عبارة عن هذه 
الأفعال المرددة لأصل النطفة في الأطوار السالكة بها إلى صفة الاستواء والاعتدال. 


1/7 سورة ص: الآية‎ )١( 


1١ 1/ 


فصل 

وسئل ما النفخ؟ 

فقال: النفخ عبارة عما أشعل نور الروح في فتيلة النطفة وللنفخ صورة ونتيجة. 
أما صورته. فاخراج الهواء من جوف النافخ إلى جوف المنفوخ فيه حتى يشتعل الحطب 
القابل للنار فالتفخ سبب الاشتعال» وصورة النفخ الذي هو سبب في حق الله تعالى 
محال والمسبب غير محال» وقد يكنى بالسبب عن الفعل الذي يحصل المسبب عنه 
على سبيل المجاز. وإن لم يكن الفعل المستعار له على صورة الفعل المستعار منه 
كقوله تعالى : «غَضِبٌ الله عَلَيْهِمْ2'04. «فانتقمنا منهم274. والغضب عبارة عن نوع 
تغير في الغضبان يتأذى به ونتيجته الهلاك للمغضوب عليه وإيلامه فعبر عن نتيجة 
الغضب بالغضب, وعن نتيجة الانتقام بالانتقام» وكذلك عبر عما ينتج نتيجة النفخ 
بالنفخ وإن لم يكن على صورة النفخ . 

فقيل له: فما السبب الذي اشتعل به نور الروح في فتيلة النطفة . 

قال: هو صفة في الفاعل وصفة في المحل القابل. أما صفة الفاعل فالجود 
الإلهي الذي هو ينبوع للوجود على ما له قبول الوجود فهو فياض بذاته على كل حقيقة 
أوجدهاء ويعبر عن تلك الصفة بالقدرة ومشالها فيضان نور الشمس على كل قابل 
للاستنارة عند ارتفاع الحجاب بينهماء فالقابل للاستنارة وهي الملونات دون الهواء الذي 
لا لون له وأما صفة القابل فالاستواء والاعتدال الحاصل بالتسوية. كما قال سويته» 
ومثاله صقالة الحديد, فإن المرآة التي ستر الصدأ وجهها لا تقبل الصورة وإن كانت 
محاذية فلو حاذتها الصورة واشتعل الثقيل بتصقيلها فكلما حصل الصقال حدثت فيها 
الصورة المحاذية من ذي الصورة المحاذية» فكذلك إذا حصل الاستواء في النطفة 
حدث فيها الروح من خالق الروح من غير تغير في الخالق, بل إنما حدث الروح الآن لا 
قبله لتغير المحل بحصول الاستواء الآن لا قبله» كما أن الصورة فاضت من ذي الصورة 
على المرآة في حكم الوهم من غير حدث في الصورة» ولكن كان لا يحصل من قبل لا 
لان الصورة ليست مهيأة لأن تنطبع في المرآةء لكن لأن المرآة لم تكن صقيلة قابلة 
للصورة . 
)١(‏ مورة المجادلة: الآية ,١4‏ 
(؟) سورة الاعراف: الآية 77 , 


١18 


فقيل له: فما الفيض؟ 

فقال: لا ينبغي أن تفهم من الفيض هنا ما تفهم من فيضان الماء من الاناء على 
اليد. فإن ذلك عبارة عن انفصال جزء من الماء عن الاناء واتصاله باليد. بل افهم منه ما 
تفهمه من فيضان نور الشمس على الحائط, ولقد غلط قوم في نور الشمس أيضاً. فظنوا 
أنه ينفصل شعاع من جرم الشمس ويتصل بالحائط وينبسط عليه وهو خطأ. بل نور 
الشمس سبب لحدوث شيء يناسبه في النورية وإن كان أضعف منه في الحائط المتلون 
كفيضان الصورة على المرأة من ذي الصورة. فإنه ليس بمعنى انفصال جزء من صورة 
الإنسان واتصاله بالمرآة» بل على معنى أن صورة الإنسان مثلا سبب لحدوث صورة 
تماثلها فى المرآة المقابلة للصورة وليس فيهما اتصال وانفصال إلا السببية المجردة» 
وكذلك الجود الإلهى سبب لحدوث نور الوجود فى كل ماهية قابلة وجود فيعير عنه 

فصل 

قيل له : قد ذكرت التسوية والنفخ . فما الروح وما حقيقته. وهل هوحال في البدن 
حلول الماء في الإناء. أو حلول العرض في الجوهر. أم هو جوهر قائم بنفسه؟ فإن كان 
وهر قائماً بنفسه فمتحيز هو أم غير متحيز؟ وإن كان متحيزاً فما مكانه أهو القلب أو 
الدماغ أو موضع آخر؟ وإن لم يكن متحيزا فكيف يكون جوهراً غير متحيز؟ 

فقال: هذا سؤال عن سر الروح الذي لم يؤذن لرسول الله كَقِخِ في كشفه لمن ليس 
أهلاً لهء فإن كنت من أهله فاسمع واعلم أن الروح ليس بجسم يحل البدن حلول الماء 
في الإناء. ولا هو عرض يحل القلب والدماغ حلول السواد في الأسود. والعلم في 
العالم» بل هو جوهر وليس بعرض لأنه يعرف نفسه وخالقه ويدرك المعقولات. وهذه 
علوم والعلوم أعراض ولو كان موضوعا والعلم قائم به؛ لكان قيام العرض بالعرض » 
وهذا خلاف المعقول ولأن العرض الواحد لا يفيد إلا واحدا فما قام به والروح يفيد 
حكمين متغايرين» فإنه حين ما يعرف خالقه يعرف نفسه. فدل على أن الروح ليس 
بعرض والعرض لا يتصف بهذه الصفات ولا هو جسم , لأن الجسم قابل للقسمة والروح 
لا ينقسم. لأنه لوانقسم لجاز أن يقوم بجزء منه علم بالشيء الواحد وبالجزء الآخر منه 
جهل بذلك الشيء الواحد بعينه فيكون في حالة واحدة عالما بالشيء جاهلا به فيتناقفض 


8 


لأنه في محل واحد وإلا فالسواد والبياض في جزأين من العين غير متناقض. والعلم 
والجهل بشيء واحد في شخص واحد محال وفي شخصين غير محال, فدل على أنه 
واحد وهو باتفاق العقلاء جزء لا يتجزأ أي شيء لا ينقسم إذ لفظ جزء غير لائق به. لان 
0 إضافة إلى الكل ولا كل هناء فلا جزء إلا أن يراد به ما يريد القائل بقوله الواحد 
من العشرة, فإنك إذا أخذت جميع الأجزاء التي بها قوام العشرة في كونها عشرة 
7 الاير جملتها وكذلك إذا أخذت جميع الموجودات أو جميع ما به قوام الإنسان 
في كونه إنساناً كان الروح واحداً من جملتهاء فإذا فهمت إنه شيء لا ينقسم فلا يخلوإما 
أن يكون متحيزاً أو غير متحيزء وباطل أن يكون متحيزاً إذ كل متحيز منقسم. والجزء 
الذي لا يتجزأ باطل أن يكون منقسماً بأدلة هندسية وعقلية أقربها أنه لو فرض جوهر بين 
جوهرين لكان كل واحد من الطرفين يلقى من الوسط غير ما يلقى الآخر. فيجوز أن يقوم 
بالوجه الذي يلقاه هذا الطرف علم وبالوجه الآخر جهل. فيكون عالماً جاهلاً في حالة 
واحدة بشيء واحد. وكيف لا ولو فرض بسيط مسطح من أجزاء لا تتجزأ لكان الوجه 
الذي يحاذينا ونراه غير الوجه الآخر الذي لا نراه, فإن الواحد لا يكون مرئياً وغير مرثئي 
في حالة واحدة. ولكانت الشمس إذاحاذت أحد وجهيه استنار بها ذلك الوجه دون الوجه 
الآخرء فإذا ثبت أنه لا ينقسم وأنه لا يتجزأ ث,ٍ ثبت أنه قائم بنفسه وغير متحيز أصلا. 


فصل 

قيل له: وما حقيقة هذه الحقيقة, وما صفة هذا الجوهر, وما وجه تعلقه بالبدن؟ 
أهو داخل فيه أو خارج عنه أو متصل به أو منفصل عنه؟ 

قالك رضي الله عنه : لا هو داخل ولا هو خارج ولا هو منفصل ولا متصل» لأن 
مصحح الاتصاف بالاتصال والانفصال الجسمية والتحيز قد انتفيا عنه فانفك عن 
الضدين, كما أن الجماد لا هو عالم ولا هو جاهل لأن مصحح العلم والجهل الحياة. 
فإذا انتفت انتفى الضدان. 

فقيل له: هل هو في جهة؟ 

فقال: هو منزه عن الحلول في المحال والاتصال بالأجسام والاختصاص 
بالجهات. فإن كل ذلك صفات الأجسام وأعراضها والروح ليس بجسم ولا عرض في 
جسمء بل هو مقدس عن هذه العوارض 


فقيل له : مه الرسول وٍَ عن إفشاء هذا السر وكشف حقيقة الروح بقوله 
تعالى : «قل الرَّوِحٌ مِنْ أمرِ رَبي924©. 

فقال: لأن الافهام لا تحتمله لأن الناس قسمان عوام وخواص . أما من غلب على 
طبعه العامية فهذا لا يقبله ولا يصدقه في صفات الله تعالى فكيف يصدقه في حق الروح 
الإنسانية. ولهذا أنكرت الكرامية والحتبلية ومن كانت العامية أغلب عليه ذلك وجعلوا 
الإله جسماً إذ لم يعقلوا موجوداً إلا جسماً مشاراً إليه. ومن ترقى عن العامية قليلاً نفى 
الجسمية وما أطاق أن ينفي عوارض الجسمية فأئبت الجهة وقد ترقى عن هذه العامية 
الأشعرية والمعتزلة, فأثبتوا موجوداً لا في جهة. 

فقيل له : ولم لا يجوز كشف هذا السر مع هؤلاء؟ 

فقال: لأنهم أحالوا أن تكون هذه الصفات لغير الله تعالى. فإذا ذكرت هذا 
لبعضهم كفروك وقالوا إناك تصف نفسك بما هو صفة الإله على الخصوصء فكأنك 
تدعي الإلهية لنفسك. 


فقيل له: فلم أحالوا أن تكون هذه الصفة لله ولغير الله تعالى أيضاً؟ 

فقال : لأنهم قالوا كما يستحيل في ذوات المكان أن يجتمع اثنان في مكان واحد 
يستحيل أيضاً أن يجتمع اثنان لا في مكان. لأنه إنما استحال اجتماع جسمين في مكان 
واحد. لأنه لو اجتمعا لم يتميز أحدهما عن الآخر. فكذلك لو وجد اثنان كل واحد 
منهما ليس في مكان. فبم يحصل التمبيز والعرفان؟ ولهذا أيضاً قالوا: لا يجتمع سوادان 
في محل واحد حتى قيل المثلان يتضادان . 

فقيل : هذا إشكال قوي فما جوابه؟ 


قال: جوابه أنهم أخطأاوا حيث ظنوا أن التمييز لا يحصل بالمكان بل يحصل 
التميز بثلاثة أمور: : أحدها بالمكان كجسمين في مكانين. والثاني بالزمان كسوادين في 
جوهر واحد في زمانين» والثالث بالحد والحقيقة كالأعراض المختلفة في محل واحد 
مثل اللون والطعم والبرودة والرطوبة في جسم واحد. فإن 0 والزمان واحدى. 
ولكن هذه معان مختلفة الذوات بحدودها وحقائقهاء فيتميز اللون عن الطعم بذاته لا 


)0( سورة الإسراء : الآية 86م 


بمكان وزمان ويتميز العلم عن القدرة والارادة بذاته وإن كان الجميع شيئاً واحداً. فإذا 
تصور أعراض مختلفة الحقائق فبأن يتصور أشياء مختلفة الحقائق بذواتها في غير مكان 
أولى . 

فقيل : هنا دليل آخر على إحالة ما ذكرتموه أظهر من طالب التفرقة وهو أن هذا 
كذلك ليس فيه تشبيه لأنه ليس ذلك أخص الوصف. فكذلك البراءة عن المكان والجهة 
ليس أخص وصف الإله, بل أخص وصفه أنه قيوم أي هو قائم بذاته, وكل ما سواه قائم 
به وأنه موجود بذاته لا بغيره فكل ما سواه موجود به لا بذاته. بل ليس للأشياء من ذواتها 


إلا العدم . وإنما لها الوجود من غيرها على سبيل العارية. والوجود لله تعالى ذاتي ليس 
بمستعار, وهذه الحقيقة أعني القيومية ليست إلا لله تعالى . 


فقيل له : ذكرت معنى التسوية والنفخ والروح ولم تذكر معنى النسبة في الروجء 
وأنه لم قال من روحي ولم نسبه إلى نفسه. فإن كان لأن وجوده ' به فجميع الأشياء أيضاً 
كذلك وقد نسب البشر إلى الطين. فقال: (إني خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طين2©206. ثم 
قال : «فإذا سَويئَهُ ونََخْتَ فيه مِنْ رُوحي 2"0. وإن كان معناه أنه جزء من الله تعالى 
فاض على القلب كما يفيض المال على السائل» فيقول: أفضت عليه من مالي فهذه 
تجزئة لذات الله وقد أبطلتم هذا وذكرتم أن إفاضته ليست بمعنى انفصال جزء منه . 

فقال: هذا كقول الشمس لو نطقت وقالت أفضت على الأرض من نوري» فيكون 
صدقاً ويكون معنى النسبة أن النور الحاصل من جنس نور الشمس بوجه من الوجوه. 
وإن كان في غاية الضعف بالإضافة إلى نور الشمس., وقد عرفت أن الروح منزه عن 
الجهة والمكان وفي قوته العلم بجميع الأشياء والإطلاع عليهاء وهذه مضاهاة ومناسبة» 
فلذلك خص بالإضافة وهذه المضاهاة ليست للجسمانيات أصلا. 


.ا/١ سورة ص: الآية‎ )١( 
(؟) سورة ص: الآية 7/ا.‎ 


١7 


فقيل له: ما معنى قوله تعالى : «قلٍ الرّوحٌ مِنْ أمر ري 20 , وما معنى عالم 
الأمر وعالم الخلق؟ 

فقال: كل ما يقع عليه مساحة وتقدير وهو عالم الأجسام وعوارضها يقال إنه من 
عالم الخلق» والخلق هنا بمعنى التقدير لا بمعنى الإيجاد والإحداث. يقال: خخلق 
الشيء أي قدرة قال الشاعر: 


أي تقدرثم تقطع الاديم ومالاكمية له ولاتقدير» فيقال : إنه أمررباني وذلك للمضاهاة 
التي ذكرناها وكل ما هومن هذا الجنس من أرواح البشر وأرواح الملائكة يقال إنه من عالم 
الأمر. فعالم الأمر عبارة عن الموجودات الخارجة عن الحس والخيال والجهة والمكان 
والتحيز. وهوما لا يدخل تحت المساحة والتقدير لانتفاء الكمية عنه . 

فقيل له : أتتوهم أن الروح ليس مخلوقاً وإن كان كذلك فهوقديم؟ 

فقال: قد توهم هذا جماعة وهوجهل» بل نقول: إن الروح غير مخلوق بمعنى أنه غير 
مقدر بكمية ولا مساحة, فإنه لا ينقسم ولا يتحيز ونقول إنه مخلوق. لكنه بمعنى أنه حادث 
وليس بقديم . وبرهان حدوثه طويل ومقدماته كثيرة» ولكن الحق أن الروح البشرية حدثت 
عند استعداد النطفة للقبول كما حدثت الصورة في المرآة بحدوث الصقالة؛ وإن كانت 
الصورة سابقة الوجود على الصقالة وإيجاد هذا البرهان أنه إن كانت الأرواح موجودة قبل 
الابدان لكانت إما كثيرة أو واحدة وباطل وحدتها وكثرتها فباطل وجودهاء وإنما استحال 
وحدتها بعد التعلق بالأبدان لعلمنا ضرورة بأن ما يعلمه زيد يجوز أن يجهله عمرو. ولوكان 
الجوهر العاقل منهما واحدا لاستحال اجتماع المتضادين فيه كما يستحيل في زيد وحده» 
ونعني بالجوهر العاقل الروح ومحال كثرتها لأن الواحد محال أن لايثنى ولا ينقسم إذاكان ذا 
مقدار كالأجسام , فالجسم ينقسم فإنه ذومقدار وذو بعض فيتبعض. أماما ليس له بعض ولا 
مقدار فكيف ينقسم وأما تقدير كثرتها قبل التعلق بالبدن فمحال لأنها إما أن تكون متماثلة أو 
ممختلفة , وكل ذلك محال. وإنما استحال التماثل لأن وجود المثلين محال في الأصل. ولهذا 
يستحيل وجود سوادين في محل . وجسمين في مكان واحد لأن الاثنين يستدعي مغايرة ولا 


46 سورة الإسراء: الآية‎ )١( 


1١7 


مغايرة هنا وسوادان في محلين جائز لأن هذا يفارق ذلك في المحل إذا اختص بمحل لا 
يختص به الآخر. وكذلك يجوز محل واحدفي زمانين إذلهذا وصف ليس للآخر وهوالاقتران 
بهذا الزمان الخاص. فليس في الوجود مثلان مطلقاء بل بالإضافة كقولنا: زيد وعمروهما 
مثلان في الإنسانية والجسمية» وسواد الحبر والغراب مثلان في السوادية» ومحال تغايرهما 
لأن التغاير نوعان: أحدهما باختلاف النوع والماهية كتغاير الماء والنار وتغاير السواد 
والبياض . والثاني بالعوارض التي لاتدخل في الماهية كتغاير الماء الحارٌوالماء البارد. فإن 
كان تغاير الارواح البشرية بالنوع والماهية فمحال لأن الارواح البشرية متفقة بالحد والحقيقة 
وهي نوع واحد. وإن كانت متغايرة بالعوارض فمحال أيضاً لأن الحقيقة الواحدة إنما يتغاير 
عوارضها إذا كانت متعلقة بالاجسام منسوبة إليها بنوع ما إذ الاختلاف في أجزاء الجسم 
ضرورة ولوفي القرب من السماء والبعدعنها مثلاء أماإذالم يكن كذلك كان الاختلاف محال 
وهذا ربما يحتاجون في تحقيقه إلى مزيد تقدير لكن هذا القدر ينبهِ عليه . 

فقيل له : كيف يكون حال الأرواح بعد مفارقة الاجسام ولا تعلق لها بالاجسام فكيف 
تكثرت وتغيرت؟ 

فقال: لأنها اكتسبت بعد التعلق بالابدان أوصافاً مختلفة من العلم والجهل والصفاء 
والكدورة وحسن الاخلاق وقبحها فبقيت منها متغايرة فعقلت كثرتها بخلاف ماقبل الأجساد. 
فإنه لا سبب لتغايرها. 


فصل 


فقيل له: ما معنى قوله عليه السلام : «أن الله تعالى خلق آدم على صورته» وروي 
«على صورة الرحمن»؟ 

فقال: الصورة اسم مشترا ك قد يطلق على ترتيب الاشكال ووضع بعضها من 
بعض واختلاف تركيبها. وهي الصورة المجسوسة» وقد يطلق على ترتيب المعاني التي 
ليست محسوسة» بل للمعاني ترتيب أيضاً وتركيب وتناسب.» ويسمى ذلك صورة» 
فيقال : صورة المسألة كذا وكذاء وصورة الواقعة وصورة المسألة الحسابية والعقلية كذا» 
والمراد بالتسوية في هله الصورة هي الصورة المعنوية. والإشارة به إلى المضاهاة التي 
ذكرناها ويرجع ذلك إلى الذات والصفات والأفعال, فحقيقة ذات الروح أنه قائم بنفسه 
ليس بعرض ولا بجسم ولا جوهر متحيز ولا يحل المكان والجهة ولا هو متصل بالبدن 


1١1 


والعالم . ولا هو منفصل . ولا هوداخل في أجسام العالم والبدن. ولا هو خارج. وهذا 
كله ف تحقيقة ذات الله تعالى » وأما الصفات فقد خلق حياً عالماً قادراً عرد | !هيع 
بصيرا متكلماً. والله تعالى كذلك. وأما الأفعال فمبدأ فعل الآدمي إرادة يظهر أثرها في 
القلب أولاً فيسري منه أثر بواسطة الروح الحيواني الذي هو بخار لطيف في تجويف 
القلب. فيتصاعد منه إلى الدماغ ثم يسري منه أثر إلى الأعصاب الخارجة من الدماغ ‏ 
ومن الأعصاب إلى الأوتار والرباطات المتعلقة بالعضل. فتنجذب الأوتار فيتحرك بها 
الاصابع . ويتحرك بالأصابع القلم. وبالقلم المداد مثلاً. فيحدث منه صورة ما يريد كتبه 
على وجه القرطاس على الوجه المتصور في خزانة التخيل. فإنه ما لم يتصور في خياله 
صورة المكتوب أولاا لا يمكن إحدائه على البياض ثانياً. ومن استقرأ أفعال الله تعالى 
وكيفية إحداثه النبات والحيوان على الأرض بواسطة تحريك السموات والكواكب». 
وذلك بطاعة الملائكة له في تحريك السموات علم أن تصرف الآدمي في عالمه أعني 
بدنه يشبه تصرف الخالق في العالم الأكبر وهو مثله. وانكشف له أن نسبة شكل القلب 
إلى تصرفه نسبة العرش ونسبة الدماغ نسبة الكرسي والحواس كالملائكة الذين يطيعون 
الله طبعا ولا يستطيعون خلافاء والأعصاب والأعضاء كالسموات. والقدرة في الأصابع 
كالطبيعة المسخرة المركوزة في الأجسام, والقرطاس والقلم والمداد كالعناصر التي هي 
أمهات المركبات في قبول الجمع والتركيب والتفرقة ومرآة التخيل كاللوح المحفوظ فمن 
اطلع بالحقيقة على هذه الموازنة عرف معنى قوله عليه السلام : إن الله تعالى خلق آدم 
على صورته, ومعرفة ترتيب أفعال الله تعالى معرفة غامضة يحتاج فيها إلى تحصيل علوم 
كثيرة؛ وما ذكرناه إشارة إلى جملة منها. 

قيل له: فما معنى قوله عليه السلام : «من عرف7 نفسه فقد عرف ربه»؟ 

قال: لأن الاشياء تعرف بالأمثلة المناسبة ولولا المضاهاة المذكورة لم يقدر 
الؤنسان على الترقي من معرفة نفسه إلى معرفة الخالق, فلولا أن الله تعالى جمع في 
الآدمي ما هو مثال جملة العالم حتى كأنه نسخة مختصرة من العوالم» وكأنه رب في 
عالمه متصرف لما عرف العالم والتصرف والربوبية والعقل والقدرة والعلم وسائر 
الصفات الإلهية» فصارت النفس بمضاهاتها وموازناتها مرقاة إلى معرفة خالق النفس» 
وفي استكمال المعرفة بالمسألة التي قبل هذه ما ينكشف الغطاء عن وجه هذه المسألة. 


. ليس بحديث نبوي وهو قول صحيح‎ )١( 


١" 


فقيل له: إن كانت الأرواح حادثة مع الأجساد فما معنى قوله عليه السلام: «خلق 
لله الأرواح قبل الاجساد بألفي عام». وقوله عليه السلام : «أنا أول الأنبياء خلقاً وآخرهم 
بعثا». وقوله : «وكنت نبيا وآدم بين الماء والطين»؟ 


فقال: ليس في هذا ما يدل على قدم الروح» بل يدل على حدوثه؛ وكونه مخلوقاً 
نعم ربما دل بظاهره على تقدم وجوده على الجسد وأمر الظواهر هين, فإن تأويلها ممكن 
والبرهان القاطع لا يدرء بالظواهر بل يسلط على تأويل الظواهر. كما في ظواهر التشبيه 
في حق الله تعالى . 

أما قوله عليه السلام: «خلق الله الأرواح قبل الأجساد»ء فلعله أراد بالأرواح 
الملائكة, وبالأجساد أجساد العالم من العرش والكرسي والسموات والكواكب والهواء 
والأرض والماء. وكما أن أجساد الآدميين بجملتهم صغيرة بالإضافة إلى جرم الأرض 
وجرم الأرض أصغر من جرم الشمس بكثير. ثم لا نسبة لجرم الشمس إلى فلكها ولا 
لفلكها إلى السموات التي فوقه. ثم كل ذلك اتسع له الكرسي إذ وسع كرسيه السموات 
والأرض والكرسي صغير باللإضافة إلى العرش, فإذا تفكرت في جميع ذلك استحقرت 
أجساد الآدميين ولم تفهمها من مطلق لفظ الأجساد. فكذك فاعلم وتحقق أن أرواح 
البشر بالإضافة إلى أرواح الملائكة كأجسادهم بالإضافة إلى أجساد العالم» ولو انفتح 
لك باب معرفة الأرواح لرأيت الأرواح البشرية بالإضافة إلى أرواح الملائكة كسراج 
اقتبست من نار عظيم طبق العالم. وتلك النار العظيمة هي أرواح الملائكة. ولأرواح 
الملائكة ترتيب وكل واحد منفرد برتبة» ولا يجتمع في مرتبة واحدة اثنان بخلاف الأرواح 
البشرية المتكثرة ة مع اتحاد النوع والرتبة. أما الملائكة. 'فكل واحد نوع برأسه هو كل 
ذلك “التوع وإليه الإشارة بقوله تعالى: «وما ما إل لَهُ مَقَامْ مَعْلوم وَإِنا لحن 
الصَّافُونَ 274 . 


وبقوله عليه السلام : الراكم منهم لا يسجد والقائم لا يركم. وإنه ما من واحد 


منهم إلا له مقام معلوم. فلا يفهم إذاً من الارواح والاجساد المطلقة إلا أرواح الملائكة 
وأجساد العالم . 


وأما قوله عليه السلام: «أنا أول الأنبياء خلقاً وآخرهم بعثا». فالخلق هنا هو 
)١(‏ سورة الصافات : الآيتان ١١4‏ و6١١.‏ 


احردل 


التقدير دون الايجاد, فإنه قبل أن ولدته أمه لم يكن موجوداً مخلوقاً. ولكن الغايات 
والكمالات سابقة في التقدير لاحقة في الوجود. وهو معنى قولهم: أول الفكر آخر 
العمل . بيانه أن المهندس المقدر للدار أول ما يمثل في نفسه صورة الدارء فيحصل في 
تقديره دار كاملة وآخر ما يوجد من أثر أعماله هي الدار الكاملة وهي أول الأشياء في 
حقه تقديراً وآخرها وجوداً. لآن ما قبلها من ضرب اللبن وبناء الحيطان وتركيب الجذوع 
وسيلة إلى غاية وكمال وهي الدارء ولأجلها تقدمت الآلات والاعمال, فإذا عرفت هذا 
فاعلم أن مقصود فطرة الآدمبين إدراكهم بسعادة القرب من الحضرة الإلهية. ولم يكن 
ذلك إلا بتعريف الأنبياء وكانت النبوة مقصودة بالايجاد. والمقصود كمالها وغايتها لا 
أولهاء وإنما تكمل بحسب سنة الله تعالى بالتدريج كما تكمل عمارة الدار بالتدريج 
لتمهد أصل النبوة بآدم عليه السلام» ولم يزل ينموويكمل حتى بلغ الكمال بمحمد عليه 
السلام م وكان المقصود كمال النبوة وغايتها وتمهيد أوائلها وسيلة إليها كتأسيس البنيان 
وتمهيد اصول الحيطان, فإنه وسيلة إلى كمال صورة الدار ولهذا السر كان خاتم النبيين 
فإن الزيادة على الكمال نقصان وكمال شكل الآلة الباطشة كف عليه خمس أصابع. 
فكما أن ذا الاصابع الاربعة ناقص فذو الاصابع الستة ناقص. لأن السادسة زيادة على 
الكفاية فهو نقصان في الحقيقة. وإن كانت زيادة في الصورة, وإليه الاشارة بقوله عليه 
السلام : مثل النبوة كمثل دار معمورة لم يبق فيها إلا موضع لبنة. فكنت أنا موضع تلك 
اللبنة أو لفنظ هذا معناى فاذا عرفت أن كونه خاتم النبيين ضرورة لا يتصور خلافه إذا بلغ 
به الغاية والكمال. والغاية أول في التقدير آخر في الوجود. 


وأما قوله عليه السلام : دكنت نبياً وآدم بين الماء والطين» . فهو أيضاً إشارة إلى ما 
ذكرناه وأنه كان نبيا في التقدير قبل تمام خلقه آدم عليه السلام: لأنه لم ينشأ خلق آدم 
إلا لينتزع الصافي من ذريته» ولا يزال يستصفى تدريجاً إلى أن بلغ كمال الصفاء. فقيل 
الروح القدسي النبوي المحمدي ولا تفهم هذه الحقيقة إلا بأن تعلم إن للدار مثلا 
وجودين وجود في ذهن المهندس ودماغه حتى كأنه ينظر إلى صورة الدارء ووجودها 
خارج الذهن في الأعيان. والوجود الذهني سيب الوجود الخارجي العيني فهو سابق لا 
محالة فكذلك فاعلم أن الله تعالى يقدر أولاً ثم يوجد على وفق التقدير ثانياً وإنما 
التقدير يرسم في اللوح المحفوظ كما يرسم تقدير المهندس اول في اللوح أو في 
القرطاس. فتصير الدار موجودة بكمال صورتها نوعا من الوجود. فيكون هو سببا للوجود 


1١ 7/ 


الحقيقي. وكما أن هذه الصورة ترسم في لوح المهندس بواسطة القلم والقلم يجري 
على وفق العلم بل العلم مجريه. فكذلك تقدير صورة الأمور الإلهية ترسم أولاً في 
اللوح المحفوظ. وإنما ينتقش اللوح المحفوظ من القلم والقلم يجري على وفنى العلم. 
واللوح عبارة عن موجود قابل لنقش الصورة فيه. والقلم عبارة عن موجود منه تفيض 
الصور على اللوح المنتقش. فإن حد القلم هو الناقش لصورء وليس من شرطهما أن 
.يكون قصباً أو خشباً المعلومات في اللوح واللوح هو المنتقش بتلك الصورء بل من 
شرطهما أن لا يكونا جسمين فالجسمية لا تدخل في حد القلمية واللوحية هو ما ذكرنا 
والزائد عليه صورته لا معناه. فلا يبعد أن يكون قلم الله تعالى ولوحه لاثقا بإصبعه ويدهء 
وكل ذلك على ما يليق بذاته وإلهيته فتقدس عن حقيقة الجسمية. بل جملتها جواهر 
روحانية عالية بعضها معلم كالقلم؛ وبعضها متعلم كاللوح. فإن الله تعالى علم بالقلم» 
فإذا فهمت نوعي الوجود فقد كان نبيا قبل آدم عليه السلام بمعنى الوجود الأول التقديري 
دون الوجود الثاني الحسي والعيني» والحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على 
نتيك المرسلين وآله وضتسيه اجمعين آقين : 


١18 


فهرس مجموعة رسائل الغزالي (4) 


لخر 


الرسالة الأولى 
مشكة الأنوار 


مشكاة الأنوار وبها بيان سبب التأليف للإمام الغزالي 


الفصل الأول: في بيان أن النور الحق هو الله تعالى 0 


دقيقة في أن النور عنده الإدراك 
حقيقة في أن نور البصر موسوم بأنواع النقصان 
حقيقة في أن المبصرات ليست عند العقول كلها في مرتبة واحدة 


دقيقة ترجع إلى حقيقة النور ا ع ا دجو او ا 


دقيقة عن نور الأبصار والنار 


دقيقة في أن الأنوار لا تتسلسل ل 


اسم النور على غير النور الأول مجاز محض كس ترم سسا م تنا 
حقيقة في أنه لا ظلمة أشد من ظلمة العدم ا ا ام ل ل 


إشارة إلى أن العارفين لم يروا في الوجود إلا الواحد الحق 


خاتمة في وجه إضافة نور إلى السموات والأرض 1 11111 
مساعدة في معنى كونه نور السموات والأرض اا عاق اطي اوتعيه أن ال الوا 


الفصل الثاني : في بيان مثال المشكاة والمصباح إلخ 
القطب الأول في بيان سر التمثيل ومنهاجه 


القطب الثاني في بيان مراتب الأرواح البشرية النورانية الم جع ا 
القول في موازنة هذه الأرواح الخمسة للمشكاة إلخ 0007 
خاتمة ا ااا 110000007 


الفصل الثالث: في معنى قوله 6 : «إن لله سبعين حجابأه . . . . . . . . 52000000000 


القسم الأول : هم المحجوبون بمحض الظلمة 

القسم الثاني : في بيان طائفة حجبوا بنور مقرون بظلمة 

الصنف الأول : المحجوبون بالظلمة الحسية 

الصنف الثاني : المحجويون ببعض الأنوار 

الصنف الثالث: هم المحجوبون بمحض الأنواروهم أصناف وببيانهم تمام الرسالة 


الرسالة الثانية 
رسالة الطير 
ذكر العنقاء مالم ف عا ف ستو او ار ا و طايه اباو اماه وااو لكا ا او قل 
الرسالة الثالثة 
الرسالة الوعظية 
توجيه من يريد الوعظ كدو اوج انمض او لكام لاه الو لمق اك باوكا الال أن الامزود ما او ل او 31 
وعظ النفس قلي ع فحن 0 ملع ولع رع حي و رار ول أ افج عا ريل ف قا مل او بابو اه ل 1 
حكم بالغة ال ةج اامسال مطيا0 اام وا ا ا ل 51 
أقل مايجب اعتقاده على المكلف 
منع الكلام للعوام ول بويا رفي ع الاحجع نيك عسو انحا توا تنم انوكي مروت قر حون وو ل جف 201 
الرسالة الرابعة 
إلجام العوام عن غلم الكلام 
شرح اعتقاد السلف في الأخبار الموهمة للتشبيه وأقاعاعاة ودافاةد قا هاة ه.ا قد هالا .ا .امام من 


الباب الأول: الوظائف الواجبة على العوام 
الوظيفة الأولى : التقديس 


ضرنا 


يذنا 
يذنا 
يكنا 
خا 
4 
4 


4١ 


يف 
يف 


الوظيفة الثانية : الإيمان 
الوظيفة الثالثة : الاعتراف بالعجر 
الوظيفة الرابعة : السكوت عن السؤال 


الوظيفة الخامسة : الإمساك عن التصرف في ألفاظ واردة ل 


التفسير 
التاويل 
الذي يحصل به القطع بصحة التأويل 


الذي يجب الإمساك عنه القياس والتفريغ مأخا ون الور من واو 


لا يجمع بين متفرق اا ا 00 
الوظيفة السادسة: في الكف بعد الإمساك 0 


الدليل على معرفة الخالق 


الدليل على الوحدانية ا دحم كه ا وج 
الاستدلال على صدق الرسول 0-8 0000 0 


الاستدلال على اليوم الآخر 

أدلة القرآن مثل الغذاء 

مسلك النبي وأصحابه: مسلك المتكلمين في المحاجة 
الوظيفة السابعة: التسليم لاهل المعرفة 


الباب الثاني : الح هو مذهب السلف ا 1000 


افتراق الأمة المحمدية إلى نيف وسبعين فرقة 

الدليل على أن الحق هو مذهب السلف 

ذم البدعة 

الباب الثالث: في فصول متفرقة وأبواب نافعة في هذا الفن 
جواب مالك رضي الله عنه في الاستواء 

قولهم إن الايمان قديم 


العامي والبحث 6 ا ا ا ا ا 00 


الاعتقاد الجازم سعادة 


الرسالة الخامسة 
المضنون به على غير أهله 


خطبة الرسالة 

الركن الأول: في علم الربوبية تحور ا د و ال ا 
فصل في تعليقات على آيات كريمة 00001 اا 00 
فصل في أن الرزق مقدر مضمون 

فصل فيمن لا يعرف حقيقة الرؤيا 

فصل في الكلام على الفرق بين الواحد والأحد ومعنى الصمد 

فصل في كلام حول الصفات 

فصل في أن تكليف الله تعالى لا يضاهي تكليف الإنسان عبده . . الخ 

فصل فيما إذا عرف الإنسان أنه حادث وأن الحادث 


لا يستغني عن محدث يذ لو ع ا لماعو اند الأو الع ا لطن مر 0 
فصل في أن كل ما يتوالد لا يستحيل أن يتولد أصلا 
فصل في المبدعات مال ا و عو خأ رار فح جل ا لماج ورا أله لبا مر تيا 


الركن الثاني : في معرفة الملائكة 


فصل وفوع مزاج قريب من مزاج آخر غير مستحيل 

الركن الثالث : المعجزات وأحوال الأنبياء تو ع م م و ال م 
فصل فى الشفاعة 

الركن الرابع : في أحوال ما بعد الموت كركف نح ا ا و 
فصل في عذاب القبر 


فصل في من مات فقد قامت قيامته 

فصل في عود النفس إلى البدن في القيامة 

فصل : بالموت ينكشف الغطاء 

فصل في الحساب 

فصل في الصراط 

فصل في اللذات المحسوسة الموجودة في الجنان 
فصل في زيارة مشاهد الأنبياء والائمة 


1 


٠6 
6١ 
6 
غ6‎ 
1١6 
١6١6 
الال‎ 
ا‎ 
6 
حل‎ 
١٠١ 
1١1١ 
1١1 


الرسالة السادسة 
الأجوبة الغزالية في المسائل الأخروية 


المضنون الصغير 

بيان التسوية ونفخ الروح م ا لوم ا م 
وجه تعلق الروح بالبدن كط عا نبا جه الجا ان د و 1 2 مالسو ا ورف لل اك ا 
منع الرسول إفشاء حقيقة الروح 

خلق الله تعالى الأر واح قبل الأجساد بألفي عام 

معنى قوله يك : «كنت نبيا وآدم بين الماء والطين» لي ال شو م 1 
حد القلم وحد اللوح 


1 


لامكا م جتنت الإمل كار 
ع و هع ب« 2 وتاريس د * آ# ا 9 


سير 


للم | بر ل ةا 5 

ضرع ايان وا مارك رو وضع واي 

4 ث2 2ه 20 الع 

ريت ددردن 
مره 


بجدَايَنٌ الهحد اين ٠‏ كحمياء الستسّكادة 


«الآأدت ف الِدَيت والقوّاعتدالعحشة 


هرا 


ه ١|‏ 2 ده الل مدر .2 
١ 2‏ له الجعبر - 


بسم الله الر حمن الرحيم 


تفديم 


الحمد لله رب العالمين. والصلاة والسلام على خير خلق الله محمد وعلى آله 
الطيبين الطاهرين » وأصحابه الكرام المنتجبين. 

أما بعد . 

فهذه حمس رسائل للإمام الغزالي نضعها بين يدي القارى الكريم في جموع 
واحد. وسيصدر هذا الكتاب. إن شاء الله ضمن سلسلة رسائل الغزالي التى 
تنشرها دار الكتب العلمية تباعاً . 

ونقدم فيا يل عرضاً موجزاً قدر الإمكان لمحتوى هذه الرسائل الخمس»ء 
وهى: بدايةالهداية, والأدب في الدين. وكيمياء السعادة. والقواعد العشرة. 
والكشف والتبيين في غرور الخلق أجمعين. 

١‏ - بداية الحداية 

إلى الحصول عليه 7 ؛ فيبين أن طالب العم إما أن قصده بطلب العام المنافسة 
والمماهاة والتقدم على الأقران واستالة وجوه الناس وجمع حطام الدنيا.» فهو ف 
هذه الحالة ساع إلى هدم دينه وإهلاك نفسه وبيع آخرته بدنياه؛ أو أن نيته 
وقصده من طلب العام هو الهداية دون مجرد الرواية. ولكن المداية التي هي ثمرة 


. ١7ص انظر‎ )١( 


العام لها بداية ونهاية وظاهر وباطن. ولا وصول إلى نبايتها إلا بعد إحكام 
بدايتها. ولا عثور على باطنها إلا بعد الوقوف على ظاهرها. لذلك يتصدى 
الغزالي للكشف عن بداية الهداية, فيقول: « وها أنا مشير عليك ببداية الحداية 
لتجرب بها نفسك وتمتحن بها قلبك . فإن صادفت قلبك إليها مائلاً ونفسك بها 
مطاوعة وها قابلة. فدونك التطلع إلى النهايات والتغلغل في بجار العلوم . وإن 
صادفت قلبك عند مواجهتك إياها بها مسوقا وبالعمل بمقتضاها مماطلا . فاعلم 
أن نفسك امائلة إلى طلب العام هي النفس الأمارة بالسوء . وقد انتهضت مطيعة 
للشيطان اللعين ليدليك بحبل غروره فيستدرجك بمكيدته إلى غمرة الحلاك 27 . 

ثم يبين الإمام أن بداية الهداية ظاهرة التقوى., ونهايتها باطنة التقوى. أما 
التقوى فهي عبارة عن امتثال أوامر الله تعالى واجتناب نواهيهء فهما قسمان؛ 
فيشير بجمل ونصائح مختصرة من ظاهر عم التقوى في القسمين جميعاً» ثم يلحق 
بها قسماً ثالثاً في آداب الصحبة «١‏ ليصير هذا الكتاب جامعاً مغنياً» على حد 


تعسرة9), 


القسم الأول: وهو في الطاعات . 

يشير أبو حامد إلى أن أوامر الله تعالى فرائض ونوافل, فالفرض رأس المال 
وهو أصل التجارة وبه تحصل النجاة, والنفل هو الربح وبه الفوز بالدرجات 9 . 
ثم يبين الآداب المتعلقة بهذا القسم. فيقدم نصائحه وإرشاداته في آداب 
الاستيقاظ من النوم. واداب دخول الخلاء » واداب الوضوء . واداب الغسل, 
واداب التيمم , واداب الخروج إلى المسجد. واداب دخول المسجد . واداب ما 
بين طلوع الشمس إلى الزوال. واداب الاستعداد للصلوات. واداب النوم , 
وآداب الصلاة. وآدب الإمامة والقدوة, وآداب الجمعة, وآداب الصيام 0) . 


."١ انظر ص 18. (؟) انظر ص‎ )١( 
.88 انظر من ص 56 إلى ص‎ )4( .7١ (؟) انظر ص‎ 


القسم الثاني: وهو في اجتناب المعاصي . 

يقول الغزالي : « اعلم أن الدين شطران: أحدههما ترك المناهي, والآخر فعل 
الطاعات. وترك المناهى هو الأشد , فإن الطاعات يقدر عليها كل أحد. وترك 
الشهوات لا يقدر علنه إل الصديقون 200 , 

والعاصي إنما يعصى الله بجوارحه وأعضائه ؛ فعلى المسام الذي يتطلع إلى رضى 
الله تعاى ‏ ويأمل بنيل درجاته في جناته, عليه أن يحفظ جميع بدنه من المعاصي . 
وخصوصاً الأعضاء السبعة. وهى : العين, والأذن, واللسان, والبطن, والفرجء 
واليد , والرجل . فيبين الغزالي الوسائل التي تحفظ كل عضو من هذه الأعضاء عن 
المعاصي المتعلقة بها 9 . ْ 

هذا عن معاصي الجوارح والأعضاء. أما معاصي القلب 9 فهي كثيرة 
وطريق تطهير القلب من رذائلها طويلة. وسبيل العلاج فيها غامض. ويشير أبو 
حامد إلى أنه استقصى ذلك كله في كتاب إحياء علوم الدين في ربع المنجيات . 
ولكنه يحذر هنا من ثلاث من خبائث القلب . هى الغالبة على متفقهة العصر (:2, 
وهى الحسد. والرياء والعجب. فيبين أصول 0 المهلكات. ويصف دواءها 
وعلاعها قمر سن هيع هذى اباتك هريدي الدتنا: لمن اخ من الناها در 
الرورة ليستعين بها على الآخرة فالدنيا مزرعته. ومن أراد الدنيا ليتنعم بها 
فالدنيا مهلكته © , 

في القسمين السابقين وضع الغزاللي مباديء بداية الهداية» وهي ظاهر عم 
التقوى. أما من يريد الوصول إلى باطن التقوى., فيشير المصنف27 أن عليه 
الرجوع إلى كتاب إحياء علوم الدين , ففيه الكفاية فيا يتعلق بهذا الموضوع. 


.7١ انظطر ص 66., (؛) الظر ص‎ )١( 


(؟) انظر من ص ٠١‏ إلى ص 59 (6) انظر ص7 . 
(؟) انظر من ص59 إلى ص /ال. (1) انظر ص /7. 


ويختم الغزالي كتابه بجمل من الآداب « لتؤاخذ نفسك بها في مخالطتك مع 
عباد الله تعالى وصحبتك معهم في الدنيا »27 وهو : 

القسم الثالث: في آداب الصحبة. 

حيث يذكر جملة من آداب الصحبة مع الله تعالى. وأداب العالم مع المتعام» 
والمتعام مع العالم. وآداب الولد مع الوالدين. وآداب معاملة الناس, وهم ثلاثة 
أصناف (): إما أصدقاء . وإما معارف. وإما مجاهيل. فيذكر ما يترتب عليك 
في معاملة كل صنف منهم. وشروط صحبتهم ومجالستهم. واجتنابهم حين تدعو 
الحاجة . 

٠‏ الأدب في الدين 


الرسالة الثانية التي ضمها هذا المجموع هي «الأدب في الدين» يذكر فيها 
الغزالمي جملاً من الآداب التي أدبنا بها الله تعالى في القرآن بما أرانا فيه من البيان» 
لنتخلق بأخلاق النبيين والمرسلين, والصحابة والتابعين» ومن بعدهم من أهل 
الأدب من المؤمنين. بما أوجب علينا من الاقتداء بهم. وهو يذكر بعض هذه 
الآداب بشكل مختصر ١‏ لكلا يطول شرحه فيعسر فهمه ؛ على حد تعبيره!" . 


" - كيمياء السعادة 


كيمياء السعادة هي تهذيب النفس باجتناب الرذائل وتزكيتها عنهاء 
واكتساب الفضائل وتحليتها بها. وهذه الكيمياء ‏ كما يقول الغزالي - لا تكون 
إلا في خزائن الله سبحانه وتعالى . وطلبها لا يكون إلا من حضرة النبوة؛ ومن 
طلبها من غير ذلك فقد أخطأ الطريق 9 . 


)١(‏ انظر ص 7 . (؟) انظر ص 6ه. 
(؟) انظر ص .8١‏ (4) انظر ص 7؟١.‏ 


هذه هي الطريقة الصوفية التي اتبعها الغزاللي» فهو يطلب صفات الكمال ‏ أو 
كيمياء السعادة هذه من بنارقها الأصلية من القرآن والسنة. أما أخذ هذه 
الكيمياء عن بعض كبار الشيوخ والعارفين فهو أخذ غير مأمون العواقب, لما قد 
يعتري هؤلاء العارفين من عوارض دنيوية من من على المريد أو غضب عليه. مما 
قد يؤدي إلى تعثر الطريق أمام السالك . أما الأخذ عن النبي المعصوم يَلِنْمْ وهو 
بالمؤمنين رؤوف رحيمء فهو الطريق الأسام والفمان الأثبت لبلوغ المرام . 

يبين الغزالي أن سر هذه الكيمياء هو الرجوع إلى الله تعالى. فيفرد فصلاً من 
كتابه في معرفة النفس (؛ لأن مفتاح معرفة الله تعالى هو معرفة النفس كما قال 
سبحانه #سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق 6 220 
رقال النبي نه  :‏ من عرف نفسه فقد عرف ربه». 

وقد يظن أحدنا أنه يعرف نفسه. والواقع أنه يعرف الجسم الظاهر الذي هو 
اليد والرجل والرأس والجثة. ولا يعرف باطنه « فالواجب عليك أن تعرف 
نفسك بالحقيقة حتى تدري أي شىء أنتء ومن أين جئت إلى هذا المكان, 
ولأي شيء خلقت . وبأي شيء سعادتك . وبأي شيء شقاؤك,9 , 

وإذا شئت أن تعرف نفسك - يقول الغزالي ‏ فاعم أنك من شيئين: الأول 
هو القلب. والثاني يسمى النفس والروح 27. وليس القلب هذه القطعة اللحمية 
التى في الصدر من الجانب الأيسر . لأنه يكون في الدواب والموتى 22 . أما حقيقة 
القلب فليس من هذا العالم» لكنه من عالم الغيب» فهو في هذا العالم غريب 9" . 
أما سؤالك عن حقيقة القلب فم يجىء في الشريعة أكثر من قوله تعالى: 
9 ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر رلي © 29 . 


.١56 انظر ص 4؟١. (4) انظر ص‎ )١( 


(؟) سورة فصلت. الآية: 08 . (6) سورة الاسراء, الآية: 6م . 
(*) انظر ص .١1714‏ 


والقلب عند الغزاي كبا لاحظنا يعادل الروح» وهو يشير إلى ذلك بوضوح 
في مكان آخر حيث يقول: « فالروح الذي سميناه قلباً. . .الخ 27. 

ويبين الغزالي صفات هذا القلب أو الروح؛ فالقلب ليس له مساحة ولا 
مقدار . وهذا لا يقبل القسمة( « وقد ظن بعضهم أن الروح قدي فغلطوا . وقال 
قوم إنه عرض فغلطوا »7 « وقال قوم إنه جسم فغلطوا ». فالروح ليس بجسم 
ولا عرض بل هو من جنس الملائكة ) . 

« ومعرفة الروح صعبة جداً, لأنه لم يرد في الدين طريق إلى معرفته, لأنه لا 
حاجة في الدين إلى معرفته. لأن الدين هو المجاهدة والمعرفة علامة الحداية كها 
قال سبحانه وتعالى: «#والذين جاهدوا فيا لنهدينهم سبلنا 29 ومن لم يجتهد 
حق اجتهاده لم يحز أن يتحدث معه في معرفة حقيقة الروح. وأول سن 
المجاهدة أن تعرف عسكر القلب, لأن الإنسان إذا لم يعرف العسكر لم يصح له 
الجهاد ,() , 

ثم يفرد الغزالي فصلاً في معرفة القلب وعسكره". فيشبه النفس بالمدينةء 
والقلب ملك هذه المدينة, والعقل وزيرهاء والقوة الشهوانية واليها. والقوة 
الغضبية شحنتها , « فيجب أن يشاور الملك الوزير, ويجعل الواللي والشحنة تحت 
يد الوزير. فإذا فعل ذلك استقرت أحوال المملكة وتعمرت المدينة. وكذلك 
القلب يشاور العقل ويجعل الشهوة والغضب تحت حكمه حتى تستقر أحوال النفس 
ويصل إلى سبب السعادة من معرفة الحضرة الالهية » (66. 

ويستطرد الغزالي في الكلام على قوى النفس المختلفة وبيان مراتبها 


)١(‏ انظر ص 5؟١,‏ (6) سورة العنكبوت. الآية : و5, 
(؟) انظر ص 5؟١.‏ (5) انظر ص .3١١9‏ 
(*) انظر ص .١55‏ (/ا) انظر ص 9؟١.‏ 
(4) الظر ص 95. (4) انظر ص 9؟١1.‏ 


ووظائفها 9" . ثم يشير إلى أن تمام السعادة مبني على التوسط في القوى الثلاث: قوة 
الغضب , وقوة الشهوةء وقوة العام0). ويبين أمر الأخلاق الحسنة والأخلاق 
السيئة. فيجعلها كلها أربعة أجناس : أخلاق الشياطين, وأخلاق البهائم. 
وأخلاق السباعء وأخلاق الملائكة 9 . ثم يفصل أمر كل واحد منها وموقعها من 
قوى النفس المختلفة . 

وفي فصل «في عجائب القلب 2 يقول الغزالي: «اعام أن للقلب بابين 
للعلوم : واحد للأحلام , والثاني لعالم اليقظة » ففي الأحلام ينكشف للنائم غيب 
من عالم الملكوت بعد أن يغلق باب الحواس ويفتح له باب الباطن ©. وهذه 
الطاقة إلى عالم الملكوت لا تنفتح بالنوم والموت فقطء بل تنفتح باليقظة لمن 
أخلص الجهاد والرياضة. وتخلص من يد الشهوة والغضب والأخلاق القبيحة 
والأعبال الرديئة 29 ؛ وهذا يحصل بالذكر الدائم لاسم الله العظيم بقوله ١‏ الله الله 
الله » بقلبه دون لسانه » إلى أن يصير لا خبر معه من نفسه ولا من العالم. ويبقى 
لا يرى شيئا إلا الله سبحانه وتعالى 20. وعلوم الأنبياء كلها من هذا الطريق لا 
من طريق الحواس. وهذا هو طريق الصوفية والأولياء أيضاً. وهو التعلم بلا 
واسطة..مباشرة من حضرة الحق كما قال سبحانه وتعالى #آنيناه رحمة من عندنا 
وعلمناه من لدنًا علا © 7). وهذه الطريقة لا تفهم إلا بالتجربة» وإن لم تحصل 
بالذوق لم تحصل بالتعلم 0 . 

ولكن الغزالي يستدرك قائلاً إن هذا ليس خاصاً بالأنبياء والأولياء 0 بل 
هو في متناول كل من أخلص نفسه لله. فكل من زرع حصد ومن مشى وصل 


. 16 وما بعدها. (6) انظر ص‎ ١١9 انظر ص‎ )١( 
.1١5 انظر ص‎ )1( ,1١7٠١ (؟) انظر ص‎ 
. 56 سورة الكهف. الآية:‎ )0( .1١"١ (؟) انظر ص‎ 
.1١78 انظر ص 1"6. (4) انظر ص‎ )4( 


ومن طلب وجد . والطلب لا يحصل إلا بالمجاهدة. وهذان الشرطان: الالإخلاص 
والمجاهدة, هما الكفيلان ببلوغ هذه الدرجة التي تؤدي إلى السعادة الأبدية. 

واللذة والسعادة القصوى التي يمكن أن يبلغها كل من يسعى في المجاهدة هي 
معرفة الله سبحانه وتعالى, لأن سعادة كل شيء ولذته تكون بمقتضى طبعه. 
لأنه مخلوق لا 9 , 


+ - القواعد العشرة 


يبين الغزاللي في هذه الرسالة القواعد التي ينبغي أن يلتزمها كل سالك في 
طريق التصوف؛ وهى عشر قواعد عملية بنى عليها طريقته في التصوف العالي 
حتى وصل إلى القمة في هذا الشأن. 

ولن نطيل في الكلام على هذه القواعد في هذه المقدمة. لأن تلخيصها لن 
يغني عن قراءتها بتمعن. فهي كما أوردها الغزالي بالأصل موجزة مركزة 
واضحة. وضعها ليكون لها صفة «الدستور » الذي لا يستغني عن قراءته كل 
راغب في الدخول إلى مملكة التصوف الغزاليّ الفريد من نوعه. 

ه الكشف والتبيين في غرور الخلق أجمعين 

يمكننا أن نتبين مضمون هذه الرسالة من عنوانها. فبعد أن يقسم الغزالي 
الخلق إلى قسمين: حيوان وغير حيوان, والحيوان إلى مكلف وغير مكلف. 
والمكلف إلى مؤمن وكافر. والموّمن إلى طائع وعاص » وكل واحد من الطائعين 
والعاصين ينقسم إلى قسمين: عالم وجاهل ؛ يقول: «ثم رأيت الغرور لازماً لجميع 
المكلفين والمؤمنين والكافرين إلا من عصمه الله رب العالمين. وأنا إن شاء الله 


. ١9 انظر ص‎ )١( 


تعالى أكشف عن غرورهم. وأبين الحجة فيه. وأوضحه غاية الايضاح. وأبينه 
غاية البيان. بأوجز ما يكون من العبارة وأبدع ما يكون من الاشارة 297 . 

يبدأ الغزاليي بكشف غرور الكفار. فيجعلهم قسمين: منهم من غرته الحياة 
الدنيا. ومنهم من غره بالله الغرور. وبعد أن يبسط أقيستهم الفاسدة وبهفتهاء 
ويبين علاج غرورهم (. ينتقل إلى كشف غرور العصاة من المؤمنين © . وغرور 
طوائف أخرى لهم طاعات ومعاصي إلا أن معاصيهم أكثر 9 . 

ثم يتصدى الغزالي للكشف عن أصناف المغرورين من المؤمنين» فيجعلهم 
أربعة: صنف من العلماء؛ وصنف من العبادء وصئف من أرباب الأموال» 
وصنف من المتصوفة . 

أما المغرورون من العلماء ' فهم فرق: فمنهم فرقة أحكمت العلوم الشرعية 
والعقلية وتعمقوا فيهاء فاغتروا بعلمهم. وظنوا أنهم عند الله بمكان. وأنهم بلغوا 
من العام مبلغاً لا يعذب الله مثلهم. فتركوا العمل. ونسوا قوله عله « إن أشد 
الناس عذاباً يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه» . 

وفرقة أخرى أحكموا العم والعمل الظاهر. وتركوا المعاصي الظاهرة» 
وغفلوا عن قلوبهم فام يمحوا منها الصفات المذمومة عند الله كالكبر والرياء 
والحسد وطلب الرئاسة والعلوَّ وإرادة السوء بالأقران والشركاء وطلب الشهرة في 
البلاد والعباد. وغفلوا عن قوله عََِةٍ « الرياء الشرك الأصغر» . 

وفرقة أخرى علموا أن هذه الأخلاق مذمومة من جهة إلا أنهم لأجل 
تعجبهم بأنفسهم يظئون أنهم منفكون عنها . وأنهم أرفع عند الله من أن يبتليهم 
بذلك. فظهرت عليهم مخايل الكبر والرياسة وطلب العلو والشرف. وغرورهم 


.١517 النظر ص 1619. (؛) انظر ص‎ )١( 
.١517 انظر ص‎ )6( .1١67 (؟) الظر ص‎ 
.١5٠9 (؟) انظر ص‎ 


1١١ 


أهم ظنوا أن ذلك ليس بكبر وإنما هو عز للدين وإظهار لشرف العام ونصرة 
دين الله . 

وفرقة أخرى تخلصوا من كل مظاهر هذه الأخلاق السيئة. وجاهدوا 
أنفسهم في التبري::منهاء..ولكن :بقيت» في زوايا 'قلوبهح بقايا من خفايا. مكائد 
الشيطان وخبايا خدع النفس ما دق وغمض . فم يتفطنوا لما وأهملوها. 

وفرق منهم اقتصروا على عام واحد من العلوم وتركوا غيره اعتقاداً منهم أن 
هذا هو العلم الأوحد والأهم. فاستغرقوا أوقاتهم في تحصيله والتعمق فيه 
واستصغروا غيرهم من العلماء في المجالات الأخرى . 

أما الصنف الثاني من المغرورين» فهم أصحاب العبادات والأعمال 9 . 
والمغرورون منهم فرق كثيرة: منهم من غروره في الصلاة. ومنهم من غروره في 
تلاوة القران. ومنهم من غروره في الحج, ومنهم من غروره في الجهاد. ومنهم 
من غروره في الزهد . 

ومنهم فرقة أهملوا الفرائض واشتغلوا بالنوافل. وفرقة منهم غلبت عليهم 
الوسومة في نية الصلاة. وفرقة غلبت عليهم الوسوسة في إخراج حروف الفاتحة 
من مخارجهاء وكذلك سائر الأذكار. وفرقة منهم اغتروا بتلاوة القرآن. وفرقة 
اغتروا بالصوم . وأخرى اغتردت بالحج. وفرقة أخرى أخذت ف طريق الخشية 
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وينكر أحدهم على الناس ويأمرهم بالخير 
وينسى نفسه. وفرقة أخرى زهدت ف المال وقنعت من الطعام واللباس بالدون 
ومن المسكن بالمساجد , وظنوا أنهم أدركوا رتبة الزهاد. وهم مع ذلك راغبون 
في الرياسة والجاه. 

والصنف الثالث من المغرورين, هم أرباب الأموال7. وهم أيضاً فرق 


.١97 انظر ص‎ )١( 
.١197 (؟) انظر ص‎ 


كثيرة؛ ففرقة منهم يحرصون على بناء المساجد والمدارس والرباطات». ويكتبون 
أسماءهم بالآجر عليها ليتخلد ذكرهم ويبقى بعد الموت أثرهم. وهم مغرورون 
من وجهين: أحدها أنهم اكتسبوا أموالهم من الظام والشبهات والرشا والجامات 
المحظورة. والثاني أنهم لا يفعلون ذلك إلا رغبة في مدح الناس هم والثناء 
عليهم . 

وفرقةأخرى ربما اكتسبوا المال الحلال واجتنيوا الحرام وأنفقوه على 
المساجد ؛ وهم أيضاً مغرورون من وجهين: أحدههما الرياء وطلب السمعة, والثاني 
أنه يصر ف في زخرفة المساجد وتزيينها بالنقوش المنهي عنها الشاغلة قلوب المصلين . 

وفرقة أخرى ينفقون الأموال في الصدقات على الفقراء والمساكين, ويطلبون 
به المحافل الجامعة. ويكرهون التصدق في السر . رغبة منهم في إفشاء معروفهم 
بين الناس . 

وفرقة من أرباب الأموال يمسكون أموالهم بخلاً , ويشتغلون بالعبادة البدنية 
التي لا يحتاجون فيها إلى نفقة. كصيام النهار وقيام الليل وخم القران. 

وفرقة أخرى غلب عليها البخل فلا تسمح نفوسهم إلا بأداء الزكاة فقط؛ عم 
إنهم يخرجونها من المال الخبيث الرديء الذي يرغبون عنه. 

وفرقة أخرى من عوام الخلق وأرباب الأموال والفقراء اغتروا بحضور 
حالس الذكر واعتقدوا أن ذلك يغنيهم ويكفيهم. فاتخذوا ذلك عادة. ويظنون 
أن لهم أجرا على يجرد سماع الوعظ دون العمل ودون الاتعاظ . 

أما الصنف الرابع من المغرورين .فهم المتصوفة 0" ؛ وغرور هؤلاء أشد من 
غرور من سبقهم من الأصناف . اغتروا بالزي والمنطق واطيئة» فشابهوا الصادقين 
من الصوفية بمظاهرهم وأهملوا بواطنهم. 


.١م6١ انظر ص‎ )١( 


وذ 


وفرقة أخرى زادت على هؤلاء في الغرور. إذ صعب عليها الاقتداء في بذالة 
الثياب والرضا بالدون في المطعم والمنكح والمسكن, وأرادت أن تتظاهر 
بالتصوف, ولم تجد بدا من التزيّي بزيهم. فتركت الخز والإبريسم وطلبت 
المرقعات النفيسة والفوط الرفيعة والسجادات المصبوغة , وقيمتها أكثر من قيمة 
الخز والابريسم ؛ ولا يجتنبون معصية ظاهرة فكيف بالباطنة ؟ وإنما غرضهم رغد 
العيش وأكل أموال السلاطين. 

وفرقة أخرى ادعت عم المكاشفة ومشاهدة الحق والوصول إلى القرب. ولا 
يعرفون من ذلك إلا اللفظ والاسم , فهم يرددون الألفاظ ويظنون أن ذلك من 
أعلى عم الأولين والآخرين, فينظرون إلى باقي الناس بعين الازدراء والاحتقار . 

وفرقة أخرى جاوزت هؤلاء . فأحسنت الأعبال. وطلبت الحلال. واشتغلت 
بتفقد القلب. وصار أحدهم يدعي المقامات من الزهد والتوكل والرضا والحب 
من غير وقوف على حقيقة هذه المقامات وشروطهاء فهم يدعون أشياء لا 
يعر فون حقيقتها . 

وفرقة أخرى طلبت جانباً من الحلال والأعمال الصالحة. وأهملت الجانب 
الآخرء ولم يدروا أن الله لا يرضى من العباد إلا بالكمال في الطاعات؛ فمن اتبع 
البنعض واهمل البعض فهو مغرور. 

وفرقة أخرى ادعت حسن الخلق والتواضع والسماحة, وإنما غرضهم التكد 
والتكبير والاستتباع . 

وفرقة أخرى اشتغلت بالمجاهدة وتهذيب الأخلاق وتطهير النفس من 
عيوبها.ء فصاروا يتعمقون فيها. واتخذوا البحث عن عيوب النفس ومعرفة 
خدعها علاً وحرفة لهم. فضيعوا في ذلك أوقاتهم. لأنهم وقعوا مع أنفسهم ولم 


وفرقة أخرى جاوزت هذه المرتبة وابتدأوا سلوك الطريق» وانفتحت لهم 


أبواب المعرفة. فلما شموا من مبادى المعرفة رائحة تعجيوا منها وفرحوا بهاء 
فتعلقت قلوبهم بالالتفات إليها والتفكر فيها وفي كيفية انفتاح بابها عليهم 
واستدادهعلى غيرهم. وذلك غرور, لأن عجائب طريق الله ليس لها نهاية. 
وفرقة أخرى جاوزت هؤلاء. فجدوا في السيرء فلا قاربوا الوصول ظنوا 
أنهم وصلواء فوقفوا ولم يتعدوا ذلك» فغلطوا ؛ فهم بذلك مغرورون. 
هذه هي أصناف المغرورين وافاتهم كبا بسطها الغزالي في كتابه. ويختم الغزالي 
بقوله :« وأنواع الغرور في طريق السلوك إلى الله لا تحصى في مجلدات, ولا 
تستقصى إلا بعد شرح جميع العلوم الخفية. وذلك مما لا رخصة في ذكره. وقد 
يحوز إظهارها حتى لا يقع المغرور فيها2, 0 . 
هذا ما أردت تلخيصه من محتوى الرسائل الخمس التى ضمها هذا المجموع. 
وإن كنت قد أطلت في بعض المواضع, فا ذلك إلا لأن المجال يتسع في 
تقديري لذلك . وما توفيقي إلا بالله, عليه أتوكل وإليه أنيب . والصلاة والسلام 
على رسوله المصطفى الحبيب, وعلى آله وصحبه أجمعين. 
أجد شمسر الدين 
بيروت في ١5‏ ذو الحجة م١٠1١‏ ه. 
الموافق 84" تموز م98١.‏ 


.1١86 انظر ص‎ )١( 


1١6 


بداية المداية 


بسم الله الر حمن الرحمم 


الحمد لله حق حمده. والصلاة والسلام على خير خلقه مد رسوله وعبده. 
وعلى اله وصحبه من بعده. 

أما بعد؛ فاعام أيها الحريص المقبل على اقتباس العلم. المظهر من نفسه 
صدق الرغبة وفرض التعطش إليه. أنك إن كنت تقصد بطلب العام المنافسة 
والمباهاة والتقدم على الأقران واستالة وجوه الناس إليك وجمع حطام الدنياء 
فأنت ساع في هدم دينك وإهلاك نفسك وبيع آخرتك بدنياك. فصفقتك 
خاسرة وتجارتك بائرة ومعلمك معين لك على عصيانك وشريك لك في 
خسرانك, وهو كبائع سيف من قاطع طريق كما قال عله : « من أعان على 
معصية ولو بشطر كلمة كان شريكاً له فيها«) ؛ . 

وإن كانت نيتك وقصدك بينك وبين الله تعالى من طلب العم الهداية دون 
تجرد الرواية فأبشر. فإن الملائكة تبسط لك أجنحتها إذا مشيت. وحيتان 
البحر تستغفر لك إذا سعيت؛ ولكن ينبغي لك أن تعلم قبل كل شيء أن 
الهداية التي هي ثمرة العلم. لها بداية ونهاية وظاهر وباطن, ولا وصول الى 
نهايتها إلا بعد إحكام بدايتها. ولا عثور على باطنها إلا بعد الوقوف عل 
ظاهرها. 


وها أنا مشير عليك ببداية الهداية لتجرب بها نفسك وتمتحن بها قلبك, 


)١(‏ روى ابن ماجه في كتاب الديات باب ١‏ من حديث ألي هريرة عن رسول الله ييه قال:ه من 
أعان على قتل مؤمن بشطر كلمة لقي الله عز وجل مكتوب بين عينيه : آيس من رحة الله ». 


17 


فإن صادفت قلبك إليها مائلاً ونفسك بها مطاوعة وها قابلة, فدونك التطلع 
الى النهايات والتغلغل في بحار العلوم. وإن صادفت قلبك عند مواجهتك 
إياها بها مسوقاً وبالعمل بمقتضاها مماطلاً , فاعام أن نفسك المائلة إلى طلب العلم 
هي النفس الأمارة بالسوء , وقد انتهضت مطيعة للشيطان اللعين ليدليك بحبل 
نحروره فيستدرجك بمكيدته الى غمرة الحلاك. وقصده أن يروج عليك الشر 
في معرض الخير حتى يلحقك بالأخسرين أعمالاً الذين ضل سعيهم في الحياة 
الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً . وعند ذلك يتلو عليك الشيطان فضل 
العم ودرجة العلماء وما ورد فيه من الآثار والأخبار. ويلهيك عن قوله مه : 
«من ازداد علا وم يزدد هدى لم يزدد من الله إلا بعداً» 29 . وعن قوله 
يِه : «أشد الناس عذاباً يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه»27. وكان 
ينه يقول: «اللهم إني أعرذ بك من عم لا ينفع وقلب لا يخنشع وعمل 
لا يرفع ودعاء لا يسمع 29 وعن قوله عله : « مررت ليلة أسري 5 





)1( رواه الديلمي عن على رضي الله عنه. عن رسول الله َيه بلفظ : « من ازداد علياً ولم يزدد في 
الدنيا زهدا لم يزدد من الله إلا يعدا .. 

(؟) أخرجه سعيد بن منصور والطبراني وابن عدي والبيهقي بلفظ « أشد الناس عذاباً يوم القيامة عالم 
لم ينفعه علمه ». وأخرج الدارمي في المقدمة باب لاا من حديث ألي الدرداء موقوفاً عليه قال: 
« إن من أشي الناس عند الله منزلة يوم القيامة عالم لا ينتفع بعلمه .٠‏ 

(؟) رواه من حديث زيد بن أرقم رضي الله عنه: ملم في كتاب الذكر والدعاء حديث رقم؟7» 
والنسائي في الاستعاذة باب 18 , والإمام أحمد (ج ؛ ص )77١‏ بلفظ « اللهم إني أعوذ بك من 
عام لا ينفع. ومن قلب لا يفشع, ومن نفس لا تشبع . ومن دعوة لا يستجاب لها ». ورواه من 
حديث ألي هريرة رضي الله عنه: أبو داود في الوتر باب ؟57. والنسائي في الاستعاذة باب ١8‏ 
و4 . وابن ماجة في المقدمة باب 77 , والدعاء باب 9, وأحمد (ج 5 0562540 1م") 
بلفظ ‏ اللهم إني أعوذ بك من الأربع : من عام لا ينفع . ومن قلب لا يفشع , ومن نفس لا تشبع » 
ومن دعاء لا يسمع ». رواه من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص : الترمذي في الدعوات باب 
> . والنسائي في الاستعاذة باب ١‏ , وأحد ( ج ٠”‏ ص9801717١)‏ بلفظ ١‏ اللهم إني أعوذ بك 
من قلب لا يخشع , ونداء لا يسمع. ومن نفس لا تشبع, ومن علم لا ينفع . أعوذ بك من هؤلاء ل 


بأقرام تقرض شفاههم بمقاريض من نار فقلت من أنتم؟ قالوا: كنا نأمر 
بالخير ولا نأتبه وننهى عن الشر ونأتيه» 9 . 

فإياك يا مسكين أن تذعن لتزويره فيدليك بحبل غروره. فويل للجاهل 
حيث لم يتعام مرة واحدة! وويل للعالم حيث لم يعمل بما عام ألف مرة! 

واعام أن الناس في طلب العام على ثلائة أحوال: رجل طلب العام ليتخذه 
زاده الى المعاد. ولم يقصد به إلا وجه الله والدار الآخرة. فهذا من الفائزين. 
ورجل طلبه ليستعين به على حياته العاجلة. وينال به العز والجاه والمال. وهو 
عالم مستشعر في قلبه ركاكة حاله وخسة مقصده؛ فهذا من المخاطرين. فإن 
عاجله أجله قبل التوبة خيف عليه من سوء الخاتمة وبقي أمره في خطر المشيئة. 
وإن وفق للتوبة قبل حلول الأجل وأضاف الى العام العمل وتدارك ما فرط 
فيه من الخلل. التحق بالفائزين؛ فإن التائب منالذنب كمن لا ذنب له. 
ورجل ثالث استحوذ عليه الشيطان, فاتخذ علمه ذريعة الى التكاثر بالمال 
والتفاخر بالجاه والتعزز بكثرة الأتباع. يدخل بعلمه كل مدخل رجاء أن 
يقضي من الدنيا وطرهء وهو مع ذلك يضمر في نفسه أنه عند الله بمكانة 
لانّسامه بسمة العلماء وترسّمه برسومهم في الزي والمنطق. مع تكالبه على الدنيا 
ظاهرا وباطنا ؛ فهذا من المالكين ومن الحمقى المغرورين» إذ الرجاء منقطع 


>> الأربع». ورواه من حديث أنس بن مالك : النسائي في الاستعاذة باب ,5١‏ وأححمد (ج7 ص 
و 566 . 588 ) بنحو اللفظ السابق. ورواه الإمام أحد (ج؛ ص 68) من حديث عبد 
الله بن الي اوفى بلفظ : ١‏ اللهم إني اعوذ بك من قلب لا يخشع. ونفس لا تشبع . ودعاء لا 
يسمع. وعم لا ينفع ؛ اللهم إن أعوذ بك من هؤلاء الأربع ؛ اللهم إفي أسألك عيشة تقية. وميتة 
سوية. ومرداً غير مخزي .١‏ 

)١(‏ الحديث رواه ابن حبان في صحيحه عن أنس رضي الله عنه , عنه عله بلفظ : ٠‏ رأيت ليلة أسري 
بي رجالاً تقرض شفاههم بمقاريض من النار. فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ فقال: الخطباء من 
أمتك . الذين يأمرون الناس بالبر وينسون أنفهم وهم يتلون الكتاب أفلا يعقلون .٠‏ 


عن توبته لظنه أنه من المحسنين وهو غافل عن قوله تعالى :يا أيها الذين 
آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون» [الصف:7] وهو ممن قال فيهم رسول 
لتم : «أنا من غير الدجال أخوف عليكم من الدجال, فقيل: وما 
هو يا رسول الله؟ فقال: علاء السوءع7(). وهذا لأن الدجال غايته 
الإضلال. ومثل هذا العالم وإن صرف الناس عن الدنيا بلسانه ومقاله فهو 
داع لهم إليها بأعماله وأحواله . :ولسان الحال أفصح من لسان المقال. وطباع الناس 
الى المشاهدة في الأعبال أميل منها الى المتابعة في الأقوال؛ فيا أفسده هذا 
المغرور بأعاله أكثر مما أصلحه بأقواله. إذ لا يستجريء الجاهل على الرغبة في 
الدنيا إلا باستجراء العلماء» فقد صار علمه سبباً لجراءة عباد الله على معاصيه. 
ونفسه الجاهلة مدلة مع ذلك تمنيه وترجيه. وتدعوه الى أن يمن على الله 
بعلمه. وتخيل إليه نفسه أنه خير من كثير من عباد الله. فكن أبها الطالب من 
الفريق الأول. واحذر أن تكون من الفريق الثاني! فكم من مسوف عاجله 
الأجل قبل التوبة فخسر, وإياك ثم إإناك أن تكون من الفريق الثالث فتهلك 
هلاكاً لا يرجى معه فلاحك ولا ينتظر صلاحك . 

فإن قلت: فم بداية الهداية لأجرب بها نفسي ؟ 

فاعام أن بدايتها ظاهرة التقوى. ونهايتها باطنة التقوى. فلا عاقبة إلا 
بالتقوى. ولا هداية إلا للمتقين. والتقوى عبارة عن امتثال أوامر الله تعالى 
واجتناب نواهيه, فهما قسمان. وها أنا أشير عليك بجمل مختصرة من ظاهر علم 
التقوى في القسمين جميعاً. وألحق قسما ثالثاً ليصير هذا الكتاب جامعاً مغنياً 
والله المستعان. 


)١(‏ في المعنى روى الإمام أحد (ج ١‏ ص 075 11) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه, عنه 
َيِه قال: ه إن أخوف ما أخاف على أمتي كل منافق علي اللسان . 


القسم الأول 


في الطاعات 


اعم أن أوامر الله تعالى فرائض ونوافل: فالفرض رأس المال وهو أصل 
التجارة وبه تحصل النجاة. والنفل هو الربح وبه الفوز بالدرجات. قال عه : 
«يقول الله تبارك وتعالى: ما تقرب إل المتقربون بمثل أداء ما افترضت 
عليهم. ولا يزال العبد يتقرب إل بالنوافل حتى أحبه, فإذا أحببته 
كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبهر به ولسانه الذي ينطق به 
ويده التي يبطش بها ورجله التي يمني بها 27 ولن تصل أيبا الطالب الى 
القيام بأوامر الله تعالى إلا بمراقبة قلبك وجوارحك في لحظاتك وأنفاسك من 
حين تصبح الى حين تمسي ؛ فاعم أن الله تعالى مطلع على ضميرك. ومشرف 
على ظاهرك وباطنك. ومحيط بجميع لحظاتك وخطراتك وخطواتك». وسائر 
سكناتك وحركاتك. وأنك في مخالطتك وخلواتك متردد بين يديه. فلا 
يسكن في الملك والملكوت ساكن ولا يتحرك متحرك إلا وجبار السموات 
والأرض مطلع عليه «يعام خائنة الأعين وما تخفي الصدور» [غافر: ]١9‏ 
و«يعم السر وأخفى» [طه: 7]. فتأدب أبها المسكين ظاهراً وباطناً بين 


)١(‏ رواه البخاري في صحيحه ( كتاب الرقاق. باب 58) من حديث ألي هريرة رضي الله عنه. 
ولفظه : « من عادى لي وليَآ فقد آذنته بالحرب . وما تقرّب إل عبدي بشيء أحب مما افترضت عليه 
وما يزال عبدي يتقرب ال بالنوافل حتى أحبه, فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره 
الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها ؛ وإن سألني لأعطينه , ولئن استعاذني 
لأعيذنه , وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس عبدي المؤمن, يكره الموت. وأنا 
أكره مساءته). 


535 


يدي الله تعالى بأدب العبد الذليل المذنب في حضرة الملك الجبار القهار. 
واجتهد أن لا يراك مولاك حيث نباك» ولا يفقدك حيث أمرك. ولن تقدر 
على ذلك إلا بأن توزع أوقاتك وترتب أورادك من صباحك الى مسائك ؛ 
فاصغ الى ما يلقى إليك من أوامر الله تعالى عليك من حين تستيقظ من 
منامك الى وقت رجوعك الى مضجعك . 
فصل 

في اداب الاستيقاظ من النوم: 

فإذا استيقظت من النوم فاجتهد أن تستيقظ قبل طلوع الفجر. وليكن أول 
ما يجري على قلبك ولسانك ذكر الله تعالى. فقل عند ذلك: الحمد لله الذي 
أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور. أصبحنا وأصبح الملك لله والعظمة والسلطان 
لله والعزة والقدرة لله رب العالمين؛ أصبحنا على فطرة الإسلام وعلى كلمة 
الاخلاص. وعلى دين زبينا جمد يله , وعلى ملة أبينا إيراهيم حنيفاً مسلياً وما 
كان من المشركين. اللهم بك أصبحنا وبك أمسينا وبك نحيا وبك نموت وإليك 
النشور. اللهم إنا نسألك أن تبعثنا في هذا اليوم إلى كل خيرء ونعوذ بك أن 
نجترح فيه سوءا أو نجره الى مسام أو يجره أحد إلينا. نسألك خير هذا اليوم وخير 
ما فيه ونعوذ بك من شر هذا اليوم وشر ما فيه. 

فإذا لبست ثيابك فاو به امتثال أوامر الله تعالى في ستر عورتك , واحذر أن 
يكون قصدك من لباسك مراءاة الخلق فتخسر . 
باب آداب دخول الخلاء : 

فإذا قصدت بيت الخلاء لقضاء الحاجة فقدم في الدخول رجلك اليسرى. 
وف الخروج رجلك اليمنى . ولا تستصحب شيئاً عليه اسم الله تعالى ورسوله. ولا 
تدخل حاسر الرأس ولا حافي القدمين. وقل عند الدخول: باسم الله, أعوذ بالله 


3 


من الرجس النجس الخبيث المخبث الشيطان الرجمم؛ وعند الخروج: غفرانك 
الحمد لله الذي أذهب عني ما يؤذيني, وأبقى على ما ينفعني . 

وينبغي أن تعد للغسل قبل قضاء الحاجة. وأن لا تستنجي بلماء في موضع 
قضاء الحاجة. وأن تستبرىء من البول بالتنحنح والنثر ثلاثا. وبإمرار اليد 
اليسرى على أسفل القضيب. وإن كنت في الصحراء فابعد عن عيون الناظرين » 
أو استتر بشيء إن وجدته(2, ولا تكشف عورتك قبل الانتهاء إلى موضع 
الجلوس. ولا تستقبل الشمس ولا القمرء ولا تستقبل القبلة ولا تستديرهاء ولا 
تجلس في متحدث الناسء ولا تبل في الماء الراكد وتحت الشجرة المثمرةء ولا في 
الجحر. 

واحذر الأرض الصلية ومهب الربح احترازاً من الرشاش, لقوله عَللنَهِ : إن 
عامة عذاب القبر منه7. واتكىء في جلوسك على الرجل اليسرى, ولا تبل 
قائياً إلا عن ضرورة, واجمع في الاستنجاء بين استعبال الحجر والماء » فإذا أردت 
الاقتصار على أحدها فالماء أفضل. وإن اقتصرت على الحجر فعليك أن تستعمل 
ثلاثة أحجار طاهرة منشفة للعين, تمسح بها محل النجو بحيث لا تنقل النجاسة 


)١(‏ عن أني هريرة عن النبي يله قال: ه من اكتحل فليوتر . من فعل فقد أحسن ومن لا فلا حرج. 
ومن استجمر فليوتر. من فعل فقد أحسن ومن لا فلا حرج. ومن أكل فها تخلل فليلفظ وما 
لاك بلسانه فليبتلع. من فعل فقد أحسن ومن لا فلا حرج. ومن أتى الغائط فليستتر فإن لم يجد 
إلا أن يجمع كثيباً من رمل فليتدبره فإن الشيطان يلعب بمقاعد بني آدم؛ من فعل فقد أحسن 
ومن لا فلا حرج». رواه أبو داود في الطهارة باب ١9‏ . وابن ماجه في الطهارة باب 5 
والدارمي في الوضوء باب ه. وأحد (ج ؟ ص .)"0١‏ 

(؟) في عذاب القبر من البول. روى البخاري في كتاب الوضوء باب 68 . ومم في الطهارة حديث 
رقم وأبو داود في الطهارة باب 8 . والترمذي في الطهارة باب 88 . والنسائي في الجنائز 
باب 1١7‏ . عن ابن عباس قال: ٠‏ مر الني لَه بحائط من حيطان المدينة أو مكة, فسمع صوت 
إنانين يعذبان في قبورهاء فقال النبي َلثم : يعذبان وما يعذبان في كبير , ثم قال: بل كان 
أحده] لا يستتر من بوله. وكان الآخر يمشي بالنميمة .٠‏ واللفظ للبخاري . 


افا 


عن موضعهاء وكذلك تمسح القضيب في ثلائة مواضع من حجرء فإن لم يحصل 
الإنقاء بثلاثة فتمم خسة أو سبعة إلى أن ينقى بالإيتار 2 فالإيتار مستحب() 
والإنقاء واجب. ولا تستنج إلا باليد اليسرى, وقل عند الفراغ مسن 
الاستنجاء ‏ : اللهم طهر قلبي من النفاق. وحصن فرجي من الفواحش . وادلك 
يدك بعد تمام الاستنجاء بالأرض أو بجحائط ثم اغسلها . 
آداب الوضوء: 

فإذا فرغت من الاستنجاء فلا تترك السواك., فإنه مطهرة للفم ومرصاة 
للرب ومسخطة للشيطان, وصلاة بسواك أفضل من سبعين صلاة بلا سواك؛ 
وروي عن ألي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله عله : « لوله أن أشق 
على أمتي لأمرتهم بالسواك في كل صلاة» "', وعنه عه : « أمرت بالسواك 
حتى خشيت أن يكتب علي » 29. 





. الاإيتار : جعل العدد وتراً أي فرداً‎ )١( 

(؟) راجع الحاشية رقم )١(‏ من الصفحة السابقة. 

(؟). قال العلياء : يقال الاستطابة والاستجبار والاستنجاء لتطهير محل البول والغائط . فأما الاستجبار 
فمختص بال مسح بالأحجار . وأما الانتطابة والاستنجاء فيكونان بالماء ويكونان بالأحجار . 

(4) رواه من حديث ألي هريرة: البخاري في الجمعة باب 4. ومسل في الطهارة حديث5؛ ؛ وأبو 
داود في الطهارة باب 50. والترمذي في الطهارة باب ,١8‏ والنسائي في الطهارة باب 5 
والمواقيت باب ٠١‏ . وابن ماجه في الطهارة باب 7, والدارمي في الصلاة باب 1784 . ومالك في 
الطهارة حديث 2.1١4‏ وأحد (ج ؟ ص 70676١0516‏ لاو حو نلا قكالهء 
*1ء 6430 8.8 617 881 ). ورواه من حديث زيد بن خالد الجهني: أبو داود في 
الطهارة باب 58 . والترمذي في الطهاة باب 18ء. وأحد (ج؛ ص 1١51١4‏ ءوج مص 
95 ). ورواه من حديث علي بن أني طالبء الإمام أحد (ج١‏ ص ١م 1١٠١‏ ). ورواهأحد 
أيضاً من حديث أم حبيبة (ج 1 ص 776) ومن حديث زينب بنت جحش (ج 1 ص 159 ) 
وعن رجل من أصحاب النبي عه (ج ة ص .)1٠١‏ 

(م) أخرجه الإمام أحمد بهذا اللفظ من حديث وائلة بن الأسقع ((ج ص 14٠‏ ). وأخرجه من - 


>34 


مم اجلس للوضوء مستقبل القبلة على موضع مرتفع كي لا يصببك الرشاش 

وقل: بسم الله الرحمن الرحيم. رب أعوذ بك من همزات الشياطين» وأعوذ بك 

رب أن يحضرون نم اغسل يديك ثلاثاً قبل أن تدخلهها الإناء وقل : اللهم إفي 
أسألك امن والبركة, وأعوذ يك من الشؤم والملكة . ثم انو رفع الحدث أو 

استباحة الصلاة؛ ولا ينبغي أذ تعزب نيتك قبل غسل الوجه فلا يصح وضوؤك. 

ثم خذ غرفة لفيك وتمضمض با ثلاثاً. وبالغ في رد الماء إلى الغلصمة (2. إلا أن 

تكون "ضاناء فترفق وقل: اللهم أعني على تلاوة كتابك وكثرة الذكر لكء 
وثبتني بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة .ثم خذ غرفة لأنفك واستنشق 
بها ثلاثاً, واستنثر ما في الأنف من الرطوبة؛ وقل في الاستنشاق: اللهم أرحني 
رائحة الجنة وأنت عني راض ؛ وفي الاستنثار : اللهم إني أعوذ بك من روائح النار 
وسوء الدار . ثم خذ غرفة لوجهك فاغسل بها من مبتدأ تسطيح الجبهة إلى منتهى 
ما يقبل من الذقن في الطول. ومن الأذن إلى الأذن في العرض ء وأوصل الماء إلى 
مومع التحد يفي روهو ما يعجاد اناه يجيه لمر عند وعواما بناراستن الأذن 
إلى زاوية الجبين, أعني ما يقع منه في جبهة جبهة الوجه؛ وأوصل الماء إلى منابت 
الشعور الأربعة: الحاجبين, والشاربين» والأهداب» والعذارين ؛ وههما ما يوازيان 
الأذنين من مبتدأ اللحية. ويجحب إيصال الماء إلى منابت الشعر من اللحية الخفيفة 
دون الكثيفة ؛ وقل عند غسل الوجه : اللهم بيض وجهي بنورك يوم تبيض وجوه 
أوليائك, ولا تسود وجهي بظلماتك يوم تسود وجوه أعدائك. ولا تترك تخليل 

اللحية الكثيفة . 

ع حديث ابن عباس بلفظ: ه لقد أمرنا رسول الله يِل بالسواك حتى ظننا أنه سينزل عليه فيه» 
(ج ١‏ ص .)84٠‏ وفي لفظ (ج ١‏ ص 587): و لقد أمرت بالسواك حتى ظننت أنه سيتزل به 
عل قرآن أو وحي». وني لفظ (ج ١‏ ص ٠ :)8١6‏ حتى خشيت أن يوحى إل فيه» وني لفظ 
(ج ١‏ ص 077 5017): و حتى ظنلت أن سينزل فيه قرآن». 

)١(‏ الغلصمة: صفيحة غضروفية عند أصل اللان, سرجية الشكل . مغطاة بغثاء مخاطي , وتنحدر 
إلى الخلف لتغطية فتحة الحنجرة لإقفالها في أثناء البلع . 


3” 


ثم اغسل يدك اليمنى, ثم اليسرى مع المرفقين إلى أنصاف العضدين, فإن 
الحلية في الجنة تبلغ مواضع الوضوء . وقل عند غسل اليمنى: اللهم أعطني كتاني 
بيميني وحاسبني حساباً يسيراً؛ وعند غسل الشمال: اللهم إفي أعوذ بك أن تعطيني 
كتابي بشمالي أو من وراء ظهري . 

م استوعب رأسك بالمسح بأن تبلّ يديك. وتلصق رؤوس أصابع يدك 
اليمنى باليسرى. وتضعههما على مقدمة الرأس. وتمرههما إلى القفا. ثم تردههما إلى 
المقدمة. فهذه مرة؛ تفعل ذلك ثلاث مرات؛ وكذلك في سائر الأعضاء وقل: 
اللهم غشني برحمتك, وأنزل على من بركاتك, وأظلني تحت ظل عرشك يوم لا 
ظل إلا ظلك؛ اللهم حرم شعري وبّشري 7(" على الثار. 

ثم امسح أذنيك ظاهرههما وباطنهها بماء جديد. وأدخل مسبّحَتيك 29 في 
صماخي أذنيك. وامسح ظاهر أذنيك ببطن إبهاميك وقل: اللهم اجعلني من 
الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه, اللهم أسمعني منادي الجنة في الجنة مع 


الأبرار. 
نم امسح رقبتك وقل: اللهم فك رقبتي من التارء وأعوذ بك من السلاسل 
والأغلال. 


ثم اغسل رجلك اليمنى ثم اليسرى مع الكعبين؛ وخلل بخنصر اليسرى أصابع 
رجلك اليمنى مبتدثاً بخنصرها حتى تختم بخنصر اليسرى. وتدخل الأصابع من 
أسفل وقل: اللهم ثبت قدمي على الصراط المستقيم مع أقدام عبادك الصالحين. 
وكذلك تقول عند غسل اليسرى: اللهم إني أعوذ بك أن تزل قذمي عل 
الصراط في النار يوم تزل أقدام المنافقين والمشركين. 


. البَشَر ( بفتحتين) جمع بشرة, وهي ظاهر الجلد‎ )١( 
(؟) المسيّحة من الأصابع : السبابة.‎ 


375 


وارفع الماء إلى أنصاف الساقين. وراع التكرار ثلاثاً في جميع أفعالك . فإذا 
فرغت من الوضوء فارفع بصرك إلى السهاء وقل :أشهد أن لا إله إلا الله وحده 
لا شريك لهء وأشهد أن عمداً عبده ورسوله. سبحانك اللهم وبحمدك؛, أشهد 
أن لا إله إلا أنت, عملت سوءاً وظلمت نفسي, أستغفرك وأتوب إليك فاغفر 
لي وتب عل إنك أنت التواب الرحيمء اللهم اجعلني من التوابين؛ واجعلني من 
المتطهرين , واجعلني من عبادك الصالحين, واجعلني صبوراً شكوراً . واجعلني 
أذكرك ذكراً كثيراً وأسبحك بكرة وأصيلا . 

فمن قال هذه الدعوات في وضوئه خرجت خطاياه من جميع أعضائه . وختم 
على وضوئه بخاتم . ورفع له تحت العرش . فم يزل يسبح الله تعالى ويقدسه ويكتب 
له ثواب ذلك إلى يوم القيامة . 

واجتنب في وضوئك سبعاً: لا تنفض يديك فترش الماء . ولا تلطم وجهك 
ولا رأسك بالماء لطراً. ولا تتكام في أثناء الوضوء . ولا تزد في الغسل على ثلاث 
مرات. ولا تكثر صب الماء من غير حاجة لمجرد الوسوسة. فللموسوسين شيطان 
يلعب بهم يقال له الوهان. ولا تتوضأ بالماء المشمس ولا من الأواني الصفرية 0 
فهذه السبعة مكروهة في الوضوء . وفي الخبر أن من ذكر الله عند وضوئه طهر الله 
جسده كله. ومن لم يذكر الله لم يطهر منه إلا ما أصابه الماء . 
آداب الغسل : 

فإذا أصابتك جنابة من احتلام أو وقاع. فخذ الإناء إلى المغتسل واغسل 
يديك أولاً ثلاثاً. وأزل ما على بدنك من قذرء وتوضأ كبا سبق في وضوئك 
للصلاة مع جميع الدعوات؛ وأخر غسل قدميك كيلا يضيع الماء . فإذا فرغت 
من الوضوء فصب الماء على رأسك ثلاثاً وأنت ناو رفع الحدث من الجنابة» ثم على 


)١(‏ الأواني الصفرية : المصنوعة من النحاس الأصفر. 


7/ 


شقك الأيمن ثلاثاً ثم الأيسر ثلاثاً. وادلك ما أقبل من بدنك وما أدبر ثلاثاً 
ثلاثاً. وخلل شعر رأسك ولحيتك., وأوصل الماء إلى معاطف () البدن ومنابت 
الشعر ما خف منه وما كشف. واحذر أن تمس ذكرك بعد الوضوء . فإن أصابته 
يدك فأعد الوؤضوء , والفريضة من جملة ذلك كله النية وإزالة النجاسة واستيعاب 
البدن بالغسل . 

وفرض الوضوء غسل الوجه واليدين مع المرفقين, ومسح بعض المرفقين. 
ومسح بعض الرأس. وغسل الرجلين إلى الكعبين مرة مرة مع النية والترتيب . وما 
عداها سنن مؤكدة فضلها كثير وثوابها جزيل. ولمتهاون بها خاسر بل هو 
بأصل فرائضه مخاطر . فإن النوافل جوابر للفرائض . 
آداب التيمم : 

فإن عجزت عن استعال الماء لفقده بعد الطلب, أو لعذر من مرض. أو 
لماع من الوصول إليه من سبع أو حبس. أو كان الماء الحاضر تحتاج إليه 
لعطشك أو لعطش رفيقك. أو كان ملكا لغيرك ولم يبع إلا بأكثر من ثمن 
المثل. أو كانت بك جراحة أو مرض تخاف منه على نفسك . فاصير حتى يدخل 
وقت الفريضة ثم اقصد صعيداً طيباً عليه تراب خالص طاهر لين فاضرب عليه 
بكفيك ضاماً بين أصابك . وانو استباحة فرض الصلاة وامسح بهها وجهك كله 
مرة واحدة, ولا تتكلف إيصال الغبار إلى منابت الشعر خف أو كثف, ثم انزع 
خاتقك واضرب ضرية ثانية مفرقاً بين أصابعك. وامسح بها يديك مع 
مرفقيك. فإن لم تستوعبهها فاضرب ضربة أخرى إلى أن تستوعبهاء ثم امسح 
إحدى كفيك بالأخرى, وامسح ما بين أصابعك بالتخليل. وصل به فرضاً 
واحداً وما شئت من النوافل. فإن أردت فرضاً ثانياً فاستأنف له تيمراً آخر. 


)١(‏ معاطف البدن: ملتوياته» كطبقات البطنء والإابط» والأذن, وداخل السرة. 


18 


آداب الخروج إلى المسجد . 

فإذا فرغت من طهارتك فصل في بيتك ركعتي الصبح إن كان الفجر قد 
طلع . كذلك كان يفعل رسول الله عَِقَهِ . ثم توجه إلى المسجد , ولا تدع صلاة 
في الجاعة لا سيا الصبح. فصلاة الجهاعة تفضل على صلاة الفذ بسبع وعشرين 
درجة7©. فإن كنت تتساهل في مثل هذا الربح فأي فائدة لك في طلب العام؟ 
وإنما ثمرة العام العمل به. فإذا سعيت إلى المسجد فامش على هيئة وتؤدة 
وسكينة, ولا تعجل. وقل في طريقك: اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك ‏ 
وبحق الراغبين إليك , وبحق ممشاي هذا إليك , فإني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا 
رياء ولا سمعة. بل خرجت اتقاء سخطك وابتغاء مرضاتك . فأسألك أن تنقذني 
من النار. وأن تغفر لي ذنوبي» فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت. 
آداب وخول المسجد: 

فإذا أردت الدخول إلى المسجد فقدم رجلك اليمنى وقل: اللهم صل على 
جمد وعلى آل تمد وصحبه وسامء اللهم اغفر لي ذنوني وافتح لي أبواب رتك . 

ومههما رأيت في المسجد من يبيع أو يبتاع فقل: لا أربح الله تجارتك ! وإذا 


)١(‏ روى البخاري في الأذان باب .7٠0‏ وملم في المساجد حديث 514. والنسائي في الإمامة باب 
7 » ومالك في فضل صلاة الجاعة حديث ١ء‏ والإمام أحد (ج؟ ص 7836؟5١١)‏ من حديث 
عبد الله بن عمر أن رسول الله يه قال: ٠‏ صلاة الجراعة تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين 
درجة». وفي رواية: ٠‏ بخمس وعشرين درجة» من حديث أي معيد الخدري عند البخاري 
( كتاب الأذان باب 0) والإمام أحد (ج + ص 080). ومن حديث أني هريرة عند ملم 
( كتاب المساجد ومواضع الصلاة رقم 417؟) والنسائي (كتاب الإمامة باب 750). والإمام 
مالك (ياب فضل صلاة الجماعة حديث .)١‏ والإمام أحد (ج ؟ ص هلاكىء 60١.146‏ 
0186 ). ومن حديث عائشة عند النسائي ( كتاب الإمامة ياب ؟ ) والإمام أجد (ج5 
أص 49). 


>59 


رأيت فيه من ينشد ضالة فقل: لا ردّ الله عليك ضالتك ! كذلك أمر (7) رسول 
الله عله . 

فإذا دخلت المسجد فلا تجلس حتى تصلي ركعتي التحية. فإن لم تكن على 
طهارة أو لم ترد فعلها كفتك الباقيات الصالحات( ثلاثاً . وقيل أربعاً. وقيل 
ثلاثاً للمحدث, وواحدة للمتوضيء. فإن لم تكن صليت في بيتك ركعتي الفجر 
فيجزئك أداؤهها عن التحية؛ فإذا فرغت من الركعتين فانو الاعتكاف وادع بما 
دعا به رسول الله عَم بعد ركعتي الفجر فقل: «اللهم إني أسألك رحمة من 
عندك تهدي بها قلبي. وتجمع بها شملي. وتم بها شعشي 7"'. وترد بها ألفتي 20, 
وتصلح بها ديني. وتحفظ بها غائي. وترفع بها شاهدي. وتزكي بها عمليء 
وتبيض بها وجهي . وتلهمني بها رشدي. وتقضي لي بها حاجتي . وتعصمني بها 
من كل سوء اللهم إني أسألك إياناً خالصاً دائماً يباشر قلبي. وأمألك يقيناً 
صادقاً حتى أعم أنه لن يصيبني إلا ما كتبته علي » ورضني بما قسمته لي . اللهم إني 
أسألك إيماناً صادقاً ويقيناً ليس بعده كفر. وأسألك رحمة أنال بها شرف 
كرامتك في الدنيا والآخرة. اللهم إني أسألك الفوز عند اللقاء . والصبر عند 
القضاء . ومنازل الشهداء . وعيش السعداء , والنصر على الأعداء, ومرافقة 


)١(‏ عن أبي هريرة أن رسول الله ييه قال: ٠‏ إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد فقولوا : لا أربحع 
الله تجارتك . وإذا رأيتم من ينشد فيه ضالة فقولوا : لا رد الله عليك » . أخرجه الترمذي في في البيوع 
باب 6لاء والدارمي في الصلاة باب .1١8‏ وأخرج الشطر الثاني من الحديث؛, مسم في المساجد 
حديث رقم 4لاء وأبو داود في الصلاة باب 5١‏ .وابن ماجهفي المساجد باب ١١.ء‏ وأحمد لي 
المند ج ؟ ص 82٠.589‏ . واللفظ عندهم: ه من سمع رجلا ينشد ضالة في المسجد فليقل: لا 
رذّها اش عليك؛ فإن الماجد لم تبن لهذا ». 

(؟) وهي سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر . 

(؟) شعثي ( بفتحتين): أي ما تفرق من أمري . 

(8) ألفتي: أي ما آلفه. 


الأنبياء . اللهم إني أنزل بك حاجتي وإن ضعف رأبي وقصر عملي وافتقرت إلى 
رحمتك فأسألك يا قاضي الأمور ويا شافي الصدور كبا تحير ) بين البحور أن 
تجيرني من عذاب السعير. ومن فتنة القبور. ومن دعوة الثبور”" . اللهم ما قصر 
عنه رأبي وضعف عنه عملي ولم تبلغه نيتي وأمنيتي من خير وعدته أحداً من 
عبادك. أو خير أنت معطيه أحداً من خلقك. فإني أرغب إليك فيه. وأسألك 
إياه يا رب العالمين. اللهم اجعلنا هادين مهتدين غير ضالين ولا مضلين, حرباً 
لأعدائك . ملاً لأوليالك؛ نحب بحبك الناس ونعادي بعداوتك من خالفك من 
خلقك . اللهم هذا الدعاء وعليك الإجابة» وهذا الجهد وعليك التكلان 29. وإنا 
لله وإنا إليه راجعون. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. اللهم ذا الحبل 
الشديد والأمر الرشيد . أسألك الأمن يوم الوعيد , والجنة يوم الخلود مع المقربين 
الشهود . الركع السجود , الموفين لك بالعهود . إنك رح ودود ء وأنت تفعل ما 
تريد. سبحان من اتصف بالعز وقال به! سبحان من لبس المجد وتكرم به! 
سبحان من لا ينبغي التسبيح إلا له! سبحان ذي الفضل والنعم! سبحان ذي 
الجود والكرم ! سبحان الذي أحصى كل شيء بعلمه! اللهم اجعل لي نورا في 
قلي ونوراً في قبريء ونورآ في سمعي » ونوراً في بصريء ونوراً في شعري»ء 
ونوراً في بشري. ونوراً في لحمي . ونوراً في دمي . ؛ ونوراً في عظامي . ونوراً من 
بين يدي . ونوراً من خلفي, ونوراً عن ثمالي» ونوراً من فوقي » ونور من تحتي. 
اللهم زدني نوراً وأعطني نورا أعظم نورء واجعل لي نورا برحمتك يا أرحم 
الراحجين (1) 
)١(‏ تحير بين البحور : أي تمنع أحد هيا من الاختلاط بالآخر مع الاتصال. 
(؟) أي من النداء بالهلاك والخسران في المحشر . 
(") التكلان : الاعتاد . 
(1) الدعاء بطوله رواه الترمذي في كتاب الدعوات باب ,.٠١‏ مع بعض الاختلاف في اللفظ 
والترتيب. عن ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله ثم دعا بهذا الدعاء ليلة بعد الفراغ من 
صلاته . 


من 


فإذا فرغت من الدعاء فلا تشتغل إلى وقت الفرض إلا بذكر أو تسبيح أو 
قراءة قرآن, فإذا سمعت الأذان في أثناء ذلك فاقطم ما أنت فيه واشتغل بجواب 
المؤذنء فإذا قال المؤذن: الله أكبر الله أكبرء فقل مثل ذلك. وكذلك في كل 
كلمة إلا في الحيعلتين () فقل فيهها: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. فإذا 
قال: الصلاة خير من النوم, فقل: صدقت وبررت وأنا على ذلك من 
الشاهدين. فإذا سمعت الاقامة فقل مثل ما يقول إلا في قوله: قد قامت 
الصلاة . فقل : أقامها الله وأدامها ما دامت السموات والأرض. فإذا فرغت من 
جواب المؤذن فقل: اللهم إني أسألك عند حضور صلاتك , وأصوات دعاتك , 
وإدبار ليلك. وإقبال نهارك» أن تؤتي مدا الوسيلة والفضيلة والدرجة الرفيعة. 
وابعثه المقام المحمود الذي وعدته. إنك لا تخلف الميعاد يا أرحم الراحمين. فإذا 
سمعت الأذان وأنت في الصلاة فتمم الصلاة ثم تدارك الجواب بعد السلام على 
وجهه. فإذا أحسرم الإمام بالفرض فلا تشتغل إلا بالاقتداء به. وصل الفرض كما 
سيتلى عليك في كيفية الصلاة وآدابها . 

فإذا فرغت فقل: اللهم صل على مد وعلى آل مد وسام؛ اللهم أنت السلام 
ومنك السلام وإليك يعود السلام. فحينا ربنا بالسلام. وأدخلنا الجنة دار 
السلام. تباركت يا ذا الجلال والاكرامء سبحان رلي العلى الأعلى. لا إله إلا 
الله وحده لا شريك له. له الملك وله الحمد يحبي ويميت وهو حي لا عوت. 
بيده الخير وهو على كل شيء قديرء لا إله إلا الله أهل النعمة والفضل والثناء 
الحسن , لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه مخلصين له الدين ولو كره الكافرون. 

ثم ادع بعد ذلك بالجوامع الكوامل ما علمه رسول الله عَلِتهٍ عائشة رضي الله 
عنهاء فقل : ٠‏ اللهم إني أسألك من الخير كله عاجله وآجله ما علمت منه وما لم 
أعلم, وأعوذ بك من الشر كله عاجله وآجله ما علمت منه وما لم أعامء وأسألك 


6 و حي على الصلاة » وه حي على الفلاح ». 


ون 


الجنة وما يقرب إليها من قول وعملٌ ونية واعتقاد. وأعوذ بك من النار وما 
يقرب إليها من قول وعمل ونية واعتقاد. وأسمألك من خير ما سألك منه 
عبدك ورسولك جمد ينه . وأعوذ بك من شر ما استعاذك منه عبدك 
ورسولك مد يِه , اللهم وما قضيت علي من أمر فاجعل عاقبته رشداً , (©. 

نم ادع بما أوصى به رسول الله يلتم فاطمة رضي الله عنها: فقل: وديا حي يا 
قيوم, يا ذا الجلال والإكرام. لا إله إلا أنت, بر حمتك أستغيث ومن عذابك 
أستجير. لا تكلني إلى نفسي ولا إلى أحد من خلقك طرفة عين. وأصلح لي 
شأني كله بما أصلحت به الصالحين ». 

ثم قل ما قاله عيسى , على نبينا وعليه الصلاة والسلام : « اللهم إني أصبحت 
لا أستطيع دفع ما أكرهء ولا أملك نفع ما أرجو. وأصبح الأمر بيدك لا بيد 
غيرك؛ وأصبحت مرتهناً بعملي ؛ فلا فقير أفقر مني إليك. ولا غني أغنى منك 
عني. اللهم لا تشمت بي عدوي. ولا تسؤْ بي صديقي. ولا تجعل مصيبتي في 
ديني , ولا تجعل الدنيا أكبر همي ولا مبلغ علمي, ولا تسلط علي بذنبي من لا 
ير حمني 2). 

ثم ادع بما بدا لك من الدعوات المشهورات. واحفظها مما أوردناه في كتاب 
الدعوات من كتاب إحياء علوم الدين. 


ولتكن أوقاتك بعد الصلاة إلى طلوع الشمس موزعة على أربع وظائف: 
وظيفة في الدعوات. ووظيفة في الأذكار والتسبيحات, وتكررها في سبحة» 
ووظيفة في قراءة القران. ووظيفة في التفكر؛ فتفكر في ذنوبك وخطاياك» 
وتقصيرك في عبادة مولاك. وتعرضك لعقابه الألم وسخطه العظيم. وترتب 


)1( رواه-الإمام أجد في المند ج + ص 2147 مع اختلاف يسير في اللفظ والترتيب . 


أوقاتك بتدبيرك أورادك في جميع يومك. لتتدارك به ما فرطت من تقصيرك. 
وتحترز من التعرض لسخط الله تعالى الأليم في يومك. وتنوي الخير لجميع 
المسلمين. وتعزم أن لا تشتغل في جميع نهارك إلا بطاعة الله تعالى, وتفصل في 
قلبك الطاعات التي تقدر عليهاء وتختار أفضلها , وتتأمل تبيئة أسبابها لتشغل بها . 
ولا تدع عنك التفكر في قرب الأجل. وحلول الموت القاطع للأمل. وخروج 
الأمر عن الاختيار » وحصول الحسرة والندامة بطول الاغترار. 

وليكن من تسبيحاتك وأذكارك عشر كلبات: إحداهن لا إله إلا الله وحده 
لا شريك له. له الملك وله الحمد . يحبى ويميت وهو حيى لا يموت. بيده الخير 
وهو على كل شبىء قدير . الثانية: لا إله إلا الله الملك الحق المبين . الثالثة : لا إله 
إلا الله الواحد القهار. رب السموات والأرض وما بينهها . العزيز الغفار . الرابعة : 
سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلل 
العظي . الخامسة : سبوح قدوس رب الملائكة والروح. السادسة: سبحان الله 
وبحمده سبحان الله العظم . السابعة: أستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي 
القيوم وأسأله التوبة والمغفرة. الثامنة: اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما 
منعت ولا راد لما قضيتولا ينفع ذا الجد منك الجد . التاسعة: اللهم صل على 
جمد وعلى ال محمد وصحبه وسام. العاشرة: بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء 
في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم. تكرر كل واحدة من هذه الكلمات 
إما مائة مرة. أو سبعين مرة. أو عشر مرات وهو أقله. ليكون المجموع مائة. 

ولازم هذه الأذكار ولا تتكام قبل طلوع الشمس. ففي الخبر أن ذلك أفضل 
من إعتاق ثمان رقاب من ولد إسماعيل على نبينا وعليه الصلاة والسلام ؛ أعني 
الاشتغال بالذكر إلى طلوع الشمس من غير أن يتخلله كلام © . 


)10( في ذكر ما يستحب من الجلوس في المسجد بعد صلاة الصبح حتى تطلع الشمس » روى الترمذي 
في كتاب الصلاة باب 746 عن أنس بن مالك رضي الله عنه, أن رسول الله يقن قال: ه من 


36 


آداب ما بين طلوع الشمس إلى الزوال: 

فإذا طلعت الشمس وارتفعت قدر رمح فصل ركعتين. وذلك عند زوال 
وقت الكراهة للصلاة. فإنها مكروهة من بعد فريضة الصبح إلى ارتفاع الشمس . 
فإذا أضحى النهار ومضى منه قريب من ربعه. فصل صلاة الضحى أربعاً أو ستا 
أو ثمانياً مثنىء فقد نقلت هذه الأعداد كلها عن رسول الله كلت 0 . 

والصلاة خير كلها. فمن شاء فليستكثر ومن شاء فليستقلل . فليس بين طلوع 
الشمس والزوال راتبة من الصلاة إلا هذه؛ فما فضل عنها من أوقاتك فلك فيه 
أربع حالات: 

الحالة الأولى: وهي الأفضل. أن تصرفه في طلب العم النافع في الدين دون 
الفضول الذي أكب الناس عليه وسموه علا . والعلم النافع هو ما يزيد في خوفك 
من الله تعالى. ويزيد في بصيرتك بعيوب نفسك. ويزيد في معرفتك بعبادة 
ربكء ويقلل من رغبتك في الدنياء ويزيد في رغبتك في الآخرة. ويفتح 
بصيرتك بآفات أعمالك حتى تحترز منها . ويطلعك على مكايد الشيطان وغروره» 
وكيفية تلبيسه على علماء السوء حتى عرضهم لمقت الله تعالى وسخطه. حيث 
اشتروا الدنيا بالدين .واتخذوا العام ذريعة ووسيلة إلى أخذ أموال السلاطين وأكل 
أموال الأوقاف واليتامى والمساكين. وصرف همتهم طول نهارهم إلى طلب الجاه 
والمنزلة في قلوب الخلق. واضطرهم ذلك إلى المراءاة والماراة» والمناقشة في 
الكلام والمباهاة. وهذا الفن من العام النافع قد جمعناه في كتاب إحياء علوم 


هه صل الغداة في جماعة, ثم قعد يذكر الله حتى تطلع الشمس. ثم صلى ركعتين, كانت له كأجر 
حجة وعمرة تامة.. 

)١(‏ روى مسم في صحيحه. كتاب صلاة المسافرين وقصرهاء :باب استحباب صلاة الضحى وأن 
أقلها ركعتان وأكملها ثمان ركعات وأوسطها أربع ركعات أو ست والحث عل المحافظة عليها . 
عن معاذة أنها مألت عائشة رضي الله عنها: م كان رسول الله يِه يصلّي صلاة الضحى ؟ 
قالت: أربع ركعات ويزيد ما شاء. 


الدين, فإن كنت من أهله فحصله واعمل بهء ثم علمه وادع إليه؛ فمن عام ذلك 
وعمل به ثم علمه ودعا إليه. فذلك يدعى عظبا في ملكوت السموات بشهادة 
عيسى عليه السلام . 

فإذا فرغت من ذلك كله. وفرغت من إصلاح نفسك ظاهرا وباطناً . 
وفضل شيء من أوقاتك. فلا بأس أن تشتغل بعام المذهب في الفقه لتعرف به 
الفروع النادرة في العبادات. وطريق التوسط بين الخلق في الخصومات عند 
انكبابهم على الشهوات, فذلك أيضاً بعد الفراغ من هذه المهمات من جملة فروض 
الكفايات. فإن دعتك نفسك إلى ترك ما ذكرناه من الأوراد والأذكار استثقالاً 
لذلك »2 فاعام أن الشيطان اللعين قد دس في قلبك الداء الدفين. وهو حب 
المال والجاه. فإياك أن تغتر به فتكون ضحكة له فيهلكك ثم يسخر منك . فإن 
جربت نفسك مدة في الأوراد والعبادات فكنت لا تستثقلها كسلاً عنها. لكن 
ظهرت رغبتك في تحصيل العم النافع ولم ترد به إلا وجه الله تعالى والدار 
الآخرة. فذلك أفضل من نوافل العبادات مهما صحت النية؛ ولكن الشأن في 
صحة النية؛ فإن لم تصح فهو معدن غرور الجهال ومزلة أقدام الرجال. 

الحالة الثانية: أن لا تقدر على تحصيل العم النافع في الدين, لكن تشتغل 
بوظائف العبادات من الذكر والتسبيح والقراءة والصلاة. فذلك من درجات 
العابدين وسير الصالحين, وتكون أيضاً بذلك من الفائزين . 

الحالة الثالثة: أن تشتغل بما يصل منه خير إلى المسلمين. ويدخل به سرور 
على قلوب المؤمنين, أو يتيسر به الأعمال الصالحة للصالحين. كخدمة الفقهاء 
والصوفية وأهل الدين. والتردد في أشغالهم والسعي في إطعام الفقراء والمساكين, 
والتردد مثلاً على المرضى بالعيادة وعلى الجنائز بالتشييع ؛ فكل ذلك أفضل من 
النوافل. فإن هذه عبادات وفيها رفق للمسلمين. 

الحالة الرابعة: إن لم تقو على ذلك فاشتغل بحاجاتك اكتساباً على نفسك أو 


أن 


على عيالك, وقد سلم منك المسلمون وأمنوا من لسانك ويدك, وسام لك دينك 
إذا لم ترتكب معصية, فتنال بذلك درجة أصحاب اليمين إن لم تكن من أهل 
الترقي إلى مقامات السابقين؛ فهذا أقل الدرجات في مقامات الدين. وما بعد 
هذا فهو مراتع الشياطين, وذلك بأن تشتغل والعياذ بالله بما يهدم دينك» أو 
تؤذي عبدا من عباد الله تعالى» فهذه رتبة الهالكين؛ فإياك أن تكون في هذه 
الطبقة . 


واعام أن العبد في حق دينه على ثلاث درجات: إما سالم. وهو المقتصر على 
أداء الفرائض وترك المعاصي. أو رابح. وهو المتطوع بالقربات والنوافل. أو 
خاسر . وهو المقصر على اللوازم. فإن لم تقدر أن تكون رابحاً فاجتهد أن تكون 
سالاً. وإياك ثم إياك أن تكون خاسراً . 


والعبد في حق سائر العباد له ثلاث درجات: الأولى: أن ينزل في حقهم 
منزلة الكرام البررة من الملائكة. وهو أن يسعى في أغراضهم رفقاً بهم وإدخالاً 
للسرور على قلوبهم. الثانية: أن ينزل في حقهم منزلة البهائم والجمادات» فلا 
ينالهم خيره ولكن يكف عنهم شره. الثالثة: أن ينزل في حقهم منزلة العقارب 
والحيات والسباع الضاريات, لا يرجى خيره ويتقى شره. فإن لم تقدر على أن 
تلتحق بأفق الملائكة فاحذر أن تنزل عن درجة البهائم والجمادات إلى مراتب 
العقارب والحيات والسباع الضاريات, فإن رضيت لنفسك النزول من أعلى عليين 
فلا ترض ا بالهوى إلى أسفل سافلين, فلعلك تنجو كفافا لا لك ولا عليك. 
فعليك في بياض نهارك أن لا تشتغل إلا بما ينفعك في معادك أو معاشك الذي 
لا تستغني عنه وعن الاستعانة به على معادك. فإن عجزت عن القيام بحق دينك 
مع مخالطة الناس وكنت لا تسامء فالعزلة أولى لك. فعليك بها ففيها النجاة 
والسلامة. فإن كانت الوساوس في العزلة تحاذبك إلى ما لا يُرضي الله تعالى ولم 
تقدر على قمعها بوظائف العبادات. فعليك بالنوم فهو أحسن أحوالك وأحوالنا . 


7 


إذا عجزنا عن الغنيمة رضينا بالسلامة في الهزيمة . فأخِسس بحال من سلامة دينه في 
تعطيل حياته, إذ النوم أخو الموت. وهو تعطيل الحياة والتحاق بالجمادات. 
أداب الاستعداد لسائر الصلوات: 

ينبغي أن تستعد لصلاة الظهر قبل الزوال. فتقدم القيلولة إن كان لك قيام 
في الليل أو سهر في الخير. فإن فيها معونة على قيام الليل» كما أن في السحور 
معونة على صيام النهار. والقيلولة من غير قيام الليل كالسحور من غير صيام 
بالنهار . واجتهد أن تستيقظ قبل الزوال» وتتوضأ. وتحضر المسجد . وتصل محية 
المسجد . وتنتظر المؤذن فتجببه, ثم تقوم فتصلى أربع ركعات عقب الزوال؛ كان 
رسول الله عَلِنَهِ يطوهن ويقول: « هذا وقت تفتح فيه أبواب السماء, فأحب 
أن يرفع لي فيه عمل صالح» وهذه الأربع قبل الظهر سنة مؤكدة27. ففي 
الخبر أن من صلاهن فأحسن ركوعهن وسجودهن صل معه سبعون ألف ملك 
يستغفرون له إلى الليل. ثم تصلى الفرض مع الإمام. ثم تصللى بعد الفرض 
ركعتين, فهما من الرواتب الثابتة (" . 


)١(‏ الأربع قبل الظهر منة مؤكدة على قول. وفي الإحياء أن الركعتين قبل الظهر آكد من جملة 
الأربعة . وقد وردت في الصحاح أحاديث تؤيد القولين. 

(؟) في صلاة الركعتين بعد الظهر . روى الاإمام أحد في المند ( ج 7 ص )١188‏ من حديث عائشة 
رضي الله عنها قالت : كان النبي يله يصلٍ ركعتين بعد الظهر فشغل عنهيا حتى صل العصر . 
فلما فرغ ركعهها في بيتي, فيا تركهها حتى مات. وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهها: ه كان 
رسول الله 2َرَلِنَهْ يصلٍ قبل الظهر ركعتين وبعدها ركعتين» رواه البخاري في الجمعة باب 9اء 
وأبو داود في التطوع باب ١‏ . والنسائي في الإمامة باب 34. ومالك في السفر باب ,١‏ وأحمد في 
المسند ج ؟ ص 35 . ورواه الترمذي في المواقيت باب 7٠٠6‏ من حديث عائشة رضي الله عنها . 
وقد وردت أحاديث في فضل صلاة أربع ركعات قبل الظهر وأربع بعدها؛ منها ما رواه أبو 
داود في التطوع باب 7,, والترمذي في المواقيت باب ,.7٠٠١‏ من حديث أم حبيبة مرفوعاً : من 
حافظ على أربع ركعات قبل الظهر وأريع بعدها حرم على النار ؛. 


ل 


ولا تشتغل الى العصر إلا بتعلم علمء أو إعانة مسلم. أو قراءة قرآن, أو سعي 
في معاش تستعين به على دينك. ثم تصلي أربع ركعات قبل العصر, فهي سنة 
مؤكدة. فقد قال رسول الله يله : ه رحم الله امراً صلى أربعاً قبل 
العصر » ١‏ . فاجتهد أن ينالك دعاؤه عَلِنَمٍ . ولا تشتغل بعد العصر إلا بمثل ما 
سبق قبله . 

ولا ينبغي أن تكون أوقاتك مهملة فتشتغل في كل وقت بما اتفق كيف 
اتفق. بل ينبغي أن تحاسب نفسك, وترتب أورادك في ليلك ونهارك؛, وتعين 
لكل وقت شغلاً لاتتعداه ولا تؤثر فيه سواهء فبذلك تظهر بركة الأوقات . فأما 
إذا تركت نفسك سُدى مهملاً إهال البهائم. لا تدري بماذا تشتغل في كل 
وقتء فينقضي أكثر أوقاتك ضائعاً . وأوقاتك عمرك. وعمرك رأس مالك. 
وعليه تجارتك. وبه وصولك إلى نعيم دار الأبد في جوار الله تعالى. فكل نفس 
من أنفاسك جوهرة لا قيمة لهاء إذ لا بدل له فإذا فات فلا عود له. فلا تكن 
كالحمقى المغرورين الذين يفرحون كل يوم بزيادة أموالهم مع نقصان أعرارهم. 
فأي خير في مال يزيد وعمر ينقص . ولا تفرح إلا بزيادة علم أو عمل صالح. 
فإنهها رفيقاك يصحبانك في القبر حيث يتخلف عنك أهلك ومالك وولدك 
وأصدقاؤك. 

م إذا اصفرت الشمس فاجتهد أن تعود إلى المسجد قبل الغروب, واشتغل 
بالتسبيح والاستغفار. فإن فضل هذا الوقت كفضل ما قبل الطلوع؛ قال الله 
تعالى : (( وسبح محمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها » . [ طه: 1٠١‏ ]. 


5٠0١ رواه من حديث ابن عمرء أبو داود في التطوع باب 4 . والترمذي في المواقيت باب‎ )١( 
والإمام أحد (ج؟ ص؟7١١). وقد وردت أحاديث أخرى في صلاته يِه ركعتين قبل العصرى‎ 
أن النبي يِه كان يصل قبل‎ ٠ منها ما رواه ابو داود في التطوع باب 8 من حديث علي كرم الله وجهه‎ 
. » العصر ركعتين‎ 


738 


واقرأ قبل غروب الشمس ٠‏ والشمس وضحاهاء ٠‏ والليل إذا يغثى» 
« والمعوذتين» ولتغرب عليك الشمس وأنت في الاستغفار, فإذا سمعت الأذان 
فأجبه وقل بعده: اللهم إني أسألك عند إقبال ليلك وإدبار نهارك. وحضور 
صلاتك وأصوات دعاتك, أن تؤتي مدا الوسيلة والفضيلة والشرف والدرجة 
الرفيعة, وابعثه المقام المحمود الذي وعدته إنك لا تخلف الميعاد 7 . والدعاء كما 


سبق . 

ثم صل الفرض بعد جواب المؤذن والإقامة. وصل بعده ركعتين قبل أن 
تتكلم فها راتبتا المغرب, وإن صليت بعدهها أربعاً فهي أيضاً سنة20. وإن 
أمكنك أن تنوي الاعتكاف إلى العشاء تحبي ما بين العشاءين بالصلاة فافعل, 
فقد ورد في فضل ذلك ما لا يحصى ؛ وهي ناشئة الليل9) لأنها أول نشأته » وهي 


)١(‏ روى أبو داود في كتاب الصلاة باب 78. عنأم سلمة قالت: علمني رسول الله ينه أن أقرل 
عند أذان المغرب: ٠‏ اللهم هذا إقبال ليلك وإدبار نهارك وأصوات دعاتك فاغفر لي ». ورواه 
الترمذي في كتاب الدعوات باب 117 بلفظ ٠‏ اللهم هذا استقبال ليلك وإدبار نهارك وأصوات 
دعاتك وحضور صلواتك . أسألك أن تغفر ليه . قال الترمذي: هذا حديث غريب إنما نعرفه 
من هذا الوجه. وعن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله ييه  :‏ من قال حين يسمع النداء : 
اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت مدا الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاما جمودا 
الذي وعدته إلا حلّت له الشفاعة يوم القيامة ؛رواه الترمذي في الصلاة باب 47 وصححهء, 
والنسائي في الأذان باب 58 . وابن ماجه في الأذان باب 4 . 

(؟) في فضل التطوع وست ركعات بعد المغرب روى الترمذي في المواقيت باب ٠١4‏ . وابن ماجه لي 
الاقامة باب .1١‏ 186. من حديث أني هريرة قال: قال رسول الله َه : « من صلَى بعد 
المغرب سب ركعات لم يتكلم فيا بينهن بسوء عدلن له بعبادة ثنتي عشرة سنة .٠‏ 

(؟) قوله تعالى في سورة المزمل الآية 7 8 إن ناشثة الليل هي أشدّ وطأ وأقوم قيلاً» قال العلياء : 
ناشئة الليل أي أوقاته وساعاته, لأن أوقاته تنشأ أولاً فأولاً . قال القرطبي في تفسير هذه الآية: 
اختلف العلباء في المراد بناشئة الليل. فقال ابن عمر وأنس بن مالك : هو ما بين المغرب والعشاء» 
تمكا بأن لفظ نشأ يعني الابتداءء فكان بالأولية أحق... وكان على بن الحسين يصل بين 
المغرب والعشاء ويقول :هذا ناش؛ة الليل. وقال عطاء وعكرمة: إنه بدء الليل. وقال ابن عباس 


صلاة الأوابين27. وسئل رسول الله عَِتّهِ عن قوله تعالى : ([ تتجافى جنوبهم عن 
المضاجع » [ السجدة: ١7‏ ] فقال: ه هي الصلاة ما بين العشائين إنها تذهب 
بملاغي أول النهار وتبذب آخره»- والملاغي جمع ملغاة وهي من اللغو. 

فإذا دخل وقت العشاء فصل أربع ركعات قبل الفرض إحياء لما بين 
الأذانين7. ففضل ذلك كثير. وفي الخبر أن الدعاء بين الأذانين والاقامة لا 


يرد 02 


ثم صل الفرض وصل الراتبة ركعتين, واقرأ فيها سورة«ألم 
السجدة» و « تبارك الملك » أو سورة يس والدخان, فذلك مأئور عن رسول الله 


وبجاهد وغيره|: هي الليل كله, لأنه ينشأ بعد النهار. وهو الذي اختاره مالك بن أنس؛ قال 
ابن العرلي: وهو الذي يعطيه اللفظ وتقتضيه اللغة. وقالت عائشة وابن عباس ومجاهد أيضاً: إنما 
الناشئة القيام بالليل بعد النوم. ومن قام أول الليل قبل النوم فنا قام ناشئة فقال يمان وابن 
كيسان: هو القيام من آخر الليل. وقال ابن عباس: كانت صلاتهم أول الليل؛ وذلك أن 
الإنسان إذا نام لا يدري متى يستيقظ . وفي الصحاح : وناشئة الليل أول ساعاته . وقان القتهي : إنه 
ماعات الليل, لأنها تنشأ ساعة بعد ماعة. وعن الحسن وبجاهد : هي ما بعد العشاء الآخرة إلى 
الصبح . وعن الحسن أيضاً : ما كان بعد العشاء فهو ناشئة. ويقال: ما ينشأ في الليل من الطاعات؛ 
حكاه الجوهري . انتهى عن تفسير القرطبي . 

)1١(‏ في شرح معجم ضياء الدين, وف حديث ابن نصر وابن المبارك عن جمد بن المنكدر : من صلى ما 
بين المغرب والعشاء فإئها صلاة الأوابين. وف رواية: فإن ذلك من صلاة الأوابين ‏ ثم تلا قوله 
تعالى : « إنه كآن للأوابين غفوراً» قال الكشاف: هم التوابون الراجعون عن المعاصي؛ 
والأوب والتوب أخوان. والمراد : الإيذان بفضل الصلاة فبا بين المشاءين . (انظر حاشية بداية 
الحداية ص 7١١‏ طبعة مكتبة الجندي). 

(؟) (بين الأذانين) أي بين الأذان والاقامة. فهو من باب التغليب. 

(؟) عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله يله : «الدعاء لا يرد بين الأذان 
والاإقامة ». رواه الترمذي في الصلاة باب 514 وصححه.ء وأبو داود في الصلاة باب 74 والامام 
أحد (ج ؟ ص 9١١.ء‏ 2168 516 501). ورواه ابن السني في عمل اليوم والليلة ( رقم 
٠‏ ونسبه الحافظ في التلخيص ( ص )١9‏ للنسائي وابن خزيمة وابن حبان. 


:١ 


َه . وصل بعدهها أربع ركعات (2. ففي الخبر ما يدل على عظم فضلهن. ثم 
صل الوتر بعدها ثلاثاً بتسليمتين أو بتسليمة واحدة؛ وكان رسول الله لت يقرأ 
فيها سؤرة سبح اسم ربك الأعلى. وقل يا أيها الكافرون, والاخلاصء 
والمعوذتين. فإن كنت عازماً على قيام الليل فأخر الوتر ليكون آخر صلاتك 
بالليل وترآ”©. ثم اشتغل بعد ذلك بمذاكرة عام أو مطالعة كتاب, ولا تشتغل 
باللهو واللعب فيكون ذلك خاتمة أعمالك قبل نومك . فإنما الأعمال بخواتيمها . 
آداب النوم . 

فإذا أردت النوم فابسط فراشك مستقبل القبلة ونم على يمينك كبا يضجع 
الميت في لحده. واعلم أن النوم مثل الموتء واليقظة مثل البعث 29. ولعل الله 
تعالى يقبيض روحك في ليلتك . فكن مستعدا للقائه بآن تنام على طهارة. وتكون 


)١(‏ روى أبو داود في التطوع باب ١7‏ عن عائشة رضي الله عنها أنها سئلت عن صلاة رسول الله 
نه فقالت: ما صلى رمول الله يَْقْهِ العشاء قط فدخل عل إلا صلى أربع ركعات أو ست 
ركعات ». 

(؟) عن عبد الله بن عمر عن رول الله يه قال::اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراًه.رواه 
البخاري في الوتر باب 4 . وأححد (ج ؟ ص ١5582٠١5870‏ ) ورواه ملم في صلاة المسافرين 
وقصرها حديث رقم ١6١‏ عن عبد الله بن عمر قال: من صلى من الليل فليجمل آخر صلاته 
وترأء فإ رسول الله يَظِنْةٍ كان يأمر بذلك. 

)١(‏ قال تعالى في سورة الأنعام الآية ٠‏ : #وهوالذي يتوفاي بالليل ويعم ما جرحم بالنهار ثم يبعثكم 
فيه ليُقَضى أجل مسمى ثم إليه مرجعكم ثم ينبئكم بما كنتم تعملون » 


3 


وصيتك مكتوبة27 تحت رأسك. وتنام تائباً من الذنوب مستغفراً "2 . عازماً على 
أن لا تعود إلى معصية. واعزم على الخير لجميع المسلمين إن بعثك 7 الله تعالى ؛ 
وتذكر أنك ستضجع في اللحد كذلك وحيداً فريداً. ليس معك إلا عملك, 
ولا تحزى إلا بسعيك . 

ولا تستجلب النوم تكلفاً بتمهيد الفرش الوطيئة» فإن النوم تعطيل للحياة» 
إلا إذا كانت يقظتك وبالاً عليك. فنومك سلامة لدينك. واعلم أن الليل 
والنهار أربع وعشرون ساعةء فلا يكن يومك بالليل والنهار أكثر من ثمان 
ساعات, فيكفيك إن عشت مثلاً ستين سنة أن تضيع منها عشرين سنةء وهو 
ثلث عمرك. 

وأعد عند النوم سواكك وطهورك. واعزم على قيام الليل أو على القيام قبل 
الصبح . فركعتان في جوف الليل كنز من كنوز البرء فاستكثر من كنوزك ليوم 
فقرك. فلن تغني عنك كنوز الدنيا إذا مت . 


وقل عند نومك : باسمك رفي وضعت جني . وباسمك أرفعه 9 , فاغفر لي 


)١(‏ في وجوب الاحتفاظ بالوصية المكتوبة ورد عن ابن عمر أن رسول الله يِه قال: هما حق 
امرىء م له شيء يريد أن يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده ؛ أخرجه البخاري 
في الوصايا باب .١‏ ومسام في الوصية حديث ١٠ء‏ وأبو داود في الوصايا باب ١‏ والترمذي في 
الوصايا باب 9 والجنائز بابه . والنائي في الوصايا باب »١‏ وابن ماجه في الوصايا باب 5 . 
والدارمي في الوصايا باب ١‏ . ومالك في الوصاياحديث ,١‏ وأحد (ج ؟ ص 86٠001٠١‏ ل/امء 
٠‏ )وني رواية: ٠‏ ثلاث ليال؛ ملم: كتاب الوصية حديث ‏ . والنسائي : كتاب الوصايا 
باب 01 واحمد: ج ؟ ص 103 1". 

(؟) روى الترمذي في الدعوات باب 17. والإمام أحمد (ج © ص )٠١‏ من حيث ألي سعيد الخدري 
رضي الله عنه عن النبي عَِنّهِ قال: « من قال حين يأوي إلى فراشه أستغفر الله العظم الذي لا إله 
إلا هو الحي القيوم واتوب إليه ثلاث مرات غفر الله له تعالى له ذنوبه ». 

(؟) إن بعثك الله: أي أيقظك ؛ لأن اليقظة مثل البعث . 

(:) عن أبي هريرة قال: قال النبي َيه : « إذا أوى أحدك إلى فراشه فلينفض فراشه بداخلة إزاره 


و 


ذنبي . اللهم قني عذابك يوم تبعث عبادك. اللهم باسمك أحيا وأموت, وأعوذ 
بك الله من ضر كل ذي شر. ومن شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها إنرلي 
على صراط مستق. اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء, وأتت الآخر فليس 
بعدك شيء . وأنت الظاهر فليس فوقك شيء , وأنت الباطن فليس دونك شيء » 
اقض عني الدين وأغنني من الفقر. اللهم أنت خلقت نفسي وأنت تتوفاها. لك 
ماتها ومحياهاء إن أمتها فاغفر لما وإن أحييتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك 
الصالحين. اللهم أني أسألك العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة. اللهم أيقظني 
في أحب الساعات إليك, واستعملني بأحب الأعبال إليك, حتى تقربني إليك 
زلفى, وتبعدني عن سخطك, بعد أن أسألك فتعطيني. وأستغفرك فتغفر لي 
وأدعورك فتستجيب لي . 

نم اقرأ آية الكرمي «٠‏ وآمن الرسول»"" إلى آخر السورة, والاخلاص» 
والمعوذتين, وتبارك الملك 7©. وليأخذك النوم وأنت على ذكر الله تعالى وعلى 
الطهارة 27 فمن فعل ذلك عرج بروحه إلى العرش وكتب مصلياً إلى أن 
يستيقظ . فإذا ايتيقظت فارجع الى ما عرفتك أولأ وداوم على هذا الترتيب 
بقية عمرك, فإن شقّت عليك المداومة فاصبر صبر المريض على مرارة الدواء 


> فإنه لا يدري ما خلفه عليه ثم يقول: باسمك ربي وضعت جنهي وبك أرفعه , إن أمكت نفسي 
فارحمهاء وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به الصالحين ». رواه البخاري في كتاب الدعوات باب 
(واللفظ له)ء وأبو داود في الأدب باب 48 . والترمذي في الدعوات باب ٠١‏ . وابن ماجه 
في الدعاء باب 6. والدارمي في الامتثذان ياب ,20١‏ وأحد (ج 7ت ص545 27ت 6وكء 
21 1575). 
)١(‏ الآية ١40‏ من سورة البقرة: #آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله 
وملالكته ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصمر » 
(؟١)‏ سورة الملك . والآية الأولى منها : #تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير 6 . 
فرق روى أبو داود في كتاب الأدب باب 0و من حديث معاذ بن جبل عن الني عَيهِ قال: : ما من 
مسم يبيت على ذكر طاهراً فيتعارٌ من الليل فيسأل الله خيراً من الدنيا والآخرة إلا أعطاء إياه». 


5 


انتظاراً للشفاء . وتفكر في قصر عمرك؛ وإن عشت مثلا ماثة سنة فهي قليلة 
بالإضافة الى مقامك في الدار الآخرة وهي أبد الآباد. وتأمل أنك تتحمل المشقة 
والذل في طلب الدنيا شهراً أو سنة رجاء أن تستريح بها عشرين سنة مثلآء 
فكيف لا تتحمل ذلك أياما قلائل رجاء الاستراحة أبد الآباد ؟ ولا تطول أملك 
فيئقل عليك عملك. وقدر قرب الموت وقل في نفسك: إني أتحمل المشقة اليوم 
فلعلى أموت الليلة, وأصبر الليلة فلعلى أموت غداً ؛ فإن الموت لا مهجم في وقت 
مخصوص وحال مخصوص ومن خصوص » فلا بد من هجومه. فالاستعداد له 
أولى من الاستعداد للدنياء وأنت تعام أنك لا تبقى فيها إلا مدة يسيرة, ولعله لم 
يبق من أجلك إلا يوم واحد أو نفس واحد؛ فقدّر هذا في قلبك كل يوم. 
وكلف نفسك الصبر على طاعة الله يوماً فيوماً. فإنك لو قدرت البقاء سين سنة 
وألزمتها الصبر على طاعة الله تعالى نفرت واستعصت عليك , فإن فعلت ذلك 
فرحت عند الموت فرحاً لا آخر له. وإن سوّفت وتساهلت جاءك الموت في 
وقت لا تحتسبه. وتحسرت تحسراً لا آخر له, و وعند الصباح يحمد القوم 
السرى :7 وعند اموت يأتيك الخبر اليقين ( ولتعلمن نبأه بعد حين 6 [ ص :88 ]. 

وإذأرشدناك إلى ترتيب الأوراد. فلنذكر لك كيفية الصلاة والصوم 
وادابهها . وآداب الامامة والقدوة والجمعة. 


)١(‏ مثل يضرب في الحث على مزاولة الأمر بالصبر وتوطين النفس حتى محمد عاقيته. والسرى ( بم 
السين): سير عامة الليل. ومعنى المثل: إذا أصبح الذين قاسوا كد السرى وقد خلفوا تبجحوا 
بذلك وحمدوا ما فعلوا . قال الجليح: 
إلى إذا الجبس على الككور انثشلى لو سئطلالاء فداه لافقدى 
وقال ع أتعبت قلت قد أرى عند الصباح يحمد القوم السرى 

وتنجلٍ عنه عبايات الكرى 
(انظر المستقمى في أمثال المرب للزمخشري ‏ ج ؟ ص )١748‏ 


م 


أداب الصلاة . 
فإذا فرغت من طهارة الخبث . وطهارة الحدث في البدن والثياب والمكان . 

ومن ستر العورة من السسرة إلى الركبة؛ فاستقبل القبلة قائيا, مزاوجاً بين قدميك 

بحيث لا تضمهاء واستو قائياً. ثم اقرأ «قل أعوذ برب الناس » تحصناً بها من 
الشيطان الرجيم ؛ وأحضر قلبك ما أنت فيه. وفرغه من الوسواس ., وانظر بين 
يدي من تقوم ومن تناجي. وامتح أن تناجي مولاك بقلب غافل وصدر 
مشحون بوساوس الدنيا وخبائث الشهوات, واعام أنه تعالى مطلع على سريرتك ‏ 
وناظر إلى قلبك . فإنما يتقبل الله من صلاتك بقدر خشوعك وخضوعك 

وتواضعك وتضرعك . 
واعبده في صلاتك كأنك تراهء فإن لم تكن تراه فإنه يراك. 2 فإن لم يحضر 

قلبك ولم تسكن جوارحك فهذا لقصور معرفتك بجلال الله تعالى؛ فقدّر أن 

رجلاً صالحاً من وجوه أهل بيتك ينظر إليك: ليعلم, كيف صلاتك. فعند ذلك 
يحضر قلبك وتسكن جوارحك,. ثم ارجع إلى نفسك وقل: يا نفس السوء ! ألا 
تستحين من خالقك ومولاك. إذ قدرت اطلاع عبد ذليل من عباده عليك 
وليس بيده ضرك ولا نفعك خشعت جوارحك وحسنت صلاتك» ثم إنك 
تعلمين أنه مطلع عليك ولا تخشعين لعظمته! أهو تعالى عندك أقل من عبد من 

عباده؟ فا أشد طغيانك وجهلك. وما أعظم عداوتك لنفسك! 
فعالج قلبك بهذه الحيل. فعساه أن يحضر معك في صلاتك؛ فإنه ليس من 

صلاتك إلا ما عقلت منهاء وأما ما أتيت به مع الغفلة والسهو فهو إلى الاستغفار 

والتفكير أحوج . 

)١(‏ في حديث الإسلام والإيمان وقد أل جبريل رسول الله يَقْيْهِ : ما الاحان؟ قال: وأن تعيد 
الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك». رواه من حديث أني هريرة البخاري في كتاب 
الإيمان باب /ا*. وملم في كتاب الايمان حديث ثم ولاء والنائي في كتاب الزيمان باب 5 . 
ورواه من حديث عمر بن الخطاب مسم في الايمان حديث ١‏ ., والنائي في الإيمان باب 6 . 


ك5 


فإذا حضر قلبك فلا تترك الاقامة وإن كنت وحدكء. وإن انتظرت حضور 
جماعة فأذن ثم أقم. فإذا أقمت فانو وقل في قلبك : أؤدي فرض الظهر لله تعالى ؛ 
وليكن ذلك حاضرا في قلبك عند تكبيرك . ولا تغرب عنك النية قبل الفراغ 
من التكبير . وارفع يديك عند التكبير بعد إرسالما أولاً إلى حذو منكبيك. وهما 
مبسوطتان وأصابعها منشورة» ولا تتكلف ضمها ولا تفريجها بحيث تحاذي 
بإبهاميك شحمتي أذنيك . وبرؤوس أصابعك أعلى أذنيك, وبكفيك منكبيك . 
فإذا استقرتا في مقرهرا فكبر ثم أرسلها برفق. ولا تدفع يديك عند الرفع 
والإرسال إلى قدام دفعاً. ولا إلى خلف رفعاً . ولا تنفضها يمينا ولا شمالاً . فإذا 
أرسلتههما فاستأنف رفعهها إلى صدرك. وأكرم اليمنى بوضعها على اليسرى» 
وانشر أصابع اليمنى على طول ذراعك اليسرى., واقبض بها على كوعها؛ وقل 
بعد التكبير : الله أكبر كبيراً. والحمد لله كثيراً» وسبحان الله بكرة وأصيلاً » 
ثم اقرأ: «وجَهت وجهي للذي. فطر السموات والأرض حنيفاً وما أنا من 
المشر كين 7 . إن صلاتي ونسكي ونحياي ومماتي لله رب العالمين27, لا شريك له 
ويذلك أمرت وأنا من المسلمين ». ثم قل: «أعوذ بالله من الشيطان الرجم » ثم 
اقرأ الفاتحة بتشديداتهاء واجتهد في الفرق بين الضاد والظاء في قراءتك في 
الصلاة ؛ وقل آمين ولا تصله بقولك « ولا الضالين؛ وصلا . 

واجهر بالقراءة في الصبح والمغرب والعشاء , أعني في الركعتين الأوليين, إلا 
أن تكون مأموما ؛ واجهر بالتأمين. واقرأ في الصبح بعد الفاتحة من السور الطوال 
من المفصل 2 . وفي المغرب من قصاره. وفي الظهر والعصر والعشاء من أواسطه, 
نحو: « والمماء ذات البروج» وما قاربها من السور, وفي الصبح في السفر « قل يا 
)١(‏ الآية 9/ا من سورة الأنعام. 
(؟) الآية ؟3١‏ من سورة الأنعام. 


(؟) طوال المفصل من الحجرات إلى النبأ. وقصاره من الضحى إلى آخر القرآن, والمتوسط ما بين 
ذلك . 


/ع 


أعها الكافرون » و « وقل هو الله أحد ». ولا تصل آخر السورة بتكبيرة الركوع . 
ولكن افصل بينهها بمقدار سبحان الله. 

وكن في جميع قيامك مطرقاً قاصراً نظرك على مصلاك. فذلك أجمع لحمك 
وأجدر لحضور قلبك ؛ واياك أن تلتفت بميناً وشمالاً في صلاتك . 

ثم كبر للركوع وارفع يديك كما سبق. ومد التكبير إلى انتهاء الركوع, ثم 
ضع راحتيك على ركبتيك وأصابعك منشورة, وانصب ركبتيك. ومد ظهرك 
وعنقك ورأسك مستوياً كالصفيحة 27 الواحدة , وجاف”''مرفقيك عن جنبيك ؛ 
والمرأة لا تفعل ذلك. بل تفم بعضها إلى بعض ؛ وقل : ٠‏ سبحان رلي العظم » 
ثلاثاً»وإن كنت منفرداً فالزيادة إلى السبع والعشر حسن. ثم ارفع رأسك حتى 
تعتدل قائياً. وارفع يديك قائلاً: « سمع الله لمن حمده» فإذا استويت قائياً فقل: 
«ربنا لك الحمد ملء السموات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد ». 

وإن كنت في فريضة الصبح فاقراً القنوت في الركعة الثانية في اعتدالك من 
الركوع. ثم اسجد مكبراً غير رافع اليدين. وضع أولاً على الأرض ركبتيك ثم 
يديك ثم جبهتك مكشوفة, وضع أنفك مع الجبهة وجاف مرفقيك عن جنبيك , 
وأقل 29 بطنك عن فخذيك - والمرأة لا تفعل ذلك - وضع يديك على الأرض 
حذو منكبيك, ولا تفرش ذراعك على الأرضء وقل: ه سبحان ري الأعلى » 
ثلاثاً أو سبعاً أو عشراً إن كنت منفرداً . ش 

ثم ارفم رأسك من السجود مكبرا حتى تعتدل جالسا. واجلس على رجلك 
اليسرى. وانصب قدمك اليمنى. وضع يديك على فخذيك والأصابع منشورة 
وقل: هرب اغفر لي وا رحني وارزقني واجبرني وعافني واعف عني ». ثم اسجد 
سجدة ثانية كذلك , ثم اعتدل جالساً للاستراحة في كل ركعة لا تشهد عقبها. 

ثم تقوم وتضع اليدين على الأرض., ولا تقدم إحدى رجليك في حالة 
الارتفاع. وابتديء بتكبيرة الارتفاع عند القرب من حد جلسة الاستراحة» 


)01 الصفيحة : كل عريض من حجارة أو لوح ونحوهها. (؟) أي أبعد. )0 أي ارفع . 


م 


ومدها إلى منتصف ارتفاعك إلى القيام,» ولتكن هذه الجلسة جلسة خفيفة 
مختطفة ؛ وصل الركعة الثانية كالأولى. وأعد التعوذ في الابتداء, ثم اجلس في 
الركعة الثانية للتشهد الأول وضع اليد اليمنى في جلوس التشهد على الفخذ 
اليمنى مقبوضة الأصابع , إلا المسبحة 7 والإبهام فترسلهها » وأشر بمسبحة يمناك 
عند قولك «١‏ إلا الله لا عند قولك ولا إله» وضع اليد اليسرى منشورة 
الأصابع على الفخذ اليسرى , واجلس على رجلك اليسرى في هذا التشهد كبا بين 
السجدتين, وفي التشهد الأخير متوركاً. واستكمل الدعاء المعروف المأثور بعد 
الصلاة على النبي عله ٠‏ واجلس فيه على وركك الأيسرء وضع رجلك اليسرى 
خارجة من تحتك. وانصب القدم اليمنى ثم قل بعد الفراغ: «السلام عليكم 
ورحمة الله » مرتين» الجانبين 7" , والتفت بحيث يرى بياض خديك من جانبيك , 
وانو الخروج من الصلاة. وانو السلام على من على جانبيك من الملائكة 
والمسلمين. وهذه هيئة صلاة المنفرد . 

'وعباد الصلاة الخشوع وحضور القلب مع القراءة والذكر بالتفهم. وقال الحسن 
البصري رحمه الله تعالى: كل صلاة لا يحضر فيها القلب فهي الى العقوبة أسرع. 
وقال رسول الله َه :ه إن العبد ليصلي الصلاة فلا يكتب له منها سدسها 
ولا عشرهاء وإنما يكتب للعبد من صلاته بقدر ما عقل منهاء '" . 
آداب الامامة والقدوة . 

ينبغي للإمام أن يخفف الصلاة؛ قال أنس بن مالك رضي الله عنه : ما صليت 
خلف أحد صلاة أخف ولا أتم من صلاة رسول الله لاقع 9 . 
40 الي اما 00000 (؟) أي مرة متوجهاً إلى اليمين ومرة إلى اليسار . 
(+) روى أبو داود في كتاب الصلاة باب 154.ء عن عبار بن ياسر قال: سمعت رمول الله يلاع 

يقول: ٠‏ إن الرجل لينصرف وما كتب له إلا عشر صلاته تسعها ثمنها سبعها سدسها خسها 


ربعها ثلثها نصفها ». 
رواه بهذا اللفظ مم في كتاب الصلاة حديث ١4.‏ .وأحمد ( ج١٠‏ ص5758). ورواه البخاري في- 


امسلا 


40 


1: 


ولا يكبر ما لم يفرغ المؤذن من الإقامة, وما لم تستو الصفوف. ويرفع الإمام 
صوته بالتكبيرات. ولا يرفع المأموم صوته إلا بقدر ما يسمع نفسه. وينوي 
الامام الإمامة لينال الفضل . فإذا لم ينو صحت صلاة القوم إذا نووا الاقتداء به 
ونالوا فضل القدوة. ويُسِرٌ بدعاء الاستفتاح والتعوذ كالمنفرد, ويجهر بالفاتحة 
والسورة في جميع الصبح وأولبي المغرب والعشاء , وكذلك المنفرد. ويجهر بقوله 
آمين في الجهرية. وكذلك المأموم. ويقرن المأموم تأمينه بتأمين الامام معاً لا 
تعقيباً له. ويسكت الإمام سكتة عقب الفاتحة ليؤوب إليه نفسه؛ ويقرأ المأموم 
الفاتحة في الجهرية في هذه السكتة ليتمكن من الاستّاع عند قراءة الإمام. ولا 
يقرأ المأموم السورة في الجهرية إلا إذا لم يسمع صوت الإمام. ولا يزيد الإمام 
على الثلاثة في تسبيحات الركوع والسجود , ولا يزيد في التشهد الأول بعد قوله 
« اللهم صل على مد ». ويقتصر في الركعتين الأخيرتين على الفاتحة. ولا يطول 
على القوم. ولا يزيد دعاءه في التشهد الأخير على قدر تشهده وصلاته على 
رسول الله َه . وينوي الامام عند التسليم السلام على القوم , وينوي القوم بتسليمهم 
جوابه . ويلبث الإمام ساعة بعدما يفرغ من السلام . ويقبل على الناس بوجهه. 
ولا يلتفت إن كان خلفه نساء لينصرفن أولاً. ولا يقوم أحد من القوم حتى 
يقوم اللامام . وينصرف الا/مام حيث شاء. عن بمينه أو شماله؛ واليمين احب 
إليه. ولا يخص الاامام نفسه بالدعاء في قنوت الصبح بل يقول: ١‏ اللهم اهدنا » 


الأذان باب 186, وأحمد (ج * ص 589. )58.٠‏ وزاد فيه ه وإن كان ليسمع بكاء الصبي 
فيخفف مخافة أن تفتن أمه ». ورواه أحمد ( ج * ص 50601٠١‏ ) بلفظ « كان رسول الله يِه 
من أتم الناس صلاة وأوجزه» ورواه (ج * ص )١87‏ بلفظ وما رأيت أحداً أتم صلاة من النبي 
ته ولا أوجزه ورواه (ج “ ص ؟7١١)‏ بلفظ :ما صليت خلف أحد بعد رسول الله عله 
أوجز صلاة ولا أتم من رسول الله عله ه. وروى أيضاً (ج ه ص 553) من حديث مالك بن 
عبد الله الخئعمي رضي الله عنه قال: غزوت مع رسول الله يِه فا صليت خلف إمام يؤم الناس 
أخف صلاة من رسول الله ينه . 


ويجهر به؛ ويؤمن القوم ولا يرفعون أيديهم. إذ لم يثبت ذلك في الأخبار. ويقرأ 
المأموم نقية القنوت من قوله « إنك تقضي ولا يقضى عليك ». ولا يقف المأموم 
وحده بل يدخل في الصف أو يجر إلى نفسه غيره. ولا ينبغي للأموم أن يتقدم 
على الإمام في أفعاله أو يساويه. بل ينبغي أن يتأخر عنه ولا بوي للركوع إلا 
اذا انتهى الامام إلى حد الركوع, ولا هوي للسجود مالم تصل جبهة الامام إلى 
الأرض. 
آداب الجمعة. 
وفيه ساعة مهمة لا يوافقها عبد مسام يسأل الله تعالى فيها حاجة إلا أعطاه إياها؛ 
فاستعد لا من يوم الخميس بتنظيف الثياب وبكثرة التسبيح والاستغفار عشية () 
المخميس . فاننا ساعة توازي في الفضل ساعة يوم الجمعة.وانو صوم يوم الجمعة. 
لكن مع الخميس أو السبت. إذ جاء في إفرادها نبي 29. 

فإذا طلع عليك الصبح فاغتسل غسل يوم الجمعة. فإن غسل يوم الجمعة 
واجب على كل نحتام» أي ثابت مؤكد 9). 

م تزين بالثياب البيض فإنها أحب الثياب إلى الله تعالى» واستعمل من الطيب 
أطيب ما عندك, وبالغ في تنظيف بدنك بالحلق والقص والتقليم والسواك وسائر 


)١(‏ العشية: الوقت من زوال الشمس إلى المغرب, أو من صلاة المغرب إلى العتمة. 

(؟) عن أن هريرة رضي الله عنه قال: سمعت النبي يله يقول: ولا يصومن أحدم يوم الجمعة إلا 
يوماً قبله أو بعده» رواه بهذا اللفظ البخاري في الصوم باب 37 , وأبو داود في الضوم باب 80 . 
ورواه مسام في الصيام حديث ١47‏ ء والترمذي في الصوم باب ,1١‏ بلفظ ولا يصم أحدكم يوم 
الجمعة إلا أن يصوم قبله أو يصوم بعده». ورواه الإمام أحد (ج ؟ ص 140) بلفظ دلا 
تصوموا يوم الجمعة إلا وقبله أو بعده يوم؛ وني لفظ آخر له (ج ؟ ص 065): ولا يصوم 
أحدك يوم الجمعة إلا في أيام معه. 


(؟) ورد في غل يوم الجمعة أحاديث تؤكد على وجوبه. وورد حديث عن سمرة بن جندب عند - 


اه 


الترمذي وغيره يبين أن الوضوء يجزىء من الغسل . 

من الأحاديث التي تؤكد على الوجوب ما رواه البخاري في كتاب الأذان باب 17١‏ والجمعة 
باب 7. من حديث أني سعيد الخدري عن رسول #َقِيّهْ قال: ه الغسل يوم الجمعة واجب عل كل 
حتلم » ورواه في الجمعة باب ٠"‏ بزيادة « وأن يتن وأن يمس طيباً إن وجد » ولمم نحوه ( كتاب 
الجمعة حديث رقم 7). ورواه أيضاً أحمد في المسند ج * ص 7٠١‏ . 870 73 19) والطيالسي 
(رقم <551). ورواه غيرهما. وروى البخاري في الجمعة باب ؟ من حديث عبد الله بن عمر 
عن رسول الله عَم قال: إذا جاء أحدكى الجمعة فليغتسل ». وروى أحمد في المسند (ج ١‏ ص 
) عن الزهري سثل : هل في الجمعة غسل واجب؟ فقال: ٠‏ حدثني مالم بن عبد الله بن عمر 
أنه سمع عبد الله بن عمر يقول: سمعت الني ييه يقرل: من جاء منكم الجمعة فليغتسل . وقال 
طاوس: قلت لابن عباس: ذكروا أن النبي يهم قال: اغتسلوا يوم الجمعة واغسلوا رؤوسكم 
وإن لم تكونوا جنباً. وأصيبوا من الطيب. فقال ابن عباس : أما الغسل فنعم, وأما الطيب فلا 
أدري .٠‏ ورواه مختصراً أيضاً بإسنادين من حديث ابن عباس فقط (ج ١‏ ص 516 و7317). 
وروى الترمذي في الجمعة باب 79 من حديث البراء بن عازب قال: قال رسول الله ييه : ٠‏ حق 
على المسلمين أن يغتلوا يوم الجمعة. وليمس أحدهم من طيب أهله. فإن لم يجد فالماء له 
طيب .٠‏ وللإمام أحمد نحوه (ج 4 ص 18825485). 

هذه الأحاديث التي ذكرناها. وغيرها لم نذكرها. صريحة في الدلالة على وجوب غسل الجمعة. 
أما حديث سمرة بن جندب فقد رواه الترمذي في الجمعة باب 6 وحسنه, وأبو داود في الطهارة 
باب 4.» والنسائي في الجمعة باب و. وابن ماجه في الإقامة باب ١‏ والدارمي في الصلاة 
باب 19ء والامام أحمد في المسند ج 6 ص 8. 01١161001١‏ ؟5). ولفظ الحديث: وعن 
سمرة بن جندب قال: قال رسول الله يِه : « من توضاً يوم الجمعة فبها ونعمت, ومن اغتسل 
فالغل أفضل .٠‏ 

قال الترمذي بعد أن رواه: والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي عَِنّهُ ومن بعدهم. 
اختاروا الغسل يوم الجمعة ورأوا أن يجزىء الوضوء من الغسل ؛ قال الشافعي : ومما يدل على أن أمر 
النبي عله بالغسل يوم الجمعة أنه على الاختيار لا على الوجوب, حديث عمر حيث قال لعثيان: 
« والوضوء أيضاً. وقد علمت أن رسول الله يق أمر بالغسل يوم الجمعة؛ فلو علما أن أمره غلى 
الوجوب لا على الاختيار لم يترك عمر :عثيان حتى يرده ويقول له: ارجع فاغتسل ! ولّمَا خفي عل 
عثيان ذلك مع علمه؛ ولكن دل هذا الحديث أن الغسل يوم الجمعة فيه فضل من غير وجوب 
يجب على المرء في ذلك . انتهى عن سنن الترمذي . 


6 


أنواع النظافة وتطييب الرائحة. ثم بكر الى الجامع. وأسْعَ إليها على الهينة 
والسكينة. فقد قال عَِتهِ : « من راح إلى الجمعة في الساعة الأولى فكأنما 
قرب بدنة"", ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة. ومن راح في 
الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشاً أقرن7". ومن راح في الساعة الرابعة 
فكانما قرب دجاجة, ومن راح في الساعة الخامسة فكأئما قرب بيضة . فإذا 
خرج الإمام طويت الصحف ورفعت الأقلام واجتمعت الملائكة عند 
المنبر يستمعون الذكر»(). 
الى الجمعة . 
ثم إذا دخلت الجامع فاطلب الصف الأول. فإذا اجتمع الناس فلا تتخط 
رقابهم. ولا تمر بين أيديهم وهم يصلون. واجلس بقرب حائط أو اسطوانة حتى 
ليا يمرون بين يديك» ول" تقعد حتى تصلٍ التحية, والأحسن أن تصلٍ أربع 
ركعات, تقرأ في كل ركعة بعد الفاتحة سورة الإخلاص خخسين مرة؛ ففي الخبر 
أن من فعل ذلك لم يمت حتى يرى مقعده من الجنة أو يُرى له. ولا نترك التحية 
وإن كان الإمام يخطب, ومن السنة أن تقرأ في أربع ركعات سورة الأنعام 
والكهف وطه ويس . فإن لم تقدر فسورة يس والدخان وألم السجدة وسورة الملك ؛ 
> وقد رجح الشيخ أحمد مد شاكر في شرحه على الرمالة للإمام الشافعي ( ص 507 )5١8‏ أن 
غسل الجمعة واجب في نفسه, أي ليس شرطاً في صحة الصلاة, فمن لم يأت به صحت صلاته . 
وكان مقصراً في الواجب عليه. إذ ليس في الأحاديث ما يدل على شرطيته في صحة الصلاة؛ 
وبذلك يجاب عن اعتراض الشافعي ‏ ويجمع بين الأحاديث. 
)١(‏ قال جمهور أهل اللغة وجماعة من الفقهاء : البدنة يقع على الواحدة من الابل والبقر والغم. سميت 
بذلك لعظم بدنها. وخصها ججماعة بالإبل. والمراد هنا الإبل بالاتفاق لتصريح الأحاديث بذلك. 
(؟) الكيش الأقرن: هو ذو القرن. 
شيم من حديث أني هريرة رضي الله عنه. رواه البخاري في الجمعة باب 4 ومسم في الجمعة حديث 
رقم 23_36 وأبو. داود ف الطهارة باب /ا١1ء‏ والترمذي في الجمعة باب 5. والنسائي في الجمعة 
باب ١4‏ ء ومالك في الجمعة حديث 6 , وأحمد في لللند (ج ؟ ص .)15١0‏ 


07 


ولا ندع قراءة هذه السورة في ليلة الجمعة . ففيها فضل كثير ؛ ومن لم يحسن ذلك 
فليكثر من قراءة سورة اللإخلاص. 

وأكثر من الصلاة على رسول الله 2 في هذا اليوم خاصة. ومههما خرج 
الإمام , فاقطمع الصلاة والكلام » واشتغل بحواب المؤذن. مم باسمّاع الخطبة 
والاتعاظ بها. ودع الكلام رأساً في الخطبةء ففي الخبره أن من قال لصاحبه 
والإمام يخنطب أنصت فقد لغا. ومن لغا فلا جمعة له( أي لأن قوله 
أنصت كلام فينبغي أن ينهى غيره بالإشارة لا باللفظ . 

ثم اقتد بالإمام كبا سبق؛ فإذا فرغت وسلمت فاقرأ الفاتحة قبل أن تتكم 
سبع مرات, والإخلاص سبعاً. والمعوذتين سبعاً سبعاً 9" . فذلك يعصمك من 
الجمعة الى الجمعة الأخرى ويكون حرزاً لك من الشيطان؛ وقل بعد ذلك : اللهم 
يا غنيى ياحميد, يا مبدىء يا معيد. يا رحيم يا ودودء أغنني بحلالك عن 
حرامك . وبطاعتك عن معصيتك . وبفضلك عمن سواك. 

ثم صل بعد الجمعة ر كعتين أو ستا مثنى مثنى » فكل ذلك مروي عن رسول 
الله يلتم في أحوال مختلفة. 

ثم لازم المسجد إلى المغرب أو إلى العصر . وكن حسن المراقبة للساعة الشريفة 
فإنها مبهمة في جميع اليوم. فعساك أن تدركها وأنت خاشع لله تعالى متذلل 
متضرع. ولا تحضر في الجامع مجالس الخلق ولا مجالس القصاص. بل نجلس العلم 


)١(‏ أخرجه من حديث أني هريرة مرفوعاً إلى الني عه . أبو داود في الصلاة باب 7.8ء 
والترمذي في الجمعة باب ١١‏ وصححه. والنسائي في الجمعة باب 2.59 وأحجد (ج كص 
2/4 ). 

(؟) ذكر الحافظ المنذري عن أنس أن النبي عَيتهِ قال: « من قرأ إذا سلم الامام يوم الجمعة قبل أن 
يئني رجله فاتحة الكتاب وقل هو الله أحد والمعوذتين سبعاً سبعاً غفر له ما تقدم من ذنبه وما 


تأخر . وأعطي من الأجر بعدد كل من آمن بالله ورسوله .٠‏ 


6 


النافع . وهو الذي يزيد في خوفك من الله وينقص من رغبتك في الدنيا؛ فكل 
عم لا يدعوك من الدنيا إلى الآخرة فالجهل أعود عليك منه؛ فاستعذ بالله من 

وأكثن الدعاء عند طلوع الشمس. وعند الزوال». وعند الغروب» وعند 
صعود الخطيب المنبرء وعند قيام الناس إلى الصلاة. فيوشك أن تكون الساعة 
الشريفة في بعض الاوقات . 

واجتهد أن تتصدق في هذا اليوم بما تقدر عليه وإن قل. فتجمع بين الصلاة 
والصوم والصدقة والقراءة والذكر والاعتكاف والرباط. واجعل هذا اليوم من 
الأسبوع خاصة لآخرتك , فعساه أن يكون كفارة لبقية الأسبوع. 
آداب الصيام . 

لا ينبغي أن تقتصر على صوم شهر رمضان. فتترك التجارة بالنوافل وكسب 
الدرجات العالية في الفراديس 7( . فتتحسر إذا نظرت إلى منازل الصائمين كما 
تنظر إلى الكوكب الدري وهم في أعلى عليين. 

والأيام الفاضلة التي شهدت الأخبار بشرفها وفضلها وبجزالة الثواب في 
صيامها: يوم عرفة لغير الحاج. ويوم عاشوراء , والعشر الأول من ذي الحجة. 
والعشر الأول من المحرم. ورجب وشعبان. وصوم الأشهر الحرم من الفضائل . 
وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب واحد فرد وثلاثة سرد ؛ وهذه في 
السنة. وأما في الشهر فأول الشهر وأوسطه وآخرهء والأيام البيض وهي الثالث 
عشر والرابع عشر والخامس عشر. وأما في الأسبوع فيوم الاثنين والخميس 
والجمعة؛ فتكفر ذنوب الأسبوع بصوم الاثنين والخميس والجمعة. وتكفر ذنوب 
الشهر باليوم الأول من الشهر واليوم الأوسط واليوم الآخر والأيام البيض» 
وتكفر ذنوب السنة بصيام هذه الأيام والأشهر المذكورة. 


010( جمع فردوس. 


00 


ولا نظن إذا صمت أن الصوم هو ترك الطعام والشراب والوقاع فقط. فقد 
قال َه : هم من صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش » ”© بل تمام 
الصوم بكف الجوارح كلها عبا يكره الله تعالى. بل ينبغي أن تحفظ العين عن 
النظر إلى المكاره واللسان عن النطق بما لا يعنيك . والأذن عن الاستاع إلى ما 
حرم الله تعالى ؛ فإن المستمع شريك القائل, وهو أحد المغتابين؛ وكذلك تكف 
جميع الجوارح كبا تكف البطن والفرج , ففي الخبر : ومس يفطرن الصائم : 
الكذب, والغيبة؛ والنميمة, واليمين الكاذبة, والنظر بشهرة»'" وقال 
يَيَْهِ : « الصوم جُنْة 7 , فإذا كان أحد صائاً فلا يرفث07) ولا يفسق ولا 
يجهل . فإن امروؤٌ قاتله أو ثاتمه فليقل إني صائم 0 . 


)١(‏ من حديث أن هريرة رضي الله عنه. رواه الإمام أحند في المسند (ج ؟ ص 70 ) بلفظ: 
ورب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش. ورب قائم حظه من قيامه السهر». ورواه ابن 
ماجه في.كتاب الصيام بلفظ: هرب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع. ورب قائم ليس له 
من قيامه إلا السهر .٠‏ 

(؟) روى أبو الفتح الأزدي والديلمي عن أنس بإسناد فيه كذاب هذا الخبر بلفظ ه لس خصال 
يفطرن الصائم وينقضن الوضوء : الكذب. والغيبة, والنميمة, والنظر بشهوة؛ واليمينالكاذبة ». 
وهذا ورد على طريق الزجر عن فعل المذكورات وليس المراد الحقيقة, وقيل يبطلن الصوم 
حقيقة على ما ذهبت إليه السيدة عائشة والإمام أحمد . ( حاشية بداية الهداية» ص 75١‏ - طبعة 
مكتبة الجندي). 

(؟) جنة ( يضم الجم وتشديد النون): سترة. ومنه امجن , وهو الترس, ومنه الجن لاستتارهم. 

(4) لا يرفث: أي لا يفحش في الكلام. 

(0) لا يجهل : أي لا يفعل فعل الجهال كالصياح والسخرية. 

(1) رواه الجاعة من حديث أبي هريرة بألفاظ مختلفة. ولفظ البخاري في كتاب الصوم باب ؟: 
« الصيام جنةء فلا يرفث ولا يجهل؛ وإن امرؤ قاتله أو شائمه فليقل إني صائم مرتين. والذي 
نفسي بيده خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك, يترك طعامه وشرابه وشهوته من 
أجل الصيام لي وأنا أجزي به, والحسنة بعشر أمثالها ». ولفظ ملم في كتاب الصيام حديث 
رقم :١7+‏ «قال الله عز وجل: كل عمل ابن آدم له إلا الصيام. فإنه لي وأنا أجزي به. 
والصيام جُنْة, فإذا كان يوم صوم أحدم فلا يرفث يومئذ ولاايسخب . فإن سابَّه أحد أو ى 


كه 


ثم اجتهد أن تفطر على طعام حلال, ولا تستكثر فتزيد على ما تأكله كل 
ليلة لأجل صيامك. فلا فرق إذا استوفيت ما تعتاد أن تأكله دفعتين في دفعة 
واحدة, وإنما المقصود بالصيام كسر شهوتك وتضعيف قوتك لتقوى بها عل 
التقوى . فإذا أكلت عشية ما تداركت به ما فاتك ضحوة فلا فائدة في صومك» 
وقد ثقلت عليك معدتك. وما وعاء أبغض إلى الله تعالى من بطن مُلء من 
حلال. فكيف إذا مليء من حرام ! 

فإذا عرفت معنى الصوم فاستكثر منه ما استطعت. فإنه أساس العبادات 
ومفتاح القربات, قال رمول الله عَِِنّهِ : « قال الله تعالى: كل حسنة بعشر 
أمثاها إلى سبعبائة ضعف إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به»" . وقال 
َِِنهِ : « والذي نفسي بيده لخلوف ' فم الصائم أطيب عند الله من ريح 
المسك. يقول الله عز وجل: إنما يذر شهوته وطعامه وشرابه من أجلي. 
فالصوم لي وأنا أجزي به وقال عَلِنَهِ : « للجنة باب يقال له الريان”' لا 
يدخله إلا الصائمون» . 


قاتله فليقل: إني امرؤ صائم. والذي نفس جمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله يوم 
القيامة من ريح المسك. وللصائم فرحتان يفرحها: إذا أفطر فرح بفطرهء وإذا لقي ربه فرح 
بصومه .١‏ 

)١(‏ أخرجه من حديث أني هريرة. الترمذي في كتاب الصوم باب 08. وابن ماجه في كتاب 
الصيام باب ١‏ . 

(؟) الخلوف: تغير رائحة الفم من أثر الصيام , لخلو المعدة من الطعام . 

(") انظر الحاشية (5 ) من الصفحة السابقة. 

(1) قال العلماء: سمي باب الريان تنبيهاً على أن العطشان بالصوم في الهواجر سيروىء وعاقبته إليه. 
وهو مشتق من الري. 

(6) جزء من حديث رواه البخاري في فضائل الصحابة باب 60. وملم في الزكاة حديث 48». 
والترمذي في المناقب باب ١7‏ ء والنسائي في الزكاة باب .١‏ والصيام باب 18. ومالك في 
الجهاد حديث 41 . وهو من حديث الي هريرة. 


/اه 


فهذا القدر من شرح الطاعات يكفيك من بداية الحداية, فإذا احتجت إلى 
الزكاة والحج, أو إلى مزيد لشرح الصلاة والصيام , فاطلبه مما أوردناه في كتاب 
إحياء علوم الدين . 


مه 


القسم الثاني 


القرل في اجتناب المعاصي 


اعام أن الدين شطران : أحدهما ترك المناهي, والآخر فعل الطاعات. وترك 
المناهي هو الأشد , فإن الطاعات يقدر عليها كل أحد . وترك الشهوات لا يقدر 
عليه إلا الصديقرن, فلذلك قال رسول الله عَلِنَهِ : و المهاجر من هجر السوءهء. 
والمجاهد من جاهد هواه» ( واعلم أنك إنما تعصي الله بجوارحك . وهي نعمة 
من الله عليك وأمانة لديك ». فاستعانتك بنعمة الله على معصيته غاية الكفران. 
وخيانتك في أمانة استودعكها الله غاية الطغيان. فأعضاؤك رعاياك فانظر كيف 


)١(‏ روى البخاري في الايمان باب 4 . والرقاق باب 53 » وأبو داود في الجهاد ياب *. والنسائي في 
الإيمان باب و. والإمام أحمد (ج ١‏ ص 17. 2198 2500 )1١76508‏ من حديث عبد 
الله بن عمرو بن العاص عن النبي ينه قال: ‏ المسام من سم المسلمون من لسانه ويده, والمهاجر 
من هجر ما نهى الله عنه » وفي لفظ عند أحمد (ج ٠”‏ ص 050 )7١0‏ من حديث عبد الله بن 
عمرو أيضاً قال : ه سمعت رسول الله يم يقول: تدرونمنالمام؟ قالوا : الله ورسوله أعلم. 
قال: من سم المسلمون من لانه ويده. قال: تدرون من المؤمن؟ قالوا : الله ورسوله أعلم . قال: 
من أمن المؤمنون على أنفسهم وأمواهم. والمهاجر من هجر السوء فاجتنبه». وروى (ج ؟ ص 
4) من حديث أنس بن مالك عن رسول الله عَكِلهٍ قال: ٠‏ المؤمن من أمنه الناس., والمسلم من 
ملم المسلمون من لسانه ويده. والمهاجر مناهجر. السوء . والذي نفسي بيده لا يدخل الجنة عبد 
لا يأمن جاره بوائقهه. وروى (ج 3 ص )7١ 25١‏ من حديث فضالة بن عبيد قال: قال 
رسول الله يِه في حجة الوداع: ألا أخبري بالمؤمن, من أمنه الناس على أمواهم وأنفسهم» 
والملم من سلم الناس من لسانه ويده. والمجاهد من جاهد نفه في طاعة الله, والمهاجر من 
هجر الخطايا والذنوب» ورواه ابن ماجه في الفتن ياب ؟ مختصرا بلفظ ١‏ المؤمن من امنه الناس 
على أمواهم وأنفهم . والمهاجر من هجر الخطايا والذنوب». ورواه الترمذي في فضائل الجهاد 
باب ؟ مختصراً بلفظ : و المجاهد من جاهد نفه». 


08 


ترعاهاء فكلكم راع وكل راع مسؤول عن رعيته07). واعلم أن جميع أعضائك 
ستشهد عليك في عرصات القيامة بلسان طلق ذلق, أي فصيح, تفضحك به على 
رؤوس الخلائق ؛ قال الله تعالى : يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما 
كانوا يعملون» [النور: 14؟] وقال الله تعالى: #اليوم نتم على أفواههم 
وتكلمنا أيد يهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون» 1[ يس: 56 ] 

فاحفظ يا مسكين جميع بدنك من المعاصي . وخصوصاً أعضاءك السبعة. فإن 
جهنم لها سبعة أبواب لكل منهم جزء مقسوم. ولا يتعين لتلك الأبواب إلا من 
عصى الله تعالى بهيذه الأعضاء السبعة وهي : العين. والأذن, واللسان, والبطن, 
والفرج. واليد . والرجل . 

أما العين فإنما خلقت لتهتدي بها في الظلرات, وتستعين بها في الحاجات, 
وتنظر بها إلى عجائب ملكوت الأرض والسموات, وتعتبر بما فيها من الآبات؛ 
فاحفظها عن أربع: أن تنظر بها إلى غير محرمء أو إلى صورة مليحة بشهوة 
نفس . أو تنظر بها إلى مسام بعين الاحتقار , أو تطلع بها على عيب مسام. 

وأما الأذن. فاحفظها عن أن تصغي بها إلى البدعة, أو الغيبة, أو الفحش, 
أو الخنوف في الباطل» أو ذكر مساوىء الناس؛ فإنما خلقت لك لتسمع بها كلام 
الله تعالى» وسنة رسول الله يِه » وحكمة أوليائه. وتتوصل باستفادة العام بها إلى 
الملك المقيم والنعيم الدائم في جوار رب العالمين. فإذا أصغيت بها إلى شيء من 
المكاره. صار ما كان عليك » وانقلب ما كان سيب فوزك سبب هلاكك» 


(؟) ٠‏ كلكم راع وكلكم مسؤولعن رعيته » من حديث عبد الله بن عمر عن رسول الله ييه برواه 
البخاري في الجمعة باب ١١ء‏ والجنائز باب 259 والاستقراض باب ٠6٠‏ . والوصايا باب 8 
والعتق باب ١١‏ 9١ء‏ والنكاح باب ١م.‏ ٠وء‏ والأحكام باب ١ء‏ وملم في الإمارة باب 
٠‏ . وأبو داود في الامارة باب .١‏ 18ء والترمذي في الجهاد باب ١‏ , وأحمد في المسند ج ؟ 
ص 500 8.6006:.601١١١١١اء١؟١.‏ 


وهذا غاية الخسران. ولا تظن أن الثم يختص به القائل دون المستمع , ففي الخبر 
أن المستمع شريك القائل وهو أحد المغتابين. 

وأما اللسان.فإنما خلق لتكثر به ذكر الله تعالى وتلاوة كتابه. وترشد به 
خلق الله تعالى إلى طريقه. وتظهر به ما في ضميرك من حاجات دينك ودنياك» 
فإذا استعملته في غير ما خلق له فقد كفرت نعمة الله تعالى فيه. وهو أغلب 
أعضائك عليك وعلى سائر الخلق. ولا يكب الناس في النار على مناخرهم إلا 
حصائد ألسنتهم 9 ؛ فاستظهر عليه بغاية قوتك حتى لا يكبك في قعر جهنمء 
ففي الخبر: « إن الرجل ليتكم بالكلمة ليضحك بها أصحابه فيهري بها في 
قمر جهم سبعين خريفاً» (2. وروي أنه قتل شهيد في المعركة على عهد رسول 
الله عَْنَهِ . فقال قائل: هنيئاً له بالجنة فقال مَكِتَمٍ : « وما يدريك؟ لعله كان 
يتكلم فما لا يعنيه, ويبخل بما لا يغنيه» 9 , 

فاحفظ لسانك من ثمانية : 


)1( عن معاذ بن جبل رضي الله عنه سأل رسول الله عَقُِّه قال: يا نبي الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم 
به؟ قال: «نكلتك أمك يا معاذ! هل يكب الناس على وجوههم في النار إلا حصائد 
ألسنتهم ؟ ». وهو جزء من حديث طويل رواه الترمذي في الإيمان باب 8 . وابن ماجه قن الفتن 
باب 15. والامام أحمد في المسند (ج ه ص 087١‏ 710). وقوله: ويكبب» من كبّه. إذا 
صرعه. وقوله « حصائد ألسنتهم» بمعنى محصوداتهم, على تشبيه ما يتكلم به الإنسان بالزرع 
المحصود بالمنجل؛ فكبا أن المنجل يقطع من غير تمييز بين رطب ويابس وجيد ورديء, كذلك 
سان المكثار في الكلام بكل فن من الكلام من غير تمييز بين ما يحسن ويقبح . 
أخرج الترمذي في كتاب الزهد باب ٠١‏ من حديث أي هريرة عن رسول الله يه قال: ه إن 
الرجل ليتكم بالكلمة لا يرى بها بأما يبوي بها في النار سبعين خريفاً في النار » قال الترمذي: 
هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه. 
(؟) رواء الترمذي في الزهد باب ١١‏ من حديث أنس قال: توفي رجل من أصحابه . فقال: يعني رجل 
أبشر بالجنة. فقال رسول الله َه : ٠أو‏ لا تدري. فلعله تكلم فيا لا يعنيه. أو بخل بما لا 


بتقصه و. 


ف 


-م 


5 


الأول: الكذب؛ فاحفظ منه لسانك في الجد والهزل. ولا تعود لسانك 
الكذب هزلاً فيدعوك إلى الكذب في الجد ؛ والكذب من أمهات الكبائر . ثم إنك 
إذا عرفت بذلك سقطت عدالتك والثقة بقولك . وتزدريك الأعين وتحتقرك . وإذا 
أردت أن تعرف قبح الكذب من تفسك فانظر إلى كذب غيرك, وإلى نفرة 
نفسك عنه. واستحقارك لصاحبه. واستقباحك لا جاء به؛ وكذلك فافعل في 
جميع عيوب نفسك. فإنك لا تدري قبح عيوبك من نفسك بل من غيرك, فما 
استقبحته من غيرك يستقبحه غيرك منك لا محالة, فلا ترض لنفسك ذلك . 

الثاني : الخلف في الوعد ؛ فإياك أن تعد بشيء ولا تفي به. بل ينبغي أن 
يكون إحسانك إلى الناس فعلاً بلا قول. فإن اضطررت إلى الوعد فإياك أن 
تخلف إلا لعجز أو ضرورةء فإن ذلك من أمارات النفاق وخبائث الأخلاق» 
قال البي مَِئِنَهِ : « ثلاث من كن فيه فهر منافق وإن صام وصلى: من إذا 
حدث كذبء. وإذا وعد أخلف. وإذا اؤْتمن خان» (' 

الثالثث؛ الغيبة ؛ فاحفظ لسانك عنها. والغيبة أشد من ثلاثين زنية في 
الإسلام. كذلك ورد في الخبر ”). ومعنى الغيبة أن تذكر إنساناً بما يكرهه لو 
سمعه. فأنت مغتاب ظالم وإن كنت صادقا. وإياك وغيبة القراء المرائين. وهو 
أن تَفَهّم المقصود من غير تصريح فتقول: أصلحه الله فقد ساءني وغمني ما جرى 
عليه. فنسأل الله تعالى أن يصلحنا وإياه. فإن هذا جمع بين خبيثين: أحدها 
الغيبة ؛ إذ بها حصل التفهم, والآخر تزكية النفس والشاء عليها بالتحرج 


239 من حديث ألي هريرة رضي الله عنه. رواه البخاري في الايمان باب 55 ., والأدب باب‎ )١( 
اية المنافق ثلاث: إذا حدث...». ورواه مسلم في‎ ٠ : والترمذي في الزيمان باب ب ولفظههما‎ 
. الحديث‎ .٠... الامان حديث 8م١٠ بلفظ : ومن علامات المنافق ثلاثة: إذا حدث‎ 

)١(‏ الحديث أخرجه ابن ألي الدنيا في الصمت., وابن حبان في الضعفاء . وابن مردويه في التفسير. 
عن جابر وأني سعيد رضي الله عنهاء عنه عليه بلفظ:ه إيام والغيبة» فإن الغيبة أشد من 
الزنا .. ( حاشية بداية الهداية ص 719 - طبعة مكتبة الجندي). 


5 


والصلاح . ولكن إن كان مقصودك من قولك أصلحه الله تعالى الدعاءء فادع له 
في السر إن اغتممت بسببه. فعلامته أنك لا تريد فضيحته وإظهار عيبه؛ وفي 
إظهارك الغم بعيبه إظهار تعبيبه. ويكفيك زاجراً عن الغيبة قوله تعالى: ولا 
يغتب بعضكم بعضاً أيحب أحدع أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه» 
[ الحجرات: »١‏ فقد شبهك الله بآكل لحم الميتة؛ فا أجدرك أن تحترز منها . 
ويمنعك عن غيبة المسلمين أمر لو تفكرت فيه. وهو أن تنظر في نفسك هل 
فيك عيب ظاهر أو باطن., وهل أنت مفارق معصية سر أو جهراً. فإذا عرفت 
ذلك من نفسك فاعم أن عجزه من التنزه عبا نسبته إليه كعجزك. وعذره 
كعذرك., وكا تكره أن تفتضح وتذكر عيوبك فهو أيضاً يكرهه., فإن سترته 
ستر الله عليك عيوبك . وإن فضحته سلط الله عليك السنة حدادا يمزقون 
عرضك في الدنياء ثم يفضحك الله في الآخرة على رؤوس الخلائق يوم القيامة . 
وإن نظرت إلى ظاهرك وباطنك فام تطلع فيهها على عيب ونقص في دين ولا 
دنياء فاعام أن جهلك بعيوب نفسك أقبح أنواع الحماقة. ولا عيب أعظم من 
الحمق. ولو اراد الله بك خيرا لبصرك بعيوب نفسك ؛ فرؤيتك نفسك بعين 
الرضا غاية غباوتك وجهلك . ثم إن كنت صادقاً في ظنك فاشكر الله تعالى عليه 
ولا تفسده بثلب الناس والتمضمض (" بأعراضهم فإن ذلك أعظم العيوب. 
الرايع : المراء والجدال ومناقشة الناس في الكلام ؛ فذلك فيه إيذاء للمخاطب 
وتجهيل له وطعن فيه وفيه ثناء على النفس وتزكية لا بمزيد الفطنة والعام. ثم هو 
مشوش للعيش. فإنك لا تماري سفيها إلا ويؤذيك. ولا تماري حلما إلا 
ويقليك ( ويحقد عليك . فقد قال عَِلِِتَه : « من ترك المراء وهو مبطل بنسى الله 


)١(‏ الثلب : التنقص والعيب . والتمضمض بأعراض الناس : تحريك اللسان بذكرها ؛ يقال: تمضمض 
بالماء في فيه : حركه بالإدارة فيه. 
(؟) يبغضك ويبجرك. 


١ 


له بيتاً في ربفى "١‏ الجنة, ومن ترك المراء وهو حق بنى الله له بيتأ في 
أعلى الجنة» 9 . 

ولا ينبغي أن يخدعك الشيطان ويقول لك أظهر الحق ولا تداهن فيه. فإن 
الشيطان أبداً يستجرٌ الحمقى إلى الشر في معرض الخيرء فلا تكن ضحكة 
للشيطان فيسخر منك؛ فإظهارك الحق حسن مع من يقبله منك . وذلك بطريق 
النصيحة في الخفية لا بطريق الماراة؛ وللنصيحة صفة وهيئة ويحتاج فيها الى 
تلطف, وإلا صارت فضيحة, وكان فادها أكثر من صلاحها. ومن خالط 
متفقهة العصر غلب على طبعه المراء والجدال. وعسر عليه الصمت. إذ ألقى إليه 
علياء السوء أن ذلك هو الفضل., والقدرة على المحاجة والمناقشة هو الذي يتمدح 
به. فَفِرَ منهم فرارك من الأسد. واعلم أن المراء سبب المقت عند الله وعند 
الخلق. 

الخامس: تزكية النفس ؛ قال الله تعالى: « فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم يمن 
اتقى © [ النجم: 77 ] وقيل لبعض الحكياء : ما الصدق القبيح ؟ فقال: ثناء المرء 
على نفسه. فإياك أن تتعود ذلك., واعلم أن ذلك ينقص من قدرك عند الناس 
ويوجب مقتك عند الله تعالى. فإذا أردت أن تعرف أن ثناءك على نفسك لا 
يزيد في قدرك عند غيرك. فانظر إلى أقرانك إذا أثنوا على أنفسهم بالفضل 
والجاه والمال كيف يستنكره قلبك عليهم ويستثقله طبعك , وكيف تذمهم عليه 


)١(‏ ربفى الجنة: أي حوالي الجنة وأطرافها لا في وسطها. 

(؟) رواه أبو داود في الأدب باب ا من حديث أني أمامة رضي الله عنهء عنه عه بلفظ : « أنا 
زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقا. وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب 
وإن كان مازحاً. وببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه ». ورواه الترمذي في كتاب البر والصلة 
باب 688. وابن ماجه في المقدمة باب 7 عن أنس رضي الله عنه, عن رسول الله يه بلفظ : 
٠من‏ ترك الكذب وهو باطل بني له في ربض الجنة. ومن ترك المراء وهو محق بني له في 
وسطهاء ومن حسن خلقه بي له في أعلاها ». 


5 


إذا فارقتهم. فاعم أنهم أيضاً في حال تزكيتك لنفسك يذمونك في قلوبهم 
ناجزً 9 , وسيظهرونه بألسنتهم إذا فارقتهم . 

السادس : اللعن ؛ فإياك أن تلعن شيئاً مما خلق الله تعالى من حيوان أو طعام 
أو إنسان بعينه؛ ولا تقطع بشهادتك على أحد من أهل القبلة بشرك أو كفر أو 
نفاق. فإن المطلع على السرائر هو الله تعالى, فلا تدخل بين العباد وبين الله 
تعالى . واعام أنك يوم القيامة لا يقال لك لم لم تلعن فلاناً » ولى سكت عنه؛ بل لو 
لم تلعن إبليس طول عمرك وم تشغل لسانك بذكره. لم تسأل عنه. ولم تطالب به 
يوم القيامة. وإذا لعنت أحداً من خلق الله تعالى طولبت به. ولا تذمن شيئاً مما 
خلق الله تعالى. فقد كان النبي َه لا يذم الطعام الرديء قط. بل كان إذا 
اشتهى شيئاً أكله وإلا تركه. 

السابع : الدعاء على الخلق؛ فاحفظ لسانك عن الدعاء على أحد من خلق الله 
تعالى . وإن ظلمك فكل أمره إلى الله تعالى. ففي الحديث : « إن المظلوم ليدعو 
على ظالمه حتى يكافئه ثم يبقى للظالم فضل عنده يطالبه به يوم القيامة» 7 , 
وطول بعض الناس لسانه على الحجاج فقال بعض السلف7: إن الله لينتقم 
للحجاج تمن تعرض له بلسانه كما ينتقم من الحجاج لمن ظلمه . 

الثامن : المزاح والسخرية والاستهزاء بالناس ؛ فاحفظ لسانك منه ف اليد 
والهزل., فإنه يريق ماء الوجه. ويسقط المهابة . ويستجر الوحشة , ويؤذي القلوب . 
وهو مبدأ اللجاج والغضب والتصارم. ويغرس الحقد في القلوب؛ فلا تمازح 


)١(‏ ناجزاً: في الحال. 

)0 لم أجد هذا الحديث. وليس هناك تعارض بين هذا الحديث والأحاديث الصحيحة القي رويت 
في استجابة دعوة المظلوم. فقوله ه إن المظلوم ليدعو على ظالمه حتى يكافئه ؛ يعني أن المظلوم 
بكافا عن ظم الظالم له باستجابة دعوته عليه من الله تعالى. فإذا استمر المظلوم بعد ذلك 
بالدعاء على الظالم. يصبح هو الظالم لأنه زاد عن حده؛ فالظم مجاوزة الحد. 

(؟) في رواية أن الذي قال ذلك هو الحجاج نفسه. 


56 


أحداً. فإن مازحك فلا تحبه؛ فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره 270 
وك من الذين إذاهمووا باللقق مرو كران 0 

فهذه مجامع آفات اللسان. ولا يعبنك عليه إلا العزلة أو ملازمة الصمت إلا 
بقدر الفشرورة. فقد كان أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه يضع حجراً في 
فيه ليمنعه ذلك من الكلام بغير ضرورة, ويشير إلى لسانه ويقول: هذا الذي 
أوردني الموارد كلها. فاحترز منه بجهدك. فإنه أقوى أسباب هلاكك في الدنيا 
والآخرة. 

وأما البطن ؛ فاحفظه من تناول الحرام والشبهة . واحرص على طلب الحلال» 
فإذا وجدته فاحرص على أن تقتصر منه على ما دون الشبع. فإن الشبع يقسي 
القلب ويفسد الذهن ويبطل الحفظ ويثقل الأعضاء عن العبادة والعام » ويقوي 
الشهوات وينصر جنود الشيطان. والشبع من الحلال مبدأ كل شر فكيف من 
الحرام. وطلب الحلال فريضة على كل مسام. والعبادة والعام مع أكل الحرام 
كالبناء على السّرجين" . فإذا قنعت في السنة بقميص خشن. وفي اليوم والليلة 
برغيفين من الشكار 9 , وتركت التلذذ بأطيب الأدم ‏ لم يعوزك من الحلال ما 
يكفيك . والحلال كثيرء وليس عليك أن تتيقن بواطن الأمور. بل عليك أن 
تحترز مما تعلم أنه حرام. أو تظن أنه حرام ظناً حصل من علامة ناجزة 0 
مقرونة بالمال؛ أما المعلوم فظاهر, وأما المظنون بعلامة فهو مال السلطان 
وعباله ” . ومال من لا كسب له إلا من النياحة أو بيع الخمر أو الربا أو المزامير 


)١(‏ من الآية 54 من سورة الأنعام. 

(؟) «وإذا مروا باللغو مروا كراماً» من الآية ”/ من سورة الفرقان. 

(؟) السرجين ( بكسر السين المهملة) : الزيل . 

(84) الخشكار : الخبز الأسمر غير النقي. ( فارسي معرب). 

(6) ظاعرة. 

(1) انظر البابين الخامس والادس من كتاب الحلال والحرام (من كتاب الاحياء ). وقد أطئب 


51 


وير ذلك من آلات اللهو المحرمة؛ فإن من علمت أن أكثر ماله حرام 
قطعاً فيا تأخذه من يده( ., وإن أمكن أن يكون حلالاً نادراً فهو حرام, لأنه 
الغالب على الظن. ومن الحرام المحض 7( ما يؤكل من الأوقاف من غير شرط 
الواقف » فمن م يشتغل بالتفقه فا يأخذه من المدارس حرام ومن ارتكب 
معصية ترد بها شهادتهفما يأخذهباسم الصوفية من وقف أو غيره فهو حرام. 
علوم الدين. فعليك بطلبه. فإن معرفة الحلال وطلبه فريضة على كل مسلم 
كالصضلوات الخمس. 

وأما الفرج؛ فاحفظه عن كل ما حرم الله تعالىء وكن كما قال الله تعالى : 
«والذين هم لفروجهم حافظون. إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم 
غير ملومين » [ المؤمنون: 5.85 والمعارج: 59 . ٠‏ ] ولا تصل إلى حفظ الفرج 
إلا بحفظ العين.عن النظر, وحفظ القلب عن التفكر , وحفظ البطن عن الشبهة 
وعن الشبع . فإن هذه محركات للشهوة ومغارسها . 


وأما اليدان؛ فاحفظهها عن أن تضرب بهها مسلياً. أو تتناول بها مالا 
حراماً. أو تؤذي بها أحداً من الخلق. أو تخون بهما في أمانة أو وديعةء أو 


> الغزالمي في هذين البابين في الكلام على إدرارات السلاطين وصلاتهم وما يحل منها وما يحرم. وما 

يحل من مخالطة السلاطين الظلمة ويحرم . وحكم غشيان مجالسهم والدخول عليهم والإكرام هم. 

قال الغزالي في الحلال والحرام ص 8 : ٠‏ فإن كان الأكثر من ماله حراماً لا يجوز الأكل من 

ضيافته, ولا قبول هديته ولا صدقته إلا بعد التفتيش , فإن ظهر أن المأخوذ من وجه حلال فذاك »ه 

وإلا ترك». (الحلال والحرام - طبع مكتبة الجندي الحديثة ) . 

(؟) الحرام المحض كما عرفه الغزالي: هو ما فيه صفة محرمة لا يشك فيهاء كالشدة المطربة لي 
الخمر . والنجامة في البول. أو حصل بسبب منهي عنه قطعاً. كالمحصل بالظم والربا ونظائره. 
( انظر المرجع السابق ص 75 ). 


1) 


لجسلل 


5/ 


تكتب بها ما لا يجوز النطق به, فإن القلم أحد اللسانين, فاحفظ القلم عما يجب 
حفظ اللسان عنه . 

وأما الرجلان؛ فاحفظها عن أن تمثي با إلى باب سلطان ظلم » فإن المشي 
إلى السلاطين الظلمة من غير ضرورة وإرهاق معصية كبيرة. فإنه تواضع لهم 
وإكرام لهم على ظلمهم. وقد أمر الله تعالى بالإعراض عنهم في قوله تعالى : 
ؤولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار ومالكم من دون الله من أولياء ثم 
لا تنصرون» [هود: ]١١+‏ وإن كان ذلك لسبب طلب مالهم فهو سعي إلى 
حرام. وقد قال الني عله : « من تواضع لغني ذهب ثلثا دينه» وهذا في غني 
صالح , فها ظنك بالغني الظالم! 

وعلى الجملة فحركاتك وسكناتك بأعضائك نعمة من نعم الله تعالى عليك . 
فلا تحرك شيئاً منها في معصية الله تعالى أصلاً . واستعملها في طاعة الله تعالى 
واعام أنك إن قصرت فعليك يرجع وباله» وإن شمرت فإليك تعود ثمرته, والله 
عئي عنك وعن عملك . وإنما كل نفس بما كسبت رهينة . وإياك أن تقول: إن الله 
كريم رحم يغفر الذنوب للعصاة؛ فإن هذه كلمة حق أريد بها باطل. وصاحبها 
ملقب بالحاقة مبتلقيب رسول الله بَلِنَمِ حيث قال: «الكيس من دان نفسه 
وعمل لما بعد الموت. والأحمق من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله 
الأماني » "١‏ واعام أن قولك هذا يضاهي قول من يريد أن يضير فقيهاً في علوم 
الدين من غير أن يدرس علءاً واشتغل بالبطالة وقال: إن الله كريم رحيم قادر على 
أن يفيض على قلبي من العلوم ما أفاضه على قلوب أنبيائه وأوليائه من غير جهد 
وتكرار وتعلم. وهو كقول من يريد مالا فترك الحراثة والتجارة والكسب وتعطل 


(9) .من حديث شداد بن أوس رضى الله عنة. رواه الإمام أحد في المسند ج 4 ص 14؟١ء‏ 
والترمذي في صفة القيامة باب 56. وابن ماجه في الزهد باب ."١‏ ولفظ الحديث عندهم : 
» الكيس من دان نفه وعمل لما بعد الموت. والعاجز من أتبع نفه هواها وتمنى على اللّه». 


174 


وقال: إن الله كريم وله خزائن السموات والأرض., وهو قادر على أن يطلمني 
على كنز من كنوزه أستغني به عن الكسب فقد فعل ذلك لبعض عباده. فأنت 
إذا سمعت كلام هذين الرجلين استحمقتهها وسخرت منهاء وإن كان ما 
وصفاه من كرم الله تعالى وقدرته صدقاً وحقاً. فكذلك يضحك علبك أرباب 
البصائر في الدين إذا طلبت المغفرة بغير سعي لحاء والله تعالى يقول: # وأن ليس 
للإنسان إلا ما سعى » [ النجم: 5" ] ويقول: 9 إنها تجزون ما كتتم تعملون» 
[ الطور: 17ء التحريم: 17 ] ويقول: #9 إن الأبرار لفي نعيمه وإن الفجار لفي 
جحي » [الانفطار: 01 .]١4‏ 

فإذا لم تترك السعي في طلب العام والمال اعتاداً على كرمه. فكذلك لا تترك 
التزود للآخرة ولا تفتر. فإن رب الدنيا والآخرة واحد ء وهو فيهها كريم رحيء 
وليس يزيد له كرم بطاعتك. وإنما كرمه في أن ييسر لك طريق الوصول إلى 
الملك المقيم والنعيم الدائم المخلد بالصبر على ترك الشهوات أياماً قلائل. وهذا 
نهاية الكرم ؛ فلا تحدث نفسك بتهويسات البطالين, واقتد بأولي العزم والثهى «) 
من الأنبياء والصالحين, ولا تطمع في أن تحصد مالم تزرع. وليت من صام 
وصلى وجاهد واتقى غفر له. 

فهذه جمل مما ينبغي أن تحفظ عنه جوارحك الظاهرة وأعمال هذه الجوارح؛ 
فعليك بتطهير القلب فهو تقوى الباطن, والقلب هو المضغة التي إذا صلحت 
صلح بها سائر الجسد. وإذا فسدت فسد بها سائر الجسد؛ فاشتغل بإصلاحه 
لتصلح به جوارحك ؛ وصلاحه يكون بملازمة المراقبة . 
القرل في معاصي القلب 

اعلم أن الصفات المذمومة في القلب كثيرة؛ وطريق تطهير القلب من رذائلها 
طويلة ؛ وسبيل العلاج فيها غامض ء وقد اندرس بالكلية علمه وعمله لغفلة الخلق 
)١(‏ النهى ( بغم النون) جمع نهية : أي العقل . 


54 


عن أنفسهم ؛ واستقصينا ذلك كله في كتاب إحياء علوم الدين في ربع المنجيات؛ 
ولكننا نحذرك الآن ثلاثا من خبائث القلب. وهي الغالبة على متفقهة العصر. 
لتأخذ منها حذرك. فإنها مهلكات في أنفسها. وهي أمهات الجملة من الخبائث 
سواها. وهي: الحسد والرياء والعجب؛ فاجتهد في تطهير قلبك منها. فإن 
قدرت عليها فتعام كيفية الحذر من بقيتها من ربع المهلكات. فإن عجزت عن 
هذا فأنت عن غيره أعجز . ولا تظنن أنك تسام بنية صالحة في تعام العام وفي قلبك 
شيء من الحسد والرياء والعجب. وقد قال عَلِلَهِ : « ثلاث مهلكات: شح 
مطاع. وهوى متبع وإعجاب المرء بنفسه» 3 . 

أما الحسد فهو متشعب من الشح, فإن البخيل هو الذي يبخل بما في يده على 
غيره. والشحيح هو الذي يبخل بنعمة الله تعالى وهي في خزائن قدرته تعالى لا 
في خزائنه على عباد الله تعالى» فشحه أعظم. والحسود هو الذي يشق عليه إنعام 
الله تعالى من خزائن قدرته على عبد من عباده بعلرء أو مال. أو محبة في قلوب 
الناس. أو حظ من الحظوظ . حتى إنه ليحب زواها عنه وإن لم يحصل له بذلك 
شيء من تلك النعمة. فهذا منتهى الخبث. فلذلك قال النبي لَه : «الحسد 
يأكل الحسنات كا تأكل النار الحطب» (). 


والحسود هو المعذب الذي يه يرحمء وله يزال في عذاب دائم في الدنيا. فهي 


. رواء البزار والبيهقي والعسكري وأبو إسحاق والخطيب عن ججماعة من الصحاية عنه عَكَلا‎ )١( 

(؟) رواه أبو داود في كتاب الأدب باب 5 . عن أني هريرة بلفظ ٠‏ إيام والحد فإن الحسد يأكل 
الحسنات كما تأكل النار الخطب .٠‏ وروى ابن ماجة في كتاب الزهد باب 7١‏ من حديث أنس, أن 
رسول الله َه قال: ه الحسد يأكل الحسنات كرما تأكل النار الحطب . والصدقة تطفىء الخطيئة كيا 
يطفيء الماء النار . والقسلاة نور المؤمن . والصيام جُنة من النار ». ْ 


لا تخلو من خلق كثير من أقرانه ومعارفه ممن أنعم الله عليهم بعلم أو مال أو 
جاه. فلا يزال في عذاب دائم في الدنيا إلى موته, ولعذاب الآخرة أشد وأكبر , 
بل لا يصل العبد الى حقيقة الإيمان ما لم يحب لسائر المسلمين ما يحب لنفسه 29 
بل ينبغي أن يساهم” المسلمين في السراء والضراء ء فالمسلمون كالبئيان الواحد 
يشد بعضه بعضاً 7( ., وكالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو اشتكى سائر 
الجسد 0). فإن كنت لا تصادف هذا من قلبك فاشتغالك بطلب التخلص من 
الملاك أهم من اشتغالك بنوادر الفروع وعم الخصومات. 


وأما الرياء فهو الشرك الخفي 2 , وهو أحد الشركين. وذلك طلبك المنزلة في 


)001 عن أنس رضي الله عنه عن النبي مَإيَِهِ قال: ولا يؤمن أحدم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفه» 
رواه البخاري في الزيمان باب 7 . وملمٍ في الاإيمان حديث ١17017ء‏ والترمذي في صفة القيامة 
باب وه. والنائي في الايمان باب .١9‏ 85. وابن ماجه في المقدمة باب 24 والدارمي في 
الرقاق باب 259 والإمام أحد (ج ؟ ص 115 5.3 لهك 514517 ). 

)0 ياهم: يشارك. 

(؟) روى البخاري في الصلاة باب 88 , والأدب باب 53 , والمظالم باب0 عومل في البر.حديث 386»: 
والترمذي في البر باب ١18‏ ء والنائي في الزكاة باب 317, وأحد (ج؛.ص 10481.06) من 
حديث أبي مومى الأشعري عن رسول الله يِه قال: ٠‏ المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً ». 

(؛) عن الئعيان بن بشير رضي الله عنه. عن رسول الله يَتُهِ قال: «ترى المؤمنين في تراجمهم 
وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى عضواً تداعى له مائر جسده بالسهر والحمى ». 
رواه البخاري في الأدب باب 77 واللفظ له. وملام في البر والصلة والآداب حديث 0317035 
وأحمد في المند ج 4 ص 87١‏ 577. وف لفظ لملم ( كتاب البرّ حديث 77): «المسلمون 
كر جل واحد, إن اشتكى عينه اشتكى كله. وإن اشتكى رأسه اشتكى كله ». 

(6) روى الإمام أحمد في المسند (ج 6 ص 01478 158 ) من حديث مود بن لبيد رضي الله عنه, 
عن رول الله ته قال: « إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر » قالوا: وما الشرك 
الأصغر يا رسول الله؟ قال: «الرياء». وروى ابن ماجه في كتاب الزهد باب ١5ء‏ عن ألي 
سعيد رضي الله عنه. عن رسول الله يه قال: ألا أخبرم بما هو أخوف عليكم عندي من ب 


ا/ا 


قلوب الخلق لتنال بها الجاه والحشمة. وحب الجاه من الهوى المتبع » وفيه هلك 
أكثر الناس. فيا أهلك الناس إلا الناس. ولو أنصف الناس حقيقة لعلموا أن 
أكثر ما هم فيه من العلوم والعبادات. فضلاً عن أعمال العادات؛ ليس يحملهم 
عليها إلا مراءاة الناس. وهي محبطة للأعمال كما ورد في الخبر أن الشهيد يؤمر به 
يوم القيامة إلى النارء فيقول: يا رب استشهدت في سبيلك . فيقول الله تعالى : بل 
أردوت أن يقال فلان شجاع وقد قيل ذلك . وذلك أجرك. وكذلك يقال للعالم 
والحاج والقارىء 9" . 


وأما العجب والكبر والفخر فهو الداء العضال ؛ وهو نظر العبد إلى نفسه بعين 
العزة والاستعظام, وإلى غيره بعين الاحتقار والذل؛ وتنيجته على اللسان أن 
يقول أنا وأنا؛ قال إبليس اللعين: «#أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من 
طين » [الأعراف: ؟١]‏ وثمرته في المجالس الترفع والتقدم وطلب التصدر 
فيها. وفي المحاورة الاستنكاف() من أن يرد كلامه عليه. 


حت المسيح الدجال؟ عقال: قلنا بلى . فقال: ه الشرك الخفي : أنيقوم الرجل يصلي فيزين صلاته ها 
يرى من نظر رجل .٠‏ 

)١(‏ روى مسلم في كتاب الإمارة حديث رقم 167٠ء‏ والنسائي في الجهاد باب ؟7» وأحمد في المسند 
ج ؟ ص 2575 من حديث ألي هريرة قال: سمعت رسول الله ينه يقول: ٠‏ إن أول الناس 
'يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد , فأتي به فعرفه نعمه فعرفها؛ قال: قفرا عملت فيها ؟ قال: 
قاتلت فيك حتى استشهدت . قال: كذبت ؛ ولكنك قاتلت لأن يقال جريء ء فقد قيل. ثم أمر 
به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار. ورجل تع العم وعلّمه وقرأ القرآن. فأتي به. فعرفه 
تعمه فعرفها؛ قال : فيا عملت فيها؟ قال: تعلمت العام وعلّمته وقرأت فيك القرآن. قال: 
كذبت , ولكنك تعلمت العم ليقال عالم. وقرأت القرآن ليقال هو قارىء ؛ فقسد قيل.مم أمر به 
فحب على وجهه حتى ألقي في النار. ورجل وسّع الله عليه وأعطاه من أصناف امال كله؛ فأتي 
به. فعرّفه نعمه فعرفها؛ قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها 
إلا أنفقت فيها لك . قال: كذبت , ولكنك فعلت ليقال هو جواد؛ فقد قيل. مم أمر به 
فسحب على وجههء ثم ألقي في النار». 

(؟) استنكف: أنف وامتنع. 


8 


والمتكبر هو الذي إن وُعظ أنف أو وَعََ عنف؛ فكل من رأى نفسه خيراً 
من أحد من خلق الله تعالى فهو متكبرء بل ينبغي لك أن تعام أن الخير من هو 
خير عند الله في دار الآخرة. وذلك غيب موقوف على الخاتمة . فاعتقادك في 
نفسك أنك خير من غيرك جهل محض .ء بل ينبغي أن لا تنظر إلى أحد إلا وترى 
أنه خير منكء وأن الفضل له على نفسك., فإن رأيت صغيراً قلت : هذا لم يعص 
الله وأنا عصيته فلا شك أنه خير منى, وإن رأيت كبيراً قلت: هذا قد عبد الله 
قبل فلا شك أنه خير مني. وإن كان عالمأقلت: هذا قد أعطي مالم أغطء 
وبلغ ما لم أبلغ . وعام ما جهلت فكيف أكون مثله! وإن كان جاهلاً قلت: هذا 
قد عصى الله بجهل وأنا عصيته بعلمء فحجة الله عل آكد وما أدري بم يتم له 
وإن كان كافراً قلت: لا أدري عسى أن يسلك ويختم له بخير العمل وينسل 
بإسلامه عن الذنوب كما تنسل الشعرة من العجين , وأما أنا والعياذ بالله فعصسى أن 
يضلني الله فأكفر فيخم لي بشر العمل. فيكون غداً هو من المقربين وأنا أكون 
من الخاسرين . 


فلا يخرج الكبر من قلبك إلا بأن تعرف أن الكبير من هو كبير عند الله 
تعالى , وذلك موقوف على الخاتمة. وهي مشكوك فيهاء فيشغلك خوف الخاتمة 
عن أن تتكبر مع الشك فيها على عباد الله تعالمى؛ فيقينك وإيمانك في الحال لا 
يناقض تجويزك التغير في الاستقبال, فإن الله مقلب القلوب .هدي من يشاء 
ويضل من يشاء . 

والأخبار في الحسد والكبر والرياء والعجب كثيرة؛ ويكفيك فيها حديث 
واحد جامع , فقد روى ابن المبارك بإسناده عن رجل أنه قال لمعاذ: حدثني 
حديثاً سمعته من رمول الله يِه . قال: فبكى معاذ حتى ظننت أنه لا يسكتء 
ثم قال: واشوقاه إلى رسول الله عَلاع وإلى لقائه ثم قال: كان رسول الله عله 
يقرل لي : ويا معاذ إني محدثك بحديث إن أنت حففلته نفعك عند الله وإن 


أنت ضيعته و تحففظه انقطعت حجتك عند الله تعالى يوم القيامة . يامعاذ 
إن الله تعالى خلق سبع أملاك قبل أن يخلق السموات والأرض. فجعل 
لكل سماء من السبع ملكا بواباً عليهاء فتصعد الحفظة بعمل العبد من حين 
يصبح إلى حين بمسي , له نور كنور الشمس. حتى إذا صعدت به الى السماء 
الدنيا زكته وكثرته, فيقول الملك الموكل بها للحفظة: اضربوا بهذا العمل 
وجه صاحبه. أنا صاحب الغيبة أمرني ربي أن لا أدع عمل من اغتاب 
الناس يجاوزني إلى غيري, قال: ثم تأت الحفظة بعمل صالح من أعبال العبد 
له نور فتزكيه وتكثره حتى تبلغ به إلى السماء الثانية فيقرل هم الموكل بها؛ 
قفوا واضربوا بهذا العمل وجه صاحبه. إنه أراد بعمله عرض الدنياء أنا 
ملك الفخر أمرني أن لا أدع عمله يجاوزني إلى غيري. إنه كان يفتخر 
على الناس في جالسهم . قال: وتصعد الحفظة بعمل العبد يبتهج نوراً من 
صدقة وصلاة وصيام قد أعجب الحفظة, فيجاوزون به إلى السماء الثالثة 
فيقول هم الملك الموكل ببا: قفرا واضربوا بهذا العمل وجه صاحبه. أنا 
ملك الكبر أمرني ربي أن لا أدع عمله يجاوزني إلى غيري. إنه كان يتكبر 
على الناس في مجالسهم . قال: وتصعد الحفظة بعمل العبد يزهر كا يزهو 
الك ركب الدري وله دوي من تسبيح وصلاة وصيام وحج وعمرة حتى 
يجاوزوا به إلى السماء الرابعة, فيقول هم الملك الموكل ببها؛ قفوا 
واضربوا بهذا العمل وجه صاحبه وظهره وبطنه؛ أنا صاحب العجب 
أمرني رب أن لا أدع عمله يجاوزني إلى غيري؛ إنه كان إذا عمل عملاً 
أدخل العجب فيه . قال: وتصعد الحفظة بعمل العبد حتى يجاوزوا به إلى 
السماء الخامسة كأنه العروس المزفوفة إلى بعلها. فيقول هم الملك الموكل 
بها: قفوا واضربوا بهذا العمل وجه صاحبه وا حملوه على عاتقه. أنا ملك 
الحسد إنه كان يحسد من يتعام ويعمل بمثل عمله , وكل من كان يأخذ فضلاً من 
العبادة كان يحسدهم ويقع فيهم. أمرني ربي أن لا أدع عمله يجا رزني إلى 


37: 


غيري. قال: وتصعد الحفظة بعمل العبد له ضوء كضوء الشمس من 
صلاة وزكاة وحج وعمرة وجهاد وصيام, فيجاوزون به إلى السماء 
السادسة. فيقول هم الملك الموكل بها: قفوا واضربوا بهذا العمل وجه 
صاحبه, إنه كان لا يرحم إنساناً قط من عباد الله أصابه بلاء أو مرضصء 
بل كان يشمت به. أنا ملك الرحمة أمرني ربي أن لا أدع عمله يباوزني إلى 
غيري . قال: وتصعد الحفظة بعمل العبد من صوم وصلاة ونفقة وجهاد 
وورع؛ له دوي كدوي النحل, وضوء كضوء الشمس. ومعه ثلاثة آللاف 
ملك. فيجاوزون به إلى السماء السابعة. فيقول هم الملك الموكل بها: قفوا 
واضربوا بهذا العمل وجه صاحبه. واضربوا جوارحه. واقفلرا به على 
قلبه, أنا صاحب الذكرء فإني أحجب عن ربي كل عمل لم يرد به وجه 
ربي» إنه إنما أراد بعمله غير الله تعالى؛ إنه أراد به رفعة عند الفقهاء , 
وذكراً عند العلماء. وصيتاً في المدائن, أمرني ربي أن لا أدع عمله يجاوزني 
إلى غيري. وكل عمل لم يكن لله تعالى خالصاً فهر رياء ولا يقبل الله عمل 
المرائي. قال: وتصعد الحفظة بعمل العبد من صلاة وصيام وحج وعمرة 
وخلق حسن وصمت وذكر لله تعالى. فيشيعه ملائكة السموات السبع حتى 
يقطعرا به الحجب كلها إلى الله تعالى. فيقفون بين يديه ويشهدون له 
بالعمل الصالح المخلص لله تعالى فيقول الله تعالى: أنتم الحفظة على عمل 
عبدي وأنا الرقيب على ما في قلبه, إنه لم يردني بهذا العمل وإنما أراد به 
غبري., فعليه لعنتى ! فتقول الملائكة كلها: عليه لعنتك ولعنتنا! فتلعنه 
السمرات الشبع .ومن قيهن 2+ يرن ساكو افحي العصابا بقييد» وقان 
بعاد :“قلت يارسول الله أنك روك الله وأنا معاة > فكيف ى,التيحاة والخلاض 
من ذلك ؟ قال: «اقتد بى؛ وإن كان في عملك نقص يا معاذ حافظ على 
لسانك من الوقيعة في إخوانك من حملة القرآن خاصة, واحمل ذنوبك 
عليك ولا تحملها عليهم؛ ولا تزك نفسك بذمهم, ولا ترفع نفسك عليهم 


وا 


بوضعهم. ولا تدخل عمل الدنيا في عمل الاخرة, ولا تراء بعملك ولا 
تتكبر في مجلسك لكي يحذر الناس من سوء خلقك, ولا تناج رجلاً وعندك 
آخرء ولا تتعظم على الناس فتنقطع عنك خيرات الدنيا والآخرة, ولا 
تمزق الناس بلسانك فتمزقك كلاب النار يوم القيامة في النارء قال الله 
تعالى: # والناشطات نشطاً » هل تدري ما هن يا معاذ ؟» قلت : بأبي أنت 
وأمي يا رسول الله ؟ قال ٠:‏ كلاب في النار تنشط اللحم من العظم » , قلت :بأبي أنت 
وأمي يا رسول الله. من يطيق هذه الخصال ومن ينجو منها؟ قال: ويا معاذ! 
إنه ليسير على من يسره الله تعالى عليه. إنما يكفيك من ذلك أن تحب 
للناس ما تحب لنفسك؛ وتكره هم ما تكره لنفسك, فإذن أنت يا معاذ قد 
سلمت ». 

قال خالد بن معدان: فها رأيت أحداً أكثر تلاوة للقرآن العظيم من معاذ لهذا 
الحديث العظي . 

فتأمل أيها الراغب في العام هذه الخصال., واعلم أن أعظم الأسباب في رسوخ 
هذه الخبائث في القلب طلب العام لأجل المباهاة والمنافسة. فالعامي بمعزل عن 
أكثر هذه الخصال. والمتفقه مستهدف لماء وهو متعرض للهلاك بسببها . فانظر 
أي أمورك أهم. أنتعام كيفية الحذر.من هذه المهلكات وتشتغل بإصلاح قلبك 
وعبارة آخرتك . أم الأهم أن تخوض مع الخائضين فتطلب من العام ما هو سبب 
زيادة الكبر والرياء والحسد والعجب حتى تبلك مع المالكين ؟ 

واعام أن هذه الخصال الثلاث 7 من أمهات خبائث القلوب. وها مغرس واحد 
وهو حب الدنياء ولذلك قال يت : ه حب الدنيا رأس كل خطيئة » 2 ومع 


للق الحد والرياء والعجب . 
0 روى هذا الحديث البيهقي عن الحسن البصري مرملاً . وقال الزرقافي: وهذا من كلام مالك 
ابن أآلي الدنيا, أو من كلام عيسى عليه السلام . كيا رواه البيهقي في الزهد ء» وقال ل شعب 


كا 


هذا فالدنيا مزرعة للآخرة, فمن أخذ من الدنيا بقدر الضرورة ليستعين بها على 
الآخرة فالدنيا مزرعته, ومن أراد الدنيا ليتنعم بها فالدنيا مهلكته . 

فهذه نبذة يسيرة من ظاهر عم التقوى . وهي بداية الهداية. فإن جربت بها 
نفسك وطاوعتك عليها فعليك بكتاب إحياء علوم الدين لتعرف كيفية الوصول 
إلى باطن التقوى . فإذا عمرت بالتقوى باطن قلبك . فعند ذلك ترتفع الحجب 
بينك وبين ربك . وتنكشف لك أنوار المعارف. وتتفجر من قلبك ينابيع الحكم . 
وتتضح لك أسرار الملك والملكوت, ويتيسر لك من العلوم ما تستحقر به هذه 
العلوم المحدثة التي لم يكن لها ذكر في زمن الصحابة رضي الله عنهم والتابعين. 
وإن كنت تطلب العم من القيل والقال والمراء والجدال, فيا أعظم مصيبتك, وما 
أطول تعبك, وما أعظم حرمانك وخسرانك. فاعمل ما شئت, فإن الدنيا التي 
تطلبها بالدين لا تسم لك. والآخرة تسلب منك؛ فمن طلب الدنيابالدين 
خسرهما جميعاً. ومن ترك الدنيا للدين ربحهما جميعا. 

فهذه ججل الحداية إلى بداية الطريق في معاملتك مع الله تعالى بأداء أوامره 
واجتناب نواهيه. وأشير عليك الآن بجمل من الآداب لتؤاخذ نفسك بها في 
مخالطتك مع عباد الله تعالى وصحبتك معهم في الدنيا . 


©» الايمان: هذا لا أصل له عن النبي َه ؛ إنه من مراسيل الحسن البصري. ( حاشية بداية الهداية 
ص +50 - طبعة مكتبة الجندي). 


الا 


القسم الثالثث 


القول في آأداب الصحبة 


اعام أن صاحبك الذي لا يفارقك في حضرك وسفرك ونومك ويقظتك. بل 
في حياتك وموتك. هو ربك وسيدك ومولاك وخالقك؛ ومهها ذكرته فهو 
جليسك . إذ قال الله تعالى: «أناجليس من ذكرنى2(6, ومههما انكسر قلبك 
حزناً على تقصيرك في حق دينك فهو صاحبك وملازمك, إذ قال الله تعالى : 
«أناعند المنكسرة قلوبهم من أجلي » . فلو عرفته حق معرفته لاتخذته صاحباً 
وتركت الئاس جانباً. فإن لم تقدر على ذلك في جميع أوقاتك فإياك أن محل 
ليلك ونهارك عن وقت تخلو فيه لمولاك وتتلذذ معه بمناجاتك له. وعند ذلك 
فعليك أن تتعلم آداب الصحبة مع الله تعالى ؛ وآدابها: إطراق الرأس. وغض 
الطرف. وجمع الهم ودوام الصمت. وسكون الجوارح. ومبادرة الأمرء 
واجتناب النهي . وقلة الاعتراض على القدر. ودوام الذكر. وملازمة الفكر. 
وإيثار الحق على الباطل . والااياس عن الخلق. والخضوع تحت اغيبة. والانكسار 
تحت الحياء . والسكون عن حيل الكسب ثقة بالفمان, والتوكل على فضل الله 
تعالى معرفة بحسن الاختيار. وهذا كله ينبغي أن يكون شعارك في جميع ليلك 
ونهارك. فإنها اداب الصحبة مع صاحب لا يفارقك, والخلق كلهم يفارقونك 
في بعض أوقاتك . 
)00 رواه الديلمي بلا سندعن عائشة رضي الله عنهاء عنه َه . ورواه البيهقي في الشعب عن أني بن 

كعب قال: قال مومى عليه الصلاة واللام: يا رب أقريب أنت فأناجيك أم بعيد فأناديك ؟ 


فقيل له: يا موسى أنا جليس من ذكرني . ورواه ابن ماجه والبيهقي عن ألي هريرة عنه َل عن 
الله تعالى بلفظ ٠‏ إن الله عز وجل قال: أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه». (المرجع - 


72 


وإن كنت عالماً. فآداب العالم: الاحتال. ولزوم الحلم, والجلوس بالهيبة 
على سمت الوقار مع إطراق الرأس. وترك التكبر على جميع العباد إلا على الظلمة 
زجراً لهم عن الظامء وإيثار التواضع في المحافل والمجالس. وترك الهزل 
والدعابة. والرفق بالمتعام. والتأفي بالمتعجرف. وإصلاح البليد بحسن الإشارة 
وترك الحَرّد 29 عليه . وترك الأنفة من قول لا أدري. وصرف اهمة إلى السائل 
وتفهم سؤاله. وقبول الحجة والانقياد للحق بالرجوع إليه عند الهفوة. ومنع 
المتعام عن كل عام يضرهء وزجره عن أن يريد بالعام النافع غير وجه الله تعالى» 
وصد المتعام أن يشتغل بفرض الكفاية قبل الفراغ من فرض العين. وفرض عينه 
إصلاح ظاهره وباطنه بالتقوى . ومؤاخذة نفسه أولاً بالتقوى ليقتدي المتعام أولاً 
بأعماله ويستفيد ثانياً من أقواله. 

وإن كنت متعلاً , فآداب المتعام مع العالم: أن يبدأه بالتحية والسلام » وأن 
يقلل بين يديه الكلام , ولا يتكام ما لم يسأله أستاذه ولا يسأل مالم يستأذن أولاً. ولا 
نقول في معارضة قوله قال فلان بخلاف ما قلت. ولا يشير عليه بخلاف رأيه 
فيرى أنه أعام بالصواب من أستاذه. ولا يسأل جليسه في بجلسه. ولا يلتفت إلى 
الجوانب بل-يحلس مطرقاً عينه ساكناً متأدباً كأنه في الصلاة, ولا يكثر عليه 
السؤال عند ملله. وإذا قام قام له. ولا يتبعه بكلامه وسؤاله. ولا يسأله في 
طريقه إلى أن يبلغ إلى منزله. ولا يسيء الظن به في أفعال ظاهرها منكرة عنده 
فهو أعام بأسراره. وليذكر عند ذلك قول موسى للخضر عليههما السلام: 
#أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئاً إمراً » [ الكهف: : 7١‏ ] وكونه مخطئاً في 
إنكاره اعتاداً على الظاهر . 

وإن كان لك والدانء. فآداب الولد مع الوالدين: أن يسمع كلامههاء 


ع السابق ص 7*704) 
(01١)‏ الجرد : الغخصب . 


37 


ويقوم لقيامههاء ويمتثل لأمرههاء ولا يمشي أمامههاء ولا يرفع صوته فوق 
أصواتهما . ويلبي دعوتههاء ويحرص على مرضاتهاء ويخفض لما جناح الذل 20 
ولا يمن عليهم| بالبرّ لما ولا بالقيام لأمرهماء ولا ينظر إليهها شزراً. ولا يقطب 
وجهه في وجههبا. ولا يسافر إلا بإذنها . 

واعام أن الناس بعد هؤلاء في حقك ثلاثة أصناف: إما أصدقاء . وإما 
معار ف . وإما تجاهيل . 

فإن بليت بالعوام المجهولين فآداب مجالستهم : ترك الخوض في حديثهم. 
وقلة الإصغاء إلى أراجيفهم 7 , والتغافل عا يجري من سوء ألفاظهم. والاحتراز 
عن كثرة لقائهم والحاجة إليهم , والتنبيه على منكراتهم باللطف والنصح عند رجاء 
القبول منهم . 

وأما الاخوان والأصدقاء فعليك فيهم وظيفتان: 

إحداهم| : أن تطلب أولاً شروط الصحبة والصداقة. فلا تؤاخ إلا من يصلح 
للأخوة والصداقة. قال رسول الله َلِتهِ :«المرء على دين خليله, فلينظر 
أحدم من يخالل» 9؟. فإذا طلبت رفيقاً ليكون شريكك في التعلم وصاحبك في 
أمر دينك ودنياك فراع فيه مس خصال: 

الأولى العقل: فلا خير في صحبة الأحمق. فإلى الوحشة والقطيعة يرجع 


)١(‏ قال تعالى في سورة الإسراء . الآية1؟: #واخفض ما جناح الذل من الرححمة وقل رب ارححهها 
كما ربياني صغيراً . وخفض الجناح كناية عن التواضع واللين. 

(؟) أراجيفهم: خوضهم في الأخبار السيئة وذكر الفتن. وفي التنزيل العزيز: #والمرجفون في 
المدينة © الأحزاب: .5٠6‏ 

(*) أخرجه الحا في المستدرك (ج ع ص )١7١‏ من حديث ألي هريرة رضي الله عنه. وصححه 
ووافقه الذهبي. وأخرج ابن عساكر في تاريخهعن أنس رضي الله عنه. عنه َيه قال: «المرء 
على دين خليله. ولا خير في صحبة من لا يرى لك من الخير مثل الذي ترى له .٠‏ 


آخرهاء. وأحسن أحوالة أن يضرك وهو يريد أن ينفعك . والعدو العاقل خير من 
الصديق الأحمق ؛ قال على رضى الله عنه: 


فلا تصحب أخا الجهل 


واياك وإيه 


ذكم من جاهل أردى حلماً حين واخغظلاة 
بقاسس لمرء بللرء ‏ إؤذا ماالره ماقئقةه 
كحذو النعل بالتعل إذا ما التعل حساذاه 
وللشهء من الثبيء تاس ب (امححكناة 
وللقالب على القلب- وليل حين يلقاه 


الثانية حسن الخلق : فلا تصحب من ساء خلقه. وهو الذي لا يملك نفسه 
عند الغضب والشهوة؛ وقد جمعه علقمة العطاردي رحمه الله تعالى في وصيته لابئه 
لما حضرته الوفاة فقال: يا بنى إذا أردت صحبة إنسان فاصحب من إذا خدمته 
صانك . وإن صحبته زانك» وإن قعدت بك مؤونة مَانَّك (©. اصحب من إذا 
مددت يدك بخير مدهاء. وإن رأى منك حسنة عدّهاء. وإن رأى منك سيئة 
سدها. اصحب من إذا قلت صدّق قولك , وإذا حاولت أمراً أعانك ونصرك» 
وإن تنازعا في شيء آثرك. وقال على رضي الله عنه رجزاً : 
إن أخاك من كان معك ومن يضر نفسه لينفهك 
ومن إذا رَيْبٍ الزمان صَدَعقك29 ) شتت فيك شمله ليجمعك 

الثائثة الصلاح: فلا تصحب فاسقاً مصرًا على معصية كبيرة, لأن من يخاف 
الله لا يصر على معصية كبيرة. ومن لا يخاف الله لا تؤمن غوائله. بل يتغير 
بتغير الأحوال والأعراض؛ قال الله تعالى لنبيه عَلِتَمِ : ولا تطع من أغفلنا قلبه 
عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطاً» [الكهف: 8؟] فاحذر صحبة 
)١(‏ ماله مَؤناً: احتمل مؤونته وقام بكفايته. فهو مَمُون. تقول: مان الرجل أهله: كفاهم. ومنت 

هذا الركب. وما زلت أمونه: أقدم له مايحتاج من مؤونة. 
(؟) الرّيب: صرف الدهر. وصدعك: أي فرق أمرك وشتته. 


م١‎ 


الفاسق . فإن مشاهدة الفسق وال معصية على الدوام تزيل عن قلبك كراهية المعصية 
وعبون عليك أمرهاء ولذلك هان على القلوب معصية الغيبة, لا لفهم لاء ولو 
رأوا خاتماً من ذهب أو ملبوساً من حرير على فقيه لاشتد إنكارهم عليه . والغيبة 
أشد من ذلك . 

الرابعة أن لا يكون حريصاً على الدنيا: فصحبة الحريص على الدنيا سم 
قاتل؛ لأن الطباع مجبولة على التشبه والاقتداء. بل الطبع يسرق من الطبع من 
حيث لا يدري » فمجالسة الحريص تزيد في حرصك. ومجالسة الزاهد تزيد في 
زهدك. 

الخامسة الصدق: فلا تصحب كذاباً فإنك منه على غرورء فإنه مثل 
السراب يقرب منك البعيد ويبعد منك القريب . 

ولعلك تعدم اجتاع هذه المخصال في سكان المدارس والمساجد , فعليك بأحد 
أمرين: إما العزلة والانفراد ففيها سلامتك. وإما أن تكون مخالطتك مع 
شر كائك بقدر خصاهم. بأن تعام أن الاخوة ثلاثة: أخ لآخرتك. فلا تراع فيه 
إلا الدين. وأخ لدنياك. فلا تراع فيه إلا الخلق الحسن. وأخ لتأنس به. فلا 
تراع فيه إلا السلامة من شره وفتنته وخبثه . 

والناس ثلاثة: أحدهم مثله مثل الغذاء لا يستغنى عنه. والآخر مثله مثل 
الدواء يحتاج إليه في وقت دون وقت. والثالث مثله مثل الداء لا يحتاج إليه قط 
ولكن العبد قد يبتلى به. وهو الذي لا انس فيه ولا نفع. فتجب مداراته إلى 
الخلاص منه. وفي مشاهدته فائدة عظيمة إن وفقت لما. وهو ان تشامد من 
ضائث أحواله وأفعاله ما تستقبحه فتجتنبه؛ فالسعيد من وعظ بغيره, والمؤمن 
مرآة المؤمن. وقيل لعيسى عليه السلام : من أدبك ؟ فقال: ما أدبني أحد ولكن 
رايت جهل الجاهل فاجتنبته. ولقد صدق على نبينا وعليه الصلاة والسلام » فلو 
اجتنب الناس ما يكرهونه من غيرهم لكملت ادابهم واستغنوا عن المؤدبين. 


للها 


الوظيفة الثانية: مراعاة حقوق الصحبة؛ فمهها انعقدت الشركة. وانتظمت 
بينك وبين شريكك الصحبة. فعليك حقوق يوجبها عقد الصحبة وفي القيام بها 
آداب؛ وقد قال ينه : ٠‏ مثل الأخوين مثل اليدين تغسل إحداها 
الأخرى» ١‏ ودخل عَلِنَوٍ أجة () فاجتنى منها سواكين: أحدهما معوج والآخر 
مستقي . وكان معه بعض أصحابه., فأعطاه المستقيم وأمسك لنفسه المعوج فقال: 
يا رسول اللهء أنت أحق مني بالمستقم . فقال عَلِتَةِ : وها من صاحب يصحب 
صاحباً ولو ساعة من نار إلا ويسأل عن صحبته هل أقام فيها حق الله 
تعالى أو أضاعه» وقال َه : هما اصطحب اثنان قط إلا وكان أحبها إلى 
الله تعالى أرفقه)ا يصاحبه» © , 

واداب الصحبة الاإيثار بالمال. فإن لم يكن هذا فبذل الفضل من المال عند 
الحاجة. والاإعانة بالنفس في الحاجات على سبيل المبادرة من غير إحواج إلى 
التّعاس. وكتان السر. وستر العيوب., والسكوت عن تبليغ ما يسوؤّه من مذمة 
الناس إياه. وإبلاغ ما يسره من ثناء الناس عليه وحسن الإصغاء عند الحديث. 
وترك الماراة فيه وأن يدعوه بأحب أسمائه إليه. وأن يثني عليه بما يعرف من 
تحاسنه. وأن يشكره على صنيعه في وجهه. وأن يذب عنه في غيبته إذا تعرض 
لعرضه كما يذب عن نفسه., وأن ينصحه باللطف والتعريض إذا احتاج إليه 


)١(‏ قال العراقى: حدبث «مثل الأخوين إذا التقيا مثل اليدين تغسل إحداهها الأخرى» أخرجه 
السلمي في آداب الصحبة, وأبو منصور الديلمي في مسند الفردوس, من حديث أنس . وفيه 
أحمد بن عمد بن غالب الباهلي كذاب. وهو من قول مليان الفارسي في الأول منالحزبيات. 
( حاشية بداية الهداية ص .+7 - طبعة مكتبة الجندي) 

(؟) الأججة (يفتح الألف والجيم ): الشجر الكثير الملتف. ش 

)م أخرجه الحام في المستدرك (ج ؛ ص )١7١‏ من حديث أنس رضي الله عنه. عنه ييه بلفظ 
وما تحاب رجلان في الله تعالى إلا كان أفضلها أشد حبّاً لصاحبه». قال الحام: هذا صحيح 
اللإسناد . ووافقه الذهبي . 


ى/ 


وأن يعفو عن زلته وهفوته فلا يعتب عليه, وأن يدعو له في خلوته في حياته 
وبعد مماته. وأن يحسن الوفاء مع أهله وأقاربه بعد موته, وأن يؤثر التخفيف عنه 
فلا يكلفه شيئاً من حاجاته ويروح قلبه من مهاته, وأن يظهر الفرج بجميع ما 
يرتاح له من مساره. والحزن على ما يناله من مكاره. وأن يضمر في قلبه مثل 
مايظهر فيكون صادقاً فياودّه سررًا وعلانية » وأن يبدأه بالسلام عند إقباله» وأن 
يوسع له في المجلس. وأن يخرج له من مكانه. وأن يشيعه عند قيامه. وأن 
يصمت عند كلامه حتى يفرغ من كلامه ويترك المداخلة في كلامه ؛ وعلى الجملة 
فيعامله بما يحب أن يعامل به. فمن لا يحب لأخيه مثل ما يحب لنفسه فأخوته 
نفاق. وهي عليه وبال في الدنيا والآخرة. فهذا أدبك في حق العوالم المجهولين 
وفي حق الاصدقاء المؤاخين. 

وأما القسم الثالث وهم المعارف؛ فاحذر منهم. فإنك لا ترى الشر إلا 
ممن تعرفه: أما الصديق فيعينك وأما المجهول فلا يتعرض لكء وإنما الشر كله 
من المعارف الذين يظهرون الصداقة بألسنتهم. فأقلل من المعارف ما قدرت. 
فإذا بليت بهم في مدرسة أو مسجد أو جامع أو سوق أو بلد. فيجب أن لا 
تستصغر منهم أحداء فإنك لا تدري لعله خير منك», ولا تنظر إليهم بعين 
التعظم لهم في حال دنياهم فتهلك. لان الدنيا صغيرة عند الله تعالى صغير ما 
فيها. ومهيا عظم أهل الدنيا في قلبك فقد سقطت من عين الله تعالى. وإياك أن 
تبذل دينك لتنال به من دنياهم, فلا يفعل ذلك أحد إلا صغر في أعينهم, ثم 
حرم ما عندهم. وإن عادوك فلا تقابلهم بالعداوة, فإنك لا تطيق الصبر على 
مكافأتهم . فيذهب دينك في عداوتهم, ويطول عناؤك معهم . ولا تسكن إليهم في 
حال إكرامهم إياك. وثنائهم عليك في وجهك , وإظهارهم المودة لك . فإنك إن 
طلبت حقيقة ذلك لم تجد في المائة واحداً. ولا تطمع أن يكون لك في السر 
والعلن واحد . ولا تتعجب إن ثلبوك 7( في غيبتك ولا تغضب منهم, فإنك إن 


. ثلبوك: عابوك وتنقصوك‎ )١( 


1 


أنصفت وجدت من نفسك مثل ذلك حتى في أصدقائك وأقاربك. بل في 
أستاذك ووالديك, فإنك تذكرهم في الغيبة بما لا تشافههم به. فاقطع طمعك عن 
ماهم وجاههم ومعونتهم ‏ فإن الطامع في الأكثر خائب في المآل, وهو ذليل لا 
حالة في الحال. وإذا سألت واحداً حاجة فقضاها فاشكر الله تعالى واشكره, وإن 
قصر فلا تعاتبه ولا تشكه فيصير عداوة له؛ وكن كالمؤمن يطلب المعاذير. ول 
تكن كالمنافق يطلب العيوب. وقل لعله قصر لعذر له لم أطلع عليه. ولا 
تعظن أحداً منهم ما لم تتوسم فيه أولاً مخايل القبول» وإلا لم يستمع منك وصار 
خصماً عليك. فإذا أخطأوا في مسألة وكانوا يأنفون من التعام فلا تعلمهم, فإنهم 
يستفيدون منك علياً ويصبحون لك أعداء ؛ إلا إذا تعلق ذلك بمعصية يقارفونها 
عن جهل منهم, فاذكر الحق بلطف من غير عنف., وإذا رأيت منهم كرامة 
وخيراً فاشكر الله الذي حببك إليهم. وإذا رأيت منهم شرا فكلهم إلى الله 
تعالى . واستعذ بالله من شرهم, ولا تعاتبهم. ولا تقل لهم: لم لم تعرفوا حقي وأنا 
فلان ابن فلان وأنا الفاضل في العلوم؟ فإن ذلك من كلام الحمقى؛ وأشد 
الناس حماقة من يزكي نفسه ويثني عليها . واعام أن الله تعالى لا يسلطهم عليك إلا 
لذنب سبق منك, فاستغفر الله من ذنبك واعلم أن ذلك عقوبة من الله تعال . 
وكن فها بينهم سميعاً لحقهم. أصم عن باطلهم, نطوقاً بمحاسنهم. صموتاً عن 
ماومهم. واحذر مخالطة متفقهة الزمان, لا سما المشتغلين بالخلاف والجدال. 
واحذر منهم. فإنهم يتربصون بك بحجسدهم ريب المنون, ويقطعون عليك 
بالظنون. ويتغامزون وراءك بالعيون. ويحصون عليك عثراتك في عشيرتهم حتى 
يجبهوك ( بها في حال غيظهم ومناظرتهم. لا يقيلون لك عثرة. ولا يغفرون لك 
زلة؛ ولا يسترون عليك عورة. يحاسيونك على النقير والقطمير 2 . ويحسدونك 
)١(‏ يجبهرك ( بسكون الجم) من جَبّهه جبهاً. إذا فجأه بالأمر قبل أن يتهيأ له. 


فق النقم : الدكتة التي في ظهر النواة. والقطمير : القشرة الرقيقة على النواة كاللفافة لها. وهذا كتاية 
عن أدنى الأشياء وأحقرها. 


هم 


على القليل والكثيرء ويحرضون عليك الإخوان بالتميمة والبلاغات 7 والبهتان. 
إن رضوا فظاهرهم الملق. وإن سخطوا فباطنهم الحنق . ظاهرهم ثياب, وباطنهم 
ذئاب, هذا ما قطعت به المشاهدة على أكثرهم إلا من عصمه الله تعالى؛ 


هذا حكم من يظهر لك الصداقة . فكيف من يجاهرك بالعداوة! قال القاضي 


ابن معروف رحمه الله تعالى : 
فاحذر عدوك مَرةٌ 
فلربما انقلب الصديا 
وكذللك فيل فى المعتن” 
عدوك من صديقك سمستفاد 
فإن الداء أكثر ماتراه 


وكن كي قال هلال بن العلاء الرقي : 


للا عفوت ولم أحقد على أحد 
في أحبّي عدوي علد رؤيته 
وأظهر البشر للانسان أبغضه 
ولست أسام من لست أعرفه 
الناس داء دواء الناس تركهم 
فسالم الناس تسم من غوائلهم 


وخالق الناس واصبر ما بليت بهم 


واحذر صديقك ألف مره 
سق فكان أعرف بالمضره 


فلا تستكثرن من الصحاب 
يكون من الطعام أو الشراب 


أرحت نفسي من هم العداوات 
لأدفع الشرّ عني بالتحيات 
كأنه قدملا قلبي مسرات 
فكيف أسم من أهل لمودات 
وفي الجفاء لهم قطع الأخوات 
وكن حريصا على كسب المودات 
أصم أبكم أعمى ذاثقهيات 


وكن أيضاً كما قال بعض الحكباء : الق صديقك وعدوك بوجه الرضا من غير 
مذلة لما ولا هيبة منههاء وتوقر من غير كبر. وتواضع من غير مذلة. وكن في 
جميع أمورك في أوسطها فكلا طرفي قصد الأمور ذم - كما قيل: 


(1) أي تبليغ إخوانك ما يسوؤهم من أقوالك فيهم. 


عليك بأوساط الأمور فإنها ‏ طريق إلى نهج الصراط قويم 
ولا تك فيها مقَرّطآً أو مقفرطاً فإن كلا حال الأمور ذم 

ولا تنظر في عطفيك (0. ولا تكثر الالتفات إلى ورائلك» ولا تقف على 
الجماعات. وإذا جلست فلا تستوفز 29. وتحفظ من تشبيك أصابعك, والعبث 
بلحيتك وخاقك ., وتخليل أسنانك , وإدخال إصبعك في أنفك . وكثرة بصاقك 
وتدخمك وطرد الذباب عن وجهك. وكثرة التمطي والتثاؤب في وجوه الناس 
وفي الصلاة وغيرها. 

وليكن مجلسك هادئاً وحديثك منظوماً مرتباً. واصغ الى الكلام الحسن ممن 
حدثك من غير إظهار تعجب مفرط . ولا تسأله إعادته. واسكت عن المضاحك 
والحكايات., ولا تحدث عن إعجابك بولدك وشعرك وكلامك وتصنيفك وسائر 
ما يخصك . ولا تتصنع تصنع المرأة في التزين. ولا تتبذل تبذل العبد . وتوق كثر 
الكحل والإسراف في الدهن. ولا تلح في الحاجات, ولا تشجع أحداً على الظام . 
ولا تعلم أحداً من أهلك وولدك ‏ فضلاً عن غيرهم ‏ مقدار مالك. فإنهم إن 
رأوه قليلاً هنت عليهم . وإن رأوه كثيراً لم تبلغ قط رضاهم. واجفهم من غير 
عنف, ولن لهم من غير ضعف. ولا تهازل أمتك ولا عبدك فيسقط وقارك من 
قلوبهم. وإذا خاصمت فتوقر . وتحفظ من جهلك وعجلتك . وتفكر في حجتك ؛ 
ولا تكثر الاشارة بيدك. ولا تكثر الالتفات إلى من وراءك. ولا تحث على 
ركبتيك؛ وإذا هدأ غضبك فتكم. وإذا قربك السلطان فكن منه على حد 
السنان. وإياك وصديق العافية. فإنه أعدى الأعداء . ولا تجعل مالك أكرم من 
عرضك . 


)١(‏ عطف كل شيء جانبه؛ وهومن الانسانمن لدن رأسه إلى وركه. يقال: مر ينظر في عطفه. 
أي مر معجياً بنفسه. 
(؟) استوفز: جلس على هيئة كأنه يريد القيام . واستوفز في قعدته: انتصب فيها غير مطمثن . 


/ام/ 


فهذا القدر يا فتى يكفيك من بداية الهداية. فجرب بها نفسك. فإنها ثلاثة 
أقسام: قسم في آداب الطاعات, وقمم في ترك المعاصي . وقسم في مخالطة الخلق . 
وهي جامعة لجملة معاملة العبد مع الخالق والخلق؛ فإن رأيتها مناسبة لنفسك, 
ورأيت قلبك مائلاً إليها راغباً في العمل ببهاء فاعلم أنك عبد توَّر الله تعالى 
بالاإيمان قلبك . وشرح به صدرك . 

وتحقق أن هذه البداية نباية. ووراءها أسراراً وأغواراً وعلوماً ومكاشفات» 
وقد أودعناها في كتاب إحياء علوم الدين, فاشتغل بتحصيله. وإن رأيت نفسك 
تستثقل العمل بهذه الوظائف. وتنكر هذا الفن من العامء وتقول لك نفسك : أنَى 
ينفعك هذا العلم في محافل العلماء ؟ ومتى يقدمك هذا على الأقران والنظراء ؟ 
وكيف يرفع منصبك في مجالس الأمراء والوزراء ؟ وكيف يوصل إلى الصلة 
والأرزاق وولاية الأوقاف والقضاء ؟ فاعام أن الشيطان قد أغواك. وأنساك 
منقلبك ومثواك. فاطلب لك شيطاناً مئنلك ليعلمك ما تظن أنه ينفعك 
ويوصلك إلى بغيتك. ثم اعم أنه قط لا يصفو لك الملك في محلتك فضلاً عن 
قريتك وبلدتك, عم يفوتك الملك المقم والنعيم الدائم في جوار رب العالمين. 

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته, والحمد لله أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً . 
ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظي » وصلى الله على سيدنا مد وآله وصحبه 


وسلم. 


[ تمت رسالة بداية الهداية ويليها الأدب في الدين ] 


44 


الأدب في الدين 


بسم الله الررحمن الرحيم 
الحمد الله الذي خلقنا فأكمل خلقناء وأدبنا فأحسن أدبنا. وشرفنا بنبيه 
جمد عَم فأحسن تشريفنا ؛ ثم أقول وبالله التوفيق: 
إن أكمل الأخلاق وأعلاهماء وأحسسن الأفعال وأبباهاء هو الأدب في 
الدين, وما يقتدي به المؤمن من فعل رب العالمين, وأخلاق النبيين والمرسلين. 
وقد أدبنا الله تعالى في القرآن بما أرانا فيه من البيان, وأدينا 9 بنبيه عمد علائه 
في السنّة بما أوجب عليناء فله المنة 20 , وكذلك بالصحابة والتابعين ومن بعدهم 
من أهل الأدب من المؤمنين ما أوجب علينا من الاقتداء مهم ١‏ وذلك جليل 
خطره. كثير عدده. نذكر بعضه. لثلا يطول شرحه فيعسر فهمه. 


)١(‏ إن الأدب النبوي بلا شك هو الأدب الثالي الذي اختاره لنا الله عز وجل والحديث الشريف 
يقرل: ٠‏ إنما بعئت لأتهم مكارم الأخلاق». 
فم له المنة: بكسر الميم. في لسان العرب: من عليه يمن منآ أحن وأنعم. والامم: المنة. 


9 


الآداب بين يدي الله تعالى 


أدب المؤمن بين يَدي الله تعالى 9 : 

إطراق الطرف(2. وججع الهم (2؛, ودوام الصمت. وسكون الجوارح 290 
ومادرة امتثال الأوامر. واجتناب المناهي. وقلة الاعتراض. وحسن الخلق. 
ودوام الذكر. وتنزيه الفكر ., وتقييد الجوارح. وسكون القلب ., وتعظيم 
الرب. وقلة الغضب . وكتان الحب 220 ودوام الإخلاص., وترك النظر إلى 
الأشخاص. وإيثار الحق, واليأس من جميع الخلق. وإخلاص العمل وصدق 
القول, وتنزيه الاطلاع , وإحياء القربات, وقلة الإشارة. وكتان الفائدة, والغيرة 
عل تبديل الاسم . والغضب عند انتهاك المحارم . ودوام الطيية 19 واستشعار 
الحياء . واستعيال المخوف. والسكؤن ثقة بالضمان. والتوكل معرفة بحسن 
الاختيار. وإسباغ الوضوء على المككاره(*). وانتظار الصلاة بعد الصلاة. 
وارتعاش القلب خوف فوت الفرض »2 ودوام التوبة خورف الاصرار 290 ودوام 
)١(‏ المراد منه إذا كان العبد في صلاة أو مجلس ذكر أو دعاء. 
(؟) إطراق الطرف: غض البصر . 
(؟) جمع الحم : انصراف العبد بكل حواسه إلى الله تعالى سبحانه . 
(6) تنزيه الفكر : الابتعاد عن مشاغل الدنيا . 
(7) كتان الحب: يحب الله بقلبه ولا يذكر ذلك حتى لا يتهم بالرياء . 
(7) أي ملاحظة جلال الحق في جميع الحركات. 
(4) أي تمام الوضوء حتى ولو سبب للمتوضيء آلاماً. 
)() الإصرار : الهادي والتمسك . والواقع أن التوبة هي أهم أركان الاستقامة. 


التصديق بما غاب (2. ووجل القلب عند الذكرء وزيادة الأنوار عند الوعظ. 
واستشعار التوكل عند الفاقة. وإخراج الصدقة من غير بخل مع الإمكان. 
آداب العام : 

لزوم العام والعمل بالعام. ودوام الوقار. ومنع ٠‏ التكبر وترك الدعاء به 
والرفق بالمتعام , والتأفي بالمتعجرف7(. وإصلاح المسألة للبليد , وترك الأنفة 9) 
من قول لا أدري. وتكون همته عند السؤال خلاصة من السائل لاخلاص 
السائل. وترك التكلف. واستّاع الحجة والقبول لها وإن كانت من الخصم . 


آداب المتعام مع العالم : 

يبدؤه بالسلام » ويقل بين يديه الكلام » ويقوم له إذا قام. ولا يقول له: قال 
فلان خلاف ما قلت. ولا يسأل جليسه في بجلسه. ولا يبتسم عند مخاطبته . ولا 
طريقه حتى يبلغ إلى منزله . ولا يكثر عليه عند مله . 
آداب المقريء 9) 

يجلس جلسة الخنشية. واسمّاع الأمر. وإنصات الفهم. وانتظار الر حمة . 
والإصغاء إلى المتشابه . وإشارة الوقف » وتعريف الابتداء» وبيان الهممرة. وتعليم 
العدد. وتجويد الحرف. وفائدة الخاتم 2 والرفق بالبادي , والسؤال عن المتعام 


)١(‏ الاعتقاد الدائم بالمغيبات مثل البعث والحشر وغيرها. 

(؟) العجرفة حر ك3 ركه وي اميل والمتعجرف: المتكير , 

(؟) أي عدم المكابرة من اعترافه بجهل بعض الأمور . 

(4) المقريء: الذي يعم قراءة القرآن وترتيله . ومن أهم هذه الآداب أن يكون التعلم لوجه الله وبلا 
أجر. 

(0) أي بيان فائدة وثواب خم القرآن الكري . 


04١ 


إذا غاب, والحث له إذا حضر ء وترّك الحديث (". ويبدأ بالمتلقن يلقنه ما يصى 
به لنفسه, أو احتاج إلى أن يؤم غيره. 


آداب القارىء : 


يجلس بين يديه جلسة التواضع . وجمع الفهم , وخفض الرأس» والاستئذان 
قبل القراءة, ثم الاستعاذة والتسمية. والدعاء عند الفراغ . 
آأداب معلم الصبيان: 

يبدأ بصلاح نفسه؛ فإن أعينهم إليه ناظرة, وآذانهم إليه مصغية, فرا 
استحسنه فهو عند هم الحسن , وما استقبحه فهو عند هم القبيح , ويلزم الصمت 
في جلسته , والشزر () في نظره, ويكون معظم تأديبه بالرهبة, ولا يكثر الفرب 
والتعذيب. ولا يحادثهم فيجترثوا عليه. ولا يدعهم يتحدثون فينيسطون بين 
يديه. ولا" يمازح بين أيد يهم أحدا ! ويتنزه عما يعطونه . ويتورع عما بين يديه 
يطر حونه . ويمنعهم من من التحريش '' , ويكفهم من التفتيش . ال دم 
الغيبة 9) , ويوحش عند هم الكذب والنميمة 29), ولا يسأهم عن أمر ينوبهم 
فيئقلوه. ولا يكثر الطلب من أهلهم فيملوه, ويعلمهم الطهارة والصلاة. ويعرفهم 
بما يلحقهم من النجاسة . 
أداب المحدث: 


يبقصد الصدى . ويكستنب الكذدب, ويحدث بالمشهور 29 . ويروي عن الثقات» 


)10( أي عدم المجادلة. 

(؟) الشزر في نظره: هو نظر فيه إعراض, أو نظر الغضبان بمؤخر العين. 

)0( التحريش : أي مناكفة بعضهم البعض كي لا يؤدي هذا إلى الفوضى . 

(4) الغيبة: أن يذكر الإنسان غيره وهو غائب بما يكرهه لو كان حاضراً . 

(0) النميمة: الم : التحريش والإغراء ورفع الحديث إشاعة له وإفساداً . وتزيين الكلام بالكذب. 

(1) الحديث المشهور في عرف الفقهاء وعلماء الحديث: هو الحديث الذي رواه أكثر من اثنين عن - 


47 


ويترك المناكير ”© ولا يذكر ما جرى بين السلف, ويعرف الزمان. ريتحفظ من 
الزلل (© والتصحيف " واللّحن 20 والتحريف22, ويدع المداعبة, ويقل 
المشاغبة. ويشكر النعمة؛ إذ جعل في درجة الرسول َه ٠‏ ويلزم التواضع . 
ويكون معظم ما يحدث به ما ينتفع المسلمون به من فرائضهم وسننهم وآدابهم في 
معافي كتاب ربهم عز وجل. ولا يحمل علمه إلى الوزراء, ولا يغشى 7 أبواب 
الأمراء ؛ فإن ذلك يزري 7" بالعلياء . ويذهب بهاء علمهم إذا حملوه إلى ملوكهم 
ومياسيرهم20. ولا يحدث با لا يعلمه في أصله. ولا يقرأ عليه ما لا يراه في 
كتابه. ولا يتحدث إذا قريء عليه. ويحذر أن يدخل حديثاً في حديث . 


(10) 


0( 
فم 
)4 
)6( 
30( 


0" 
(ه) 


أكثر من ائنين... وهكذا حتى يصل إلى الرسول يَف . غير أنهم لم يبلغوا في طبقاتهم حد 
التواتر. وعلى هذا يخالف المتواتر كا يخالف بقية أخبار الآحاد من حيث /أن رواته أكثر من 
اثنين في كل الطبقات. ومثال ذلك ما روي من قوله يه : : المسام من سم المسلمون من لساته 
ويدهه وقوله: ٠لا‏ تقاطعوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخواناً. ولا يحل لمم أن بجر 
أخاه فوق ثلاثة أيام». فإن المطلع على البخاري يجد الشرط الابق قد تحقق فيهما وفي كثير 


غيرهها . 

الحديث المنكر: هو ما طعن في راويه بفحش غلطه., أو كثرة غفلته. أو ظهور فسقه بغير 
الكذب. 

الزلل: الخطأ . 


التصحيف : أن يقرأ الشيء على خلاف ما أراد كاتبه أو على ما اصطلحوا عليه. 

اللحن في اللغة: الخطأ . وني القرآن والأذان : التطويل فيا يقصر . والقصر فيا يطال. 

التحريف : تغيير اللفظ دون المعنى . 

يغثى: ينتاب ويأتي. وقد تحقق أن بهاء العم يذهب بالوقوف على باب الملوك والأمراء, 
لذهاب هيبة العالم ووقاره. 

أزرى بالشيء : تهاون به وقصتر. وأزرى بأخيه : أدخل عليه أمراً يريد أن يلبس عليه به . 
مياسيرهم: أغنياؤهم . 


04 


آداب طالب الحديث: 

يكتب المشهور ولا يكتب الغريب 27 ولا يكتب المناكير. ويكتب عن 
الثقات, ولا يغلبه شهرة الحديث على قرينه ولا يشغله طلبه عن مروءته وضلاته؛ 
يحتنب الغيبة» وينصت للسناع . ويلزم الصمت بين يدي محدثه, ويكثر التلفئت 
عند إصلاح نسخته, ولا يقول: سمعت, وهو ما سمع. ولا ينشره لطلب العلو 
فيكتب من غير ثقة. ويلزم أهل المعرفة بالحديث من أهل الدين, ولا يكتب 
عمن لا يعرف الحديث من الصالحين. 
اداب الكاتب: 

حسن الخنط. وجودة البري (2. وإعراب اللفظ 7 ومعرفة الحساب. وسداد 
الرأي. وحسن اللباس. وطيب الرائحة, والمعرفة بأخبار المتقدمين من الوزراء 
المتصرفين, والتخوف من المصادرات, والعلم بأمر الخراج» والمسائحة والخبرة في 


)١(‏ الحديث الغريب: ما انفرد بروايته في إحدى الطبقات بعد الصحالي راو واحد. فإن كانت 
الغرابة في التابعي سواء أكانت فيه فقط. أم فيه وفيمن بليه فقط. أم في جميع من بعد الصحالي 
أم في أكثر السند بعد الصحالي فإنه يسمى غريباً مطلقاً؛ وذلك كقوله عه : « الولاء لحمة 
كلحمة النسب لا يباع ولا يوهب ولا يورث»: فقد انفرد عبدالله بن دينار بروايته عن ابن 
عمر. أما إذا كان الانفراد بعد التابعي. سواء أكان ذلك في أثناء السند أم في آخره فإنه 
يسمى بالغريب النسبي. وإنما سمي نسييًا لأن التفرد فيه قد حصل بالنسة إلى راو معين وإن 
كان الحديث عزيزاً أو مشهوراً في نفس الأمر. بأن يكون قد جاء من طريق أخرى لم ينفرد 
فيها راو بروايته. ومثال ذلك ما روي أنه عَِثُمِ قال: ٠لا‏ يبع حاضر لباد » فقد انفرد الشافعي 
بروايته عن الإمام مالك, ثم انفرد بروايته عن الشافعي الربيع بن سليان, مع أن مالكاً إذ رواه 
عن نافع لم ينفرد بروايته عنه. بل رواه عنه جماعة غيره؛ فهو غريب بالنسبة لرواية الشافعي عن 
مالك. ومشهور بالنسية للرواية عن نافع. (انظر التعريف بالقرآن والحديث., تأليف جمد 
الزفزاف. ص 27117 14؟). 

(؟) البري: تسوية سن القام وإعداده إعداداً سلما . 

(؟) إعراب اللفظ : الرجوع إلى علم الاإعراب لتوضيحه. 


1 


السدادات , وترك الا نخرام () والتنزه عن الحرام. واستعيال المروءة وحسن 
العشرة والتحفظ عن الذلة. وترك الرفْث في المجالس . ونفى المداعبة 
والمحادثة والمداراة للحاشية . ْ 
أداب الواعظ: 

ترك التكبر. ودوام الحياء من سيده( وإظهار الفاقة إلى خالقه. وشهوة 
المنفعة لمستمعه , والاإزراء على نفسه لمعرفة عيبه, والنظر إلى المستمعين إليه بعين 
السلامة . وحسن الظن بهم بباطن الديانة؛ والإياس منهم طلباً للصيانة؛ والرفق 
بالتأديب . والعطف على المبتدىء , واعتقاد فعل ما يقول؛ لينتفع الناس بما يقول. 


آداب المستمع: 

إظهار الخشوع. ودوام ا لخضوع. وسلامة الصدر. وحسن الظلن . واعتقاد 
القول. ودوام السكوت. وقلة التقلب . وجمع الهم وترك التهمة . 
آداب الناسك: 


يكون وقته يعلنوفا : وورده() تقهنونا : وكلامه مقنجوها: ودمعه 
نوها (0) دائراً خشوعه 2 لازماً خضوعه. غاضاً لطرفه . عاقاً لقلبه ‏ مفكراً 
ف دينهء, مراقياً لوقتهء مداوماً لصومه. ساهراً في ليله , متورعاً ف مسكنه . 


)١(‏ الانخرام: الظلم والحمق. 

(؟) الرفث ( بسكون الفاء ): الفحش من القول. 

)2 أي الوجل من الله عز وجل فيتصاغر في نفه فيعظم عند ربه فقد روي أن أحد الوعاظ بعد 
موته رؤي فسثئل ما فعل الله يك فقال: أوقفني بين يديه وقال أنت الذي تعظ الناس ولا تعظ 
نفك؟ فقلت: لكن يا مولاي كنت أبدأ وعظي وأختمه بالصلاة على نبيك قال فعفا عني. 

(4) الورد ( بكسر الواو وسكون الراء ): الجزء من الليل يكون على الرجل أن يصليه. والورد أيضاً : 
النصيب من القرآن أو الذكر , يقال: قرأت وردي. 

(6) سجمت العين الدمع سجيا ومجوماً أمالته. 


م6 


متقللاً في مطعمه ومشربهء متوقعاً لنزؤل” أجلهء مجانباً لقرنائه 29, تاركاً 
لشهواته , محافظاً على صلواته. عالماً بزيادة حاله ونقصانه, لا يحتاج إلى علم غيره 
آداب اعتزال الناس: 
يكون فقيهاً في ديته عارفاً بأمر صلاته وضصامه وزكاته وحجه .2 يعتقد في 
اعتزالهم دفع شره عنهمء ويحضر الجمع والجماعات. ويشهد الجنائز. ويعود 
المرضى؛ ولا يخوض في حديثهم: ولا يسأل عما يفسد قلبه من أخبارهم؛ ولا 
يطمع نفسه في تائلهم 2. حتى لا يكون له حاجة إلى جيرانه؛ تكون أوقاته 
ثلاثة: إما أن يصلي ويدرس فيغنم, أو ينظر في كتبه فيتعام» أو ينام فيسام. يدمن 
الذكر . ويكثر الشكر حتى يتم له الأمرء فإن كان له أهل يتحدث معهم. ويجتهد 
في خلوته حتى يرى ميزان عزلته. 
آداب الصوفي: 
قلة الإشارة. وترك الشطح 9) في العبارة. والتمسك بعلم الشريعة. ودوام 
الكد, واستعبال الجد. والاستيحاش 9!) من الناس . وترك الشهرة ف الليباس » 
وإظهار التجمل. واستشعار التوكل. واختيار الفقرء ودوام الذكر. وكتان 
المحبة. وحسن العشرة في الصحبة, والغض عن المردان) وترك موؤّاخاة 
النسوان. ودوام درس القران. 
)١(‏ جمم قرن ( بكسر القاف): وهو المثل والنظير . 
)) نائلهم : عطائهم . 
(؟) الشطح كما عرفه الجرجاني في كتابه التعريفات: عبارة عن كلمة عليها رائحة.رعوئة ودعوى. 
وهو من زلات المحققين؛ فإنه دعوى بحق يفصم بها العارف من غير إذن إلهي بطريق يشعر 
بالنباهة . 
(4) الاستيحاش من الناس: عدم الأنس بهم وتحاشيهم. 
)2 المردان : جمع أمرد , وهو الغلام الذي طرّ شاربه وبلغ خروج لحيته ولم تبد ويجمع أيضاً على مره . 


45 


آداب الشريف: 

يصون شرفه. ولا يأكل بتسّبه27؛ ولا يتعدى بِحَسَبه 27 . همته التواضع 
لربه. والخوف من سيده. ويأخذ بالفضل على من دونهء ولا يساوي من هو 
مثله. يعرف الفضل لأهل العلم وإن كان مثلهم في العام أو أعام. يلازم أهل الدين 
من أهل الفقه والقران. ويبذب أخلاقه, ويتحفظ في ألفاظه عند غضيه 
وخطابه. يكرم جلساءه. ويواصل إخوانه. ويصون أقاربه. ويعين جيرانه» 


ويزين بنفسه أخدانه9© , 


آداب النوم 240 


يتطهر قبل النوم . وينام على يمينه, ويذكر الله عز وجل حتى يأخذه النوم 
ويدعو إذا استيقظ , ويحمد الله تعالى . 


)١(‏ أي لا يجعل نسبه وسيلة لكسب الرزق ويكون متعففاً حفاظاً على عراقة أصله. 

(؟) أي لا يظم لكونه عريق الحسب. 

(؟) الأخدان جمع خلان ( بكسر الخاء المعجمة وسكون الراء ) وهو الصاحب. 

(4) من المأثور من الدعاء قبل النوم: اللهم إفي أعوذ برضاك عن سسخطك. وبمعافاتك من عقوبتك » 
وأعوذ بك منك . اللهم إني لا أستطيع أن أبلغ ثناء عليك ولو حرصت . ولككن أنت كما أثنيت على 
نفك. اللهم باسمك أحيا وأموت. اللهم رب السموات ورب الأرض ورب كل شيء 
ومليكه. فالق الحب والنوى. ومنزل التوراة والإنجيل والقرآن. أعوذ بك من شر كل ذي 
شرء ومن شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها. أنت الأول فليس قبلك ثيء , وأنت الآخر فليس 
بعدك شيء , وأنت الظاهر فليس فوقك شيء , وأنت الباطن فليس دونك شيء . اقض عني الدين » 
وأغنني من الفقر . الهم أنت خلقت نفسي وأنت تتوفاهاء لك مماتها ومحياهاء اللهم إن أمتها 
فاغفر لحاء وإن أحييتها فاحفظهاء اللهم إني أسألك العافية في الدنيا والآخرة, باسمك رفي 
وضعت جني فاغفر لي ذنبي. اللهم قني عذابك يوم تجمع عبادك. (انظر إحياء علوم الدين 
للغزالي ءس 687 ط دار الشعب). 


40 


آداب التهجد " : 

تقليل الغذاء » ونقصان الماء . وإصلاح النهار ياجتئاب الغيبة والكذب 
واللغو 7 وترك النظر في المحرمات, والقيام من النوم بفزع وخوفء, 
وإسباغ 7" الوضوء . والنظر في ملكوت السموات, والدعاء والحضور 9 في 
الصلاة لمهم التلاوة . 
اداب الخلاء 9 : 

التسمية ثم الاستعاذة قبل الدخول27. وكشف الثوب برفق بعد قربه من 
الارض. ومسح اليد بالتراب بعد الاستنجاء مع الغسل . والاستتار قبل الخروج. 
والحمد والشكر بعد الخروج. 
آداب الحا م : 

ستر العورة. وغض البصر عن العورات. وطلب الخلوة. وترك التكام» وقلة 


التلفت . ومنع السلام » وقلة الجلورس 3 وغسل الجنابة من قبل الدخول ٠‏ وغسل 
القدمين إذا خرج بالماء المارد فإنه يذهب الصداع. 


. التهجد : الصلاة بالليل والناس نيام‎ )١( 

(؟) اللغو : ما لا يعتد به من كلام وغيره. ولا يحصل منه على فائدة ولا نفع. 

(*) إسباغ الوضوء : توفية كل عضو حقه في الغسل. 

(4) الحضور في الصلاة: عدم الانشغال فيها بأي أمر من أمور الدنيا. 

(6) الخلاء: ما يتخلى فيه الانسان من مرحاض أو غيره. 

(1) قال الإمام الغزاللي في كتابه: والاحياء »: لا يستصحب شيئاً عليه اسم الله تعالى أو رسول الله 
َِلِتهِ . ولا يدخل بيت الماء حاسر الرأس. وأن يقول عند الدخول: بسم الله أعوذ بالله من 
الرجس النجس الخبيث المخبث الشيطان الرجيم. ويقول عند الخروج: الحمد لله الذي أذعب 
عني ما يؤذيني. وأبقى على ما ينفعني . 


14 


اداب الوضوء: 

السواك 9) ودوام الذكر مع الغسل., واستشعار الهيبة ممن يقصد والتوبة مما 
كان. والسكوت بعد الطهارة حتى يدخل في الصلاة., والطهارة في إثر الطهارة 
وأخذ الشارب . ونتف الإبط. وحلق العانة» وتقلم الأظفار. والاختتان وغسل 
البراجم 9 , وتعاهد الأنف, ونظافة الثوب والبدن. 
آداب دوخول المسجد: 

يبدأ باليمنى» ويزيل ما في نعله من الأذى , ويذكر اسم الله عز وجل , ويسلم 
على من حضر . فإن كان خالياً 7" سام على نفسه. ويسأل الأء تعالى أن يفتح له 
أبواب رحمته. ويجلس في مواجهة القبلة, ويلزم المراقبة, ويقل المخاطبة. ويترك 
الملاعنة. ولا يرفعم فيه صوته. ولا يشهر فيه سيفه. ويمسك بنصال نبله. ولا 
يصنع صنعة. ولا ينشد ضالة. ولا يبايع ولا يشاري ولا يجامع ' فاذا انصرف 
بدأ باليسرى » وسأل الله تعالى من فضله ما يعطى . 
آداب الاعتكاف 7, 
وحبس النفس عن مرادها , ومنعها في نحابها » وجبرها على طاعة الله عز وجل . 
آداب الأذان: 


يكون المؤذن عارفاً بوقته في الصيف وفي الشتاء . غاضاً لطرفه عند صعوده 


)١(‏ السواك: السواك والمسواك عود من شجر الأراك أو نحوه. يدق طرفه وينظف به الفم 
والأسنان. ومن الممكن تنظيف الأسنان بالوسائل الحديثة أيضاً . إذ أن القصد هو النظافة. 

)؟) البراجم : مفاصل الأصابع . واحدها برجمة , 

(؟) أي المسجد. 

(1) الاعتكاف: هو الإقامة في المسجد لأيام يحددها المعتكف للانصراف للعبادة. 


44 


المنارة20 , ويلتفت في أذانه عند النداء بالصلاة والفلاح. ويرتل الأذان» 
وينحدر ( في الاقامة. 
أداب الإمام: 

يكون عارفاً بالصلاة وفرائضها وسننهاء فقيهاً بما ريحدث له في ضلاته وما 
يفسدهاء ولا يم قوماً وهم له كارهون؛ يجعل من يليه من أهل العام ويأمرهم 
بتسوية الصفوف, ويشير إليهم بلطف, ولا يقرأ بطوال السور فيضجروا, ولا 

يطيل التسبيح فيملواء ولا يخفف بحيث يفوت الكيال. » بل يرتب الصلاة على قدر 

قوة ضعفتهم . ويترفق في ركوعه وسجوده حتى يطمئنوا. ويسكت سكتة قبل 
الحمد وبعد الحمد وإذا فرغ من السورة, وينتظر في ركوعه من أحس به ما لم 
يجحف ( بمن وراءه. وينتظر قبل الصلاة من فقد من جيرانه ما لم يخف فوت 
وقته. ويفرق بين التسليمتين بوقفة خفيفة, وإذا فرغ نظر إلى ستر الله ومنته» 
وازداد شكراً لسيده, وأدام له في كل حالاته الذكر . 
آداب الصلاة: 

خفض الجناح 29. ولزوم الخشوع, وإظهار التذلل. وحضور القلب. ونفي 
الوساوس., وترك التقلب ظاهراً وباطناً. وهدوء الجوارح. وإطراق الطرف. 
ووضع اليمين على الثمال والتفكر في التلاوة؛ والتكبير بالشهيبة. والركوع 
با خضوع. والسجود بالخشوع. والتسبيح بالتعظيم, والتشهد بالمشاهدة, والتسليم 
بالإشفاق. والانصراف بالنوف. والسعي بطلب الرضاء " . 


. المنارة: مثذنة الجامع‎ )١( 

(؟) يقال: حَدّر القراءة والأذان والإقامة: أسرع فيها. 

(؟) يجحف: يتجاوز الحد المعقول. 

(14) خفض الجناح: التواضع والانكسار . 

(6) في كتاب: و قوت القلوب في معاملة المحبوب؛ لأني طالب المكي ج 7 ص 198 : :روي إذاع 


اداب القراءة: 
مداومة الوقار والحياء . ومجانية العسث والخناء )١(‏ » ولزوم التواضع والبكاء . 
أداب الدعاء : 


خشوع القلب. وجمع الحهم. وإظهار الذل. وحسن النظر. وخفض الجناح. 
وسؤال الفاقة. ولجأ ("" الغريق. ومعرفته بقدر نفسه, وعظم حرمة المسؤول» 
وبسط الكف عند الرغبة, واليقين بالإجابة والخوف من الخيبة . وانتظار الفرج. 
وترك العدوان. وصحة القصد واللجأ, ومسح الوجه بباطن الكف بعد الدعاء . 


آداب الجمعة: 


التأهب للوقت قبل دخوله. والطهارة عند حضوره والبكور؛ وغسل الجسد 
ونظافة الثوب . وطيب الرائحة . وترك التخطي " , وقلة الكلام . ودوام الذكر 29 
والقرب من الإمام, والإنصات للخطي ب , والانتشار لطلب العام » والمشي 
بالسكينة والوقار. وترك تشبيك الأصابع , وتقارب الخطى . ودوام الإطراق. 


> قام العبد في صلاته فقال: الله أكبرء قال الله للملائكة: ارفعوا الحجاب بيني وبين عبدي» فإن 
ركع وقف قلبه مع التعظيم للعظي ‏ فلا يكون في قلبه أعظم من الله سبحانه وتعالى وحدهء فإذا رفع 
شهد الحمد للمحمود. فوقف مع الشكر للودود فاستوجب منه المزيد, وإن سجد مما قلبه في 
العلو. فقرب من الأعلى لقوله تعالى : # فاسجد واقترب 6 ». 

. الخناء : الفحش في الكلام‎ )١( 

0 الجأ ( بفتح اللام والجي ): المعقل والملاذ . وقوله : : ولجأ الغريق ؛ يعني به أن يكون لجوء الداعسي 
إلى الله كلجوء الغريق إلى من يستنقذه من الغرق. 

)؟) ترك التخطى : أي يجب عليه أن يحضر مبكراً حتى لا يتخطى أعناق الناس ليصل إلى الأمام . 

4( أقل مراقبة الذكر باللسان؛ قال ابن عطاء الله في حكمه : ٠‏ لا ترك الذكر لعدم حضورك مع الله فيه 
لأن غفلتك عن وجود ذكره أشد من غفلتك في وجود ذكره. فعسى أن يرفعك من ذكر 
مع وجود غفلة إلى ذكر مع وجود يقظة. ومن ذكر مع وجود يقظة إلى ذكر مع وجود 
حضور. إلى ذكر مع غيبة عيا سوى المذكور , وما ذلك على الله بعزيز .٠‏ 


6 


وكثرة الشكر للرزاق». ودخول المسجد بالخشوع, ورد السلام. وترك الصلاة 
بعد جلوس الخطيب على المنبر. ورد السلام عليه بعد إشارته. وترك الكلامء 
واعتقاد القبول للموعظة . وترك الالتفات عند إقباله ومخاطبته. وترك القيام إلى 
الصلاة حتى ينزل من المنبر ويفرغ المؤذن من الاإقامة. 
أداب الخنطيب: 

يأقي المسجد وعليه السكينة والوقار. ويبدأ بالتحية ويجلس وعليه اطيبة. 
ويمتنع عن التخاطب ., وينتظر الوقت؛ ثم يخطو إلى المنبر وعليه الوقار. كأنه يحب 
أن يعرض ما يقول على الجبار . ثم يصعد بالخشوع , ويقف على المرقاة © بالخشوع 
ويرتقي بالذكر. ويلتفت إلى مستمعه باجتاع الفكر. ثم يشير إليهم بالسلام 
ليستمعوا منه الكلام. ثم يجلس للاذان فزعا من الديان, ثم يخطب بالتواضع , 
ولا يشير بالأصابع. ويعتقد ما يقوله لينتفع بهء ثم يشير إليهم بالدعاء ‏ وينزل 
إذا أخذ المؤذن في الإقامة. ولا يكبر حتى يسكتواء ثم يفتتح الصلاة ويرتل ما 


يقرا. 
أداب العيد 

إحياء ليلته والاغتسال في صبيحة يومه؛ ونظافة البدن. وطيب الرائحة. 
وإدامة التكبيرء وكثرة الذكر . واستعبال الخشوع , والتسبيح والحمد بين تضاعيف 
التكبير . والإنصات للخطبة بعد الصلاة. واكل اليسير قبل الخروج إن كان 
فطراً. والذهاب في طريق والرجوع في أخرى, والانصراف بالإشفاق خوف 
الغبية . 


)١(‏ المرقاة: ما يرتقي عليه الامام لأداء الخطبة. أي المنبر وما شابهه. 


آداب الخسوف20: 

دوام الفزع. وإظهار الجزع, ومبادرة التوبة. وترك الملل . وسرعة القيام إلى 
الصلاة, وطول القيام فيمها. واستشعار الحذر. 
آداب الاستسقاء 9 , 

الصيام قبله. وتقديم التوبة. ورد المظالم.ء وبذل الهمة. وترك المفاخرة. 
والاغتسال قبل الخروج. ودوام الصمت ورؤية الخال التي اوعس المنعء. 
والاعتراف بالذنب الذي نزلت به العقوبة, واعتقاد ترك العود (2» والانصات 
للخطية . والتسبيح بين التكبير , وكثرة الاستغفار , ونحويل الإزار مع الدعاء . 


آاداب المريض: 

الاكثار من ذكر الموت. والاستعداد له بالتوبة. ودوام الحمد والثناء لله 
واستعبال التضرع والدعاء . وإظهار العجز والفاقة . والتداوي مع الاستعانة بخالق 
الدواء .» وإظهار الشكر عند القوة. وقلة الشكوى., وإكرام الجلساء. وترك 
المصافحه . 


آداب المعزي 
خفض الجناح. وإظهار الحزن. وقله الحديث. وترك التبسم فإنه يورث 
الحقد. 


. الخسوف: ذهاب ضوء القمرء والكوف ذهاب ضوء الشمس‎ )١( 

(؟) الاستسقاء: طلب الماء إذا انقطعت الأمطار. فيستحب للإمام أن يأمر الناس أولاً بالصيام 
ثلاثة أيام. وما أطاقوا من الصدقة, والخروج من المظالم ‏ والتوبة من المعاصي. ثم يخرج بهم ف 
اليوم الرابع وبالعجائز والصبيان, متنظفين في ثياب بذلة واستكانة متواضعين: وقيل: يستحب 
إخراج الدواب لمشاركتها في الحاجة. لقوله عَِلأ : ولولا صبيان رضع . ومشايخ ركم . وبهالم 
رتع ؛ لصب عليكم العذاب صبا .٠‏ 

(؟) ترك العود : أي أنه لا يعود إلى الذنب أبدا . 


اداب المشي في الجنازة: 

دوام الخشوع. وغض البصر. وترك الحديث, وملاحظة الميت بالاعتبار. 
والتفكر فما يجيب به من السؤال, والعزم على المبادرة فما يخاف به من المطالبة. 
وخوف حسرة الفوت عند هجوم الموت. 
اداب المتصدق: 

ينبغى له أداؤها قبل المساءلة , وإخفاء الصدقة عند العطاء . وكتّاءئها بعد العطاء , 
والرفق بالسائل » ولا يبدؤه برد الجواب. ويرد عليه بالوسوسة في الوسوسة(". 
ويمنع نفسه البخل , ويعطيه ما سأل أو يرده ردّاً جميلاً . فإن عارضه العدو إبليس 
لعنه الله أن السائل ليس يستحق » فلا يرجع بما أنعم الله به عليه بل هو مستحق 
لها. 
آداب السائل : 

يبدي الفاقة بصدق الحقيقة. ويظهر السؤال بلطافة القول. ويأخذ ما أعطي 
بمقابلة الشكر ‏ وإن قل وحسن الدعاء » فإن رد عليه رجع بجميل قبول العذر. 
وترك المعاودة والازلحاح . 


آداب الغني : 

لزوم التواضع . ونفي التكبر. ودوام الشكر, والتوصل إلى أعمال البرء 
والبشاشة بالفقير والإقبال عليه. ورد السلام على كل أحد , وإظهار الكفاية 29), 
ولطافة الكلمة. وطيب المؤانسة . والمساعدة على الخيرات. 


)١(‏ من معاني الوسوسة الحمس والكلام الخفي المختلط الغير مبين أي على المتصدق إذا سأله السائل 
همساً استحياءاً منه, فعلى المتصدق أن يرد عليه همسا . 

)١(‏ الكفاية: الاستغناء. أي على الغني أن يظهر غناه. بعكس الفقير الذي عليه أن يكم فاقته كيا 
سيرد في آداب الفقير. 


آداب الفقير : 

لزوم القناعة» وكتان الفاقة 7" . وترك البذالة والتضعضع 7(" . وإلقاء الطمع . 
وإيثار الصيانة 2. وإظهار الكفاية 0» لأهل المروءة من أهل الديانة. وإجلال 
الأغنياء مع قلة الاستشار لهم. وإظهار الكفاية لهم مع الإياس * منهم. وترك 
الكبر عليهم. مع نفي التذلل وحفظ القلب عند رؤيتهم, والتمسك بالدين عند 
مشاهدتهم. 


آداب الْمُهُْدي: 
رؤية الفضل للمهدى إليه. وإظهار السرور بالقبول منه لماء. والشكر عند 
رؤية المهدى إليه . والاستقلال لها وإن كثرت. 


أواب المهُدى إليه : 

إظهار السرور بها وإن قلت. والدعاء لصاحمها إذا غاب . والمشاشة إذا 
حضر. والمكافأة إذا قدر, والثناء عليه إذا أمكن, وترك الخصوع له, والتحفظ 
آاداب اصطناع المعروف: 

البداءة به قبل السؤال. والمبادرة به عند الوعد , والتوفير له عند العطاء. 
والستر له بعد الأخذ. وترك المنة 2 بعد القبول, والمداومة على اصطناعهء 
والحذر من انقطاعه. 
)١(‏ كتان الفاقة: عدم إظهار الفقر والتعفف عن السؤال. 
(؟) الخضوع والتذلل. 
(؟) إيثار الصيانة : أي صيانة كرامته. 
(4) لعله يعني أن من آداب الفقير أن يتظاهر بالاستغناء أمام أهل المروءة ليبقى محتفظاً بماء وجهه. 
(0) الاياس : اليأس وقطع الأمل من عطاء الناس . 
)١(‏ أي ترك الجهر بعمل المعروف وتعيير السائل . 


آداب الصيام : 
طيب الغذاء , وترك المراء» ومجانية الغيبة. ورفض الكذب, وترك الأذى». 
وصون الجوارح عن القبائح . 


آداب الحج 
آداب الطريق: 


طيب النفقة , والإحسان إلى المكاري 7( , ومعاونة الرفقة والرفق بالمنقطع 29 
وبذل الزاد. وحسن الخلق, وطيب الكلمة, والمزاح 29 من غير معصية, واختيار 
التعديل . والاستبشار به عند رؤيته . والاصغاء عند محادثته, وقلة الماراة 9 له عند 
ضجره. والتغافل عن زلته. والشكر له عند خدمته, والتوصل إلى إيثاره 
ومساعدته . 
آداب الإحرام: 

غسل الجسد. ونظافة الإزارين» وطيب الرائحة, وتعاهد الجياع. والتلبية 
بالهيبة . ورفع الصوت بحلاوة الاجابة» والطواف بتعظم الحرمة, والسعي بطلب 
الرضاء . والوقوف بمشاهد القيامة. وشهود المشعر برؤية الرحمة والحلق برؤية 
العتق. والذبح برؤية الكفارة, والرمي برؤية الطاعة. وطواف الزيارة بمشاهدة 
المرور وهو من غير حد , والرد بحقيقة الأسف, والانصراف بمحبة الرجوع . 
آداب دخول مكة: 


دخول الحرم بالتعظي» والنظر إلى مكة بالتحسر , ورؤية المسجد بالتفضيل , 


)1( المكاري : من يحمل المتاع للمسافرين بالأجر على الدواب أو البعير أو خلافه . 
إفهة6 المنقطع : الذي هلكت مطيته وليس معه ما يركبه . 
(؟) أي للتخفيف عنه بالمضاحكة المشروعة. 
(1) أي عدم مجادلته ومخاصمته . 


١6١او/‎ 


ونظر البيت بالتكبير والتهليل . ودوام الطواف. ومواصلة العمرة. ودخول البيت 
بتعظيم الحرمة ‏ ودوام التوبة بعد دخوله. 
آداب دخول المدينة: 
يدخلها بالوقار مع السكينة. والمشاهدة لما كان فيها من الشريعة, والنظر 
إليها بالعين الرفيعة, ثم يأقٍ مسجد الرسول يِه ومنبره كأنه مشاهد لصلاته 
وخطبته, ثم يأتي قبره وكأنه ناظر إلى شخصه الكريم. ومخاطبته مع خفض 
الصوت بحضرته كأنه معاين لجلسته. فيبدؤه بالسلام, ثم يسام على ضجيعيه 20 
ويشاهد محبتها له. ومشيته بينهماء وإقباله عليهماء. ويعاين هيبتههما له وإقباهما 
عليه. وإذا ودع القبر فلا يوليه الظهر. 
آداب التاجر : 
لا يجلس في طريق المسلمين فيضيق عليهم , ويستعمل غلاماً كيسآ (" لا يبخس 
في كيله. ولا ينقص في وزنه, يأمره بالرجحان 7 , وترك العجلة في الميزان» 
يكون ميزان دراهمه في حدته كالطيار ). ومن اعتداله كالمعيار. طويلة 
خيوطه , دقيقة ذوائبه, معبرة صنجاته "2 معتدلة حباته . يبتدىء كل يوم بمسح 
ميزانه , ويتعاهد نقص أرطاله وصنجاته, يأمر غلامه بالتوقف في كيله الأدهان, 
وإذا وقف عليه شريف أكرمه, أو جار فضله. أو ضعيف رحمه. أو غير هؤلاء 
أنصفه. يبيع على قدر أسعاره. إن نقص سعره زاد زبونه. كبا إنه إن زاد سعره 
نقص زبونه. 
)١(‏ ضجيعيه: اللذان يرقدان بجواره وهرا أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب. 
(؟) عاقلاً. 
(؟) الاستيفاء . 
(1) أي يكون في دقته كجناحي الطائر. 
(6) الصنجات: هي العيارات التي يوزن بها كالرطل والأوقبة. جع صنجة (يفتح الصاد المهملة 
وسكون النون) ويقال أيضاً سنجة بالسين المهملة بدل الصاد . 


وتكون همته في جلوسه درس القرآن. وغض الطرف عن المحارم والغثيان , 
يشتري عرضه باليسير من سفيه يقف عليه, ولا يرد السائل. ولا يمنع البشر من 
النائل 9 . 

فإن كان هو المتولي لأمره كان ما يلزم غلامه هو أولى به. ويشتري الأرطال 
والصنجات والمكيال من الثقات معبرات 7( , ويترك المدح للسلعة عند البيع ‏ والذم 
لما عند الشراء , ويلزم الصدق عند الإخبار. ويحذر الفحش عند المزايدة » 
والكذب عند المحادثة, ويقل الخوض7) مع أهل الأسواق, ومداعبة 
الأحداث 9؛) ويقصر في الخصومات. 
آداب الصيرفي: 

يعتقد الصحة, ويؤدي الأمانة ويحذر الرباء ويقرب النسيئة"'. ولا ينفق 
الرديئة » ويوني الوزن. ولا يعتقد الغش والغين. متفقداً لمعيارهة» خائفاً من 
نقصان صنجاته ومثاقيله . 
آداب الصائغ : 

استعبال النصيحة. والاجتهاد في الجودة. وقلة المطل. ووفاء الوعد. وترك 
التعدي في الأجرة. 
آداب الأكل: 

غسل اليدين قبل الطعام وبعده, والتسمية , والأكل باليمين ومما يليه. ويصغر 


)١(‏ يقال: نال فلان نيلاً ونائلاً ونولاً : صار كثير النوال. 

فق 'معبرات : أي دقيقة في تعبيرها عن الوزن. 

(؟) الخوض: الاندفاع والمشاركة في الأحاديث والأعبال غير المستحبة. 
(4) الأحداث: صغار السن من الغليان. 

(8) النسيئة : التأخيرء والدين المؤخر . 


اللقمة. وإجادة المضغ . وقلة النظر إلى وجوه الحاضرين, ولا يأكل متكثاً, ولا 
يأكل فوق الشبع عند الجوع. ويعتذر إذا شبع حتى لا يخجل الضيف أو من به 
حاجة, ويأكل من جوانب القصعة( ولا يأكل من ذروتها . ويلعق الأصابع بعد 
الفراغ . ويحمد الله ولا يذكر الموت عند الأكل لثلا ينفص على الحاضرين . 
أداب الشرب: 

ينظر في إنائه قبل شربه, ويسمي الله تعالى قبله. ويحمده بعده. ويمصه مصاً. 
ولا يعبه عباً. ويتنفس في شربه ثلاثاً 2 ويتبعه بالتحميد . ويرد بالتسمية, ولا 
يشرب قائياً. ويناول من كان على بمينه إن كان معه غيره. 
آداب الرجل إذا أراد النكاح: 

يطلب الدّين , ثم بعده الجبال والمال إن أرادهء ولا يشارط على ما يأتيه. ولا 
يضمره. ولا يخطب على خطبة أخيه. ولا يأذن في إملاكه وعرسه' بما يباعده 
من ربه ويزريهء ولا يجلس في خلواته حيث يرى غيره حرمته, ولا يقبلها بين 
أهله. ويبدؤها إذا خلا في مؤاله. ولا يكون سفيره كذاباً. ولا المخبر له نماماً 
بل من خاصتها, ويسأله عن دينها ومواظبتها على صلاتهاء ومراعاتها لصيامها, 
وعن حيائها ونظافتها. وحسن ألفاظها وقبحها. ولزوم بيتها. وبرها بوالديها, 
ويتلطف قبل العقد في النظر إليها. وبعده بما يبلغها بالكلام الجميل. ويبحث عن 
خصال والدها ودينه. وحال والدتها ودينها واعماها. 


)١(‏ القصعة: إناء كبير يوضع فيه الثريد. وهو الخبز الذي يقطع قطعاً صغيرة ثم يغمر بالمرق: وهو 
أفضل أنواع الطعام عند العرب. 

(؟) روى أبو داود في كتاب الأشربة باب 19ء وابن ماجه في كتاب الأشربة باب ١8‏ عن أنس 
رضي الله عنه أن البي يَْقُهِ كان إذا شرب تنفس ثلاثاً. وفي رواية عند الإمام أحد (ج١‏ 
ص 785) والترمذي ( كتاب الأشربة؛ باب )١4‏ عن ابن عباس قال: كان رسول الله مَيْه إذا 
شرب ننفس مرتين في الشراب . 

() الزاملاك والعرس : الزوجة. 


آداب المرأة إذا خطبها الرجل: 

تأمر من تأمن به من أهلها إن كان صدوقاً أن يسأل عن مذهب الخاطب 
ودينه واعتقاده ومروءته في نفسه وصدقه في وعده., وتنظر من أقرباؤه. ومن 
يغشاه في بيتهء وعن مواظبته على صلواته وجماعته, ونصيحته في تجارته وصنعته 
ويكون رغبتها في دينه دون ماله أو في سيرته دون شهرته, تعزم 0 معه على 
القناعة وتكون لأوامره مطيعة. فهو آكد للألفة. وأئيت للمودة. 
آداب الجباع: 

طيب الرائحة, ولطافة الكلمة. وإظهار المودة, وتقبيل الشهوة. والتزام 
المحبة. ثم التسمية. وترك النظر إلى الفرج. فإنه يورث العمى» والستر تحت 
الإزارء وترك استقبال القبلة. 
آداب الرجل مع الزوجة: 

حسن العشرة. ولطافة الكلمة. وإظهار المودة. والبسط في الخلوة» والتغافل 
عن الزلة. وإقالة العثرة. وصيانة عرضهاء وقلة مجادلتها. وبذل المؤونة بلا بخل 
غاء وإكرام أهلها ء ودوام الوعد الجميل, وشدة الغيرة عليها . 
آداب المرأة مع زوجها: 

دوام الحياء منه. وقلة الماراة 7 له. ولزوم الطاعة لأمره. والسكون عند 
كلامه. والحفظ له في غيبته, وترك الخيانة في ماله. وطيب الرائحة. وتعهد 
الفم 7 ونظافة الثوب . وإظهار القناعة. واستعمال الشفقة. ودوام الزينة» وإكرام 


)١(‏ تعزم: تنوي وتعقد نيتها على الأمر. 
(؟) الماراة: الخصومة والمجادلة. 
(؟) تعهد الغم: تنظيفه دائياً والاهتام به. 


أهله وقرابته ورؤية حاله بالفضل., وقبول فعله بالشكر. وإظهار الحب له عند 
القرب منهء وإظهار السرور عند الرؤية له. 
أداب الرجل في نفسه: 

لزوم الجمعة والجماعة. ونظافة الملبس ». وإدامة السواك., ولا يلبس المشهور 
ولا المحقور. ولا يطيل ثيابه تكبراً. ولا يقصرها تمسكناً. ولا يكثر التلفت في 
مشيته, ولا ينظر إلى غير حرمته, ولا يبصق في حال محادثته, ولا يكثر القعود 
على باب داره مع جيرانه, ولا يكثر لااخوانه الحديث عن زوجته وما في بيته. 
آداب المرأة في نفسها: . 

أن تكون لازمة لمنزهاء قاعدة في قعر بيتها. ولا تكثر صعودها ولا اطلاعها 
الكلام لجيرانهاء ولا تدخل عليهم إلا في حال يوجب الدخول, تسر بعلها لي 
نظره. وتحفظه في غيبته» ولا تخرج من بيتها وإن خرجت فمتخبئة., تطلب 
المواضع الخالية» مصونة في حاجاتهاء بل تتناكر ممن يعرفها. همتها إصلاح 
نفسهاء وتدبير بيتهاء مقبلة على صلاتها وصومهاء ناظرة في عيبها. متفكرة في 
دينها. مديمة صمتهاء غاضة طرفهاء مراقبة لربهاء كثيرة الذكر لهء طائعة 
لبعلها . تحئه على طلبه الحلال, ولا تطلب منه الكثير من النوال» ظاهرة الحياء. 
قليلة الخناء 0 . صبور شكور . مؤثرة في نفسها, مواسية من حاها وقوتها. وإذا 
استأذن بابها صديق لبعلها. وليس بعلها حاضراً. لم تستفهمه. ولا في الكلام 
تعاوده. غيرة منها على نفسها وبعلها منه. 
آداب الاستتئذان: 


المثى بجانب الجدار. ول" يقابل الاب . والتسبيح والتحميد قبل الدق» 


)51( قليله الخناء : البذاءة . وفي لسان العرب الخنا من قبيح الكلام . خنا في منطقه يخنو ختاء والخنا : 
الفحش . وفي التهذيب : الخنا من الكلام أفحشه. 


دللا 


والسلام بعده. وترك السمع إلى من في المنزل. واستكذان بعد السلام فإن أذن 
له وإلا رجع ولم يقف. ولا يقول: أناء بل يقول: فلان» إذا استفهم . 
آداب الجلوس على الطريق: 

غض البصر. ونصر المظلوم. وإغاثة الملهوف., وإعانة الضعيف. وإرشاد 
الضال. ورد السلام . وإعطاء السائل. وترك التلفت, والأمر بالمعروف والنهي 
عن المنكر بالرفق واللطف. فإن أصر فبالرهبة والعنف, ولا يصغي إلى الساعي 
إلا ببينة 20 ولا يتجسس .ء ولا يظن بالناس إلا خيراً. 
آأداب المعاشرة: 

إذا دخل بجلساً أو جماعة سام وجلس حيث امتنع "© وترك التخطي . وخص 
بالسلام من قرب منه إذا جلس, وإن بلي بمجالسة العامة ترك الخوض معهم. 
ولا يصغي إلى أراجيفهم”" , ويتغافل عما يجري من سوء ألفاظهم. ويقل اللقاء 
هم إلا عند الحاجة. ولا يستصغر أحداً من الناس فيهلك, ولا يدري لعله خير 
منه وأطوع لله منه؛ ولا ينظر إليهم بعين التعظيم في دنياهم؛ لأن الدنيا صغيرة 
عند الله. صغير ما فيهاء ولا يعظم قدر الدنيا في نفسه. فيعظم أهلها لأجلها , 
فيسقط من عين الله؛ ولا يبذل هم دينه. لينال من دنياهم , فيصغر في أعينهم ؛ 
ولا يعاديهم. فتظهر هم العداوة, ولا يطيق ذلك ولا يصبر عليه إلا أن تكون 
معاداة في الله عز وجل. فيعادي أفعاهم القبيحة, وينظر إليهم بعين الشفقة 
والرحمة. ولا يستكثر إليهم في مودتهم له. وإكرامهم إياه. وحسن بشاشتهم في 
وجهه. وثنائهم عليه. فإنه من طلب حقيقة ذلك لم يجده إلا في الأقل. وإن 


)١(‏ الساعي : الذي يسعى بين الناس بالنميمة. قال تعالى في سورة الحجرات الآية 1 : «يا أيها الذين 
امنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة © . 

)2 أني يجلس في المكان الذي امتنع عليه بعده التقدم أبعد منه. 

[فرفق الأراجيف جمع إرجاف» وهو الخير الكاذب المثر للفتن والاضطراب. 


1١1 


سكن إليهم وكله الحق إليهم فهلك, ولا يطمع أن يكونوا له في الغيب كبا هم له 
في العلانية, فإنه لا يجد ذلك أبداً. ولا يطمع فيا في أيديهم فيذل لهم. ويذهب 
دينه معهم. ولا يتكبر عليهم. وإذا مسأل أحداً منهم حاجة فقضاها فهو أخ 
مستفاد . وإن لم يقضها فلا يذمه فيكتسب عداوته, ولا يعظ أحداً منهم إلا أن 
يرى فيه أثر القبول. وإلا عاداه ولم يسمع منه. 

وإذا رأى منهم خيرآً أو كرامة أو ثناء فليرجع بذلك إلى الله عز وجل ٠‏ 
ويحمده ويسأله أنه لا يكله إليهم. 

وإذا رأى منهم شرا أو كلاماً قبيحاً أو غيبة أو شيئاً يكرهه, فليكل الأمر 
إلى الله تعالى » ويستعيذ به من شرهم, ويستعينه عليهم . ولا يعاتبهم. فإنه لا يجد 
عندهم للعتاب موضعاً. ويصيرون له أعداء , ولا يشفي غيظه ‏ بل يتوب إلى الله 
تعالى من الذنب الذي به سلطهم عليه, ويستغفر الله منهء وليكن سميعاً لحقهم 
آداب الولد مع والديه: 

يسمع كلامهما. ويقوم لقيامهماء ويمتثل لأمرههاء ويلي دعوتههاء ويخفض لما 
جناح الذل من الرحمة 7 ولا يبرمهها ‏ بالالحاح ولا يمن عليهها بالبر لهياء ولا 
بالقيام بأمرههما , ولاينظر إليهما شزراً ولا يعصي لما أمراً. 
آداب الوالد مع أولاده: 

يعينهم على بره. ولا يكلفهم من البر فوق طاقتهم. ولا يلح عليهم في وقت 
ضجرهم. ولا يمنعهم من طاعة ربهم. ولا يمن عليهم بتربيتهم . 


)١(‏ قال تعالى في سورة الإسراء الآية 784: #واخفض لما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحهها 
كا ربياني صغيراً ». 
(؟) يبرمهرا: يضجرهها ويملهها. 


١1 


آداب الاخوانث: 

الاستبشار بهم عند اللقاء , والابتداء بالسلام, والمؤائنسة والتوسعة عند 
الجلوس (" , والتشييع عند القيام, والإنصات عند الكلام. وتكره المجادلة في 
المقال. وحسن القول للحكايات . وترك الجواب عند انقضاء الخطاب . والنداء 
بأحب الأسماء . 
آأواب الجار: 

ابتداؤه بالسلام, ولا يطيل معه الكلام, ولا يكثر عليه السؤال. ويعوده في 
مرضه. ويعزيه في مصيبته, ويبنيه في فرحه, ويتلطف لولده وعبده في الكلام » 
ويصفح عن زلته. ومعاتبته برفق عند هفوته. ويغض عن حرمته, ويعينه عند 
صرخته(, ولا يديم النظر إلى خادمته . 
آداب السيد مع عبده: 

لا يكلفه ما لا يطيق من خدمته. ويرفق به عند ضجره., ولا يكثر ضربه. 
ولا يديم سبه فيجرأ عليه. ويصفح عن زلته, ويقبل معذرته, وإذا أصلح له 
طعاماً أجلسه معه على مائدته, أو أعطاه لقراً من طعامه. 
آواب العبد مع سيده: 

يأتمر لأمره. وينصحه في غيبته . ويبذل له خدمته, ويحفظه في حرمته . ويرق 
على ولده. ولا يخونه في ماله. 
أواب السلطان مع الرعية: 

استعمال الرفق» وترك التعنيف, والفكر 9 قبل الأمرء وترك التكبر على 
)١(‏ قال تعالى في سورة المجادلة الآية ١١‏ : «إيا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكمتفحوا في المجالس 


فافسحوا يفسح الله لكم» . 
(؟) استغاثته. (؟) التأني. 


١16 


الخاصة مع منع العدوان منهم. والتودد إلى العامة مع مزج الرهبة لهم. والتطلع 
على أمور الحاشية, واستعرال المروءة مع أهل العام والتوسعة عليهم وعلى 
الأصحاب والأقارب, والرفق في الجناية؛ ودوام الحاية. 
آأداب الرعية مع السلطان: 

قلة الغشيان لبابه. وترك الاستعانة به إلا لشيء يلزم أمرهء ودوام اهيبة له 
وإن كان ذا رفق. وترك الاستجراء عليه وإن كان ذا لينء وقلة السؤال وإن 
كان نجيباً. والدعاء له إذا ظهر . وترك الكلام فيه والانشاد إذا غاب. 
آداب القاضي: 

إدمان السكوت » واستعمال الوقار , وهدوء الجوارح . ومنع الحاشية من الفساد 
والطغيان, والرفق بالأرامل. والاحتياط لليتيم. والتوقف في الجواب, والرفق 
با خصوم . ومنع الميل إلى أحد الخصمين, والموعظة للمخالف. ودوام اللجأ إلى 
الله في صواب القضاء . 
أواب الشاهد : 

استشعار الأمانة. وترك الخيانة» والتثبت في الشهادة , والتحفظ من النسيان, 
وقلة المجادلة للسلطان. 
آداب الجهاد : 

صدق النية, والغيرة لله تعالى. وبذل المجهود . والسخاء بالمهجة . ونفي شهوة 
الرجوع, والقصد في أن تكون كلمة الله هي العليا.ء وترك الغلول 0 . وقضاء 


)١(‏ الغلول: الخيانة في المغنم. قال تعالى في سورة آل عمران الآية ١1١‏ مهدداً ومتوعداً الذين 
يغلون: «#وما كان لنبي أن يغل ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة ثم توق كل نفس ما كسبت 
وهم لا يظلمون » . 


الللدل 


دينه قبل الخنروج (2. واستصحاب ذكر الله عند القتال وفي كل حال. 
آواب الأسير: 
لا يؤمل فرجاً من غير الله تعالى. ولا يذل نفسه في معصية الله تعالى, ولا 
ييأس من روح (" الله تعالى» ويجمع همه بين يدي الله تعالى , ويعام أنه بعين الله 29 , 
ولا ينبسط في مال العدو بما لا يبيحه الله ولا يفزع 7 إلى غير الله تعالى . 
آداب جامعة 
قال بعض الحكياء : 
من الأدب: الق صديقك وعدوك بوجه الرضاء من غير ذلة لهم. ولا هيبة 
منهم. وتوقر "© من غير كبرء وكن في جميع أمورك في أوساطها. ولا تنظر في 
عطفيك () ولا تكثر الالتفات, ولا تقف على الجماعات. وإذا جلست فترفع. 
وتحذر من تشبيك أصابعك , والعبث بخامك , وتخليل أسنانك , وإدخال يدك في 
أنفك. وطرد الذباب عن وجهك. وكثرة التمطي والتثاؤب. وليكن مجلسك 
هادثاً , وكلامك مقسوماً. واصغ إلى الكلام الحسن ممن يحدثك. بغير إظهار 
عجب منك ولا مسكنة ولا إعادة. وغض عن المضاحك والحكايات . ولا تحدث 
عن إعجابك بولدك ولا جاريتك, ولا تتصنع كما تتصنع المرأة, ولا تتبذل كا 
يتبذل العبد . 
)١(‏ وذلك لأن الخارج للجهاد لا يضمن عودته سالا لذلك عليه قضاء ديونه احتياطاً للأمر. 
(؟) الرّوّح: الرحمة. قال تعالى في سورة يوسف الآية 1ه : ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس 
من روح الله إلا القوم الكافرون» . 
)م بعين الله : في حفظه ورعايته. 
(1) فزع إليه: لجأ واستغاث. 
(6) كن وقوراً. 
)3( عطف كل شيء: جانبه. وهو من الإنسان من لدن رأسه إلى وركه. يقال: مر ينظر في عطفه: 
أي مر معجباً بتفسه . 


1١١ 7/ 


وكن معتدلة ف جميم أمورك» وتوق كثرة الكحل والاسراف في الدهن . 
ولا تلح في الحكايات. 

ولا تعام أهلك وولدك - فضلاً عن غيرهم ‏ عن مالك ؛ فإنهم إن رأوه قليلاً 
هنت عليهم, وإن رأوه كثيراً لم تبلغ إلى رضاهم ؛ وأحبهم من غير عنف. ولن 
هم من غير ضعف . 

وإذا خاصمت فتوفر 620 وتفكر في حجتك. ولا تكثر الإشارة بيدك. ولا 
تمث على ركبتيك , وإذا هدأ غضبك فتكام. 

وإن بليت بصحبة السلطان فكن منه على حذر , ولا تأمن من انقلابه عليك » 
وارفق به رفقك بالصبي. وكلمه بما يشاء. وإياك أن تدخل بينه وبين أهله 
وولده وحشمه ولو كان مستمعاً لذلك . 

وإياك وصديق العافية(2, فإنه أحد الأعداء لك. ولا تجعل مالك أكرم 
عليك من عرضك . 

وإياك وكثرة البصاق بين الناس؛ فإن صاحبه ينسب إلى التأنيث . ولا تظهر 
لصديقك كل ما يؤذيك فإنه متى رأى منك وقعة أعقبك العداوة. 

ولا تمازح لبيباً فيحقد عليك, ولا سفيهاً فيجترىء عليك ؛ لأن المزاح يخرق 
الهيبة» ويسقط المنزلة. ويذهب ماء الوجه. ويعقب الحزن, ويزيل حلاوة الودء 
ويشين فقه الفقيه. ويجريء السفيه, ويميت القلب. ويباعد من الرب. ويعقب 
الذم. ويفسخ العزم. ويظم السرائر. ويميت الخواطر, ويكثر الذنوب., ويبين 
العيوب . 
)١(‏ توفر عل صاحبه: رعى حرماته. أي إذا خاصمت فلا تخض في عرض خصمك ولا تنتقص 

منه شيئاً . 
(؟) صديق العافية: هو من يصادقك ويصاحيك حال عافيتك بمالك وجاهك وقوتك, وينصرف 

عنك إذا افتقرت أو مرضصت. 


١128 


نأل الله تعالى أن يبدينا فيمن هدىء ويعافينا فيمن عافى ويتولانا فيمن 
تولى. ويبارك لنا فها أعطى. ويقينا شر ما قضى . فإنه لا راد لما قضى. ولا يعز 
من عادى., ولا يذل من والي. 

تبارك ربنا وتعالى» نستغفره ونتوب إليه, ونسأله أن يصلى بأفضل الصلوات 
كلها على عبده المصطفى , وعلى آله وأصحابه أعلام المدى. وسام تسلا كثيراً . 

والحمد لله رب العالمين. وصل الله على سيدنا حمد النبي الأمي ء آمين. 


[ مت رسالة الأدب في الدين ويليها كيمياء السعادة ] 


1> 


كيمماء السعادة 


بسم الله الرحمن الرحيم 


الحمد الله الذي أصعد قوالب الأصفياء بالمجاهدة, وأسعد قلوب الأولياء 

بالمشاهدة, وحلى ألسنة المؤمنين بالذكر , وجلى خواطر العارفين بالفكر.» وحرس 
سواد العباد عن الفساد . وحبس مراد الزهاد على السداد,» وخلص أشباح المتقن 
من ظام الشهوات. وصفى أرواح الموقنين عن ظم الشبهات. وقبل أعبال الأخيار 
بأداء الصلوات, وأيّد خصال الأحرار بأمدّ الصّلات. 

أده حمد من رأى آيات قدرته وقوته. وشاهد الشواهد من فردانيته 
ووحدانيته» وطرق طوارق سيره وبرزه. وقطف ثمار معرفته من شجر سجده 
وجوده, وأشكره شكر من اخترق واغترف من نهر فضله وإفضاله. 

وأومن به إيمان من آمن بكتابه وخطابه وأنبيائه وأصفيائه ووعده ووعيده 
وثوابه وعقابه. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك لهء وأشهد أن جمداً 
عبده ورسوله بعثه لأصلاب الفسقة والفجرة قاصماً, ولعْرَّى الجاحدين والمارقين 
فاصماً . ولباغي الشك والشرك قاهرا , ولأتباع الحق والاحسان ناصراً ؛ فصلوات 
الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين . 


١171١ 


اعم أن الكيمياء الظاهرية لا تكون في خزائن العوام وإنما تكون في خزائن 


الملوك. فكذلك كيمياء السعادة 7 لا تكون إلا في خزائن الله سبحانه وتعالى ؛ 
ففي السماء جواهر الملائكة. وفي الأرض قلوب الأولياء العارفين. فكل من طلب 
هذه الكيمياء من غير حضرة النبوة 2 فقد أخطأ الطريق . ويكون عمله كالدينار 
البهرج 29 فيظن في نفسه أنه غنى وهو مفلس في القيامة كما قال سبحانه وتعالى : 
«فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد» [ق: ؟5] ومن رحة الله 


0) 


(0 


سبحانه وتعالى لعباده أن أرسل إليهم مائة ألف وأربعة وعشرين ألف نبي يعلمون 


كيمياء السعادة: تهذيب النفس باجتناب الرذائل وتزكيتها عنها. واكتاب الفضائل و تمليتها 
بها . 

وقد عرف الجرجاني أيضاً كيمياء العوام وكيمياء الخواص. فكيمياء العوام هي استبدال المتاع 
الأخروي الباقي بالحطام الدنيوي الفاني. وكيمياء الخواص هي تخليص القلب عن الكون 
بامتثثار المكون. (انظر كتاب التعريفات للجرجاني - ص 1١89‏ - طبعة دار الكتب العلمية - 
بيروت). 

كيمياء السعادة هذه موجودة ‏ كبا قال الغزالي ‏ في خزائن الله سبحانه , لذلك فلا يمكن الحصول 
عليها إلا بواسطة النبي يَويْهِ » فهو الذي بلغ الوحي وأنار الطريق. والاتجاء الكل إلى حضرة 
النبي َيه . واستحضار ذاته ومثاله في الأذكار والأفعال هو الكفيل بتهذيب النفس عند الخاصة 
والعامة. أما أخذ هذه الكيمياء عن بعض كبار الشيوخ والعارفين» فهو أخذ غير مأمون 
العواقب. لأن انتفاع المريدين من الشيوخ محدود بمدى معارف هؤلاء الشيوخ وأسرارهمء ولما 
قد يعتري هؤلاء العارفين من عوارض دنيوية مصحوبة بالمن على المريد أو بالغضب عليه, مما 
قد يؤدي إلى تعثر الطريق أمام السالك . ولكن الني عَودْم معصوم وهو بالمؤمنين رؤوف رحم. 
فالأخذ منه هو الطريق الأسام. واستحضاره فينا هو الضمان الأثبت لبلوغ المراد . 


(©) البهرج: الباطل . 


١1 


الناس نسخة الكيمياء, ويعلمونهم كيف يجعلون القلب في كور" المجاهدة 
وكيف يطهرون القلب من الأخلاق المذمومة. وكيف يؤدونه لطرق الصفاء كيا 
قال سبحانه وتعالى: #هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته 
ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة» [الجمعة: ١‏ ] أي يطهرهم من الأخلاق 
المذمومة ومن صفات البهائم, ويجعل صفات الملائكة لباسهم وحليتهم. 

ومقصود هذه الكيمياء أن كل ما كان من صفات النقص يتعرى منهء وكل 
ما يكون من صفات الكبال يلبسه. وسر هذه الكيمياء أن ترجع من الدنيا إلى الله 
كيا قال سبحانه وتعالى: «اوتبتل إليه تبتيلاً» [المزمل: 4] وفضل هذه 
الكيمياء طويل . 


)١(‏ الكور: مجمرة الحداد. ويعني بقوله: « يجعلون القلب في كور المجاهدة» أي يطهرونه بالمجاهدة كيا 
يطهر الحداد الحديد من الصدأ بالنار. 


1١77 


فصل في معرفة النفس 

اعلم أن مفتاح معرفة الله تعالى هو معرفة النفس كا قال سبحانه وتعالى: 
«وسنريهم آباتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق» [ فصلت: 
07 ] وقال النبي علا : «من عرف نفسه فقد عرف ربهع() وليس شيء 
أقرب إليك من نفسك. فإذا لم تعرف نفسك فكيف تعرف ربك ؟ 

فإن قلت إني أعرف نفسي. فإنما تعرف الجسم الظاهر الذي هو اليد والرجل 
والرأس والجثة. ولا تعرف ما في باطنك من الأمر الذي به إذا غضبت طلبت 
الخصومة, وإذا اشتهيت طلبت النكاح, وإذا جعت طلبت الأكل» وإذا عطشت 
طلبت الشرب؛ والدواب تشاركك في هذه الأمور. فالواجب عليك أن تعرف 
نفسك بالحقيقة حتى تدري أي شيء أنت. ومن أين جئت إلى هذا المكان» 
ولأي شيء خلقت, وبأي شيء سعادتك , وبأي شيء شقاؤك . 

وقد جمعت في باطنك صفات. منها صفات البهائم , ومنها صفات السباعء 
ومنها صفات الملائكة؛ فالروح حقيقة جوهرك وغيرها غريب منك وعارية 
عندك., فالواجب عليك أن تعرف هذا . وتعرف أن لكل واحد من هؤلاء غذاء 
وسعادة؛ فإن سعادة البهائم في الأكل والشرب والنوم والنكاح, فإن كنت منهم 
فاجتهد في إعمال الجوف والفرج. وسعادة السباع في الضرب والفتك . وسعادة 
الشياطين في المكر والشر والحيل, فإن كنت منهم فاشتغل باشتغاهم. وسعادة 


)١(‏ قال أبو المظفر بن السمعاني في القواطع: إنه لا يعرف مرفوعاً. وإنما يحكى عن يحبى بن معاذ 
الرازي؛ يعني من قوله. وقد وضع الحافظ السيوطي فيه تأليفاً سماه « القول الأشبه في حديث 
من عرف نفه فقد عرف ربه». 


11 


الملائكة في مشاهدة جمال الحضرة الربوبية وليس للغضب والشهوة إليهم طريق. 
فإن كنت من جوهر الملائكة فاجتهد في معرفة أصلك حتى تعرف الطريق إلى 
الحضرة الالهية. وتبلغ إلى مشاهدة الجلال والجمال. وتخلص نفسك من قيد 
الشهوة والغضب. وتعام أن هذه الصفات لأي شيء ركبت فيك؛ فم خلقها الله 
تعالى لتكون أسيرها ولكن خلقها حتى تكون أسراك. وتسخرها للسفر الذي 
قدامك. وتجعل إحداها مركبك والأخرى سلاحك حتى تصيد بها سعادتك» 
فإذا بلغت غرضك فقاوم بها تحت قدميك, وارجع إلى مكان سعادتك . وذلك 
المكان قرار خواص الحضرة الالهية. وقرار العوام درجات الجنة. فتحتاج إلى 
معرفة هذه المعاني حتى تعرف من نفسك شيئا قليلا.ء فكل من لم يعرف هذه 
المعاني فنصيبه من القشور , لأن الحق يكون عنه محجوباً . 
فصل 

إذا شئت أن تعرف نفسك فاعم أنك من شيكين: الأول هذا القلب. والثاني 
يسمى النفس والروح. والنفس هو القلب الذي تعرفه بعين الباطن. وحقيقتك 
الباطن ؛ لأن الجسد أول وهو الآخر والنفس آخر وهو الأول؛ ويسمى قلباً. 
وليس القلب هذه القطعة اللحمية التي في الصدر من الجانب الأيسر , لأنه يكون 
في الدواب والموتى. وكل شيء تبصره بعين الظاهر فهو من هذا العالم الذي 
يسمى عالم الشهادة. وأما حقيقة القلب فليس من هذا العالم لكنه من عالم الغيب 
فهو في هذا العالم غريب, وتلك القطعة اللحمية مركبة. وكل أعضاء الجسد 
عساكره وهو الملك. ومعرفة الله ومشاهدة جمال الحضرة صفاته, والتكليف عليه 
والخطاب معه. وله الثواب وعليه العقاب. والسعادة والشقاء تلحقانه والروح 
الحيواني في كل شيء تبعه ومعه. ومعرفة حقيقته ومعرفة صفاته مفتاح معرفة الله. 
سبحانه وتعالى . فعليك بالمجاهدة حتى تعرفه لأنه جوهر عزيز من جنس جوهر 
الملائكة. وأصل معدنه من الحضرة الالهية. من ذلك المكان جاء وإلى ذلك 
المكان. يعود . 


١>” 


فصل 

أما سؤالك ما حقيقة القلب. فام يجيء في الشيريعة أكثر من قول الله تعالى: 
#ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ري »© [ الإسراء : 46 ] لأن الروح 
جزء من جملة القدرة الالهية وهو من عالم الأمرء قال الله عز وجل: لإألا له 
الخلق والأمر» [ الأعراف: 04 ] فالإنسان من عالم الخلق من جانب , ومن عالم 
الأمر من جانب. فكل شيء يجوز عليه المساحة والمقدار والكيفية فهو من عالم 
الخلق 20؛ وليس للقلب مساحة ولا مقدار. وهذا لا يقبل القسمة. ولو قبل 
القسمة لكان من عالم الخلق. وكان من جانب الجهل جاهلاً ومن جانب العلم 
عالاًء وكل شيء يكون فيه علم وجهل فهو محال. وني معنى آخر هو من عالم 
الأمر؛ لأن عالم الأمر عبارة عن شيء من الأشياء لا يكون للمساحة والتقدير 
طريق إليه. وقد ظن بعضهم أن الروح قديم فغلطوا. وقال قوم إنه عرض 
فغلطواء لأن العرض لا يقوم بنفسه ويكون تابعاً لغيره. فالروح هو أصل ابن 
آدم, وقالب ابن آدم نبع لهء فكيف يكون عرضا! وقال قوم إنه جسم فغلطوا , 
لأن الجسم يقبل القسمة. فالروح الذي سميناه قلباً وهو محل معرفة الله تعالى 
ليس بجسم ولا عرض بل هو من جنس الملائكة . 


ومعرفة الروح صعبة جداً (". لأنه لم يرد في الدين طريق إلى معرفته لأنه لا 


, سثل القحطبي عن الروح فقال: لم يدخل تحت ذل كن. ومعناه عنده أنه ليس إلا الإحياء‎ )١( 
والحي والإحياء صفة المحبي. كالتخليق والخلق صفة الخالق. واستدل من قال ذلك بظاهر قوله‎ 
تعالى : «قل الروح من أمر ربي». قالوا: أمره كلامه. وكلامه ليس بمخلوق. كأنهم قالوا:‎ 
إنما صار الحيَ حا بقوله كن حيّا؛ وليس الروح معنى في الجسد حالاً مخلوق كالجسد . (انظر‎ 
التعرف لمذهب أهل التصوف للكلاباذي  ص 78 - دار الكتب العلمية - بيروت).‎ 

(؟) قال الجنيد : الروح شيء استأثر الله بعلمه ولم يطلع عليه أحداً من خلقه. ولا يجوز العبارة عنه 
بأكثر من موجودء لقوله تعالى: قل الروح من أمر رلي» وقال أبو عبد الله النباجي : الروح 
جسم يلطف عن الحس , ويكبر عن اللمس. ولا يعبر عنه بأكثر من موجود . 


حاجة في الدين إلى معرفته, لأن الدين هو المجاهدة والمعرفة علامة الحداية كما 
قال سبحانه وتعالى : « والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا 6 [ العنكبوت: 39 ] 
ومن لم يجتهد حق اجتهاده لم يحز أن يتحدث معه في معرفة حقيقة الروح. وأول 
أس المجاهدة أن تعرف عسكر القلب. لأن الإنسان إذا لم يعرف العسكر لم 
يصح له الجهاد . 

فصل 


اعام أن النفس مركب القلب, وللقلب عساكر كما قال سبحانه وتعالى: 
«إوما يعام جنود ربك إلا هو» [المدثر: ]١‏ والقلب مخلوق لعمل الآخرة 
طلباً لسعادته. وسعادته معرفة ربه عز وجل., ومعرفة ربه تعالى تحصل له من 
صنع الله وهو من جملة عالمه. ولا تحصل له معرفة عجائب العالم إلا من طريق 
الحواس , والحواس من القلب والقالب مركيه, ثم معرفة صيده ومعرفة شبكته. 
والقالب لا يقوم إلا بالطعام والشراب والحرارة والرطوبة» وهو ضعيف على خطر 
من الجوع والعطش في الباطن , وعلى خطر من الماء والنار في الظاهرء وهو مقابل 
أعداء كثيرة. 


حت ولكن قال الدهلوي في الحجة: قول الله تعالى: «ويألونك عن الروح» الآية ليست نصنًا في 
أله لا يعم أحد من الأمة حقيقة الروح كا يظن, وليس كل ما سكت عنه الشرع لا يمكن 
معرفته البتة. بل كثيراً ما يسكت عنه لدقته على العامة وإن أمكن معرفته للخاصة. قال: واعلم 
أن الروح أو ما يدرك من حقيقتها أنها مبدأ الحياة في الحيوان: وأنه يكون حيًّا بنفخ الروح فيه 
ويكون ميتاً بمفارقتها له. ثم إذا أمعن في التأمل ينجلي أن البدن بخار لطيف متولد في القلب 
من خلاصة الأخلاط يحمل القوة الحسامة والمحركة والمدبرة» وتختلف هذه القوة الحساسة 
باختلاف رقة هذا البخار وغلظته وصفائه وكدره, ومثل هذا البخار في البدن مثل ماء الورد 
في الورد. وكمثل النار في معنى الفحم. ثم إذا أمعن في النظر أيضاً انل أن هذا الروح مطية 
الروح الحقيقية ومادة لتعلقهاء فالشيء الذي هو به ليس هذا الروح ولا هذا البدن, بل الروح 
في الحقيقة حقيقة فردانية ونقطة نورانية لها تعلق خاص بالروح المتكون من صحة المزاج. 
والحيوية الناشئة عن التفاعل الكيميائي الناتج من الغذاء . 


١7 / 


فصل 

وتحتاج أن تعرف العسكرين ؛ وذلك أن العسكر الظاهر هو الشهوة والغضب 
ومنازهم في اليدين والرجلين والعينين والأذنين وجميع الأعضاء ؛ وأما العسكر 
الباطن فمنازله في الدماغ وهو قوى الخيال والتفكر والحفظ والتذكر والوهم 
ولكل قوة من هذه القوى عمل خاص . فإن ضعف واحد منهم ضعف حال ابن 
آدم في الدارين . وجملة هذين العسكرين في القلب وهو أميرهما. فإن أمر اللسان 
أن يذكر ذكرء وإن أمر اليد أن تبطش بطشت. وإن أمر الرجل أن تسعى 
سعت. وكذلك الحواس الخمس حتى يحفظ نفسه كما يدخر الزاد للدار الآخرة 
ويحصل الصيد وتتم التجارة ويجمع بذر السعادة. وهؤلاء طائعون للقلب كما أن 
الملائكة طائعون للرب سبحانه وتعالى لا يخالفون أمره. 


١8 


فصل في معرفة القلب وعسكره 


اعلم أنه قيل في المثل المشهور : إن النفس كالمدينة , واليدين والقدمين وجميع 
الأعضاء ضياعها, والقوة الشهوانية واليهاء والقوة الغضبية شحنتهاء والقلب 
ملكها. والعقل وزيرها. والملك يدبرهم حتى تستقر مملكته وأحواله, لأن الوالي 
وهو الشهوة. كذاب فصولي مخلط . والشحنة وهو الغضب شرير قتال خراب. 
فإن تركهم الملك على ما هم عليه هلكت المدينة وخربت. فيجب أن يشاور 
الملك الوزير ويجعل الوالي والشحنة تحت يد الوزيرء فإذا فعل ذلك استقرت 
أحوال المملكة وتعمرت المدينة. وكذلك القلب يشارو العقل ويجعل الشهوة 
والغضب تحت حكمه حتى تستقر أحوال النفس ويصل إلى سبب السعادة من 
معرفة الحضرة الالحية, ولو جعل العقل تحت يد الغضب والشهوة هلكت نفسه 
وكان قلبه شقيًا في الآخرة. 

فصل 

اعام أن الشهوة والغضب خادمان للنفس جاذبان, يحفظان أمر الطعام 
والشراب والنكاح لحمل الحواس . ثم النفس خسادم الحواس شبكة العقل 
وجواسيسه ينصر بها صنائع المارىء جلت قدرته. م الحواس خادم العقل وهو 
القلب سراج وشمعة يبصر بنوره الحضرة الإلهية, لأن الجنة وهي نصيب الجوف 
أو الفرج محتقرة في جنب تلك الجنة. ثم العقل خادم القلب. والقلب مخلوق لنظر 
جمال الحضرة الالهية. فمن اجتهد في هذه الصنعة فهو عبد حق من غليان 
الحضرة. كما قال سبحانه وتعالى: #وما خلقت الجن والانس إلا ليعبدون » 
[ الذاريات: 05 ] معناه أنا خلقنا القلب وأعطيناه الملك والعسكرء وجعلنا 


١189 


النفس مركبه حتى يسافر عليه من الم التراب إلى أعل عليين فإذا أراد أن 
يؤدي حق هذه النعمة جلس مثل السلطان في صدر مملكته. وجعل الحضرة 
الإفية قبلته ومقصده. وجعل الآخرة وطنه وقراره: والنفس مركبهء والدنيا 
منزله . واليدين والقدمين خدامه, والعقل وزيره»؛ والشهوة عامله. والغضب 
شحنته . والحواس جواسيسه. وكل واحد موكل بعالم من العوالم يجمع له أحوال 
العوالم. وقوة الخيال في مقدم الدماغ كالنقيب يجمع عنده أخبار الجواسيس» 
وقوة الحفظ في وسط الدماغ مثل صاحب الخريطة() يجمع الرقاع من يد 
النقيب 29 ويحفظها إلى أن يعرضها على العقل. فإذا بلغت هذه الأخبار إلى 
الوزير يرى أحوال المملكة على مقتضاها . 

فإذا رأيت واحداً منهم قد عصى عليك مشل الشهوة والغضب. فعليك 
بالمجاهدة,. ولا تقصد قتلهها؛ لأن المملكة لا تستقر إلا بها. فإذا فعلت ذلك 
كنت سعيداً. وأديت حق النعمة. ووجبت لك الخلعة في وقتهاء وإلا كنت 
شقيًا ووجب عليك النكال والعقوبة. 


تمام السعادة مبني على ثلاثة أشياء : قوة الغضب وقوة الشهوة وقوة العم 9 
فيحتاج أن يكون أمرها متوسط لثلا تزيد قوة الشهوة فتخرجه إلى الرخص 


)١(‏ الخريطة: وعاء من جلد أو نحوه يشْدَ على ما فيه. 

(؟) التقيب: كبير القوم المعني بشؤونهم. 

(؟) كان أول من حدد وظائف النفس بشكل منهجي في العالم القدم الفيلسوف اليوناني أفلاطون, 
الذي جعل للنفس ثلاث قوى: القوة الشهوانية والقوة الغضبية والقوة العاقلة. وجعل النفس 
الشهوانية والنفس الغضبية تابعتين وخادمتين للنفس العاقلة. وقد شبه أفلاطون الانسان وقواه 
وعناصره المختلفة بالمدينة الفاضلة التي كان يسعى إلى تأسيسهاء حيث جعل سكان مدينته 
ثلاث طبقات: طيقة العبال وطبقة المحاربين وطيقة الحكام. فجعل طيقة العبال مقابلة للنفس 
الشهوانية في الإنان, وطبقة المحاربين مقابلة للنفس الغضبية. وطبقة الحكام مقابلة للنفس سه 


فيهلك , أو تزيد قوة الغضب فتخرجه إلى الحمق فيهلك ؛ فإذا توسطت القوتان 
بإشارة قوة العدل دل على طريق الحهداية. وكذلك الغضب إذا زاد سهل عليه 
الضرب والقتل, وإذا نقص ذهبت الغيرة والحمية في الدين والدنياء وإذا توسط 
كان الصبر والشجاعة والحكمة. وكذا الشهوة إذا زادت كان الفسق والفجور. 
وإن نقصت كان العجز والفتور. وإن توسطت كان العفة والقناعة وأمثال ذلك . 
فصل 

اعام أن للقلب مع عسكره أحوالاً وصفات بعضها يسمى أخلاق السوء . 
وبعضها أخلاق الحسن . فبالأخلاق الحسنة يبلغ درجة السعادة , والأخلاق السيئة 
هلاكه وخروجه للشقاء . وهذه كلها 20 تبلغ أربعة أجناس : أخلاق الشياطين , 
وأخلاق البهائم. وأخلاق السباع. وأخلاق الملائكة. فأعمال السوء من الأكل 
والشرب والنوم والنكاح هي أخلاق البهائم, وكذلك أعمال الغضب من الضرب 
والقتل والخصومة هي أخلاق السباع. وكذلك أعبال النفس وهي المكر والحيلة 
والغش وغير ذلك هي أخلاق الشياطين, وكذلك أعمال العقل التي هي الرحمة 
والعام والخير هي أخلاق الملائكة . 


“” العاقلة. وك تأتمر النفان الشهوانية والغضبية بأوامر النفس العاقلة. فكذلك يجب أن يخضع 
العبال والمحاربون للحكام الذين يجب أن يكونوا من الفلاسفة برأيه. 
ومن بين الملمين نجد الفارابي وقد وضع تقسباً مشابباً لتقيم أفلاطون. وقد وضح الفاراني 
آراءه هذه في كتاباته السياسية, ولا سيا كتابه و آراء أهل المديئة الفاضلة » الذي حذا فيه حذو 
أفلاطون في مواضع , وجدد ف مواضع أخرى. 
والغزالي هنا يتبع نفس التقسيم الثلائي لقوى النفس - بعد أن شبه النفس بالمدينة كما ذكر آنفاً- 
ثم يبين أن الخير في القوتين الشهوانية والغضبية أن يكون أمرهما متوسطاً. لا إفراط ولا تفريط. 
تبعاً للقول المأثور « خير الأمور أوسطها». والقوة العاقلة. أو قوة العلم. هي المؤهلة لرد 
شططهرما إلى التوسطء لما لها من سلطة امرة عليه . 

)١(‏ أي الأخلاق السيثة والأخلاق الحسنة معاً. 


فين 


فصل 

واعلم أن في جلد ابن آدم أربعة أشياء: الكلب» والخنزير؛ والشيطان» 
والْمَلّك. والكلب مذموم في صفاته. وليس بمذموم في صورته. وكذلك الشيطان 
والملائكة ذمهم ومدحهم( في صفاتهم. وليس ذلك في صورهم وخلقهم. 
وكذلك الخنزير مذموم في صفاته, وليس بمذموم في خلقته . 

وقد أمر ابن آدم بأن يكشف ظم الجهل بنور العقل خوفاً من الفتنة كما قال 
البي عَِنَهِ : «ما من أحد إلا وله شيطان ولي شيطان, وإن الله قد أعانني 
على شيطانى حتى ملكته» © وكذلك الشهوة والغضب ينبغي أن يكونا تحت يد 
العقل . فلا يفعلا شيئاً إلا بأمره. فإن فعل ذلك صح له حسن الأخلاق, وهي 
صفات اللملائكة وهي بذر السعادة. وإن عمل بخلاف ذلك فخدم الشهوة 
والغضب صح له الأخلاق القبيحة. وهي صفات الشياطين وهو بذر الشقاء . 
فيتبين له في نومه كأنه قائم مشدود الوسط يخدم الكلب والخنزير؛ وكان مثله 
كمثل رجل مسام يأخذ رجالاً مسلمين يحبسهم عند كافرين. فكيف يكون حالك 
يوم القيامة إذا حبست الملك وهو العقل تحت يد الشهوة والغضب وهم الكلب 
والخنزير؟ 


)١(‏ أي ذم الشباطين ومدح الملائكة؛ لأن الشباطين تذم فقط ولا تمدح. والملائكة ممدح فقط ولا 
تذم. 

(؟) روى مسم في صحيحهء كتاب صفة المنافقين وأحكامهم , حديث رقم 27/٠‏ والإمام أحد لي 
المسند ج 5 ص 6١١.ء‏ عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله َه خرج من عندها ليلا 
قالت : فغرت عليه , فجاء فرأى ما أصنع . فقال: ٠‏ مالك يا عائشة! أغرت؟» فقلت : ومالي لا 
يغار مثلٍ على مثلك ؟ فقال رسول الله عَقُهِ : « أقد جاءك شيطانك ؟ » قالت :يا رسول الله ! أومعي 
شيطان ؟ قال : ه نعم » قلت : ومع كل إنسان ؟ قال: ٠‏ نعم » قلت : ومعك يا رسول الله ؟ قال: ٠‏ نعم » 
ولكن ري أعانني عليه حتى أسلم». 


١ 


فصل 

واعام أن الإنسان في صورة ابن آدم اليوم. وغداً تنكشف له المعاني فتكون 
الصور في معنى المعاني ؛ فأما الذي غلب عليه الغضب فيقوم في صورة الكلب» 
وأما الذي غلب عليه الشهوة فيقوم في صورة الخنزير ؛ لأن الصور تابعة للمعافيء 
وإنما يبصر النائم في نومه ما صح في باطنه. وإنما عرفت أن الإنسان في باطنه 
هذه الأربعة, فيجب أن يراقب حركاته وسكناته. ويعرف من أي الأربعة هو. 
فإن صفاته تحصل في قلبه وتبقى معه إلى يوم القيامة » وإن بقي من جملة الباقيات 
الصالحات شيء فهو بذر السعادة, وإن بقي معه غير ذلك فهو بذر الشقاء ‏ وابن 
آدم لا ينفك ولا ينفصل عن حركة أو سكون, وقلبه مثل الزجاج. وأخلاق 
السوء كالدخان والظلمة . فإذا وصل إليه ذلك أظم عليه طريق السعادة. وأخلاق 
الحسن كالنور والضوء. فإذا وصل إلى القلب طهره من ظم المعاصي كبا قال 
رسول الله عََِهِ : « أتبع السيئة الحسنة تمحها» 7" . والقلب إما مضيء أو مظلمء 
ولا ينجو إلا من أتى الله بقلب سل . 


فصل 
واعام أن الشهوة والغضب اللتين في البهائم جعلتا أيضاً في ابن آدم, ولكنه 
أعطى شيئاً آخر(" زيادة عليها للشرف والكبال. وبذلك تحصل له معرفة الله 


)١(‏ عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله يه : ٠‏ اتق الله حيثها كنت. وأتبع السيئة 
الحسنلة تمحهاء وخالق الناس بخلق حنه. رواه الترمذي في كتاب البر والصلة باب 88 
وصححه. والدارمي في الرقائق باب 74,. والإمام أحمد في المند جه ص .١6*‏ وروى 
الامام أحمد (ج6 ص5688؛ 583) عن معاذ رضي الله عنه أن رسول الله َه قال له: ديا 
معاذ أتبع السيئة بالحسنة تمحها. وخالق الناس بخلق حسن .٠‏ 

(؟) يعني القوة العاقلة. 


الذرنا 


تعالى , وجملة عجائب صنعهء ويه يخلص نفسه من يد الشهوة والغضب وتحصل له 
صفات الملائكة , ولذلك يظفر بالسباع والبهائم وتصير كلها مسخرة له كبا قال 
سبحانه وتعالى : #وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعاً 4 [ الجاثية : 
1١7‏ ]. 


1 


فصل في عجائب القلب 


اعم أن للقلب بابين للعلوم: واحد للأحلام, والثاني لعالم اليقظة. وهو 
الباب الظاهر إلى الخارج؛ فإن نام غلق باب الحواس. فيفتح له باب الباطن . 
ويكشف له غيب من عالم الملكوت ومن اللوح المحفوظ فيكون مثل الضوء . وربما 
احتاج كشفه إلى شيء من تعبير الأحلام. وأما ما كان من الظاهر فيظن الناس 
أن به اليقظة وأن اليقظة أولى بالمعرفة مع أنه لا يبصر في اليقظة شيء من عالم 
الغيب , وما يبصر بين النوم واليقظة أولى بالمعرفة مما يبصر من طريق الحواس . 


فصل 

وتحتاج أن تعرف في ضمن ذلك أن القلب مثل المرآة واللوح المحفوظ مثل 
المرآة أيضاً ؛ لأن فيه صورة كل موجود؛ وإذا قابلت المرآة بمرآة أخرى حلت 
صور ما ني إحداه) في الأخرى. وكذلك تظهر صور ما في اللوح المحفوظ إلى 
القلب إذا كان فارغاً من شهوات الدنياء فإن كان مشغولاً بها كان عالم 
الملكوت محجوباً عنه. وإن كان في حال النوم فارغاً من علائق الحواس طالع 
جواهر عالم الملكوت فظهر فيه بعض الصور التي في اللوح المحفوظ , وإذا أغلق 
باب الحواس كان بعده الخيال. لذلك يكون الذي يبصره تحت ستر القشر. 
وليس كالحق الصريح مكشوفاً. فإذا مات. أي القلب, بموت صاحبه لم يبق 
خيال ولا حواس. وفي ذلك الوقت يبصر بغير وهم وغير خيال. ويقال له: 
« فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد » [ ق: ؟١؟‏ ]. 


١7 


فصل 
واعام أنه ما من أحد إلا ويدخل في قلبه الخاطر المستقيم وبيان الحق عل 
سبيل الالهام . وذلك لا يدخل من طريق الحواس بل يدخل في القلب لا يعرف 
من أين جاء ؛ لأن القلب من عالم الملكوت, والحواس مخلوقة لهذا العالم ‏ عالم 
الملك - فلذلك يكون حجابه عن مطالعة ذلك العالم إذا لم يكن فارغاً من شغل 
الحواس. 
فصل 
ولا تظنئن أن هذه الطاقة تنفتح بالنوم والموت فقط. بل تنفتح باليقظة لمن 
أخلص الجهاد والرياضة, وتخلص من يد الشهوة والغضب والأخلاق القبيحة 
والأعيال الرديئة. فإذا جلس في مكان خال وعطل طريق الحواس» وفتح عين 
الباطن وسمعه , وجعل القلب في مناسبة عالم الملكوت, وقال دائياً : : الله الله الله » 
بقلبه دون لسانه, إلى أن يصير لا خبر معه من نفسه ولا من العالم. ويبقى لا 
يرى شيئاً إلا الله سبحانه وتعالى 2 , انفتحت تلك الطاقة. وأبصر في اليقطة 


)١(‏ هذه هي الغيبة عن الصوفية. وهي كما عرفها الجرجاني في التعريفات ص ”177 : غيبة القلب عن 
عم ما يجري من أحوال الخلق. بل من أحوال نقسه بما يرد عليه من الحق إذا عظم الوارد 
واستولى عليه سلطان الحقيقة, فهو حاضر بالحق. غائب عن نفه وعن الخلق. وما يشهد على 
هذا قصة النسوة اللاتي قطعن أيديبن حين شاهدن يومفء. فإذا كانت مشاهدة ججال يوسف 
مثل هذاء فكيف يكون غيبة مشاهدة أنوار ذي الجلال؟ اه . أما الفناء عند الصوفية فهو 
الاستغراق في عظمة الباري ومشاهدة الحق. قال الكلاباذي في « التعرف لمذهب أهل التصوف ه 
ص ١١6‏ : الفناء هو أن يفنى عنه الحظوظ. فلا يكون له في شيء من ذلك حظ, ويسقط عله 
التمييزء فناء عن الأشياء كلها شغلاً بما فنى به كبا قال عامر بن عبد الله: ما أبالي امرأة رأيت 
أم حائطاً! والذكر يؤدي إلى الغناء؛ قيل للجنيد : إن أبا الحسين النوري قائم في مسجد 
الشونيزي منذ أيام لا يأكل ولا يشرب ولا ينام وهو يقول: الله الله. ويصلي الصلوات 


اصن 


الذي يبصره في النوم . فتظهر له أرواح الملائكة والأنبياء . والصور الحسنة الجميلة 
الجليلة. وانكشف له ملكوت السموات والأرض. ورأى ما لا يمكن شرحه ولا 
وصفه كا قال الني عَيَهِ : « زويست"" لي الأرض فرأيت مشارقها 
ومغاريها» 7 وقال الله عز وجل: #وكذلك نري إبراهم ملكوت السموات 
والأرض »© [الأنعام: 70 ] لأن علوم الأنبياء عليهم السلام كلها كانت من 
هذا الطريق لا من طريق الحواس كما قال الله سبحانه وتعالى: #واذكر اسم 
ربك وتبتل إليه تبتيلاً© [المزمل: 8 ] معناه الانقطاع عن كل شيء, وتطهير 
القلب من كل شيء . والابتهال إليه سبحانه وتعالى بالكلية ؛ وهو طريق الصوفية 
في هذا الزمان. وأما طريق التعليم فهو طريق العللاء, وهذه الدرجة الكبيرة 
مختصرة من طريق النبوة. وكذلك عم الأولياء لأنه وقع في قلوبهم بلا واسطة من 
حضرة الحق كما قال سبحانه وتعالى : #آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا 
علياً© [الكهف: 10] وهذه الطريقة لا تفهم إلا بالتجربة؛ وإن لم تحصل 


> لأوقاتهاء فقال بعض من حضره إنه صاح. فقال الجنيد : لاء ولكن أرباب المواجيد محفوظون بين 
يدي الله في مواجيدهم., فإن رد الفاني إلى الأوصاف لم يرد إلى أوصاف تفه. ولكن 
يقام معام البقاء بأوصاف الحق . 
وأنشدوا في الفناء : 
ذكرنا وما كنا لننسى فنذكُرٌ ولكن نسي القرب يبدو فيبهر 
فأفنى به عني وأبقى بهله إذا الحق عتغت هه نخير ومعبر 

)١(‏ أي ججمعت وقبضت. 

(؟) عن ثوبان قال: قال رسول الله ينه : « إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاريهاء وإن 
أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها...» الحديث. رواه ملم في الفتن حديث رقم 219 وأبو 
داود في الفتن باب ١‏ ء والترمذي في الفتن باب ١4‏ . وابن ماجه في الفتن بابه. والإمام أحد 
في مسنده جه ص 0708 584. ورواه أححمد أيضاً (ج؛ ص8؟١)‏ من حديث شداد بن 


أوس عنه كه . 


1 


بالذوق لم تحصل بالتعلم 7" ؛ والواجب التصديق بها حتى لا تحرم شعاع سعادتهم . 
وهو من عجائب القلب. ومن لم يبصر لم يصدق كما قال سبحانه وتعالى: #بل 
كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولا يأتهم تأويله» [ يونس: 9؟] وقوله: «وإذا لم 
مهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم» [ الأحقاف:١١].‏ 
فصل 

ولا تحسب أن هذا خاص بالأنبياء والأولياء ؛ لأن جوهر ابن آدم في أصل 
الخلقة موضوع لهذا كالحديد لأن يعمل منه مرآة ينظر فيها صورة العالم, إلا 
الذي صدأ فيحتاج إلى إجلاء : أو جدب فيحتاج إلى صقل أو سبك؛ لأنه قد 
تلف, وكذلك كل قلب إذا غلب عليه الشهوات والمعاصي لم يبلغ هذه الدرجة 
وإن لم تغلب عليه تلك الدرجة كما قال النبي عَِنَهِ : ٠‏ كل مولود يولد على 
فطرة الاسلام 9 وقال الله تعالى : «9 وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا 
بل » [الأعراف: 175 ] وكذلك بنو آدم في فطرتهم التصديق بالربوبية كا 
قال سبحانه وتعالى : # فطرة الله التي فطر الناس عليها » [ الروم : "٠‏ ] والأنبياء 
والأولياء هم بنو آدم. قال سبحانه وتعالى: قل إنما أنا بشر مثلكم» 
[ فصلت: 7] فكل من زرع حصد, ومن مشى وصل. ومن طلب وجد. 
والطلب لا يحصل إلا بالمجاهدة ‏ طلب شيخ بالغ عارف قد مشى في هذا 
الطريق ‏ وإذا حصل هذان الشيئان لأحد فقد أراد الله له التوفيق والسعادة 
بحكم أزلي حتى يبلغ إلى هذه الدرجة. 


)١(‏ وهذا كا آل إليه التصوف بعد عصر الغزالي. حيث أصبح عبارة عن حلقات يتلقى فيها المريد 
قوانين التصوف عن بعضيى الشيوخ. فإذا كان الشيخ من العارفين اهتدى المريد على يديه إلى 
طريق الاستقامة. أما تصوف الغرّاي فقد استقاه من هدي النبوة مباشرة دون تومط المشايم. 
وهذا النوع من التصوف هو لأصحاب الهم العالية كالغزالي وأمثاله . 

)2 رواه بألفاظ وأمانيد مختلفة أمد ومالك والشيخان وأبو داود والترمذي والدارمي . 


لكا 


فصل 
في أن اللذة والسعادة لابن آدم في معرفة الله سبحانه وتعالى 


اعام أن سعادة كل شيء ولذته وراحته ولذة كل شيء تكون بمقتضى طبعه. 
وطبع كل شيء ما خلق له؛ فلذة العين في الصور الحسنة. ولذة الأذن في 
الأصوات الطيبة. وكذلك سائر الجوارح بهذه الصفة؛ ولذة القلب الخاصة 
بمعرفة الله سبحانه وتعالى. لأنه مخلوق لها. وكل ما لم يعرفه ابن آدم إذا عرفه 
فرح به. مثل الشطرنج 7( إذا عرفها فرح بهاء ولو نبي عنهالم يتركها ولا 
يبقى له عنها صبر. وكذلك إذا وقع في معرفةالله9) 


)١(‏ لعبة ذات أصل هندي., تلعب على رقعة من أربعة وستين مربعاً, وتمثل دولتين متحاربتين 
بائنتين وثلاثين قطعة تمثل الملكين والوزيرين والخيالة والقلاع والفيلة والجنود . 

أجع المتصوفة على أن معرفة الله تعالى لا تتم بالعقل. فالدليل عندهم على الله هو الله وحده. 
وسبيل العقل عندهم سبيل العاقل في حاجته إلى الدليل, لأنه محدث. والمحدث لا يدل إلا عل 
مثله. وقال رجل للنوري: ما الدليل على الله ؟ قال: الله. قال: قبا العقل ؟ قال: العقل عاجز. 
والعاجز لا يدل إلا على عاجز مثله. 


(0 


وقال ابن عطاء: العقل آلة للعبودية لا للإشراف على الربوبية. وقال غيره: العقل يجول حول 
الكون, فإذا نظر إلى المكوّن ذاب. 
وأنشدوا لبعض الكبار : 
من رامه بالعقل ممسترشداً موتحكلله في حيرة يلهتو 
وشاب باالتلبيس أسوراره يقول من حيرته هل قو 


وقال آخر من أهل المعرفة: 

ى يق بيني وبين الحق تبيااني 
هذا تملي طلوع الحق نائرة 
لا يمرف الحق إلا من يعرفُة 
لا يدل على الباري بصنعته 
كان الدليل لهملئه إليه به 
كان الدليل لهمنهيه وله 


الخو 


ولا دليل ولا آبات برهاني 
قد أزهرت في تلاليها بلطان 
لا يعرف القِدَميّ المحدث الفاني 
رأيتم خدئنا يُنِي عن أزنمان 
من شاهد الحق في تلنزيل فرقان 
حقًا وجدناه بل علاً بتبيان 


سبحانه وتعالى فرح بها20. ولم يصبر عن المشاهدة, لأن لذة القلب المعرفة 
وكلما كانت المعرفة أكبر كانت اللذة أكبر؛ ولذلك فإن الانسان إذا عرف 
الوزير فرح» ولو ع الملك لكان أعظم فرحا . 


وليس موجود أشرف من الله سبحانه وتعالى. لأن شرف كل موجود به 
ومنهء وكل عجائب العالم آثار صنعته, فلا معرفة أعز من معرفته, ولا لذة 
أعظم من لذة معرفته. وليس منظر أحسن من منظر حضرته. وكل لذات 
شهوات الدنيا متعلقة بالنفس وهي تبطل بالموت» ولذة معرفة الربوبية متعلقة 
بالقلب فلا تبطل بالموت؛ لأن القلب لا يبلك بالموت بل تكون لذته أكثر 
وضوؤه أكبر لأنه خرج من الظلمة إلى الضوء . 


فصل 


واعام أن نفس ابن آدم مختصرة من العالم. وفيها من كل صورة في العالم أثر 
منه؛ لأن هذه العظام كالجبال. ولحمه كالتراب. وشعره كالنبات» ورأسه مثل 


هذا وجودي وتثر بحي ومعتقدي هذا توحد توحيد وإيماني 
هذا عيارة أهل الانفراد به ذوي العمل اورق في سيا وإعلان 
هذا وجود وجود الواجدين له بني التجلانئس أصحاني وخلاني 


وقد أجمعوا أنه لا يعرفه إلا ذو عقل, لأن العقل آلة للعبد يعرف به ما عرف, وهو بنفسه لا 
يعرف الله تعالى . 
قال أبو بكر السباك: لما خلق الله العقل قال له: من أنا؟ فسكت . فكحله بنور الوحدانية ففتع 
عينيه فقال: أنت الله لا إله إلا أنت . 
فلم يكن للعقل أن يعرف الله إلا بالله . 
( انظر التعرف لمذهب أهل التصوف للكلاباذي ص *353-5). 

)١(‏ أي فرح بهذه المعرفة. 


ل 


السماء؛ وحواسه مثل الكواكب, وتفصيل ذلك طويل؛ وأيضاً فإن في باطنه 
صناع العالم . لأن القوة التي في المعدة كالطباخ, والتي في الكبد كالخباز والتي في 
الأمعاء كالقصار © . والتي تبيض اللين وتحمر الدم كالصباغ. وشرح ذلك 
طويل» والمقصود أن تعلم م في باطنك من عوالم مختلفة كلهم مشغولون بخدمتك , 
وأنت في غفلة عنهم, وهم لا يستريحون, ولا تعرفهم أنت ولا تشكر من أنعم 
عليك بهم . 
فصل 
في معرفة تركيب الجسد ومنافع الأعضاء التي يقال عنها في عم 
التشريح 


وهو علم عظيم. والخلق غافلون عنه. وكذلك عم الطب. فكل من أراد أن 
ينظر في نفسه وعجائب صنع الله تعالى فيهاء يحتاج إلى معرفة ثلاثة أشياء من 
الصمات الارهية : 

الأوثى: أن يعرف أن خالق الشخص قادر على الكيال وليس بعاجز,. وهو 
الله سبحانه وتعالى . وليس عمل في العالم بأعجب من خلق الإنسان من ماء مهين. 
وتصوير هذا الشخص بهذه الصورة العجيبة كما قال الله سبحانه وتعالى : ظ إنا 
خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه» [ الإنسان: ؟ ] فإعادته بعد الموت أهون 
عليه ؛ لآن الإعادة اسهل من الابتداء . 

الثانية: معرفة علمه سبحانه وتعالى وأنه محيط الأشياء كلها؛ لأن هذه 
العجائب والغرائب لا تمكن إلا بكمال العام . 

الثالثة: أن تعام أن لطفه ورحته وعنايته متعلقة بالأشياء كلهاء وأنها لا نهاية 
لها لما ترى في النبات والحيوان والمعادن في سعة القدرة وحسن الصور والألوان. 


)١(‏ القصار : المبيض للثياب.. 


١١ 


في تفصيل خلقة بني آدم لأنها مفتاح معرفة الصفات الالهية وهو 
عام شريف 

وذلك معرفة عجائب الصنائع الآلمية. ومعرفة عفلم الله سبحانه وتعالى 
وقدرته. وهو مختصر معرفة القلب. وهو عم شريف إذ هو معرفة الصنائع 
إلالهية, لأن النفس كالفرس. والعقل كالراكب, وجماعههما الفارس» ومن لم 
يعرف نفسه وهو يدعي معرفة غيره فهو كالرجل المفلس الذي ليس له طعام 
لنفسه وهو يدعى أنه يقوت فقراء المدينة. فهذا محال. 

إذا عرفت هذا العز والشرف والكمال والجيال والجلال. بعد أن عرفت 
جوهر القلب أنه جوهر عزيز قد وهب لك وبعد ذلك خفي عنك؛ فإن لم 
تطلبه وغفلت عنه وضيعته كان ذلك حسرة عظيمة عليك يوم القيامة ؛ فاجتهد 
في طلبه. واترك أشغال الدنيا كلها! وكل شرف لم يظهر في الدنيا فهو في 
الآخرة فرح بلا غمّى وبقاء بلا فناء . وقدرة بلا عجز, ومعرفة بلا جهل. وجمال 
وجلال عظبان؛ وأما اليوم فليس شيء أعجز منه لأنه مسكين ناقص؛ وإنما 
الشرف غداً إذا طرح من هذه الكيمياء على جوهر قلبه حتى يخلص منه شبه 
البهائم. ويبلغ درجة الملائكة. فإن رجع إلى شهوات الدنيا فضلت عليه البهائم 
يوم القيامة لأنها تصير إلى التراب. ويبقى هو في العذاب. نعوذ بالله من ذلك » 
ونستجبر به وهو نعم المول ونعم النصير , والحمد لله رب العالمين » وصللى الله 
على سيدنا مد وعلى آله وصحبه أججمعين. 

[ نمت كيمياء السعادة وتليها القواعد العشرة ] 


١5 


القواعد العشرة 


بسم الله الر حمن الرحيم 


الحمد لله الموفق, الذي وفق قلوب الأحباب لموافقة مراسم السنة وأحكام 
الكتاب , الفتاح الذي فتح بصائر أبصارهم فأيصروا مواقع نبال الارتياب في 
مقاتل أهل الحجاب. الملهم الذي أهمهم الحجة البيضاء بالمحجة 7( المخنضراء 
فأصابوا أبكار الصواب. ناداهم بلسان شأن المحبة من جنان المودة كيف ينام 
المحب عن مشاهدة الأحباب! فأكحلوا نواظرهم بإنمد السهاد 20 وجفوا من 
مضاجعهم أطيب الرقاد. وجدُوا في أثر الإطلاب7 مع الطلاب. وجعلوا 
نهارهم ليلا » وأفراحهم ويلاًء وأرخوا لعز مولاهم ذيلاً » وتذللوا على الأعتاب, 
فأقامهم في الحاضرة والبادية. وأسمعهم أوامرهم ونواهيه, فيا سعادتهم بتوفيقهم 
لوقوفهم على الأبواب! 

وكشف هم الحجاب عن جماله. وكشط الضباب عن محاسن أثواب مقاله, 
فرّدٌوا حيارى بمحاسن الأتراب. أجروا مدامعهم جريان الأنهار. وأبدوا فجائعهم 
عن زمن تولى من جر الازار على الأوزار. وطرقوا الباب فأتاهم الجواب يا 


. الحجة: الدليل والبرهان. والمحجة : الطريق المستقم‎ )١( 
. يشير رضي الله عنه إلى دأب المتصوف في قيام الليل‎ 0) 


1١7 


عبادي أنا التواب على من أقلع عن الحَؤبة7" وإ أناب. 


روّق7 طم في دار الوصال شراب الاتصال7., فناهيك به من شراب! 


فتلذدوا كناحاته, وغابوا عن حضورهم في حضراته 20 وغدا كل بعقله 


)١(‏ الحوبة: الاثم. 
(؟) روّق: صفى. 
في معنى الاتصال: أن ينفصل بسره عما سوى الله فلا يرى بسره بمعنى التعظم غيره, ولا يسع 


دق 


إلا منه. قال النووي : الاتصال مكاشفات القلوب. ومشاهدات الأمرار مكاشفات القلوب» 
كقول حارثة: كأني أنظر إلى عرش ربي بارزاً. وقال بعضهم: الاتصال وصول السر إلى مقام 
الذهول. معناه: أن يشغله تعظي الله عن تعظيم من سواه. وقال بعض الكبار : الاتصال أن لا 
يشهد العبد غير خالقه. ولا يتصل بسره خاطر لغير صانعه. قال سهل: حركوا بالبلاء 
فتحركواء ولو سكنوا اتصلوا . (انظر كتاب التعرف لمذهب أهل التصوف للكلاباذي ص 
١4‏ ). 

يشير رضي الله عنه إلى بعض .حالات الصوفية كالقرب والتجلٍ والفناء والغيبة والشهود. سكل 
بعضهم عن القرب فقال: هو أن تشاهد أفعاله بك؛ معناه أن ترى صنائعه ومننه عليك وتغيب 
فيها عن رؤية أفعالك ومجاهداتك و وأخرى أن لا تراك فاعلاً, كقوله عز وجل للني : 
(وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى » وقوله : «إفم تقتلوهم ولكن الله قتلهم » . وقال بعض 
الصوفية في الغيبة: هو أن يغيب عن الفناء والفافي بشهود البقاء والباقي لا غير. وأنشدوا 
للنووي : 


شهدت ولم أشهد لحاظاً لحظته وحب لحاظ شاهد في مُتْهَدٍ 
وغ ع شيم 1 غاب ز 7 1 غيب . فلاح نا 9 7 غم 24 8 


وقال أبو سعيد الخراز في الفناء : علامة الفافي ذهاب حظه من الدنيا والآخرة إلآ من الله تعالى. ثم 
يبدو باد من قدرة الله تعالى فيريه ذهاب من الله تعالى إجلالاً لله ثم يبدو له باد من الله تعالى فيريه 
ذهاب حظه من رؤية ذهاب حظه. ويبقى رؤية من كان من الله لله. ويتفرد الواحد الصمد في 
أحديته, فلا يكون لغير الله مع الله فناء ولا بقاء . 

وعبارة أخرى عن الفناء : أن الفناء هو الغيبة عن صفات البشرية بالحمل الموله : من نعوت الإهية,. 
وهو أن يغنى عنه أوصاف البشرية التي هي الجهل والظم لقوله تعالى: # وحملها الانسان إنه كان 
ظلوماً جهولاً © ومن أوصافه الكنود والكفور. وكل صفة ذميمة تفنى عنه ؛ بمعنى أن يغلب علمه 
جهله وعدله ظلمه وشكره كفرانه وأمثاها . 


1١5 


المصاب . فأين المهاجر في الهواجر . ومن أكحل المحاجر بالحناجر . طوباه قد فاز 


بطيب الخطاب ! 

5 كشف ا لمول م اللمجكات 
واحضروا انس بها 
وفي مقام القرب أدناهم 
وأتحفوا من فضله بالسوفا 
هم لملوك الثم من خلقه 
قد تبعوا نهج سبيلالمدى 
واستمسككلوا بسنة خير الورى 
وناقشوا أنفسهم خيفة 
إذا اتى الليل تراهم به 
يحيونه بالذكر كي يحييهم 
يراهفم الحق يباهني:بهم 


عليهط م مني سلام سما 


حضرة 
- 


وأسمع الأحباب طيب الخطاب 
غابوا فعاشوا بعد موت العقاب 
لا سقاهم في المقام الشراب 
محضاً من الأمن أجل الكتاب 
ضنائن الحق لعز الحجاب 
واتبعوا حكم نصوص الكتاب 
وحاسبوا من قبل يومالحساب 
من غضب الحق وهول العقاب 
فرحى لجمع الفرق نحت النقاب 
بذكره في جمع أهل الثواب 
بهم عن الخلق يزول العذاب 
مالع البرق أو أهل السحاب 


أده جداً أستوجب به الثواب . وأشكره شكراً تزيد به زيادات أولي الألباب, 
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك لهء شهادة تنزهه عن الحلول 


والانحياز. والظهور والمطون, والايتداء والانتهاء . والاشدت 


ر والاحتجاب؛ 


وتقدست ذاته المقدسة عن مقالات أولي الجهالات من الكم والكيف والأين 
والمكان والزمان والا'ياب والذهاب 292 , وأيجده بما أبرزه بحكمته من الأكوان عن 


)١(‏ قال بعض كبراء الصوفيةفي كلام له في التوحيد: لم يسبقه قبل, ولا يقطعه بعد ولا يصادره 
من. ولا يوافقه عن, ولا يلاصقه إلى, ولا يحل في. ولا يوقفه إذء ولا يؤامره إنء ولا يظله 


فوق. ولا يقله تحت . ولا يقابله حذاء, ولا يزاحمه عند . ولا يأخذه خلف. ولا يده أمام , 
ولا يظهره قبل . ولا يفنيه بعد . ولا يجمعه كل . ولا يوجده كان, ولا يفقده ليس ., ولا يستره 
خفاء . تقدم الحدث قدمّه. والعدم وجوده؛ والغاية أزله . 


١5ه‎ 


التفكر والتدبر والمعاونة والمشاورة والراحة والنصب والانتصاب», وأعظمه عن 
التشبيه والتمثيل والتعديل والتحويل والتبديل والتركيب والارتكاب 7 . وأشهد 
الأحباب؛ أرسله بفضل الكتاب وفصل الخطاب., وأيده بأفضل كتاب وأججل 
خطاب ؛ أفصح الأعراب بالاعراب والاختصار والاسهاب, وأعجز بلغاء 
الأحزاب ببدائع النفي والإيجاب, فأنقذ الأحباب من مهاوي الارتياب ومغاوي 
الأعراب, بالعقاب على الأعقاب. وكشف عن وجه نور الإسلام مكفرات 
ظلمات الإشراك والضصاب؛ صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والأحباب, وعللى 
الخلفاء الراشدين الأقطاب : أبي بكر وألي حفص وألي عمرو وأبي تراب . صلاة 
تحلنا دار النعيم وتخرجنا عن دار العذاب. 
أما بعد : نفحنا الله وإياك بنسائم قربه. وسقانا وإياك من كاسات حبه؛ فإن 
بيان كيفية طريقناء وبرهان أهل تحقيقنا, مبني على عشرة قواعد ( توقظ النائم 

وتقيم القاعد : 

)١(‏ قال الكلاباذي في كتابه و التعرف لمذهب أهل التصوفء ص #0 : أجمعوا على أن لله سمعاً 
وبصراً ووجهة ويداً على الحقيقة. ليس كالأسماع والأبصار والأيدي والوجوه. وأجمعوا أنها 
صفات لله وليست بجوارح ولا أعضاء ولا أجزاء . وأجبعواأنها ليست هي هو ولا غيره؛ وليس 
معنى إثباتها أنه محتاج إليها وأنه يفعل الأشياء بهاء ولكن معناها نفي أضدادها وإثباتبها في 
أنفها وأنها قائيات به. 

(؟) يبين الغزالي فها بلي قواعد التصوف وأركانه. وقد تعددت تعريفات التصوف وتنوعت: قال 
أبو الحسن مد بن أحمد الفارسي: «أركان التصوف عشرة: أوها تجريد التوحيدء ثم فهم 
السماع. وحسن العشرة .وإيثار الايشار. وترك الاختيار. وسرعة الوجد, والكشفمى عن 
الخواطر, وكثرة الأسفار. وترك الاكتساب. وتحريم الادخار ». وقال الجرجاني لي كتابه 
« التعريفات »: : التصوف مذهب كله جد فلا يخلطوه بثيء من الحزل. وقيل : تصفية القلب 
عن موافقة البرية . ومفارقة الأخلاق الطبعية , وإخاد صفات البشرية , ومجانبة الدعاوى النفسانية » 
ومنازلة الصفات الروحانية , والتعلق بعلوم الحقيقة, واستعمال ما هو أولى على السرمدية , والنصح 
لجميع الأمة. والوفاء لله تعالى على الحقيقة, واتباع رسوله ييه في الشريعة. وقيل ترك - 


القاعدة الأولى 


النية الصادقة () الواقعة من غير التواء. لقوله عليه الصلاة والسلام : « وإنها 


لكل امرىء ما نوى, () 


والمراد بالنية عزم القلب . وبالصادقة إ:نهاؤها للفعل والترك للرب. وبالواقعة 


استمرارها على هذه الخلة الأثيرة؛لأن للتكرار تأثيراً ليس لغيره. وعلامتها عدم 
تغيير جزمه بأعراض فانية وباقية في عزمه. فإن العمل للحق ولا بد من الحق 


الاختيار. وقيل: بذل المجهود والأنس بالمعبود. وقيل: حفظ حواسك من مراعاة أنفاسك. 


وقيل :الاعراض عن الاعتراضص. وقيل: هو صفاء المعاملة مع الله تعالى. وأصله التغرغ عن 
الدنيا. وقيل: الصبر تحت الأمر والنهي. وقيل: خدمة التشرف, وترك التكلف, واستعيال 
التظرف . وقيل: الأخذ بالحقائق. والكلام بالدقائق. والإياس مما لي في أيدي الخلائق ». وقال 
الجنيد : ٠‏ التصوف حفظ الأوقات .٠‏ قال: وهو أن لا يطالع العبد غير حدهء ولا يوافق غير 
ربه. ولا يقارن غير وقته ». وقيل له: ما التصوف ؟ قال:٠‏ لحوقالسر بالحق, ولا ينال ذلك إلا 
بفناء النفس عن الأسباب, لقوة الروح والقيام مع الحق». وقال ابن عطاء: ٠‏ التصوف 
الاسترسال مع الحق:. وقال أبو يعقوب الوسبي: «الصوفي هو الذي لا يزعجه سلب ولا 
يتعقبه طلب ». 

هذا هو الركن الأول من أركان الطريقة الصوفية, فالنية الصادقة والعزم الأكيد هو الأساس 
لبلرغ المطلوب وتخطي العقبات التي تعترض الطالب. 

من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يِه يقول: ٠‏ إنما الأعيال 
بالنيات. وإنما لكلامريء مانوى, فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو إلى امرأة ينكحها 
فهجرته إلى ما هاجر إليه ». رواه البخاري في بدء الوحي باب ١ء‏ والزيمان باب 4١‏ . والنكاح 
باب 68. والأيمان باب 5., والحيل باب ١‏ والعتق باب 35. ومم في الإمارة حديث رقم 
8 وأبو داود في الطلاق باب .١١‏ والترمذي في فضائل الجهاد باب 5. والنائي في 
الطهارة باب 69 ء والطلاق باب 54» والأيمان باب 18., وابن ماجه في الزهد باب 51 
والامام أحد : ١/ره؟‏ "1 . 


١ /ا‎ 


القاعدة الثانية 


العمل لله من غير شريك ولا اشتراك 7( لقوله عليه السلام: «اعبد الله 
كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك(" وعلامته أن لا يرضى بغير الحقع 
ويرى ما سواه قاطعاء فيجتلب الخلق لقول النبي المختار: وتعس عبد 
الدينار , 9) 


وليترك لله سبحانه وتعالى جميع أمانيه, لقوله عليه السلام: ومن حسن 


010 


0) 


إسلام المرء تركه ما لا يعنيه» 'وآاكدها الشبهات فاحذرها أن تصيبك» 


هذه قاعدة الاخلاص في العمل لله . فبعد النية الصادقة لسلوك الطريقة , يأقي تنزيه العمل وإخلاصه 
مما لغير الله تعالى . قال الجنيد : الاخلاص ما أريد به الله من أي عمل كان. وقال روي : الإخلاص 
ارتفاع رؤيتك من الفعل . وقال أبو يعقوب السومي : الخالص من الأعرال مالم يعم به ملك فيكتبه , 
ولا عدو فيفسده. ولا النفس فتعجب به. 

والغزالي هنا يجعل الاخلاص أمراً مكتسباً يناله الطالب بالجهد بعد النية ليلتحق بالصوفيين. ولكنا 
نهد الإخلاص في حديث السهروردي بهامش الإحياء سر من أسرار الله يهبه لمن يشاء . 

جزء من حديث الإيمان والإسلام؛ رواه من حديث عمر عن رسول الله عه مم ني كتاب 
الإيمان حديث رقم .١‏ وأبو داود في السنة باب .١7‏ والترمذي في الإيمان باب 4 . والنسائي 
في الإيمان باب 0 وابن ماجه في المقدمة باب 4. والإمام أحمد في مسنده ج ؟ ص 2٠١‏ 
7 . ورواه من حديث أي هريرة عن رسول الله َه البخاري في كتاب الايمان باب 57ء 
ومم في الايمان حديث رقم ث6 ولاء والنسائي في الزيمان باب 5 . 

من حديث أبي هريرة عن رسول الله يِه . رواه البخاري في كتاب الرقاق باب ٠١‏ بلفظ 
تعس عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة إن أعطي رضي وإن لم يعط لم يرض». 
ورواه الترمذي في كتاب الزهد باب 45 بلفظ ٠‏ لعن عبد الدينار. لعن عبد الدرهم». ورواه 
ابن ماجة في كتاب الزهد باب 4 بلفظ وتعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة » 
تعس وانتكس. وإذا شيك فلا انتقش .١0‏ 

رواه الترمذي بهذا اللفظ في الزهد باب ١١‏ . وابن ماجه في الفتن باب ١١‏ من حديث أبي هريرة 
عن رسول ال ميم . ورواه مالك في الموطأ. باب حسن الخلق حديث 7 من حديث الحسين بن 
على عنه نه . ورواه الامام أحمد في مسنده ج ١‏ ص ٠١١‏ من حديث الحسين بن علي مرفوعاً 
بلفظ « من حسن إسلام المرء قلة الكلام فما لا يعنيه .٠‏ 


1١18 


لقوله عليه السلام : ه دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» (" . 

فإذا صحت هذه الأصول الثلاثة أثمرت أغصانمها لك القربى. فتكون 
بالصورة في الدنيا وبالمعنى في العقبى. وعلى قدر همك وثباتك على الفعل والترك 
تحظى من الحديث المشهور : « كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل وعد 
نفسك من أصحاب القبور, 9 , 

وعلامة القناعة الاكتفاء بما يذهب الحر والبرد والمسغبة لقوله عليه الصلاة 
والسلام: وحسب ابن آدم لقيات يقمن بها صلبه» ‏ فلا يميل إلى صاحب 
القمح صاحب الشعير, وإلى النقرة صاحب النقير. والمستغني بالحلال لا يقصد 
المباح. ولا يخفض إلى الشبهة الجناح. وعلامة الغريب الحمل الخفيف. وعدم 
الائتلاف بالثقيل. وترك السؤال فإنه يؤوي إلى ظل الدخيل. وعلامة عابر 
السبيل إسراع الااجابة. ورضاه بما سبق إليه واستطابه . وعلامة الميت إيثار مهمات 
دينه والمسألة في غوالب حينه. 


." والبخاري في البيوع باب‎ )١6“ رواه من حديث أنس مرفوعاً الإمام أحد (ج “ ص‎ )١( 
. ورواه الترمذي في القيامة باب.7 من حديث الحسن بن علي رضي الله عنه عن رسول الله عه‎ 
قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح.‎ 

(؟) من حديث عبد الله بن عمر عنه عله . رواه أحمد في المسند ج ؟ ص .4١‏ والترمذي في 
الزهد باب 58 . وابن ماجه في الزهد باب ". ورواه البخاري في كتاب الرقاق باب " ولم 
يذكر فيه ه وعد نفسك من أصحاب القبور .٠‏ 

() روى ابن ماجه في كتاب الأطعمة باب 680 عن المقدام بن معد يكرب قال: ممعت رمول الله 
عه يقول: ما ملأ آدمي وعاءً شرا من بطن. حسب الآدمي لقبات يقمن صلبه. فإن غلبت 
الآدمي نفه فثلث للطعام وثلث للشراب وثلث للتفس ». 


١ 


القاعدة الثالئة 


موافقة الحق بالاتفاق والوفاق 7 ومخالفة النفس بالصبر على الفراق والمشاق» 
وترك الموى. وجفاء الملاذ والمكان والخلااف. ومن تعوده خرج عن الحجاب 
ودخل في الانكشاف. فعاد نومه سهراً, واختلاطه عزلة. وشبعه جوعاً . وعزته 
ذلة؛ ومكالمته صمتاًء وكثرته قلة. 


القاعدة الرابعة 


العمل بالاتباع لا الابتداع. لكلا يكون صاحب هوى. ولا يزهو برأيه 
زهواً. فإنه لا يفلح من اتخذ لنفسه في فعله وليّاً بقوله عليه السلام ؛ ٠‏ عليكم 
بالسمع والطاعة ولو كان عبداً حبشياً  »‏ . 


, موافقة الحق بالاتفاق والوفاق» يعني أن توافق جيع أعباله وأموره ما جاءت به الشريعة‎ ٠ قوله‎ )١( 
وأن يكون هواه تبعاً لما أمر به الحق سبحانه. وما ذكره في هذه القاعدة فهي آثار وأحوال ونتائج‎ 
أعمال. أما أصول الطريق فهي كما ذكرت في كتب الصوفية ثلائة عشر : التوبة والخوف والرجاء‎ 
والحزن والقناعة والزهد والورع والتوكل والصبر والشكر وجهاد النفس والرضا بالقضاء وترك‎ 
. العباد‎ 

(١؟)‏ روى البخاري في كتاب الأحكام باب 4 . وابن ماجه في كتاب الجهاد باب 58 عن أنس بن 
مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله ينه : ٠‏ اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عبد حبثئي 
كأن رأسه ربيبة». وروى ملم في كتاب الاإمارة حديث رقم 255 عن ألي ذر قال: هإن 
خليل أوصاني أن أسمع وأطيع وإن كان عبداً تجدّع الأطراف». ولي لفظ «عبداً حبشياً بجدع 
الأطراف .٠‏ وعن يحيى بن حصين بن عروة قال: حدثتني جدتي قالت: سمعت رسول الله جد 
يقول: «لو استعمل عليكم عبد يقودك بكتاب الله عز وجل فاسمعوا له وأطيعوا » رواه بهذا 
اللفظ أحمد ف مسنده جج ع ص 39 ., وملام في كتاب الازمارة حديث رقم /الاء والنائي لي 
كتاب البيعة باب 51. ورواه الإمام أحد (ج 4 ص ١‏ وج 6 ص )58١‏ من حديث يحهى 
ابن حصين عن أمه قالت: سمعت الني عَقنَهِ يخطب في حجة الوداع يقول: ديا أيها الناس اتقوا 
الله واسمعوا وأطيعوا وإن أمر عليكم عبد حبشي مجدع ما أقام فيكم كتاب الله عز وجل» 
وبنحو هذا اللفظ رواه الترمذي في كتاب الجهاد باب 59. والإمام أحد (ج 1 ص +.4. 


١6ه‎ 


القاعدة الخامسة 


الهمة لعليا عن تسويف يفسدك؛ فقد جاء : لا تترك عمل يومك للغد ؛ لأن 


بعض الأعمال من بعضهاء وإلا فمن رضي بالأدنى حرم الأعلى. والكامل 
المتبع 2 هو السني لا المتشيع والمعتزل والمبتدع, لقوله عليه السلام: ويا أحبابي 
عليكم بالسواد الأعظم, () قالوا: يا رسول الله وما السواد الأعظم؟ قال: 
دما أنا عليه وأصحابي» . 


القاعدة السادسة 


العجز والذلة 7 ؛ لا بمعنى الكسل في الطاعات وترك الاجتهاد . بل عجزك 
عن كل فعل إلا بقدرة الحق الجواد. وأن ترى الخلق بعين التوقير والاحترام 


٠“‏ ) من حديث إسحاق بن العيزار بن حريث عن أم الحصين الأحسية عنه َيه . وروى 
الترمذي في كتاب العم باب 17. وأبو داود في كتاب السنة باب ن من حديث العرباض بن 
مارية عنه عليه قال : « أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن عبد حبشي» 

قوله « والكامل المتبع هو السني... الخ: من الأنسب أن يكون ضصمن القاعدة الرابعة التي هي 
العمل بالاتباع لا بالابتداع. وليس موضعها هنا ضمن القاعدة الخامة التي هي الهمة العليا 
المجردة عن التسويف. 

روى ابن ماجه في كتاب الفتن باب لم من حديث أنس بن مالك قال: سمعت رسول الله يَأ 
يقرل: ١‏ إن أمتي لا تجتمع على ضلالة. فإذا رأيتم اختلافاً فعليكم بالواد الأعظم». وروى 
الإمام أحمد في المسند ج 4 ص 778 عن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله عَِيّهِ على هذه 
الأعواد أو على هذا المنبر  :‏ من لم يشكر القليل لم يشكر الكثير , ومن لم يشكر الناس لم يشكر الله» 
والتحدث بنعمة الله شكر وتركها كفر . والجماعة رحمة والفرقة عذاب » قال: فقال أبو أمامة الباهلي : 
عليكم بالواد الأعظم. قال: فقال رجل : ما السواد الأعظم ؟ فقال أبو أمامة : هذه الآية في سورة 
النور #فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حلت » . 

لباب هذه القاعدة التواضع. سئل الجنيد عن التواضع فقال: هو خفض الجناح وكسر الجانب. 
وقال رويم: التواضع تذلل القلوب لعلآم الفيوب. وقال آخر: التواضع الافتخار بالقلة. 
والاعتناق للذلة , وتحمل أثقال أهل الملة. 


1١65 


فإن بعضهم وسائط بعض . إجلالاً لحضرة ذي الجلال والاكرام؛ لأن سنة الله 
سبحانه وتعالى إذا أراد شيئاً ما أضافه إليه بنفي الوسائط. وإن أراد جلال 
حضرته تعظبا أضافه لغيره رعاية للضوابط . فإذا علمت أن الكل بيد الله سبحانه 
وتعالى والمرجع إليه وتكبرت, فقد تكبرت عليه إلا بأمر وصل إليك من لديه. 
فاجعل عجزك في جنبه ومسكنتك له بالاعتذار. ولا تتصور قدرة لك فإنها 


منازعة في الاقتدار . 
القاعدة السابعة 


الخوف والرجاء معنى (2, وعدم الاطمئنان بجلال الإحسان إلا عند العيان, 
فحسن ظنك منك بالجواد الحسان. 


القاعدة الثامنة 


دوام الورد 7" إما في حق الحق أو حق العباد, فإن من ليس له ورد فهاله من 
الموارد إمداد فالمديم يمل الحل بملاله: بخلاف الذي يغيث بأعاله وأقواله. فإن 


)١(‏ قال سهل: النوف ذكر والرجاء أنثى. معناه: منهها يتولد الحقائق. وقال: إذا خاف العبد غير 
الله ورجا الله تعالى أَمَّنْ الله خوفه وهو محجوب. 

(؟١)‏ هذا من الأركان المهمة عند الصوفية. وكانت طريقة الجنيد وهو أستاذ هذه الطريقة الذكر 
الدائم والصوم الدائم والطهارة الدائمة. أما الصوم الدائم والطهارة الدائمة فمعلومان. وأما 
الذكر الدائم فالصوفية يفضلون الذكر بالاسم المفرد. وقد صرح الغزالي بأنه قد وصل بذكر 
الاسم الأعظم «الله». وقد رتب عبد الكريم الجيلي ‏ وهو من أفذاذ هذه الطريقة ‏ الذكر 
لنفه ولأتباعه بثلاثة عشر اسماً كل امم يذكر مائة ألف مرة وهي: ولا إله إلا الله الله 
دهر)؛ دحيه «دواحدهء «عزيزه وودودء وحق» دقهارء «قيوم» هوهاب» «مهيمن», 
و باسط». وللصوفية أوراد غير هذه الأسماء . 
قال الكلاباذي في كتاب ١‏ التعرف لمذهب أهل التصوفه ص ٠١١1‏ : صدّف الذكر أصنافاً : 
فالأول ذكر القلب,. وهو أن يكون المذكور غير منسي فيذكر. والثاني: ذكر أوصاف ع 


١ 


النفس تنبسط بذلك جهراً وسراً. وتراعي حقوق العباد كبا يتوقع منهم خيراً 
وشراء فيحب ويبغض طم ما يحب ويبغض لنفسه خيراً وشراً . ويعمل لله تعالى 
القاعدة التاسعة 


المداومة على المراقبة ولا يغيب عن الله سبحانه وتعالى طرفة عين؛ فمن داوم 
على مراقبة قلبه لله سبحانه وتعالى ونفى غير الله وجد الله وإحسانه وعم اليقين 
يحصل ذلك لك بجملته وهو أن ترى الحركات والسكنات والأعيان بتحريكه 
وتسكينه وقدرته سبحانه لا يستغنى عنه شيء . ثم تزيد مراقبته إلى أن تترقى إلى 
عام اليقين, ثم يفنى عن ذلك به. وذلك حقيقة اليقين فيقول: ما رايت شيئا إلا 
ورأيت الله فيه سبحانه 9) وتعالى. هو القيوم على كل شيء بقيوميته. وذلك 
الشيء هو القائم بأمره وبقدرته على حسب المشاهدة والمحاضرة. فتأدب مع 
الخلق وعاشر أحسن المعاشرة؛ قال عليه الصلاة والسلام: «أدبني ربي فأحسن 
تأديي » 


> المذكور والثالث: شهود المذكور فيفنى عن الذكرء لأن أوصاف المذكور تفنيك عن 
أوصافك فتفنى عن ؛لذكر. 


قال ابن عطاء : 
أرى الذكر أصنافاً من الذكر حشوها 2 وداد وشوق يبشان على الذكر 
فذكرٌ أليتف النفس مزج بها يمل محل الروح في طلرفها يسري 


وذكر يعزي النفس عنها لأنه6 ا متلف من حيث تدري ولا تدري 

وذكلبر علا مني الملفارق والذرى يجل عسن الإدراك بالوهم والفكر 

يراه لحاظ العين بالقلب رؤية فيجفو عليه أن يشاهد بالذكر 
)١(‏ هذه القاعدة. قاعدة المداومة على المراقبة» هي التي تؤدي إلى معرفة الله ومعرفة الأشياء . وقد 
أجمع الصوفية على أن الدليل على الله هو الله وحده. وسبيل العقل عندهم سبيل العاقل في 
حاجته إلى الدليل؛ لأنه محدث والمحدث لا يدل إلا على نفه. قال رجل للنووي : ما الدليل 


1 


القاعدة العاشرة 
عم ما يجب الاشتغال به ظاهراً وباطناً اجتهاداً ؛ لأن من ظن أنه استغنى عن 
الطاعة فهو مفلس معاداً لقوله سبحانه لا رب إلا سواه قل إن كنتم تحبون الله 


سه على الله؟ قال: الله. قال: فيا العقل ؟ قال: العقل عاجز , والعاجز لا يدل إلا عل مثله. .وقال 
ابن عطاء : العقل آلة للعبودية لا للإشراف على الربوبية . 
فالمعرفة عند الصوفية حدسية لا عقلية, فالإنسان لا يصل إلى البقين إلا ٠‏ بنور يقذفه الله لي 
القلب » حسب تعبيرالغزالي في كتابه « المنقذ من الضلال:. فمعرفة الله لا تنبع إلا من الله. قال 
الجنيد شيخ الطائفة: المعرفة معرفتان: معرفة تعرف ومعرفة تعريف. معنى التعرف أن يعرفهم 
الله عز وجل نفسه ويعرفهم الأشياء به. كما قال إبراهم عليه السلام: «إلا أحب الآفلين. 
ومعنى التعريف أن يريهم آثار قدرته في الآفاق والأنفس. ثم يحدث فيهم لطفاً. تدهم الأشياء 
أن لها صانعاً ؛ وهذه معرفة عامة المؤمنين, والأولى معرفة الخواص ء وكل لم يعرفه في الحقيقة إلا به. 
وهذا كبا قال مد بن واسع: ما رأيت شيئاً إلا ورأيت الله فيه. وقال غيره: ما رأيت شيئاً إلا 
ورأيت الله قبله. وقال بعض الكبراء : إن الله تعالى عرفنا نفسه بنفسه. ودلنا على معرفة نفسه 
بنفسهء فقام شاهد المعرفة من المعرفة بعد تعريف المعرّف بها. معناه أن المعرفة لم يكن لها 
سبب, غير أن الله تعالى عرّف العارف فعرف بتعريفه. وهذا صريح في قوله تعالى: # فمن 
يرد الله أن يبديه يشرح صدره للإسلام » وقوله: «الحق من ربك فلا تكونن من الممترين » 
وقوله: «والله يعم وأنتم لا تعلمون» وقوله: من بهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له 
ولبّآ مرشداً ©. 
والمراقبة التي تؤدي إلى المعرفة واليقين هي عند الصوفية نوعان: مراقبة الحق سبحانه ومراقبة 
المشرف الروحي على القلب السائر. أما مراقبة الحق سبحانه فالمقصود منها عندهم مناجاة الحق 
سبحانه بأسهائه وصفاته كأنك تراه؛ ويقول الصوفية إن هذه المراقبة عندهم هي مبدأ السير في ركب 
المحبين . وأما مراقية المشرف الروحي فهي ملاحظة رفيق القلب الروحي , وهو الشيخ في الاصطلاح 
الصوفي ؛ فملاحظة الشيخ عندهم ضرورية للسير في هذا الطريق الذي تكثر فيه العوائق والوساوس 
الشيطانية . فالشيخ هو المعين الذي يساعد المريد على تخطي هذه العقبات ورد وساوس الشيطان. 
وكليا كان الشيخ أقرب إلى الله كان المريد أقدر على الوصول إلى ميتغاه بماعدة الشيخ. 


١6 


فاتبعوني يحببكم الله © [ آل عمران: 1١‏ ] 

فهذا ما بنيت على أعمدة قواعده قصوراً من غير قصورء وأسست عليه 
شوامخ الحجار لربات الحجور . وحرثته بمحراث فدن, وبذرته بصنوف حيوب 
السعادة . وغرست في فرادسه الأذكار . وأجريت في جناته من الأوراد والأنهار 
وفرشته بشقائق نعمان المجاهدة, ومهدته بحدائق حقائق المكابدة؛ راجياً حصاد 
زرعي بمناجل الحم وقاصداً غنيمة إنفاقي من مواهب الكرمء والله تعالى يزكيه 
ويرْبيه » ويرتع فيه من ظهر فيه, ومن التحق به ممن يحييه. إنه الجواد الكري البر 
الرحم . 

والسلام على من اتبع المدى., فيا ابتدع ونفع وانتفع ولحق بعباد الله الصالحين 
وحزبه المفلحين ورححمته وبركاته. وصلى الله وسام عل “ميدن مق نون اتوار 
المعارف وسر أسرار العوارف. وعلى آله وصحبه وتابعي سبيله وحزبه, والحمد 
لله الذي بنعمته تتم الصالحات وتعم البركات آمين. 


[ تمت القواعد العشرة ويليها الكشف والتبيين في غرور الخلق أجمعين ]. 


١هه‎ 


الكشف والتسيين 
في غرور الخلق أجمعين 


بسم الله الرحمن الرحيم 

وصل الله على سيدنا مد وآله وصحبه وسام آمين! وبه ثقتي. 

الحمد لله وحده. وصل الله على خير خلقه سيدنا همد وعلى أله وصحبه. 

وبعد : فهذا كتاب الكشف والتبيين في غرور الخلق أجمعين. 

اعلم أن الخلق قسمان: حيوان وغير حيوان. والحيوان قممان: مكلف وغير 
مكلف؛ فالمكلف من خاطيه الله بالعبادة. وأمره بهاء ووعده بالثواب عليها. 
ونهاه عن المعاصي . وحذره العقوبة؛ وغير المككلف من لم يخاطبه بذلك . ثم المكلف 
قسمان :. مؤمن وكافر. والمؤمن قسمان: طائع وعاص؛ وكل واحد من الطائعين 
والعاصين ينقسم إلى قسمين : عالم وجاهل . 

ثم رأيت الغرور لازماً لجميع المكلفين والمؤمنين والكافرين إلا من عصمه الله 
رب العالمين. وأنا إن شاء الله تعالى أكشف عن غرورهم. وأبين الحجة فيه. 
وأوضحه غاية الإيضاح. وأبينه غاية البيان, بأوجز ما يكون من العبارة. وأبدع 
ما يكون من الإشارة؛ فأقول وما توفيقي إلا بالله: 

واعام أن المغرورين من الخلق ما عدا الكافرين أربعة أصناف: صنف من 
العلماء » وصنف من العباد» وصنف من أرباب الأموال. وصنف من المتصوفة . 
فأول ما نبدأ به غرور الكفار. وهم في غرورهم قسمان: منهم من غرته الحياة 


١ها/‎ 


الدنياء ومنهم من غره بالله الغرور. فأما الذين غرتهم الحياة الدنيا فهم الذين 
قالوا : النقد خير من النسيئة. ولذات الدنيا يقين ولذات الآخرة شكء ولا يترك 
اليقين بالشك ؛ وهذا قياس فاسد . وهو قياس إبليس لعنه الله في قوله أنا خير 
منه 20 . فظن أن الخيرية في السبب . 

وعلاج هذا الغرور شيئان: إما بتصديق 7 وهو الإيمان. وإما ببرهان9). 
أما التصديق فهو أن يصدق الله تعالى في قوله: #وما عند الله خير وأبقى » 
[ القتصص: 7٠١‏ ] وقوله تعالى: #وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور » [آل 
عمران: ١86‏ . الحديد : ٠١‏ ] وتصديق الرسول فيا جاء به. وأما البرهان فهو أن 
يعرف وجه فساد قياسه أن قوله: « الدنيا نقد والآخرة نسيئة » مقدمة صحيحة. 
وأما قوله: « النقد خير من النسيئة ٠‏ فهو محل التلبيس . وليس الأمر كذلك. بل 
إن كان النقد مثل النسيئة في المقدار والمقصود فهو خيرء وإن كان أقل منها 
فالنسيئة خير منه؛ ومعلوم أن الآخرة أبدية والدنيا غير أبدية. وأما قوهم: 
«لذات الدنيا يقين ولذات الآخرة شك » فهو أيضاً باطل ؛ بل ذلك يقين عند 
المؤمنين, وليقينه مدركان: أحدهما الإيمان والتصديق على وجه التقليد للأنبياء 
والعلماء كبا يقلد الطبيب الحاذق في الدواء. والمدرك الثاني الوحي للأنبياء 
والإلهام للأولياء. ولا تظن أن معرفة الني يَلِنّهِ لأمور الآخرة ولأمور الدنيا 
تقليد لجبريل عليه السلام » فإن التقليد ليس بمعرفة صحيحة, والني يللم حاشاه 
الله من ذلك. بل قد انكشفت له الأشياء وشاهدها بنور البصيرة كبا شاهد 
المحسوسات بالعين الظاهرة. 


)١(‏ قال تعالى في الآية ١١‏ من سورة الأعراف: «#قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك قال أنا خير 
منه خلقتني من نار وخلقته من طين 6 فكان إبليس أول من قاس قياساً فاسداً . 

(؟) التصديق هو أن تنسب باختيارك الصدق إلى المخبر (انظر التعريفات للجرجاني). 

(؟) البرهان هو القياس المؤلف من اليقينيات؛ سواء كانت ابتداء وهي الضروريات» أو بواسطة 
وهي النظريات . ( انظر المرجع الابق ). 


١4 


فصل 

والمؤمنون بألسنتهم وعقائدهم إذا ضيعوا أوامر الله. وهي الأعبال الصالحة, 
وتدنسوا بالشهوات. فهم مشا ركون الكفار في هذا الغرور . فالحياة الدنيا 
للكافرين والمؤمنين جميعاً غرور . 

فأما غرور الكافرين بالله فمثاله قول بعضهم في أنفسهم بألسنتهم: إنه إن 
كان الله معيدنا فنحن أحق به من غيرنا؛ كبا أخبر الله عنهم في سورة الكهف 
[ الآيتان: هم“ و+5 ] حيث قال: ما أظن أن تبيد هذه أبداً . وما أظن الساعة 
قائمة ولئن رددت إلى رلي لأجدن خيراً منها منقلباً © وسبب هذا الغرور قياس 
من أقيسة إبليس لعنه الله. وذلك أنهم ينظرون مرة إلى نعم الله عليهم في الدنيا 
فيقيسون عليها نعم الآخرة, ومرة ينظرون إلى تأخير عذاب الله عنهم في الدنيا 
فيقيسون عليه عذاب الآخرة. كبا أخبر الله عنهم أنهم يقولون: «لولا يعذبنا 
الله بما نقول» [ المجادلة: 6 ] ومرة ينظرون إلى المؤمنين وهم فقراء فيزدرونهم 
ويقولون: «أهؤلاء من الله عليهم من بيننا » [ الأنعام: +0 ] ويقولون: #لو 
كان خيراً ما سبقونا إليه» [الأحقاف:١١]‏ وترتيب القياس الذي نظم في 
قلوبهم أنهم يقولون: وقد أحسن الله إلينا بنعيم الدنياء وكل محسن فهو محب 
وكل تحب فهو محسن ؛ وليس كذلك. بل يكون محسناً ولا يكون محبّاء بل ربما 
يكون الإحسان سبب هلاكه على التدريج؛ وذلك محض الغرور بالله تعالى, 
ولذلك قال 2ََِهِ : « إن الله يحمي عبده المؤمن من الدنبا كبا يحمي أحدم, 
مريضه من الطعام والشراب وهو يحبه» 7" . وكذلك كان أرباب البصائر إذا- 
أقبلت عليهم الدنيا حزنوا. وإذا أقبل عليهم الفقر فرحوا وقالوا مرحبا بشعائر 
)١(‏ رواء أبو الشيخ في الثواب والحسن بن سفيان وابن عساكر وابن النجار عن حذيفة رضي الله 


عنه. عنه عَيّ بلفظ : « إن الله ليتعاهد عبده المؤمن بالبلاء كبا يتعاهد الوالد ولده بالخيرء وإن 
الله ليحمي عبده المؤمن من الدنيا كبا يحمي المريض أهله الطعام ». 


١4 


الصالحين, وقد قال تعالى : # فأما الانسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول 
ربي أكرمن» [ الفجر: ١6‏ ] وقال تعالى: «أيحسبون أنما نتمدهم به من مال 
وبنينه نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون» [المؤمنون: 68 01 ] وقال 
تعالى : 9 سنستدرجهم من حيث لا يعلمون» [الأعراف: 1845. القام: 44 ] 
«وأملٍ لهم إن كيدي متين» [الأعراف: *18.ء القام: 0 ] وقال تعالى: 
افلا نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بم أوتوا 
أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون© [الأنعام: 4 ] فلم يؤمن بالله من آمن بهذا 
الغرور . ومنشأ هذا الغرور الجهل بالله وبصفاته. فمن عرف الله فلا يأمن من 
مكره. ولا ينظرون إلى فرعون وهامان والتمروذ ماذا حل بهم مع ما أعطاهم الله 
من المال. وقد حذر الله تعالى من مكره فقال تعالى: #فلا يأمن مكر الله إلا 
القوم المناسرون4 [ الأعراف: 494 ] وقال تعالى : « ومكروا ومكر الله والله خير 
الماكرين » [ آل عمران: 04 ] وقال تعالى : « فمهل الكافرين أمهلهم رويداً » 
[ الطارق: ١7‏ ] فمن أولاه الله نعمة فليحذر أن تكون نقمة. 


فصل 

وأما غرور العصاة من المؤمنين فقولهم: «غفور رحمم وإنما نرجو عفوه». 
فاتكلوا على ذلك وأهملوا الأعمال - وذلك من قبل الرجاء مود في الدين - 
وإن رحمة الله واسعة. ونعمته شاملة. وكرمه عم . إنا موحدون مؤمنون, نرجو 
بوسيلة الإيمان, والكرم والإحسان. وربما كان منشأ حاهم التمسك بصلاح الآباء 
والأمهات. وذلك نهاية الغرور, فإن آباءهم مع صلاحهم وورعهم كانوا 
خائفين. ونظم قياسهم الذي سول لهم الشيطان: أن من أحب إنساناً أحب 
أولاده. فإن الله قد أحب آباءكم فهو يحبكم. فلا تحتاجون إلى الطاعة . فاتكلوا 
على ذلك واغتروا بالله. ولم يعلموا أن نوحاً عليه السلام أراد أن يحمل ابنه في 


السفينة. فمنع. وأغرقه الله( بأشد ما أغرق به قوم نوحء وأن النبي 57 
استأذن في زيارة قبر أمه وفي الاستغفار لحاء فأذن له في الزيارة ولم يؤذن له في 
الاستغفار © ونسوا قوله تعالى: #ولا تزر وازرة وزر أخرى# [ فاطر: ]١4‏ 
وقوله تعالى: 9 وأن ليس للإنسان إلا ما سعى » [ النجم: 8 ] فإن من ظن أنه 
ينجو بتقوى أبيهء كمن ظن أنه يشبع بأكل أبيه أو يروى بشرب أبيه. والتقوى 
فرض عين لا يجزي فيها والد عن ولدهء وعند جزاء التقوى يفر المرء من أخيه 
وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه 9© إلا على سبيل الشفاعة. ونسوا قوله مله : 
«الكيس من دان نفسه وعمل ا بعد الموت. والعاجز من أتبع نفسه 
هواها وتمنى على الله الأماني » 29 وقوله تعالى: #9 إن الذين آمنوا والذين 
هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رححة الله والله غفور رحيم 6 
[ البقرة: 5١14‏ ] وقال تعالى : # جزاء بما كانوا يعملون» [ السجدة: ١7‏ ] وهل 
يصح الرجاء إلا إذا تقدمه عمل ؟ فإن لم يتقدمه عمل فهو غرور لا محالة, وإِنما 
ورد الرجاء لتبريد حرارة الخنوف واليأس., ولتلك الفائدة نطق به القرآن 
والترغب في الزيادة لا محالة . 


)١(‏ قال تعالى في مورة هودء الآيتان 47 و40 : #ونادى نوح ابنه وكان في معزل يا بي اركب 
معنا ولا تكن مع الكافرين. قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء قال لا عاصم اليوم من أمر 
الله إلا من رحم وحال بينهها الموج فكان من المغرقين» . 

(؟) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله مَل : «استأذنت ربي أن استغفر لأمي فم يأذن ليء 
واستأذنته أن أزور قبرها فأذن ليه رواه مم في الجنائز حديث رقم ٠١86‏ وه١٠.‏ وأبو داود 
في الجنائز باب /الاء والنسائي في الجنائز باب ٠١١‏ ., وابن ماجه في الجنائز باب 8غ , والاإمام 
أحد في المسند ج ؟ ص .14١‏ 

(؟) قال تعالى : « فإذا جاءت الصاخة يوم يفرّ المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه لكل امريء 
منهم يومئذ شأن يغنيه © - سورة عبسء الآيات 75 - 51 . 

(») من حديث شداد بن أوس رضي الله عنه. رواه الترمذي في صفة القيامة باب 70. وابن ماجه 
في الزهد باب ."١‏ 


ال 


فصل 
ويقرب منهم غرور طوائف لهم طاعات ومعاصء إلا أن معاصيهم أكثرى 
وهم يتوقعون المغفرة ويظنون أن ترجح كفة حسناتهم. وكفة سيئاتهم أكثر . 
وهذا غاية الجهل. فترى الواحد يتصدق بدراهم عديدة من الحلال والحرام» 
ويكونه ما يتناوله من أموال الناس والشبهات أضعافه. فهو كمن وضع في كفة 
الميزان عشرة دراهم ووضع في الكفة الأخرى ألفاً وأراد أن تميل الكفة التي فيها 
العشرة , وذلك غاية الجهل . 
فصل 
ومنهم من يظن أن طاعته أكثر من معاصيه, لأنه لا يحاسب نفسه ولا يتفقد 
معاصيها. وإذا عمل طاعة حفظها واعتد بهاء كالذي يستغفر الله بلسانه ويسبح 
بالليل والنهار مثلاً مائة مرة وألف مرةء ثم يغتاب المسلمين ويتكم بما لا يرضاه 
الله طول النهار. ويلتفت إلى ما ورد من فضل التسبيح ويغفل عما ورد في عقوبة 
الكذابين والغامين والمنافقين؛ وذلك محض الغرور . فحفظ لسانه عن المعاصي آكد 
من تسبيحه , فسبحان من صدنا عن التنبيه . 


قحل 


فصل 
بيان أصناف المغرورين وأقسام كل صنف 


الصنف الأول من المغرورين: العلماء . 

وهم فرق: 

( فرقة منهم ) لما أحكمت العلوم الشرعية والعقلية . تعمقوا فيها . واشتغلوا بها , 
وأهملوا تفقد الجوارح وحفظها عن المعاصي وإلزامها الطاعات,. واغتروا 
بعلمهم . وظنوا أنهم عند الله بمكان, وأنهم قد بلغوا من العام مبلغاً لا يعذب الله 
مثلهم . بل يقبل شفاعتهم في الخلق ولا يطالبهم بذنوبهم وخطاياهم. وهم 
مغرورون. فإنهم لو نظروا بعين البصيرة لعلموا أن العام علمان: عام معاملة؛ وعلم 
مكاشفة وهو العم بالله تعالى وبصفاته؛ فلا بد من علوم المعاملة لتتم الحكمة 
المقصودة. وهي المعاملة بمعرفة الحلال والحرام. ومعرفة أخلاق النفس المذمومة 
والمحمودة. ومثلهم مثل طبيب يطبب غيره وهو عليل قادر على طب نفسه فلم 
يفعل. وهل ينفع الدواء بالوصف؟ هيهات لا ينفع الدواء إلا من شربه بعد 
الحمية؛ وغفلوا عن قوله تعالى: قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها » 
[ الشمس: ؟ . ٠١‏ ] ولم يقل: « من يعام تزكيتها وكتب علمها وعلمها الناس١٠.‏ 
وغفلوا عن قوله َه : ه من ازاداد علاً ولم يزدد هدّى لم يزدد من الله إلا 
بعداً» 7 وقوله عَلِتَهِ : « إن أشد الناس عذاباً يوم القيامة عالم / ينفعه الله 


)١(‏ رواه الديلمي عن على رضي الله عنه. عن رسول الله عَيَْهُ بلفظ : ٠‏ من ازداد علياً ولم يزدد لي 
الدنيا زهداً لم يزدد من الله إلا بعد ». 


ارذدل 


بعلمه » "2 . وغير ذلك كثير . وهؤلاء مغرورون. نعوذ بالله مسن حاهم. وإئما 
غلب عليهم حب الدنيا وحب أنفسهم وطلب الراحة العاجلة, وظنوا أن علمهم 
ينجيهم في الآخرة من غير عمل . 

( وفرقة أخرى) أحكمءا العام والعمل الظاهر ‏ وتركوا المعاصي الظاهرة» 
وغفلوا عن قلوبهم. فلم يمحوا منها الصفات المذمومة عند الله كالكبر والرياء 
والحسد وطلب الرياسة والعلو وإرادة السوء بالأقران والشركاء وطلب الشهرة في 
البلاد والعباد.ء وذلك غرور سببه غفلتهم عن قوله عَِتّهِ : «الرياء الشرك 
الأصغر» © وقوله ملت : «الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار 
الحطب» '" وقوله عله : « حب المال والشرف ينبتان النفاق في القلب كبا 
ينبت الماء البقل». إلى غير ذلك من الأخبار. وغفلوا عن قوله تعالى: « إلا 
من أتى الله بقلب سليم » [ الشعراء: 84 ] فخفلوا عن قلوبهم واشتغلوا 
بظواهرهم؛ ومن لا يَصْفَى 0 قلبه لا تصح طاعاته. وهو كمريض ظهر به 
الجرب فأمره الطبيب بالطّلاء ) وشرب الدواء. فاشتغل بالطلاء وترك شرب 
الدواء . فأزال ما بظاهره ولم يزل ما بباطنه. وأصل ما على ظاهره مما في باطنهء 


)١(‏ أخرجه سعيد بن منصور والطبرافي وابن عدي والبيهقي بلفظ: «أشد الناس عذاباً يوم القيامة 
عالم لم ينفعه علمه». وأخرج الدارمي في المقدمة باب 707 من حديث أي الدرداء موقوفاً عليه 
قال: ه إن من أشر الناس عند الله منزلة يوم القيامة عالم لا ينتفع بعلمه». 

(؟) روى الإمام أحمد في المسند ج ه ص 458.458 عن جمود بن لبيد أن رسول َه قال: 
« إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر » قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: 
والرياء ». 

(؟) رواء أبو داود في كتاب الأدب باب 44 عن ألي هريرة؛ وابن ماجه لي كتاب الزهد باب ؟؟ 
عن أنس. 

(1) يصغى: يميل؛ قال تعالى في سورة الأنعام الآية :1١*‏ #ولتصفى إليه أفثدة الذين لا يؤمنون 
بالآخرة» وقال في سورة التحري الآية ؛ : « إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما » . 

(6) الطّلاء : ما يطل به الجرب من القطران. 


ل 


فلا يزال جربه يزداد أبداً ما في باطنه. فلو زال ما في باطنه استراح الظاهر ؛ 
فكذلك الخبائث إذا كانت كامنة في القلب يظهر أثرها على الجوارح. 

( وفرقة أخرى ) علموا هذه الأخلاق الباطنة وعلموا أنها مذمومة من جهة 
الشرع , إلا أنهم لأجل تعجبهم بأنفسهم يظنون أنهم منفكون عنهاء وأنهم أرفع 
عند الله من أن يبتليهم بذلك. وإنما يبتلى به العوام دون من بلغ مبلغهم في العلمء 
فأما هم فهم أبلغ عند الله من أن يبتليهم بذلك, وظهرت عليهم مخايل الكبر 
والرياسة » وطلب العلو والشرف. وغرورهم أنهم ظنوا أن ذلك ليس بكبر وإنما 
هو عز للدين وإظهار لشرف العام ونصرة دين الله وغفلوا عن فرح إبليس به. 
وعن نصرة النبي عله بماذا كانت وبماذا أرغم الكافرين, وغفلوا عن تواضع 
الصحابة وتذللهم وفقرهم ومسكنتهم. حتى عوتب عمر رضي الله عنه على 
بذاذته 27 عند قدومه الشام فقال: إنا قوم أعزنا الله بالإسلام لا نطلب العز في 
غيره. 

ثم هذا المغرور يطلب عز الدين بالثياب الرفيعة. ويزعم أنه يطلب عز العام 
وشرف الدين, ومههما أطلق اللسان بالحسد في أقرانه أو فيمن رد عليه شيئاً من 
كلامه لم يظن بنفسه أن ذلك حسد ويقول: إنما هو غضب للحق. ورد على 
المبطل في عداوته وظلمه, وهذا مغرور. فإنه لو طعن على غيره من العلماء من 
أقرانه ربما لم يغضب بل ربما يفرح, وإن أظهر الغضب عند الناس فقلبه رما 
يحبه . وربما يظهر العام ويقول: غرضي به أفيد الخلق ؛ وهو به مُراعء لأنه لو كان 
غرضه صلاح الخلق لاحب صلاحهم على يد غيره ممن هو مثله او فوقه او دونه. 

وربما يدخل على السلاطين ويتودد إليهم ويثني عليهم. فإذا سكل عن ذلك 
قال: إنما غرضي أن أنفع المسلمين وأدفع عنهم الضرر ؛ وهو مغرور. فلو كان 


)١(‏ بذ بذذاً وبذاذة: ساءت حاله ورنّت هيثته. 


مك1 


غرضه ذلك لفرح به إذا جرى على يد غيره, ولو رأى من هو مثله عند 
السلطان يشفع في أحد لغضب . 

وربما أخذ من أموالهم. فإذا خطر بباله أنه حرام قال له الشيطان: هذا مال 
بلا مالك. وهو لمضالح المسلمين. وأنت إمام المسلمين وعالمهم. وبك قوام 
الدين . وهذه ثلاث تلبيسات 7" : أحدها أنه مال لا مالك لهء والثاني أنه لمصالح 
المسلمين . والثالث أنه إمام ؛ وهل يكون إماماً إلا من أعرض عن الدنيا كالأنبياء 
والصحابة وأفاضل علماء هذه الأمة؟ ومثله كما قال عيسبى عليه السلام: العالم 
السوء كصخرة وقعت في فم الوادي» فلا هي تشرب الاء , ولا هي تترك الماء 
يخلص إلى الزرع. 

وأصناف غرور أهل العام كثيرة وما يفسد هؤلاء أكثر مما يصلحونه. 

( وفرقة أخرى) أحكموا العلوم. وطهروا الجوارح. وبينوها بالطاعات, 
واجتنبوا ظاهر المعاصي. وتفقدوا أخلاق النفس وصغات القلب من الرياء 
والحسد والكبر والحقد وطلب العلوء وجاهدوا أنفسهم في التبري منهاء وقلعوا 
من القلب منابتها الجلية القوية؛ ولكنهم مغرورون, إذ في زواياالقلب بقايا من 
خفايا مكايد الشيطان, وخبايا خدع النفس ما دق وغمض. فم يتفطنوا لها 
وأهملوها. ومثلهم كمثل من يريد تنقية الزرع من الحشيش. فدار عليه وفتشل 
عن كل حشيش فقلعه, إلا أنه لم يفتش عبا لم يخرج رأسه بعد من تحت الأرض 
ويظن أن الكل قد ظهر وبرزء فلا غفل عنها ظهرت وأفسدت عليه الزرع؛ 
فهؤلاء إن غيروا تغيروا(2. وربما تركوا مخالطة الخلق استكباراً عنهم. وربما 


)١(‏ يقال: لَبَسَّ عليه الأمر ولبَّنّه ( بتخفيف الباء وتشديدها مع الفتح): خلطه عليه حتى لا يعرف 
حقيقته . ومنه التلبيس ‏ أي التخليط . 

(؟) يعني أن هؤلاء قابلون للتغير بسهولة عند سنوح أي فرصة لذلك. قهم ليوا متحصنين بما 
فيه الكفاية أمام الإغراءات. 


1١65 


نظروا إلى الخلق بعين الحقارة, وربما يجتهد بعضهم في تحسين منظره كيلا ينظر 
إليه بعين الركاكة (" . 

( وفرقة أخرى) تركوا المهم من العلوم. واقتصروا على علم الفتاوى في 
الحكومات والخنصومات. وتفاصيل المعاملات الدنيوية الجارية بين الخلق لمصالح 
المعايش. وخصصوا اسم الفقيه. وسموه الفقه وعلمالمذهب . وربما ضيعوا مع 
ذلك عم الاعبال الظاهرة والباطنة , ولم يفتقدوا الجوارح, ولم يحرسوا اللسان عن 
الغيبة» والبطن عن الحرام. والرجل عن السعي إلى السلاطين. وكذا سائر 
الجوارح. ولم يحرسوا قلوبهم عن الكبر والرياء والحسد وسائر المهلكات. 

وهؤلاء مغرورون من وجهين: 

أحدهر| : من حيث العمل ؛ وقد ذكرنا وجه علاجه في كتاب الاحياء » وأن 
مثلهم كمثل المريض الذي تعلم الداء من الحكياء ولم يعلمه أو يعمله. فهؤلاء 
مشرفون على الهلاك من حيث إنهم تركوا نزكية أنفسهم وتخليها. واشتغلوا 
بكتاب الحيض والديات واللعان والظهار.ء وضيعوا أعيار هم فيها. وإثما غرهم 
تعظم الخلق لهم وإكرامهم. ورجوع أحدهم قاضياً ومفتياً؛ ويطعن كل واحد 
منهم في صاحبه. فإذا اجتمعوا زال الطعن . 

والثاني : من حيث العام؛ وذلك لظنهم أنه لا عام إلا بذلك وأنه الموصل 
المنجى . وإنما الموصل المنجى حب الله تعالى؛ ولا يتصور حب الله تعالى إلا 
رن ومعرفته ثلاث: 000 الذات. ومعرفة الصفات, ومعرفة الأفعال. 
وهؤلاء مثل من اقتصر على بيع الزاد في طريق الحاج ولم يعلموا أن الفقه هو 
الفقه عن الله. ومعرفة صفاته المخوفة والمزجرة, ليستشعر القلب الخوف. ويلازم 
التقوى. كبا قال تعالى : 8 فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين 
ولينذروا قومهم إذا رجعوا لعلهم يحذرون# [ التوبة: ١7‏ ]. 


(9) الركاكة : الرقة والضعف. 


1١ /ا6‎ 


ومن هؤلاء من اقتصر من ع الفقه على الخلافيات, ولم همه إلا تعلم طريق 
المجادلة والإلزام وإفحام الخصم ودفع الحق لأجل الغلية والمباهاة. فهو طول 
الليل والنهار في التفتيش في مناقضات أرباب المذاهب ء والتفقد لعيوب الأقران» 
وهؤلاء لم يقصدوا العام وإغما قصدوا مباهاة الأقران, ولو اشتغلوا بتصفية قلوبهم 
كان خيراً لهم من عام لا ينفع إلا في الدنيا والتكبرء وذلك ينقلب في الآخرة ناراً 
تلظى . 

وأما أدلة المذهب فيشتمل عليها كتاب الله وسنة رسوله يقفا أقبح غرور 
هؤلاء ! 

( وفرقة أخرى) اشتغلوا بعم الكلام والمجادلة, والرد على المخالفين وتتبع 
مناقضاتهم. واستكثروا من عم المقولات المختلفة. واشتغلوا بتعلم الطريق في 
مناظرة أولئك وإفحامهم(2. ولكنهم على فرقتين: إحداهها ضالة مضلة 
والأخرى محقة. أما غرور الفرقة الضالة فلغفلتها على ضلالتها وظنها بنفسها 
النجاة. وهم فرق كثيرة يكفر بعضهم بعضاً؛ وإنما ضلوا من حيث إنهم لم 
يحكموا لشروط الأدلة ومنهاجهاء فرأوا الشبهة دليلاً والدليل شبهة. وأما غرور 
الفرقة المحقة فمن حيث إنهم ظنوا الجدل أنه أهم الأمور وأفضل القريات في 
دين الله وزعموا أنه لا يتم لأحد دينه ما لم يبحث» وأن من صدق الله من غير 
بحث وتحرير لدليل فليس بمؤمن ولا بكامل ولا بمقرب عند الله تعالى. ولم 


)١(‏ مثل هذه الفرقة التي ذكرها الغزالي كالسفسطائيين الذين ظهروا في اليونان؛ وكان جل اهتامهم 
تعلم الخطابة والمجادلة بالأجرء لأجل إفحام الخصم كائناً ما كان رأيه. وكان هدفهم الرئيسي 
الإفحام وإظهار رأيهم؛ بغض النظر عن صحة رأبهم أو خطئه. فهم قد يدافعرن عن وجهة 
نظر في مجلس ماء ثم يدافعرن عن نقيض وجهة النظر هذه في مجلس آخر. وقد ظهر أمر 
السفطائيين في أثينا في فترة انتعاش الديموقراطية؛ وسيطرت آراؤهم عل أفكار الشبيبة في 
ذلك العصر, مما دفع بسقراط إلى انتقاد آرائهم وتهفيت مذهبهم؛ وكذلك فعل أفلاطون 
وأرسطو من بعده. 


ككل 


يلتفتوا إلى القرن الأول. وأن النبي عَلِتَهِ شهد هم بأنهم خير الخلق ولم يطلب 
منهم الدليل . وروى أبو أمامة الباهلى رضي الله عنه عن النبي عََِهِ أنه قال: ما 
ضل قوم قط إلا أوتوا الجدل»(. 


( وفرقة أخرى ) اشتغلوا بالوعظ. وإعلاء رتبة من يتكلم في أخلاق النفس 
وصفات القلب, من الخوف والرجاء والصبر والشكر والتوكل والزهد واليقين 
واللاخلاص والصدق. وهم مغرورون لأنهم يظنون أنهم إذا تكلموا بهذه 
الصفات ودعوا الخلق إليها فقد اتصفوا بهاء وهم منفكون عنها إلا من قدر 
يسير لا ينفك عنه عوام المسلمين. وغرور هؤلاء أشد الغرور, لأنهم يعجبون 
بأنفسهم غاية الإعجاب. ويظنون أنهم ما تبحروا في عم المحبة إلا وهم من 
الناجين عند الله. وأنهم مغفور لهم بحفظهم لكلام الزهاد مع خلوهم من العمل . 

وهؤلاء أشد غروراً من كان قبلهم , لأمهم يظنون أنهم يحببون في الله ورسوله. 
وما قدروا على تحقيق دقائى اللإخلاص إلا وهم مخلصون. ولا وقفوا على خفايا 
عيوب النفس إلا وهم عنها منزهون. وكذلك جميع الصفات, وهم أحب في 
الدنيا من كل أحد . ويظهرون الزهد في الدنيا لشدة حرصهم عليها وقوة رغبتهم 
فيهاء ويحثون على الإخلاص وهم غير مخلصين., ويظهرون الدعاء إلى الله وهم 
منه فارون. ويخوفون بالله وهم منه امنون. ويذ كرون بالله وهم ناسون. 
ويقربون إلى الله وهم منه متباعدون., ويذمون الصفات المذمومة وهم بها 
متصفون, ويصرفون الناس عن الخلق وهم على الخلق أشدهم حرصاً, لو منعوا 
عن مجالسهم التي يدعون فيها الناس إلى الله لضاقت عليهم الارض بما رحبت. 
ويزعمون أن غرضهم إصلاح الخلق, ولو ظهر من أقران أحدهم من أقبل الخلق 


)١(‏ رواءه أحمد (المسند جَ ه ص 2507 )١01‏ والترمذي في تفسير سورة الزخرف. وصححه. 
وابن ماجه في المقدمة باب 7. ولفظ الحديث عندهم: وما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا 
أوتوا الجدل». 


١6 


عليه ومن صلحوا على يديه كات غمًا وحسداً, ولو أثنى واحد من المترددين 
إليه على بعض أقرانه لكان أبغض خلق الله إليه. فهؤلاء أعظم غروراً , وأبعد عن 
التنبيه والرجوع إلى السداد . 

( وفرقة أخرى ) عدلوا عن المهم الواجب في الوعظ وهم وعاظ أهل هذا 
الزمان كافة, إلا من عصمه الله. فاشتغلوا بالطاعات والشطح () وتلفيق كلمات 
خارجة عن قانون الشرع والعدل طلبا للؤإغراق. وطائفة اشتغلوا بتيارات 
الكت 27 وتسجيع الألفاظ وتلفيقهاء وأكثر همهم في الأسجاع والاستشهاد 
بأشعار الوصال والفراق. وغرضهم أن يكثر في بمجلسهم التواجد والزعقات 7 ولو 
على أغراض فاسدة. فهؤلاء شياطين الإنس ضلو وأضلواء فإن الأولين إن لم 
يصلحوا أنفسهم فقد أصلحوا غيرهم وصححوا كلامهم ووعظهم؛ وأما هؤلاء 
فإنهم يصدون عن سبيل الله ويجرون .الخلق إلى الأغراض والغرور بالله بلفظ 
الخرافة. جراءة على المعاصي ورغبة في الدنياء لاسا إذا كان الواعظ متزيناً 
بالثياب والخيلاء والمرائي , ويعظهم بالقنوط من رحة الله حتى ييأسوا من رحمته 

( وفرقة أخرى منهم ) قنعوا بكلام الزهاد وأحاديثهم في ذم الدنياء 
فيعيدونها على نحو ما يحفظون من كلام من حفظوه من غير إحاطة بمعانيه. 
فيعظهم الواحد منهم بذلك على المنابر» وبعضهم يعظون الناس في الأسواق مع 
الجلساء . ويظن أنه ناج عند الله وأنه مغفور له بحفظه كلام الزهاد مع خلوه من 
العمل . وهؤلاء أشد غروراً ممن كان قبلهم. 


30( الشطح : عبارة عن كلمة عليها رائحة رعونة ودعوى. وهو من زلات المحققين, فإنه دعوى 
بحق يفصح بها العارف من غير إذن إلمي بطريق يشعر بالنباهة. ( انظر كتاب التعريفات 
للجرجاني ص ١١7‏ ). 

(؟) النكت : جع نكتة, وهي الفكرة اللطيفة المؤثرة في النفسء والمسألة العلمية الدقيقة يتوصل إليها 
بدقة وإنعام فكر. 
(؟) الزعقات: جمع زغقة ( بتسكين العين) وهو مصدر المرة من زعَق .أي صاح. 


( وفرقة أخرى ) استغرقوا أوقاتهم في علم الحديث. أعني في سماعه. وجمع 
الروايات الكثيرة منهء وطلب الأسانيد الغريبة العالية. فَهَمٌ أحدهم أن يدور في 
البلاد ويروي عن الشيوخ ليقول: أنا أروي عن فلان, ولقيت فلاناً » ومعي من 
الأسانيد ما ليس مع غيري . 


وغرورهم من وجوه: منها أنهم كحملة الأسفار فإنهم لا يصرفون العناية 
إلى فهم السنة وتدبر معانيها, وإنما هم مقتصرون على النقل. ويظنون أن ذلك 
يكفيهم؛ وهيهات! بل المقصود من الحديث فهمه وتدبر معانيه. فالأول في 
الحديث السماع ثم الحفظ ثم الفهم ثم العمل ثم النشر ‏ وهؤلاء اقتصروا على السماع ثم 
لم يحكموه. وإن كان لا فائدة في الاقتصار عليه والحديث في هذا الزمان يقرأه 
الصبيان. وهم غرة غافلون, والشيخ الذي يقرأ عليه ربما يكون غافلاً حتى 
يصحف الحديث ولا يعام. وربما ينام ويروى عنه الحديث وهو لا يعام. وكل 
ذلك غرورء وإنما الأصل في استاع الحديث أن يسمعه من رسول الله يله . 
فحفظة كا ممغة واتؤديه كا حفظة فتكوتن الرواية عن الفظ والحفظ عن 
السماع . فإن عجز عن سماعه من رسول الله يِه سمعه من الصحابة أو من التابعين, 
فيصير سماعه منهم كسماعه من رسول الله عَلِنم . وهو أن يصغي ويحفظ ويرويه 
كما حفظه حتى لا يشك في حرف واحد منه. وإن شك فيه لم يجز له ان يرويه. 


أو يعام به ويخطيء به إن أخطأ 


وحفظ الحديث يكون بطريقين: أحدهما بالقلب مع الاستدامة والذكر. 
والثاني يكتب ما يسمع ويصحح المكتوب ويحفظه كيلا تصل إليه يد من يغيره. 
ويكون حفظه للكتاب أن يكون في خزانته محروساً حتى لا تمتد إليه يد غيره 


)١(‏ يشير إلى قوله تعالى في سورة الجمعة الآية © : ف[ مثل الذين حملوا التوراةثم لم يحملوها كمثئل 
الحمار يحمل أسفاراً © . 


١ا/ا‎ 


أصلاً. ولا يجوز أن يكتب سماع الصبي والغافل والنائم. ولو جاز ذلك لجاز أن 
يكتب سماع الصبي في المهد . 

وللسماع شروط كثيرة, والمقصود من الحديث العمل به ومعرفته., وله 
مفهومات كثيرة كبا للقرآن. وروي عن أني سفيان بن أبي الخير المنهى أنه حضر 
في مجلس زاهر بن أحمد السرخسي. فكان أول حديث روي قوله يَلِلهُ : ٠‏ من 
حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه» 20 , فقام وقال: يكفيني هذا حتى أفرغ 
منه ثم أسمع غيره. فهكذا هو سماع الناس. 

( وفرقة أخرى) اشتغلوا بعام النحو واللغة والشعر وغريب اللغة» واغتروا 
به وزعموا أنهم قد غفر لهم وأنهم من علماء الأمة. إذ قوام الدين والسنة بعلم 
النحو واللغة, فأفنوا أعارهم في دقائق النحو واللغة. وذلك غرور عظم. فلو 
عقلوا لعلموا أن لغة العرب كلغة الترك. والمضيع عمره في لغة العرب كالمضيع 
عمره في لغة الترك والهند وغيرهم, وإنما فارقهم من أجل ورود الشرع. وكفى 
من اللغة عام الغريب في الكتاب والسنة. ومن النحو ما يتعلق بالكتاب والسنة» 
وأما التعمق فيه إلى درجة لا تتناهى فهو فضول مستغنى عنه وصاحبه مغرور . 
الصنف الثاني من المغرورين: أصحاب العبادات والأعمال: 

والمغرورون منهم فرق كثيرة : 

منهم من غروره في الصلاة. 

ومنهم من غروره في تلاوة القرآن. 

ومنهم من غروره في الحج . 

ومنهم من غروره في الجهاد . 

ومنهم من غروره في الزهد . 
)١(‏ رواه من حديث الحسين بن علي بن ألي طالب. الإمام مالك في الموطأ باب حسن الخلق: 8 

والإمام أححمد في المسند ج ١‏ ص 7١١‏ . ورواه من حديث ألي هريرة, الترمذي في الزهد باب 

١ء‏ وابن ماجه في الفتن باب ١١‏ . 


1١و‎ 


( ومنهم فرقة) أهملوا الفرائض واشتغلوا بالنوافل» وربما تعمقوا فيها حتى 
يخرجوا إلى السرف والعدوان, كالذي تغلب عليه الوسوسة في الوضوء ء فيبالغ 
ولا يرتضي الماء المحكوم بطهارته في الشرع . ويقدر الاحتالات البعيدة قريبة في 
النجاسة؛ وإذا آل الأمر إلى أكل الحرامء قدر الاحتالات القريبة بعيدة, وربما 
أكل الحرام المحض. ولو انقلب هذا الاحتياط من الماء إلى الطعام لكان أولى» 
بدليل سير الصحابة رضي الله عنهم. فقد توضأ عمر رضي الله عنه بماء في جرة 
نصرانية مع احتال ظهور النجاسة. وكان مع هذا يدع أبواباً من الحلال خوفاً 
من الوقوع في الحرام. 

( وفرقة أخرى) غلبت عليهم الوسوسة في نية الصلاة؛ فلا يدعه الشيطان 
يعقدنية صحيحة . بل يوسوس عليه حتى تفوته الجماعة. وربما اخرج الصلاة عن 
الوقت؛ وإن أتم تكبيرة الإحرام يكون في قلبه تردد في صحة نيته. وقد 
يتوسوس في التكبير حتى يغير صفة التكبير لشدة الاحتياط ويفوته الاستمّاع 
للفاتحة. ويفعل ذلك في أول الصلاة ثم يغفل في جميعها. ولا يحضر قلبه ويغتر 
بذلك. ولم يعام ان حضور القلب في الصلاة هو الواجب , وإنما غره إبليس وزين 
له ذلك وقال له: ذلك الاحتياط تتميز به عن العوام وأنت على خير عند ربك . 

( وفرقة أخرى ) غلبت عليهم الوسوسة في إخراج حروف الفاتحة من مخارجها 
وكذلك سائر الأذكار ء فلا يزال يحتاط في التشديدات والفرق بين الضاد والظاء , لا 
بهمه غير ذلك , ولا يتفكر في أسرار فاتحة الكتاب ولا في معانيها ؛ وم يعم أنه 
لم يكلف الخلق في تلاوة القران من تحقيق مخارج الحروف إلا بما جرت به عادتهم 
في الكلام ؛ وهذا غرور عظمم. ومثلهم من حمل الرسالة إلى مجلس السلطان وأمر 
أن يؤديها على وجههاء. فأخذ يؤدي الرسالة ويتأنق في مخارج الحروف ويعيدها 
مرة بعد اخرى. وهو مع ذلك غافل عن مقصود الرسالة ومراعاة حرمة 
المجلس ؛ فهذا لا شك أنه تقام عليه السياسة. ويرد إلى دار المجانين. ويحكم 
عليه بفقد العقل . 


( وفرقة أخرى ) اغتروا بتلاوة القرآنء فيهدروا به هدراً , ربما يختمون في 
اليوم والليلة ختمة. وألسنتهم تجري به وقلوبهم تتردد في أودية الأماني والتفكر 
في الدنياء ولا تتفكر في معاني القران لينزجر بزواجرهء ويتعظ بمواعظه, ويقف 
عند أوامره ونواهيه. ويعتير بمواضع الاعتبار منه. ويتلذذ به من حيث المعنى لا 
من حيث النظم. فمن قرأ كتاب الله في اليوم والليلة مائة مرة ثم ترك أوامره 
ونواهيه. يستحق العقوبة. وربما كان له صوت طيبء فهو يقرأ ويتلذذ به ويغتر 
باستلذاذه. ويظن أن ذلك لذة مناجاة الله سبحانه وسماع كلامه. وهيهات ما 
أبعده! إذ لذته في صوته, فلو أدرك لذة كلام الله ما نظر إلى صوته وطيبه, 
ولا تعلق خاطره به؛ ولذة كلام الله إنما هي من حيث المعنى؛ فهو في غرور 
عظع . 

( وفرقة أخرى) اغتروا بالصوم, وربما صاموا الدهر وصاموا الأيام 
الشريفة. وهم في ذلك لا يحفظون ألسنتهم عن الغيبة. ولا خواطرهم عن الرياء . 
ولا بطونهم عن الحرام عند الإفطار. ولا من الحذيان بأنواع الفضول. فهؤلاء 
تركوا الواجب . واتبعوا المندوب, وظنوا أنهم يسلمون. وهيهات! إنما يسلم من 
أنى الله بقلب سليم؛ فهم مغرورون أشد الغرور . 

( وفرقة أخرى) اغتروا بالحج من غير خروج عن المظالم وقضاء الديون 
واسترضاء الوالدين وطلب الزاد الحلال, وربما ضيعوا الصلاة المكتوبة في 
الطريق, وربما عجزوا عن طهارة الثوب والبدن. ويتعرضون لمكس الظلمة حتى 
يؤخذ منه. ولا يحترزون في الطريق من الرفث والخصام. وربما جمع بعضهم 
الحرام فأنفقه على الرفقاء في الطريق وهو يطلب به الرياء والسمعة. فيعصي الله 
في كسب الحرام أولاً. وفي إنفاقه للرياء ثانياً. ثم يبلغ إلى الكعبة ويحضرها بقلب 
ملوث برذائل الأخلاق وذمم الصفات, وهو مع ذلك يظن أنه على خير من 


ربه. وهو مغرور. 


17: 


( وفرقة أخرى) أخذت في طريق الخشية والأمر بالمعروف والنهي عن 
المنكر. وينكر أحدهم على الناس ويأمرهم بالخير وينسى نفسهء وإذا أمرهم 
بالخير عنف وطلب الرياسة والعزة» وإذا باشر منكراً وأنكره عليه أحد غضب 
وقال: أنا المحتسب فكيف تنكر علىَ! وقد يجمع الناس في المسجد . ومن تأخر 
عنه أغلظ عليه في القول. وربما عرض له الرياء والسمعة والرياسة. وعلامته أنه لو 
قام بالمسجد غيره تجرأ عليه . ومنهم من يؤذن ويظن أنه يؤذن لله؛ ولو جاء غيره 
وأذن في وقت غيبته قامت عليه القيامة وقال: لم آخذ حقي وزو حمت. ومنهم من 
يتقيد إمام مسجد يظن أنه خيرء وغرضه أن يقال إنه إمام مسجد كذا وكذا؛ 
وعلامته أنه لو قدم غيره وإن كان أورع منه وأعام ثقل عليه ذلك . 

( وفرقة أخرى) جاوروا بمكة والمدينة واغتروا بهياء ولم يراقبوا قلوبهم ولم 
يطهروا ظواهرهم وبواطنهم. وربما كانت قلوبهم متعلقة ببلادهم ومنازهم. 
وتراهم يتحدثون بذلك ويقولون(2 جاورت بمكة كذا وكذا سنة. وهذا 
مغرورء لأنالأقوم له أن يكون في بلده وقلبه متعلق بمكة . وإن جاور فليحفظ 
حق الجوار؛ فإن جاور بمكة حفظ حق الله. وإن جاور بالمدينة حفظ حق النبي 
عَلِنهِ . ومن يقدر على ذلك. وهؤلاء مغرورون بالظواهرء فظنوا أن الحيطان 
تنجيهم, وهيهات! وربما لم تسمح نفسه بلقمة يتصدق بها على فقير. وما أصعب 
المجاورة في حق الخلق. فكيف مجاورة الخالق! وما أحسن بجاورته بحفظ جوارحه 
وقلبه. 

( وفرقة أخرى ) زهدت في المال. وقنعت من الطعام واللباس بالدون» 
ومن المسكن بالمساجد. وظنوا أنهم أدركوا رتبة الزهاد. وهم مع ذلك راغبون 
في الرياسة والجاه. والرياسة إنما تحصل بأحد أشياء : إما بالعامء أو بالوعظ, أو 
بمجرد الزهد ؛ فقد تركوا أهون الأمرين وبادروا إلى أعظم المهلكات ؛ لأن الجاه 


)١(‏ أي يقول كل منهم. 


ىا 


أعظم من المال. ولو ترك أحدهم الجاه وأخذ المال كان إلى السلامة أقرب . 

وهؤلاء مغرورون» ظنوا أنهم من الزهاد في الدنيا وهم لم يعلموا معنى الدنياء 
وربما يقدم الأغنياء على الفقراء . ومنهم من من يعجب بعلمه. ومنهم من يؤثر 
الخلوة والعزلة وهو عن شروطها خال, ومنهم من يعطى له المال فلا يأخذه خيفة 
أن يقال بطل زهده. وهو راغب في المال والناس. خائف من ذمهم. ومنهم من 
شدد على نفسه في أعبال الجوارح حتى يصلى في اليوم والليلة مثلاً ألف ركعة ويختم 
القرآن. وهو في جميع ذلك لا تخطر له مراعاة القلب وتفقده من الرياء والكبر 
والعجب وسائر المهلكات. وربما يظن أن العبادات الظاهرة ترجح بها كفة 
الحسنات. وهيهات! ذرة من ذي تقوى., وخلق واحد من خلق الأكياس. 
أفضل من أمثال الجبال عملاً بالجوارح. ثم قد يغتر بقول من يقول له: إنك من 
أوتاد الأرض.ء أو من أولياء الله وأحبابه؛ فيفرح بذلك ويظهر له تزكية نفسه. 
ولو شوم يوماً واحداً مرتين أو ثلاثاً لكفر وجاهد من فعل ذلك به وربما قال 
لمن سمه : لا يغفر الله لك أبدا . 

( وفرقة أخرى ) حرصت عل النوافل ولم يعظم اعتدادها بالفرائض ؛ فترى 
أحدهم يفرح بصلاة الضحى وصلاة الليل وأمثال هذه النوافل, ولا يجد لصلاة 
الفرض لذة ولا خيراً من الله تعالى» لشدة حرصه على المبادرة بها في أول 
الوقت . وينسى قوله يِه : « ما تقرب المتقربون بأفضل من أداء ما افترضه 
الله عليهم » 0 . 

وترك الترتيب بين الخيرات من جملة الشرورء بل قد يتعين على الإنسان 
فرضان: أحده| يفوت والآخرلا يفوت. أو نفلان: أحدههم| يضيق وقته والآخر 
)١(‏ اللفظ في الحديث القدسي الذي رواه البخاري في صحيحه ( كتاب الرقاق. باب 58) عن أني 


هريرة عن رسول الله عله عن ربه عز وجل قال: ومن عادى لي وليّا فقد آذنته بال حرب, وما 
تقرب إل عبدي بشيء أحبّ إلى مما افترضت عليه ٠...‏ الحديث. 


١و‎ 


يتسع وقته, فإن لم يحفظ الترتيب كان مغروراً ونظائر ذلك أكثر من أن تحصى . 
فإن المعصية ظاهرة, وإثما الغامض تقديم بعض الطاعات على بعض كتقديم 
الفرائض كلها على النوافل. وتقديم فروض الأعيان على فروض الكفايات التي لا 
قائم بها على ما قام بها غيره. وتقديم الأهم من فروض الأعيان على ما دونهء 
وتقديم ما يفوت مثل تقديم حق الوالدة على الوالد. وتقديم نفقة الأبوين على 
الحج. وتقديم الجمعة إذا حضر وقتها على العيد . وتقديم الدين على فروض غيره. 
وما أعظم العبد أن ينفذ ذلك ويتنبه. ولكن الغرور في الترتيب دقيق خفي لا 
يقدر عليه إلا العلياء الراسخون في العام. 


الصنف الثالث من المغرورين : أرباب الأموال . 

وهم فرق كثيرة: 

( فرقة منهم) يحرصون على بناء المساجد والمدارس والرباطات والقناطر 
والصهاريج للماء وما يظهر للناس. ويكتيون أسماءهم بالآجر عليه ليتخلد ذكرهم 
ويبقى بعد الموت أثرهم, وهم يظنون أنهن استحقوا المغفرة بذلك ؛ وقد اغتروا 
فيه من وجهين: 


أحده|: أنهم اكتسبوها من الظام والشبهات والرشا والجاهات المحظورة؛ 
فهؤلاء قد تعرضوا لسخط الله في كسبهاء فإذا عصوا الله في كسبها فالواجب 
عليهم التوبة ورد الأموال إلى أهلها إن كانوا أحياء . وإلى ورثتهم إن لم يبق منهم 
أحد وانقرضوا. فإن لم يبق لهم ورثة فالواجب عليهم أن يصرفوها في أهم 
المصالح. وربما يكون الأهم التفرقة على المساكين؛ فأي فائدة في بنيان يستغني 
عنه ويموت ويتركه؟ وإنما غلب على هؤلاء الرياء والشهرة ولذة الذكر. 

والوجه الثاني: أ:هم يظنون بأنفسهم الإخلاص وقصد الخير في الإنفاق وعلو 
الأبنية» ولو كلف واحد منهم أن ينفق ديناراً على مسكين لم تسمح نفسه بذلك . 


ا١ا/ا/‎ 


لأن حب المدح والثناء مستكن 7(" في باطنه. 


( وفرقة أخرى ) ربما اكتسبوا المال الحلال» واجتنبوا الحرام , وأنفقوه عل 
المساجد. وهم أيضاً مغرورون من وجهين: 

أحده): الرياء وطلب السمعة والثناء ؛ فإنه رما يكون في جواره أو بلده 
فقراء وصرف الال إليهم أهم. فإن المساجد كثيرة والغرض منها الجامع وحده 
فيجزىء عن غيره. وليس الغرض بناء مسجد في كل سكة وفي كل درب؛ 
والمساكين والفقراء محتاجون. وإنما خف عليهم دفع المال في بناء المساجد لظهور 
ذلك بين الناس . ولما يسمع في الثناء عليه من عند الخلق , فيظن أنه يعمل لله وهو 
يعمل لغير الله ( ونيته أعام بذلك, وإنما نيته عليه غضب . وقال إنما قصدت الله 
عز وجل)"(". 

والثاني: أنه يصرف في زخرفة المساجد وتزيينها بالنقوش المنهي عنها الشاغلة 
قلوب المصلين, لأنهم ينظرون إليها فتشغلهم عن الخضوع في الصلاة عن حضور 
القلب وهو المقصود من الصلاة؛ فكل ما طرأ في صلاتهم وفي غير صلاتهم فهو 
في ميزان الذي بناه. إذ لا يحل تزيين المسجد بوجه؛ قال الحسين رضى الله عنه: 
ا أراد رسول الله يلتم أن يبني مسجده بالمدينة أتاه جبريل وقال: ابنه سبعة 
أذرع طولاً في السماء فلا تزخرفه, ولا تنقشه. فهؤلاء رأوا المنكر معروفاً 
واتكلوا عليه فهم مغرورون في ذلك . 

( وفرقة أخرى ) ينفقون الأموال في الصدقات على الفقراء والمساكين 
ويطلبون به المحافل الجامعة. ومن الفقراء من عادته الشكر وإفشاء المعروف». 
فيكرهون التصدق في السرء ويرون إخفاء الفقير لما يأخذ منهم خيانة عليهم 
)١(‏ مستكن : مستتر . 


(؟) العبارة بين مزدوجين غير واضحة. ولعل المقصود : ونيته غير ذلك؛ وإذا أبتت له عن نيته 
غضب وقال: إنما قصدت الله عز وجل. 


١ا/ى‎ 


وكفراناً للمعروف, وربما تركوا جيرانهم جائعين؛ ولذلك قال ابن عباس رضي 
الله عنههما : في آخر الزمان يكثر الحاج بلا سبب؛ يهوى لهم السفر. ويبسط لهم في 
الرزق» ويرجعون مجرمين مسلوبين .بوى بأحدهم بعيره بين القفار والرمال 
وجاره ماثور إلى جنيه فلا يواسيه ولا يتفقده. 


( وفرقة أخرى) من أرباب الأموال؛ يحتفظون بالأموال ويمسكونها بحكم 
البخل . ويشتغلون بالعبادة البدنية التي لا يحتاجون فيها إلى نفقة كصيام النهار 
وقيام الليل وخم القرآن. وهم مغرورون, لأن البخل المهلك قد استولى على 
بواطنهم. فهم محتاجون إلى قمعه بإخراج المال. فاشتغلوا بطلب فضائل وهم 
مشتغلون عنها . ومثلهم كمثل من دخلت في ثوبه حية وقد أشرف على الهلاك» 
فاشتغل بطلب السكنجيين ليسكن به الصفراء ؛ ومن لدغته الحية كيف يحتاج إلى 
ذلك ؟ وقيل لبشر الحافي.: إن فلاناً كثير الصوم والصلاة؛ فقال: المسكين ترك 
حاله ودخل في حال غيرهء إنما حال هذا إطعام الطعام للجائع والإنفاق على 
المساكين. فهو أفضل له من تجويع نفسه ومن صلاته مع جمعه الدنيا ومنعه 
الفقراء . 


( وفرقة أخرى) غلب عليها البخل», فلا تسمح نفوسهم إلا بأداء الزكاة 
فقطء ثم !نهم يخرجونها من المال الخبيث الرديء الذي يرغبون عنه . ويطلبون من 
الفقراء من يخدمهم ويتردد في حوائجهم. أو من يحتاجون إليه في المستقبل 
للاستئجار له في الخدمة» ومن لهم فيه على الجملة غرض , ويسلمونها إلى شخص 
يعينه واحد من الكبار ممن يستظهر بخشيته لينال بذلك عنده منزلة فيقوم 
بحاجتهء وكل ذلك مقسد للنية وحبط للعمل. وصاحبه مغرور ويظن أنه مطيع 
لله وهو فاجرء إذ يطلب بعبادة الله غرضاً من غيره. فهذا وأمثاله مغرورون 
بالأموال. 


( وفرقة أخرى) من عوام الخلق وأرباب الأموال والفقراء ‏ اغتروا بحضور 


1/8 


مجالس الذكر واعتقدوا أن ذلك يغنيهم ويكفيهم, فاتخذوا ذلك عادة. ويظنون 
أن لهم أجرا على مجرد سماع الوعظ دون العمل ودون الاتعاظ ؛ فهم مغرورون» 
لأن فضل مجالس الذكر إنما يحصل لكونها مرغبة في الخيرء فإن لم هيج الرغبة 
فلا خير فيها. والرغبة عمودة لأنها تبعث على العمل , فإن لم تبعث على العمل فلا 
خير فيها. وربما يغتر بما يسمعه من الوعظ. وربما تداخله رقة كرقة النساء 
فيبكي, وربما يسمع كلاماً مخوفاً فلا يزال يصفر بين يديه ويقول: يا سلام سلمء 
ونعوذ بالله, وحسبي الله. ولا حول ولا قوة إلا بالله. ويظن أنه قد أتى بالخير 
كله وهو مغرور. وإِنما مثله كمثل المريض الذي يحضر مجالس الأطباء ويسمع ما 
يصفونه من الأدوية ولا يفعلها ولا يشتغل بها ويظن أنه يجد الراحة بذلك؛ 
وكذلك الجائع الذي يحضر عند من يصف الأطعمة اللذيذة. فكل وعظ لا يغير 
منك صفة تغييراً تتغير به أفعالك, حتى تقبل إلى الله عز وجل وتعرض عن 
الدنيا وتقبل إقبالاً قوياً وإن لم تفعل بذلك الوعظ كان زيادة حجة عليك» فإذا 
رايته وسيلة لك كنت مغرورا. 


الصنف الرابع من المغرورين: المتصوفة . 

وماأغلب الغرور على هؤلاء! وما المتصوفة من أهل هذا الزمان إلا من 
عصمه الله. اغتروا بالزي والمنطق واطهيئة. فشابهوا الصادقين من الصوفية في 
زعهم» وهيئتهم , وألفاظهم , وآدابهم. ومراسمهم. واصطلاحاتهم. وأحواهم 
الظاهرة في السماع. والرقص . والطهارة, والصلاة. والجلوس على السجادة مع 
إطراق الرأس., وإدخاله في الجيب كالمتفكر مع تنفيس الصعداء .وفي خفض 
الصوت في الحديث . وفي الصياح , إلى غير ذلك . فليا تعلموا ذلك ظنوا أن ذلك 
ينجيهم » فام يتعبوا أنفسهم قط بالمجاهدة, والرياضة. والمراقبة للقلب , وتطهير 
الباطن والظاهر من الآثام الجلية والخفية؛ وكل ذلك من منازل التصوف. ثم !نهم 
يتكالبون على الحرام والشبهات وأموال السلاطين » ويتنافسون في الرغيف والفلس 


والحبة» ويتحاسدون على النقير والقطمير (2. ويمزق بعضهم أعراض بعض مها 
خالفه في شيء من غرضه. 

فهؤلاء غرورهم ظاهر . فمثلهم كمثل عجوز سمعت أن الشجعان والأبطال 
والمقاتلين ثبتت أمماؤهم في الديوان. فقتزيت بزيهم. ووصلت إلى الملكء 
فعرضت على ميزان العرض فوجدت عجوز سوءء فقيل لها: أما تستحي في 
استهزائك بالملك؟ اطرحوها حول الفيل! فطرحت حول الفيل فركضها حتى 

( وفرقة أخرى ) زادت على هؤلاء في الغرورء إذ صعب عليها الاقتداء في 
بذالة الثياب والرضا بالدون في المطعم والمنكح والمسكن, وأرادت أن تتظاهر 
بالتصوف. ولم تجد بدا من التزبي بزيهم. فتركت الخز والإبريسم 20 وطلبت 
المرقعات النفيسة والفوط الرفيعة والسجادات المصوغات . وقيمتها أكثر من قيمة 
الخز والابريسم. ولا يجتنبون معصية ظاهرة فكيف بالباطنة | وإنما غرضهم رغد 
العيش وأكل أموال السلاطين, وهم مع ذلك يظنون بأنفسهم الخير. وضرر 
هؤلاء على المسلمين أشد مسن ضرر اللصوص . لأن هؤلاء يسرقون القلوب 
بالزي؛ فيقتدي بهم غيرهم فيكونون سبب هلاكهم, فإن اطلع على فضائحهم 
فيظنون أن أهل التصوف كذلك, فيصرحون بذم الصوفية على الإطلاق. 

( وفرقة أخرى) ادعت عل المكاشفة22. ومشاهدة الحق. ويجاوزة 


)١(‏ النقير : النقرة التي على ظهر النواة. ويضرب به المثل في الشيء الحقير . وفي التنزيل العزيز 9أم 
لهم نصيب من الملك فإذآً لا يؤتون الناس نقيرا ©. والقطمير: القشرة الرقيقة عل النواة 
كاللفافة لها . قال تعالى : والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير © . 

(؟) الابريسم: أحسن الحرير. والخز من الثياب: ما ينسج من صوف وإبريسم, أو ما ينسج من 
إبريسم خالص . 

(؟) المكاشفة في الاصطلاح: هي الاطلاع على ما وراء الحجاب من المعاني الغيبية والأمور الحقيقية 
وجوداً أو شهوداً . (انظر التعريفات للجرجاني ص .)١844‏ 


18١ 


المقامات. والوصل والملازمة في عين الشهود . والوصول إلى القرب؛ ولاا يعرف 
ذلك والوصول إليه إلا باللفظ والاسم , فتلقف من الألفاظ الطامة كلمات, فهو 
يرددها وهو يظن أن ذلك من أعلى عام الأولين والآخرين. فهو ينظر إلى الفقهاء 
والمقرئين والمحدثين وأصناف العلماء بعين الازدراء فضلاً عن العوام. حتى إن 
الفلاح ليترك فلاحته والحائك حياكته ويلازمهم أياماً معدودة, فيتلقف تلك 
الكلمات الزائفة فتراه يرددها كأنه يتكلم عن الوحي . ويخبر عن أسرار » ويستحقر 
بذلك جميع العباد والعلياء » فيقول في العباد : أجراء متعبون؛ ويقول في العلماء : 
إنهم بالحديث محجوبون, ويدعي لنفه أنه الواصل إلى الحق وأنه من المقربين. 
وهو عند الله من الفجار المنافقين, وعند أرباب القلوب من الحمقاء الجاهلين؛ لم 
يحكم قط علا وم يذب خلقاً. وم يرتب علياً. ولم يراقب قلباً سوى اتباع 
الموى وتلقف الحذيان, ولو اشتغل بما ينفعه كان احسن له. 

( وفرقة أخرى ) جاوزت هؤلاء . فأحسنت الأعبال وطلبت الحلال» 
واشتغلت بتفقد القلب, وصار أحدهم يدعي المقامات من الزهد والتوكل 
والرضا والحب. من غير وقوف على حقيقة هذه المقامات وشروطها وعلاماتها 
وآفاتها. فمنهم من يدعي الوجد ويحب الله ويزعم أنه واله بالله. ولعله قد يخيل 
بالله خيالات فاسدة هي بدعة أو كفر. فيدعي حب الله قبل معرفته. وذلك لا 
يتصور قط . ثم إنه لا يخلو قط ما يغارقه ما يكرهه الله. وإيثار هوى نفسه على 
أوامر الله. وعن ترك بعض الأمور حياء من الخلق؛ ولو خلا بنفسه لما تركها 
حياء من الله. وليس يدري أن كل ذلك يناقض الحب . وبعضهم يميل إلى القناعة 
والتوكل. فيخوض البوادي من غير زاد ليصحح التوكل . وليس يدري أن ذلك 
بدعة لم تنقل عن الصحابة وسلف هذه الأمة. وقد كانوا أعام بالتوكل منه.ما 
فهموا من التوكل المخاطرة بالروح وترك الزادء بل كانوا يأخذون الزاد وهم 
مت وكلون على الله لا على الزاد 2 , وهذا ربما يترك الزاد وهو متوكل على سبب 


- عن أنس بن مالك قال: قال رجل: يا رسول‎ » 1٠ ومن هذا ما رواه الترمذي في القيامة باب‎ )١( 


18, 


من الأسباب واثق به. 

وما مقام من المقامات المنجية إلا وفيه غرور قد اغتر بها قوم؛ وقد ذكرنا 
مداخل الآفات فيها في ربع المنجيات من كتاب الإحياء . 

( وفرقة أخرى ) ضيقت على أنفسها أمر القوت, حتى طلبت منه الحلال 
الخالص , وأهملت تة تفقد القلب والجوارح من غير هذه الخصلة الواحدة. 

ومنهم من استعمل الحلال في مطعمه ومليسه ومكسبه ويتعمق في ذلك. ولم 
يدر أن الله لم يرض من العباد إلا بالكبال في الطاعات, فمن اتبع البعض وأهمل 
البعض فهو مغرور. 

( وفرقة أخرى) ادعت حسن الخلق والتواضع والسماحة» فقصدوا لخدمة 
الصوفية. فجمعوا قوماً وتكلفوا خدمتهم, واتخذوا ذلك شبكة لحطام الدنيا 
وجمعاً للمال؛ وإنما غرضهم التكثير والتكبير. وهم يظهرون الخدمة والتواضع » 
ويطلبون أن غرضهم الارتفاق وغرضهم الاستتباع. ويظهرون أن غرضهم 
الخدمة. وهم يجمعون الحرام والشبهات لينفقوا عليهم فتكثر أتباعهم وينتشر 
بتلك الخدمة ذكرهم. ومنهم من يأخذ من أموال السلاطين وينفق عليهم. ومنهم 
من يأخذ من أموال السلاطين والظلمة لينفق ذلك بطريق الحج على الصوفية. 
ويزعم أن غرضه البر والإنفاق. والباعث الم إنما هو الرياء والسمعة. وذلك 
إهرالهم لجميع أوامر الله ورضاهم بأخذ الحرام والإنفاق منه؛ ومثال الذي ينفق 
المال الحرام في طريق الحج. ؛ كمن يعمر مسجداً ويطينه بالعَذْرَة 27 وغيرها من 
النجاسات ويزعم أن قصده العمارة. 

( وفرقة أخرى ) اشتغلت بالمجاهدة وتهذيب الأخلاق وتطهير النفس من 


- الله أعقلها وأتوكل.ء أو أطلقها وأتوكل؟ قال: « اعقلها وتوكل .٠‏ 
)١(‏ العذرة: الفائط. 


ما 


عيوبهاء فصاروا يتعمقون فيها. فاتخذوا البحث عن عيوب النفس ومعرفة خدعها 
علياً وحرفة لحم؛ فهم في جميع أحوالهم مشتغلون بالتحفظ من عيوب النفس 
باستنباط دقيق الكلام في آفاتها. فيقولون: هذا في النفس عيب. والغفلة عن 
كونه عيبا عيب. ويستعفون فيه بكلمات مسلسلة. فضيعوا في ذلك أوقاتهم. 
لأنهم وقعوا مع أنفسهم وم يتعلقوا بخالقهم. ومثلهم من اشتغل بأوقات الحج 
وعوائقه ولم يسلك طريق الحج. وذلك لا يغنيه عن الحج؛ فهو مغرور. 


( وفرقة أخرى ) جاوزت هذه المرتبة وابتدأوا سلوك الطريق وانفتحت لهم 
ابواب المعرفة. فلما شموا من مبادىء المعرفة رائحة, تعجبوا منها وفرحوا بها 
وأعجبتهم غرائبهاء فتعلقت قلوبهم بالالتفات إليها والتفكر فيهاء وفي كيفية 
انفتاح بابها عليهم واستداده على غيرهم. وذلك غرور. لأن عجائب طريق الله 
ليس لها نهاية» فمن وقف مع كل أعجوبة وتقيد قصرت خطاه وحرم الوصول 
إلى المقصد , ومثال ذلك كمن قدم على ملك فرأى على باب ميدانه روضة فيها 
أزهار وأنوار. ولم يكن قد رآها قبل ذلك ولا رأى مثلهاء فوقف ينظر إليها 
حتى فاته الوقت الذي يكون فيه لقاء الملك. فانصرف خائيا . 


( وفرقة أخرى) جاوزت هؤلاء ولم تلتفت إلى ما يفيض عليها من الأنوار 
في الطريق» ولا إلى ما يتيسر لهم من العطايا الجزيلة, ولم يلتفوا إليها ولا عرجوا 
عليها. بل أخذوا جادين في السيرء فلا قاربوا الوصول ظنوا أنهم وصلواء 
فوقفوا ولم يتعدوا ذلك . فغلطوا ؛ فإن لله سبحانه وتعالى سبعين حجابا من نور 
وظلمة . ولا يصل السالك إلى حجاب من تلك الحجب إلا ويظن أنه قد وصل ؛ 
وإليه الإشارة بقوله تعالى إخباراً عن إبراهي عليه السلام : #فلما جن عليه الليل 
رأى كوكباً قال هذا رلي فلا أفل قال لا أحب الآفلين» [ الأنعام: 77 ] وما 
أكثره في هذا المقام؛ فأول الحجب بين العبد وربه نفسه, فإنه أمر رباني عظيم, 
وهو نور من أنوار الله أعني سر القلب الذي تتجلى فيه حقيفة الحق كما هيء 


1 


حتى إنه ليشح مجحمله العالم كله ويحيط به صور الكل » فعنده يشرق نوره إشراقاً 
عظياً» إذ يظهر فيه الوجود كله على ما هو عليه, وهو في أول الأمر محجوب 
بمشكاة هي انساترة له فإذا تجلى نوره وانكشف جمال القلب بعد إشراق نور الله 
عليه, ربما التفت صاحب القلب إلى القلب فرأى من جاله الفائق ما يدهشه. 
فربما صرح وقال: أنا الحق؛ فإن لم يتضح له ما وراء ذلك ووقف عنده هلك . 
ومهذا المعنى نظر النصارى إلى المسيح عليه السلام لما رأوا من إشراق نور الله 
عليه فغلطوا. كمن رأى كوكباً في مرآة أو في ماء فيظن أن الكوكب في المرآة 
أو في الماء. فيمد يده إليه ليأخذه؛ فهو مغرور. 

وأنواع الغرور في طريق السلوك إلى الله لا تحصى في مجلدات ولا تستقصى 
إلا بعد شرح جميع العلوم الخفية. وذلك مما لا رخصة في ذكره. وقد يجوز 
إظهارها حتى لا يقع المغرور فيها . 

وبالله التوفيق وهو حسبي ونعم الوكيل. ولا حول ولا قوة إلا بالله الععلي 
العظي . وصل الله على سيدنا مد وعلى آله وصحبه أجمعين. 


[ انتهى ]. 


١18ه‎ 


الفهرس 


الموضوع 
تقديم 
بداية الهداية 
خطبة الكتاب 
القسم الأول: ني الطاعات 
آداب الاستيقاظ من النوم 
باب اداب دخول الخلاء 


أداب الوضوء ور م 00864 وق ها قه وميه مشو و له قم ف رو او لا ام اواك 


آداب التيمم اي ا ار 0(*ظ”«''( 


آداب الخروج إلى المسجد ا ا 
اداب دخول المسجد ف اق ار 7 با ع مور أي الا ار 0 


اداب ما بين طلوع الشمس إلى الزوال 9 ظ5ك 
آداب الاستعداد لسائر الصلوات ل 


آداب الصيام 


حفظ الأعضاء السبعة عن المعاصى 


/ام/1 


القسم الثاىق: القول في اجتناب المعاصي ع ام م ا 


١_العين‏ انو بوم نه سسا با لوا تا افد ا 


الصفحة 


الموضوع 
؟_الأذن 
© اللسان 


5 - البطن ا 


و الموج 


5 اليدان 


- الرجلان 00000000010218 
القول في معاصي القلب 1000 


الحسد 


الرياء 
العجب والكبر والفخر 


القسم الثالث: القول ف آداب الصحية 0108 0 121700171101 
آداب العالم اا 2 


اداب المتعام مع العالم فمفارة ةو ةم ةو م يهو و ةم ةو ةو نيه م نول ةن ضس ةر ل م 


آداب الولد مع الوالدين 11 


آداب مجالسة العوام المجهولين 


آداب معاشرة الاخوان والأصدقاء أو ارا ا 
المعارف ع كقع لدان بج شن لاو ل شي اد 


خطية الكتاب 1 ادس انر وا ادا يو لوو اقب ل ل 132011 


أدب المؤمن بين يدي الله تعالى 
اداب العالم 


آداب المتعام مع العالم 


آداب المقرىء تيوه اخ بح ا ا ا 


آداب القارىء 
آداب معام الصبيات 


184 


| 9 ميا 
5 
5 


اام 11 


/5 
ع3 


00 
1 


و7 
“١‏ 
يف 


مس 1 
ا 
ا 
00 0000 


مل٠*‎ 


موسا الا لم 28 
ا اخ 41 


ك1 


٠ 
11١ 
١١ 


كو م ع ل ا 411 


1 
5١ 


الموضوع 


اداب المحدث 


آداب طالب الحديث 0 
آداب الكاتب 10001110 0 0 23217 
أداب الواعظ ل أ ا ا و4 جاه و 1 ا ا 1 ا 
اداب المستمع او لا الو ا لراك ممم ا ا اي 
اداب الناسك امش و له لاا 1 اوه لمرو ل لاق ل الوه 
آداب اعتزال الناس ةو م 0 


آداب الصوق مام ع مأ ا ع :واو قراط سد ا 1 1 


آداب الاعتكاف موقي ةوفه فو وو فو يمي ةوفه م ةو رمم ةقرو ممه رمث لقن 


آداب الأذان 111[ 1 1 [#[1#01# 1111111 


آداب الإمام 
اداب الصلاة 
آداب القراءة 
آداب الدعاء 
اداب الجمعة 
آداب الخطيب 
أداب العبد 
اداب الخسوف 


1 


الموضوع 
آداب الاستسقاء 
آداب المريض 

آداب المعزي 

آداب المشى في الجنازة 
آداب انسدق 


آداب المهدي 


اداب الملهدى إليه ا 0 


آداب اصطناع المعروف 
اداب الصيام 

آذاب الطريق 

آداب الإحرام 

آداب دخول معكة 


آداب دخول المدينة 000 


آداب التاجر اا سنن كاماد واف دوجم لاخ ا 


آداب الصير في اا ااا اا 0 
آداب الصائغ ا و ا ا 


آداب الرجل إذا أراد النكاح 
آداب المرأة إذا خطبها الرجل 
آداب الجماع 


آداب الرجل مع الزوجة 0 200 


الموضوع الصفحة 
آداب المرأة مع زوجها 11١‏ 
اداب الرجل في نفسه ١0‏ 
آداب المرأة في نفسها 01 
آداب الاستئذان 11 
آداب الجلوس على الطريق ينيل 
آداب المعاشرة يدل 
آداب الولد مع والديه ل 
اداب الوالد مع اولاده اا 
اداب الإخوان اماس متام ام لو ا 116 
أداب الجار ل ا ا 
آداب السيد مع عبده 116 
اداب العبد مع سيده ملن إ ااشا و الشف وأحم ‏ الداتاا مج سوسا و وا لالش و 318 
اداب السلطان مع الرعية 0 ااا 
آداب الرعية مع السلطان او ل ا ا 11 
اداب القاضى 0000000000 2010701 
آداب الشاهد 0000000 اال 
اداب الجهاد 0000-11 0 ا 
آداب جامعة ١0١7‏ 
كيمياء السعادة 
خطية الكتاب فين 
عنوان معرفة النفس فل 
فصل في معرفة النفس 11 1[ 1[ 1[ 1[ [ز[ [ [ [ [ [ ا ا 
فصل في معرفة القلب وعسكره 1 1 1[ ا 
فصل في عجائب القلب 1 
فصل في أن اللذة والسعادة لابن آدم في معرفة الله سبحانه وتعالى ا 


15١ 


الموضوع 
فصل في معرفة تركيب الجسد ومنافع الأعضاء 
فصل في تفصيل خلقة بني آدم 

القواعد العشرة 
خطبة الكتاب 
القاعدة الأولى 


القاعدة الثانية الا السو امم اناس ططاح اماو اماما 


القاعدة الثالثة 
القاعدة الرابعة 


القاعدة المنامسة اي قا تعاس ف 4 6 941600 والاق العامة 141004 فاق ره عقاف بوره و8466 


القاعدة السادسة 
القاعدة السابعة 
القاعدة الثامنة 


القاعدة التاسعة 


القاعدة العاشرة 0111 
الكشف والتبيين في غرور الخلق أجمعين 

خطية الكتاب اده ل أ مع وا ما و ماقو ل للا لد 

بيان أصناف المغرورين وأقسام كل صنف 111 


الصنف الأول من المغرورين : العلياء 


الصنف الثاني من المغرورين : أصحاب العبادات والأعبال 0 


الصنف الثالث من المغرورين : أرباب الأموال 
الصنف الرابع من المغرورين : المتصوفة 


154 


مح 
١د‏ حا ود عيد ححا 
َه 
4 1 0 
عد ١‏ 
9 - 
٠‏ ظ 
لآ ْ 
1 ظ 
تمدن 0 
0 
ست ١‏ 
م 


© 

0 وكستفت ماف -_الدارشت 

ره 
ا 5 
0 
9 سر 
م 
و8_كْسْىٌ ظ 
ددا 
0 
4 
لاد 
جرم 


[ خطبة الكتاب ] 


الحمد لله الأول في ربوبيته. والقديم في أزليته , والحكيم في سلطنته. والكريم 
في عزته؛ لا شبيه له في ذاته وصنعته. ولا نظير له في مملكته؛ صانع كل شيء 
مصنوع بقدرته؛ المتكام بكلامه الأزل ليس بخارج من صفته ؛ أحمده على نعمته , 
وأستعين به على دفع نقمته؛ هوالله ربي وحده لا شريك له الواحد في ربوبيته. 
الذي يختص من يشاء برحته , ختم الأنبياء بمحمد يَلِنَهِ وعلى آله وعترته. 


فلا رأيت أهل الزمان هممهم قاصرة على نيل المقاصد الباطنة والظاهرة 
وسألني جماعة من ملوك الأرض أن أضع لهم كتاباً معدوم المثل لنيل مقاصدهم 
واقتناص المالك وما يعينهم على ذلك. استخرت الله فوضعت طم كتابا. 
وسميته بكتاب « سر العَالَمَيْن وكشف ما في الدارين » وبوبته أبواباً» ومقالات 
وأحزاباً. وذكرت فيه مراتب صواباً؛ وجعلته دالاً على طلب المملكة وحائاً 
عليها. وواضعاً لتحصيلها أساساً جامعاً لمعانيها؛ وذكرت كيفية ترتيبها 
وتدبيرها؛ فهو يصلح للعالم الزاهد . وشريك شرك المالك بتطييب قلوب الجند 
وجذبهم إليه بالمواعظ. فأول من استحسنه وقرأه عل بالمدرسة النظامية سر من 
الناس في النوبة الثانية بعد رجوعي من السفر رجل من أرض المغرب يقال له همد 
ابن تومرت من ,أهل سلمية ٠‏ وتوسمت منه الملك. وهو كتاب عزيز لا يجوز 
بذله ؛ لأن تحته أسراراً تفتقر إلى كشف, إذ طياع العالم نافرة عنها » وتحته علوم 
عزيزة وإشارات كثيرة دالة على غوامض أسرار لا يعرفها إلا فحول الحكياء. 
فالله يوفقك للعمل به فإنه دال على كل ما تريد إن شاء الله تعالى . 


ترجمة الأبواب وهي ثلاثون مقالة 
فصل 

اعم أن الملك عظم وعقم , عليه وقع الاشتباك والمناقشة بين الصالح والطالح. 
والخاسر والرابح. فمنه يتشعب الحسد وكل عرض وغرض مزعزع . فلا بد من 
أصل ومرتبة ‏ وتحصيل وصبر. وجمع أموال لبلوغ الآمال. وأمّ الغرر في تحصيله 
هو علو الهمة, كما قال معاوية رضي الله تعالى عنه: همّوا بمعالي الأمور لتنالوها ! 
فإفي لم أكن للخلافة أهلاً فهممت بها فنلتها. وقد سرت بك قصص الأولين» 
فانظر في أخبارهم وآثارهم! فا بلغ أحد درجة الملك بأب وأم غير قليل؛ وم 
نزع الملك من يد وارث مستحق مثل بيت نبينا جمد يلاه . 

وسنتلو عليك نيا من قصة ذي القرنين: 

وهو صعب بن جبل. وأبوه نساج واسم أمه هيلانة : كان يتمأ في بني حمير , 
سمعت أمه ببيت الصنائع في مدينة قسطنطين فحملت ابنها إلى ذلك البيت» 
فشاهد صورة الملك فوق الصنائع فقالت أمه: يا بني اختر منها ما تريد! فوضع 
يده على تاج الملك فانتهرته مراراً فام ينته. فنظر إليها يونان فقال ها: أنت 
هيلانة وهذا ابنك صعب بن جبل؟ فقالت : نعمء فقال: اخذ عهد ذي القرنين 
وزمامه على أني وذريتي في أمانك. فأنت الملك الذي تسحب ذيلك بطريق 
التملك شرقاً وار “لمات أنه إلى أرض بابل كاتمة أمره. فكان من بدو 
أمره وشواهد سعادته ثلاث منامات رآهن في ثلاث ليال: فأولهن أنه رأى كأن 
الأرض صارت خبزاً فأكلهاء وفي الثانية رأى كأنه قد شرب البحار وأكل 
طينها. وفي الثالثة رأى كأنه رقي في المماء فقد نجومها ورماهن إلى الأرضء 


وركب الشمس وسحب ناصية القمر, فلا اجتمع بالخضر عليه السلام فسره عليه 
فبشره بنيل الملك الأعظم. وستصحب نبيَاً وحكيا وم من مثله إن اعتبرت». 
فاركب بسر علو الهمة وحصل الانتهاء ليتم لك كيمياؤهاء وصيّر عندك نديا 
كاتماً مطلعاً على كتبها ‏ أعني بها كتب سر العالمين- ثم حصل أرباب صناعة 
التقليب الذين هم علماء تقلب الكمان قادرين على صبغ الأحمر والأبيض؛ فإن 
كنت قليل الحجال ضعيف العضد وقليل المال فكن كثير الفضل والعامء واتخذ 
لنفسك زاوية على طريق التزهد . واجذب إليك تلاميذ وكثّر عددهم. واتخذ 
طريق الكرامات لينصبوا إليك. واستهو الكبارء واسلك طريق الصلاح وزنها 
لنفسك . واختل فإذا هب نسيم سعادتك فاكشف لتلاميذك ما الناس عليه من 
الفسق والفجور وارتكاب ما لا يجوز من كل أمر منكرء وأمر أصحابك 
تستهوي وتجذب كل طائفة منهم لطائفة قوم آخرين؛ فإذا استقوت شرذمتك 
فخذ الخواص من الناس باللين والموعظة., والمعاندين بالجدل. وأولى الغلظة 
بالغلظة ؛ ألم ترَ إلى بدو الإسلام #قل يا أيها الكافرون4 [ الكافرون: ١‏ ] فلا 
وصل إلى قمة السعادة قر سيفه #فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب» 
[ جمد: 4 ] وعند الضعف والمسالمة أخذ الجزية والصلح وإن جنحوا للسلم 
فاجنح لما » [ الأنفال: ]١‏ وعند ربح السعادة» وارتفاع أطناب خم الإرادة 
«ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض 4 [ الأنفال: 219 ] 
فكن أيها الطالب للملك على هذه الوتائرء وخاطب الئاس على قدر عقوهم. 
وأظهر العدل . واحترم أولي الفضل , وأشبع الجند. واجبر الكسير , وأنصف ولو 
من نفسك. وأشبع حَُجَابك وحكامك وعالك فإن لم تفعل سرت الرشوة إلى 
بطلان الحق وتعطيله. وفشا ظلمك في الرعية. ومالت القلوب عنك. وربما 
ذهبت باطناً وظاهراً . واعام أن المظلوم له همة تكون وافية في عكس أغراضك» 
مثل همم أرباب الاستقامة, فإنها مؤثرة في الفلك لاستجلاب ماء الغهام . وسأتلو 
عليك قصة السلطان ابن سملتكين وقد نفذ رسولاً إلى ملك الهند وقال: ما سبب 


طول أعمارم مع جحودك للصانع وتكذيبكم للرسل والوسائط. ونحن قصار 
الأعبار مع تصديقنا وإيماننا؟ فقال ملك المند لرسوله: انظر إلى هذه الشجرة 
التي فوقها ثمرة. لا أعطيك الجواب حتى تنقطع. ثم أمر بالإدرار عليه وحسن 
اللأقامة. فضاق صدره وتعلقت همته بقلعهاء فام يك إلا مدة قريبة إذ سمع هزة 
وقع والناس يبرعون, ومشى معهم. فإذا الشجرة واقعة والملك مفكر . فلها بصر 
الملك بالرسول قال له: اذهب فهذا جوابك . وقل للسلطان هذه همة واحدة 
أثرت في قلع شجرة مثمرة؛ فكيف همم جماعة من المظلومين لا تؤثر في قلع 
الظالمين! إذ دعاء المظلوم مول فوق الغام ؛ وقد ورد في بعض الكتب السالفة : 
أنا الظالم إن لم أنتقم من الظالم. واعام أن العدل وبسط باع السلطنة بالهيبة مثل 
القتل والصلب والقطع يثمر الأمن وتمهيد الأرض وطأأنينة قلوب الرعية» إذ 
السلطان ظل ربه في الأرض وملجؤها, يأوي إليه كل مظلوم . ولا تستهب وضع 
الشيء في مكانه إذ ٠‏ القتل أنفى للقتل » 8 ولكم في القصاص حياة4 [ البقرة: 
8] وكان عمرو بن العاص صحابيا بدريًا نبه معاوية رضي الله عنه وجسره 
على فظائع الأفعال بقصائده اللامية والنونية التي قال فيها : ْ 

معاوي في الخلق لا نفد له 

معاوي إني لى أبايعك فلتة 

فيناً ولو مرة في الدهر واحدة 


وم للشيخ عندي من زايا تدل ل المهازي والمخازي 
وطريق آخر في استدعاء المملكة وترتيبها وهو بذل الأموال. وطريق آخر 
وهو بالسيف معقود؛ لكنه مفتقر إلى ترك الشح مع الجند وإجلا دعوة 
المظلوم . ولا يتعرضص إلى الشقوص الموقوفة. 
ولتجعل للرعية والسواد في كل يوم مدة لمطالعة أحواهم. فقد يتشعب الظلم 


مع الغفلة لا سما مع الحجّاب والعمال؛ ولتنظر في مخازي الكتاب فا كذبت بنت 
كسرى إذ سمته ديواناً ؛ ولتنظر في وقت العشي ما كتبه الكتّاب بالنهار, لا يتم 
عليه حيل أرباب الدساتير. فكم من مظلوم عن حقه صّدّ لغفلة الملك عنه. فإذا 
أردت أن لا تنحجب عنك حال فامنع الكلام . وأمر بأخذ القصاص . ووقع فيها 
بما تراه والله تعالى أعام . 


باب الترتيب في قعود الملك وسياسته ونومه وليلته 


إذا صليت صبحك تقعد في ذكر الله تعالى إلى طلوع الشمسء» ثم تأمر أهل 
دارك ومن حولك بما تريده من حوائجك من مأكل ومشرب,. ثم تركب لتسمع 
أو يلقاك محجوب أو تلبي مظلوماً أو تطلع على الحوادث, ثم تعود وأنت محفوف 
بالقعقعة والسلاح والتحرز من طمع الأعداء. ثم تقعد في دار عيد لك لكشف 
المظالم وسماع الرسل: تترك الناس صفين بميناً وشمالاً والوسط مفتوح لثلا 
يُحجب عنك منظورٌ وصاحبُ حاجة. وتسأل عمن تنكره؛, ولا تستخدم من لا 
تعرفه إلا بخبرة أو ضمان أو تسل إلى عقيدة. وليكن لك جماعة من أرباب العلم 
والعقل والتجارب في الرأي والمشورة. ووزراء خيرلا فسقة؛ فمن ليس بأمين 
لنفسه فكيف على سواه؟ ثم تنهض من مجلسك في الظهر ؛ وليكن للملك عين في 
الديوان لما يحري فإذا دخل منزله بسط الطعام ومد الخوان للجند والاخوان. 
وليكن كثير التعهد والتفقد وجبر القلوب المنكسرة. وليكن على الطبيخ أمين ما 
أساء إليه. فإن القلع ثمرة الإساءة؛ ثم يأخذ طعم الطبيخ طابخه. ثم حامله, عم 
واضعه عند الملك. يغمس اللقمة في ججميعه. فقد مات شهرياز بن ذار بنصف 
تفاحة قطعت, وقد مات شاسان بنصف قدح شراب سم شريكه مع عطبه وقد 
سم البي عَيِْدُمِ بذراع مشوي للسر في محبته له لقرب المشرع من المسعى . وقد سم 
أبو لؤلؤة السكينة التي قتل بها ابن الخطاب رضي الله تعالى عنه, وسَّمَ عبد 


الرحمن بن ملجم سيفاً ضرب به قمة أمير المؤمنين على بن ألي طالب كرم الله 
وجهه. وسَّمّت حصار بنت خوجه بنت كعب الغساني زوجها الحسن بن علي 
رضي الله عنهم| . وكان الأصل أنه شاء يوماً حَبَ عنب غير مغسول: 


وك مثل ذا في الدهر ما ليس يحصر 


وتَحْتَرِزٌ من السموم في طعامك وشرابك ولباسك ومنامك حتى منديل 
فراشك؛ وليكن خارج العالم يردا مسوداً مداخلاً في معرفة غوامض أحواهم 
بالترسل والتجسس وكشف علوم من البلاد بجواسيس شارحة متنكرة مختلفة مثل 
فقير وصوف وتاجر وطبيب وكتبة؛ وقد كان المأمون له أصحاب خير 
يستجلبون له أخباراً من الطرقية. هكذا سنن الملوك. 


فصل وهو المقالة الثالثة 


ويستحب للملك سَهَرٌ أول الليل إلى نصفه لقضاء المهمات والقصص 
المستورات, ونوم النهار عون على سهر الليل يذهب تعب السهر ‏ والحمامٌ من غير 
إطالة محبوب. والتعهد بالأشرية الموافقة للأمزجة. وليحترز من تزوير العلائم 
ويمتحن ويستدرك,. فالخطوط تشتبه؛ فأول داهية عثمان بن عفان رضي الله عنه 
كانت من توقيع مد بن ألي بكر رضي الله عنهها وهي مذكورة في سِيّرِ الناس 
يتداول بها القصاص . ولا يفضل السراري والنساء. فقد يحصل من مراجيح 
الغيرة ما لا طاقة به؛ فكم مول على الغيرة ثمرتها أعظم من ثمرة الحسد. ويجب 
على الملك أن يكون وحيداً لا أحد له من حيث السياسة. ولا يركن إلى الأمن 
من خوف الذم. فبرهان الشعر ظاهر من قوله: 
فلم تزل قلة الإنصاف قاطعة بين الأنام ولو كانوا ذُوي رَّحِم 

ويجب عليه التعهد لأصحاب أبيه ولو كان فقيراً. ومراعاة أصحابه الذين 
كانوا معه قبل سلاسل التمليك . فمن لطافة رسول الله عَِتَهِ أنه كانت تتردد 


إليه امرأة يبودية فنهض لا قائياً فقالت له في ذلك عائشة رضي الله عنها : أتقوم 
لامرأة يبودية قائيا؟ قال: « هذه كانت تتردد إلينا في زمن خديجة رضى الله 
عنها وحسن العهد من الايمان » وبزيادة الشعر قادح . 

لا تق في بئر شربت زلآلّها قَذَراً فمنهيقالإنك غادر 


باب في ترتيب الخلافة والمملكة 


اختلف العلياء في ترتيب الخلافة وتحصيلها لمن أُمْرّها إليه؛ فمنهم من زعم 
أنها بالنص, ودليلهم قوله تعالى : 9 قل للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى قوم 
أولي بأس شديد 6 إلى قوله: «أليا» [ الفتح: ١1‏ ] وقد دعاهم أبو بكر رضي 
الله عنه إلى الطاعة بعد رسول الله رلته فأجابوه. وقال بعض المفسرين في قوله 
تعالى: #وإذ أسر النبي إلى تعض أزواجه حديثاً» [ التحريم: *] قال في 
الحديث : « إن أباك هو الخليفة من بعدي » وقالت امرأة: إذا فقدناك فإلى من 
نرجع ؟ فأشار إلى أبي بكر رضي الله عنه ولأنه أمْ بالمسلمين على بقاء رسول الله 
يِه . والامامة عماد الدين . هذا جملة ما يتعلق به القائلون بالنصوص ؛ ثم تأولوا 
لو كان عل أول الخلفاء لانسحب عليه ذيل الفتى ولم يأتوا بفتوح ولا مناقب. 
ولا يقدح في كونه رابعاً كما لا يقدح في نبوة رسول الله عله إذ كان آخرا . 
والذين عدلوا عن هذه الطريق زعموا أن هذا تعلق فاسد جاء على زعمكم 
وأهويتكم. فقد وقع الميزان في الخلافة والأحكام مثل داود وسليان وزكريا 
ويحى . قالوا لأزواجه: لمن الخلافة ؟ فبهذا تعلقوا وهذا باطل, ولو كان ميراثاً 
لكان العباس. لكن أسفرت الحجة وجهها وأجمع الجماهير على متن الحديث من 
خطبته في يوم عيد غدير حُمّ باتفاق الجميع وهو يقول: « من كنت مولاه فعلٍ 
مولاه» فقال عمر: بخ بخ يا أبا الحسن لقد أصبحت مولاي ومولى كل مولى ؛ 
فهذا تسليم ورضى وتحكم. ثم بعد هذا غلب المهوى لحب الرياسة. وحمل عمود 
الخلافة وعقود السوة وخفقان الهوى في قعقعة الرايات واشتباك ازدحام الخيول 


وفتح الأمصار. وسقاهم كأس الموى فمادوا إلى الخلاف الأول. فنبذوه وراء 
ظهورهم واشتروا به تمنآ قليلاً . وللا مات رسول الله عَم قال قبل وفاته: « ائتوا 
بدواة وبيضاء لأزيل لكم إشكال الأمر وأذكر لكم من المستحق ها بعدي» قال 
عمر رضي الله عنه: دعوا الرجل فإنه ليهجر ؛ وقيل يهدر . فإذاً بطل تعلقكم 
بتأويل النصوص فعدمٌ إلى الإجاع : وهذا منصوص أيضاً. فإن العباس وأولاده. 
وعليّاً وزوجته وأولاده لم يحضروا حلقة البيعة. وخالفكم أصحاب السقيفة في 
متابعة الخزرجي . ودخل مد بن أبي بكر على أبيه في مرض موته فقال: يا بني 
نت بعمك لأوصي له بالخلافة! فقال: يا أبت أكتب على حق أو باطل ؟ فقال: 
على حق؛ فقال: وَصّ بها لأولادك إن كان حقا. أو لا فقد مكنتها بك 
لسواك؛ ثم خرج إلى عل . فجرى قوله على منبر رسول الله عله : قوموني لست 
خيرم . أفقال هزلاً أو جدآ أو امتحاناً ؟ فإن كان هزلاً فالخلفاء منزهون عن 
الهزل. وإن قاله جد فهذا نقض للخلافة , وإن قاله امتحاناً... 9 ونزعنا ما في 
صدورهم من غل 4 [ الأعراف: 48 ] فإذا ثبت هذا فقد صارت إجماعاً منهم 
وشورى بينهم. هذا الكلام في الصدر الأول؛ أما في زمن عل رضي الله عنه 
ومن نازعه فقد قطم المشرع عَم طول كم الخلافة بقوله عليه الصلاة والسلام : 
« إذا بويع للخليفتين فاقتلوا الأخرى منهما ؛ والعجب كل العجب من حق واحد 
كيف ينقسم ضربين», والخلافة ليست بجسم ينقسم. ولا بعرض يتفرق. ولا 
بجوهر يحد. فكيف يوهب ويباع. وفي حديث أني حازم : أول حكومة تحري في 
المعاد بين علي ومعاوية فيحكم الله لعل بالحق والباقون تحت المشيئةٍ . وقول المشرع 
يَلِنهِ لعمار بن ياسر : ٠‏ تقتلك الفئة الباغية » فلا ينبغي للإمام أن يكون باغياً . 
والإمامة لا تليق لشخصين كبا لا تليق الربوبية لاثنين. إنما الذين بعدهم طائفة 
تزعم أن يزيد لم يكن راضياً بقتل الحسين؛ فسأضرب لك مثلاً في ملكين اقتتلا 
فملك أحدها أفتراه يقتله العسكر على غير اختيار صاحبها 27 إلا غلطاً؟ ومثل 
(0)صاعب السك 0000000000 


الحسين لا يحتمل حاله الغليظة لما جرى من القتال والعطش وحمل الوأس إجماعاً من 
جاهير المشيرين . وقالت الأمّة المغنية حيث مدحت علباً في غنائها , أفتراه قتلها 
بقضاً لعلي أم لها ؟ وقول يزيد بن معاوية لعلي بن الحسين زين العابدين : أنت ابن 
الذي قتله الله ؛ قال : أنا ابن الذي قتله الناس 4 ثم تلا قوله تعالى : ومن يقتل مؤمناً 
متعمدا » [النساء: 97 ] أفتراك يا يزيد تجعل لربك جزاء جِهم وتخلد فيها 
وتغضبه عليه وتلعنه وتعد له عذاباً أليا؟ فإن قلت إن هذه البراهين معطلة لا يحكم 
بصحتها حا الشرع. فنقول في حججكم مثل ماتقولون. ثم إجماع 
الجباهير بشتم على ألف شهر على المنابر أمرك الكتاب أم السنة أم الرسول؟ ثم 
الذين من بعدهم ممن غيرهم أخذوها نصاً أم سنة أم إجماعاً ؟ لكن قد أخذوما 
بسيف أني مسام الخراساني؛ فانظروا إلى قطم أعمالكم بسيف المشرع حيث قال 
لكم: ١‏ الخلافة بعدي ثلاثون ثم يتولى ملكا جبروت» بقوله للعباس رضي الله 
عنه: ايا أبا الأربعين ملكا » ولم يقل خليفة. والملوك كثير واحد في زمانه فيا 
أها الطالب للملك حصل الاله وحمل الاله وابذل واصبر واحذر واقرب وطول 
واحتمل وصالح حتى تقدر والله تعالى أعم . 
فصل وهي المقالة الخامسة 

إذا أردت ترتيب ملك في الملك فاشتهر رجال الدول بعد تحصيلك المالء ثم 
تابع وشايع » وادلك بعضا على بعض للجذب فهو كما قال المتقدمون: 
إذا هبت رياحك فاغتنمها فعُقبَى كل خافقة سَكُونَ 

واجعل قواعد المملكة على الكبار على هيئة ترتيب الجسور والقناطر لتجوز 
عليهاء أن تناول أغراضك . فإن وجدت مشاركاً فداوه بأنواع المعالجة وآخر 
الدواء الكي, ثم انظر إلى دمتور عدد الجند وعدد القرياء ومعرفة الداخل 
والخارج والزيادة. واستعرض الجيش في سنتك ثلاث مرات, واجعل طلائعك 


أربعمائة نفر من أمنائك . وإذا أردت الغزو فأشع الخبر» فإذا وجدت أو طفقت 
إلى مضاق ترتب جيشك صفوفاً وراء صفوف؛ وحمل مع أصحابك ليبذلوا 
السيف في الصف المنهزم من أصحابك . وكن مشرفاً عليهم من نشز ولو نصبت 
أعلامك زوراً من غير حمل, وادخر لنفسك أجود الخيل والرجال, واعام أن من 
خامرك في الأول هو يخامرك في الآخر ويؤفك معك؛ وبددها وإنشئت في 
العسكر , وأبرك كميناً من أجود رجالك, فإذا وجدت الفيء في القتال فآسمتجرً 
الأعداء إلى قريب الكمين. وليكن بينكم علامة؛ فإذا عزمت إلى قتال قومك 
فعجل ولا تطل في مّكْتْ مكان خوف الفشل والمفاسخة كما عمل ذو القرنين في 
عسكر دارا فأفشلهم وبذههم وفسخهم وبرطلهم. فتقدم واعلم وكن بذالاً لا 
متأخراً. وانظر في دساتير الرحيل فكثّر أن شئت وقلّل, وليكن لك عين على 
معرفة القائلين والغم على من قاتل, واعزل عن الجبان على ا هوينا , ثم احتسب على 
خزائنك وخزانك بمعرفة ما فيها وما ينقص ويزداد. وإن لم يكن لك بد من 
التزويج فاستبد إلى أموال ورجال ودين وجمال, وإن كان الشرع قد أمر بذات 
الدين . واعام أن الملك بغير جواسيس وأخذ أخباره كالجسد الذي لا روح فيه. 
وحصل آلات الحصون مما يحتاج إليه في الضيق فإنك لا تدري لعل اللهيحدث بعد 
ذلك أمراً. ولا تتم هيئة الرعية واختلاف الجند. وامنع الفقهاء عن الكلام في 
الفتن. وأمر نوابك أن ينظروا ما عند الخلق من الأطعمة في المحل» ولا تمنع 
الناس من تحصيل الاطعمة فإنه لك وللناس عند الحاجة. وانظر فيمن امتنع عن 
الزراعة إن كان لفقر فقوّه وإن كان لظام فانصره. كبا قال ملك اند : أنا أفرح 

رة دجاج البلد؛ فإنه فرع الإمارة. واغتم لكثرة الخاطبين خوفاً من ظلم 
المقاطع . وقد كان ذو القرنين يحوي دماتيره على أعداء الغرباء وتسام عليه المرأة 
بقدر من اللبن فإذا رآه سمناً ضحك لجودة الربيع . وكان يقول أنا أمسك الفلاح 
إذا أخذ مثله وأميل المقطع فأخذ معناه إنما المقطع بالخير فإن لم يجده انتقل» 
والملك بفلاحه إذ هو خزانه وبه يسطو ويجيد وينعم ويطلق وينظر في الخزائن 


والأمراء .وإذا قدرعلى تبديل الطعام بغيره فليفعل. فقد كان المأمون يستعرض 
السلاح والآلات مثل الخم والمجانيق حتى قال لأمير دوابه: رتب مخاليك كبا 
ترتب معاليك . 
فصل وهو المقالة السادسة 
في ترتيب الولاة 

لا ترتب في الحصون إلا وليَاً شفيقاً رفيقاً بالخلق, ولا تكلفه ثقلاً فتستقضه 
من بلدك, وأشبعه وجند الحصن , وانظر في مراكز خيره ومائه وحرسه وسورهء 
وتذلل حراسك في البروجء وطّف بنفسك أبها الوالي على أعلى سورك. ولا 
تخالط جندك بالليل خوف المخامرة. واسأل عن أعدائك ولا تحقر القليل فإن 
الذبابة تقتل جملاً . وم من عقرب أمات الأفعى لسعها كما قيل: 

واحذر من مكر ذي الااحن فقد قيل: 

ولا يكون الوالي شريب خمر. وهكذا الأميرء فلو حضر في مجالسهم فليحاكم 
بالجلاب, ففي الخمر بلايا وآفات وزلازل عقل وحدوث بلايا وإظهار حقود , 
إذ صاحب الملك مرموق بالحسد . قال النجاثى لجعفر بن ألي طالب رضى الله 
عنه: كيف سيرة نبيكم في الأكل مع أصحابه ؟ فقال: يأكل على الأرض. فقال: 
ذلك تواضع لحجذب قلوب أصحابه , فقال النجاشى : لو كان ملكا لأكل وحده 
عل خوانه ف ججمع معروف له وزبادي خصوصة . م الورق إن كان مقطعاً 
فمعروف. وإن كان ذهباً فشهر بشهر . ولا بأس بالسلام عليه وهو موصول بهم 
والمعاهدة لرسل الملك وإقامة ناموسه عند الغرباء والمنشدين والقصاد. وكان 
سلهان يقسم أسبوعه بعضه للجند وبعضه للقضايا وبعضه للعبادة وتذكار الحكم 


والنساء ؛ كبا يقول: يا أرباب المملكة عليكم بأهل العم والصلاح, فإنهم 
يرشدونكم إذا ضللتم, ويعرفونكم إذا جهلت . ويستعطفونكم إذا غضبتمء 
وينفقونكم إذا حرمتم. وقال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب : 

فلا تَصْحَبْ أخا الجهل وإتّاك وإياةه 

فكم من جاهل أَرْدَى حلياً حين آخاةه 

يهاس المرح بالمره ‏ إذا ماالمرم ماشاة 

وللشيء على الشبيء مقاييسْ وأشباة 

وللقلب على القلسب دليل حين يلقاهٌ 

وليقلّ الملك المنادمة والمسامرة والقليل من الحرليات والمضحكات. وليكن 
وزيره قابلاً قائلاً بالعام والصلاح» مُنْزَلاً للناس في طبقاتهم؛ فلا تنظروا في 
حسن البزة مع عموم الجهل. فقد نقل إلينا أن بهلولاً دخل إلى مجلس هارون 
فجلس في أدنى المجلس فقال له هارون: ارفع رأسك إلى صدر المجلس ! فقال 
البهلول: مجلسي يفنى فأين صدره؟ ثم أنشد : 
كُنْ رجلاً وض بصّفّ النعال لا يُطْلَبُ الصدرٌ بغير الكال 
فإن امسحنة وف ف اسةة. تلت اك الفداة مقف الشان 
ومن جملة قبول الملك أن يختار لنفسه طعاماً يخصه. وقد كان المأمون يحب 

المأمونية. ومهلب العراق يحب المهلبية» وكان بنو أمية يكثرون من أكل الهرايس 
والزلابياء ولم يغسلوا اللحم. بل يكشفون الجلد فيأخذون من تحت الجلد ما 
يختارون فيتداوون الأيدي برَفر اللحم. وقد روى أبو طالب المكي أن الني عل 
قال: « شكوت إلى أخي جبريل حين ضعف الوقاع فأمرني بأكل المرايس 
فوجدت لظهري بها خيرانا ». وقد كان ذو القرنين يحب الزرباح لتسكينها 
للخلط الصفراوي , ووجد بخاراً حار تولد عن صفراء, فانزعج له جبينه فمزج 
بالبطيخ ماء وعصلاً وخلاً فشربه فقال: سكن جبيني؛ فسمي بذلك الاسم ؛ 


وكان يخلط خشن الدقيق وناعمه فيتخذ له منه خبزاً. فقال الحكيم من جوشك: 
أراد الخبز الجريش للمعدة الضعيفة أو الحلقة البلغمية أجود وأعود؛ والخيز 
السميد يورث الخفق وهذا مشاهد عياناً من عمل القفاع. 


فصل وهو المقالة السابعة 
في ترتيب حاشية الدولة 


يستحب للفْرّاش أن يكون رشيقاً. خفيف النفس, ظاهر القوة؛ طيب 
الريح. عارفاً بترتيب الخبز والخضروات, كامل العدة؛ وهكذا تقول في الطباخ 
والشرابي. ويكون دار شربه كامل المشارب من الماء البارد والأشربة والقفاع 
السك السكنجبيني, وشربه نافع بإذن الله تعالى على الريق, وهو ممص للطعام 
مفتح للجوف. واعلم أن آداب أهل التصوف في الماكل والمشارب هي آداب 
الملوك؛ وترك إبراهم بن أدهم كِبْرَ الملك. ومسك آداب الطعام والائتدام 
بالحوامض أولى . والركابية والسعاة خفاف السرعة شباب, وهكذا جميع المقاتلين 
والشيوخ المعنية بالرأي . ويحط العسكر في نشز من الصدر أولى للتحصين واغتنام 
الأهوية. والخمول في الشتاء أجمل . والتهيئة لما يختاره في الصيف . ورحل السلطان 
لقلاقل السفر عند نزول الشمس في السرطان؛ وسكونه عند نزوها آخر القوس؛ 
إذ فصول السنة أربعة : فمن نصف حزيران إلى نصف أيلول صيف,. ثم إلى نصف 
كانون الأول خريف, ثم إلى نصف أذار شتاء» ثم إلى نصف حزيران ربيع» 
وهكذا أقسام منازل الشمس . والخبر النبوي يؤيده: « إذا انتصفت الشهور 
تغيرت الدهور ه. فإن ركب بعد صلاة العصر وإلا قعد لكشف المظالم أو لكتب 
القصص وهو يسمعهم في عزلة؛ كان السابقون من الملوك إذا قعدوا للسلام 
يقعدون وراء شباك ويدخل من شاء إليهم خوف الاغتيال في المزا حمة. ويفتش 
على غوامض ما يجري حتى يكون له صاحب خبر في البلد يرفع الغث والسمين. 


15 


ويستحب أن يطالع كتب الطب والتواريخ وشاهنامة العجم وقصص التابعين 
للعجم والديام مثل ما جرى للشهرباز درستم زاد وكان النبي يومئذ سلبان عليه 
السلام فأوقع الوقائع بينهم حتى هلك بعضهم ببعض . وليكن مع الملك جنود 
لحذر ما يجري وحفظه في الحمّام فكثير هلكوا فيه؛ وحمَّامُ داره أجمل . وعليكم 
بكتم مرضه وموته حتى يستقر الملك فيمن شاء الله من عباده بعد البيعة والمتابعة 
وتقرير القواعد. وكن أيها الملك مسارعاً في الثناء والثواب فإنه الذكر المخلد ؛ 
وأكثر ما تنظر في كتب ابن أي الدنياء وتواريخ الطبري . ومذهب الشافعي. أو 
ما تختار من المذاهب . ولا تظهر البدعة ولو كانت فيك» كالاأكاسرة وسوبويه 
هلكوا بمتابعة الأهواء . وللنعم أجنحة الأجر فقوها بالشكر . واجعل بينك وبين 
الله طريقاً إلى الصلاح؛ فقد حكي أن مَلِكاً قمع مَلَك الموث عنانه فقبضه على ما 
يريد. وأن ملكا صالحاً أتاه مَلَكَ الموت فأمر إليه في أذنه فقال: مرحباً بك 
فأنت أطيب القادمين وخير النازلين وأحب المنتظرين فافعل ما أمرت به! فقال 
ملك الموت : لا أقبضك إلا على ما تختار ؛ فتوضاً وسجد فقبضه في سجوده والله 
تعالى أعام . 


ومن لطائف الحكايات الملكية أن مود بن بويه لما ملك أرض العراق أعطى 
ألف دينار لفراش لهء وقال: اذهب إلى مدينة أصفهان إلى شارع السلطان ففي 
صدر الدرب بيت فيه شيخ وعجوزء ادخلء إليهها فسام عليهها وقل لما ابنكما 
يقول لكا كيف أنتا من وحشة فراقه! فليا وصل إليها فأخبرها قال: خذ ما 
جئت به لكء قال الغلام: أنتّا فقيران وبكا حاجة إليه, فقال الشيخ: غنى 
النفس باق ؛ ثم تنفس وتمثل بهذه الأبيات : 
علي ثياب لو يقاس جَمِيمٌُها بفلس لكان الفلسُ منهن أكثرا 
وفيهن نفس لو تقاسْ ببعضها20 نفوس الوَرّى كانت أَجَل وأكبرا 
وما ضر نَصْل السيف إخلاق عهده 2 إذا كان عَظْباً حيث وَجَهْتَهُ فَرَى 


ويستحب أن يكون مغني الملك مغنياً ندي الصوت شجياً. لا خارجاً 
ولحاناً. عالماً بالأصوات ثقيلها وخفيفها وهزجها ورملها وصوفيها؛ وأصواتها 
الثقال مثل قول أي الشيص : 
أجد اللملامة في هواك لذيذة حبَاً لذكرك فليلمني اللوم 
ومثل قول أي نواس في الوزن: 
شرك النفوس وعصمة ما مثلها ‏ للمطمئن وعقلة المستوفز 
إن طال لم هلك وإن هي أوجزت ود المحدث أنها لى توجز 
وفي المستهل والعمل شعر عاشق بني عامر مجنون ليل : 
خليلّ قوما في عطالة فانظرا | أت اك 070 320 
فإن تك ناراً فهي في جنب ملتقى2 من الريح يذروها ويصفقها صفقا 
لَأمّ عدي أوقدتها طاعة الأوبة سفر أن يكونها وفقا 
وحط بها رحلي قليلاً فإنها لأول أطلال عرفت به العشقا 
وليكن المغني عالماً بطريق الأغاني. مطلعاً على كتاب الموسيقى الموضوع 
للرئيس أي علي بن سيناء وقد شرحناه في : ه كتاب السبيل لأبناء السبيل » وسأذ كر 
لك نكتة منه فأقول كما قيل: إن لدوران الفلك أصواتاً لو سمعها عاقل أو 
لبيب لما ثبت. ومنها أخذ موسى ترجيع النغيات من المربع والمسدس والمثمن. 
والنصارى عملوا ببعضه؛ فالألحان للروم » والتجنيس للعراق» والزقالق للعجم, 
والطبول للزنج أو الحبشة, والبوق لليهود . وهو سبعون دستاً مثل دستان الرحيل 
يقول في وزنه: اركب فأنت المظفر. اركب فالله أكبر . ودستان الحرب والنزول 
وغيره. وقال سقراط : اشتباك نغمات الأصوات من هياكل العبادات تحل وتعقد 
في الأفلاك الدائرة» مثل همة إصابة العين والسحر والاستسقاء وسنذكرها في 
مواضعها. وكن مع الملك كما قال بعض الحكراء : 


)١(‏ بياض بالأصل. 


إذا خدمت الملك فالبِسْ | من القوقى أشدلّ ملبس 
وادخل إذا ما دخلت أعمى واخرج إذا ما وين اخرس 
فصل وهو المقالة الثامنة 

يعقد الوزير في دسته وحاجبه على رأسه, ولا يلاصقه أحد في المنعة. وكتابه 
لديه والمجلس ملآن هيبة ووقاراً. والحوائج إلى الحاجب, والرفع إلى الكتاب» 
والاطلاع إلى الوزيرء ورفع الأمر إلى الملك؛ فأول ما يبدأ بمصالح الحاشية بعد 
الملك والوزير حتى إلى التقليد . وقيل لا يحضر الملك الجمعة إلا في مكان معزول 
في مقصورة له خاصة. وأصحابه في دائرة المقصورة من خارج, والباب مغلق, 
وعنده من يكون إليه , ويخرج هو وأصحابه في آخر الناس في باب له. وليكن له 
يومان في الأسبوع للختم والزيارة» ثم يقرأ له بعد الصبح فلا يعجلون حتى 
يفرغ الآخرء ثم يقرأ التوبة فإذا فرغوا وعظ وأنشد المنشدى ثم يقرأون: قل هو 
الله أحد, والمعوذتينء والفاتحة, وأل 00 إلى المفلحون. ثم يتم الإمام بتصديقه 
حقيقة ويدعو للملك والمسلمين. وليكن للملك في الأسبوع خلوة عبادة 
وتذكار ء والنظر في الحساب والأموال. والنظر في دساتير البلاد . والله أعام . 


فصل وهو المقالة التاسعة 
في ترتيب الخباز والطباخ والقصاب 


لا يكن القصاب عدداً في الدين فإنه لا يتحرى من النجاسة. وهكذا الخباز 
والطباخ. ويتفقد المعاجن وآلات الطبخ والدقيق واللحم. وليكن الطباخ عالماً 
بصناعته وعنده كتب الطبائخ لكشاجم. والأشربة والأدهان والحلاوات والريح 
الطيب والألوان الغريبة. وأحسن المآكل وأطيبها وأنفعها وأقواها للعافية. وهو 


)١(‏ أول مورة البقرة. 


14 


لحم مرضوض مقلوٌ مرشوش بالمياه الحامضة يحشى به العجين فيقلى. وأطيب 
الحلاوات ما كثر خبزه. وأنفع الهرايس لمن به حرارة المزاج» وهو اللون النوني 
من البزرة يقلى ؛ وقد هجرت الألوان الظريفة باستيلاء الترك واتخاذهم السنيرشح 
والعرائس والسالة والطظباج والسسترك والبورك المعمول باللحم والحوائج الحادة 
المعمولة في العجين . 


فإذا كنت ذا فنون في طلب الطبائخ فاتجه لكتبها. وقد ذكرنا طرفاً منها في 
آخر كتاب السبيل؛ وإذا أردت العقلية فعليك بكتاب المقاصد وكتاب النجاة 
للرئيس. وإن شئت فيه الغاية القصوى فاطلع على الكتب الأصولية الدينية 
خاصة كتب شيخنا إمام الحرمين مثل ٠‏ المحيط ٠»‏ والإارشاد ». ومن كتبنا النافعة 
في ذلك ١‏ كتاب الاقتصاد في الاعتقاد». «وكتاب قواعد العقائده من أول 
ه كتاب الاحياء » « والرسالة القدسية». وإذا أردت الطب فكثير, وأنفعها ما 
عمل به من الكتب . واطلع على جميع العلوم الشرعية لتعام الحق من الغي والهوى 
والله تعالى أعام . 

ثم نرجع إلى تحرير مقامات العيال: 

لا تستخدم في العبالة إلا عارفاً بفنون الحساب والجير والمقابلة والمساحة. 
بحيث لو قيل له: ما تقول في أرض ذات زوايا لا يقدر على حفظها مجحائط ولا 
قصب ؟ قال: تذرع بالذراع والشبر . ويمتحن في عم الحساب كرما يمتحن الكتاب . 
والرسالة والأجوبة وكتب الدساتير؛ فإن ولعت برسالة ابن عباد والصالي فلا 
يأس بأخذ الزبد . وليكن صاحب الانشاء كثير الفضل والتوقف في الديوان في 
الزمان القصير وفي الزمان الطويل إلى النزول من الركوب, ثم يحاسبهم على ما 
إليهم. ويستوعب من كل القرباء. ويسأل عن المظالم. ولا يكن ملوماً ولا 
ضجوراً, ولا صخاباً ولا طياشاً ولا لقابا؛ وقالوا يجوز له لعب الشطرنج ولا 
يلعب بالزهر ؛ لأنه يخرق الحرمة بالقمار ؛ فقد ذكر أن أزدشير لما أخرج الترد 


قيل له: ما يستحق إلا قطع اليد قال: سأقطعها بتركه. كبا قيل للحجاج بن 
يوسف وقد شكي إليه من أكل التراب: ألق عليه من همتك وعزيمتك! فلم 


يأكله بعدها أبداً . 


واعام أمها الملك أن علو الهمة مع الصبر حتى في الصوف واختلافه في الثمن, 
كل ذلك بالهمة والخدمة؛ ألا ترى إلى قول أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه: 


بقدر الكدٌ تكتب لمعالي 
قروم الهرّنم تنام ليلا 
لنقل الصخر من قلل الجبال 
وقالوا للفتى في الكسب عار 
إذا عاش الفتى ستين عاماً 
وربع العمر يمضي ليس يَدْرَى 


ومن طلب العلا سهر الليالي 
يخوض البحرّ من طلب اللآلي 
أُحَب إليّ من منن الرجال 
فقلت العارٌ في ذل السؤال 
قسيت اتسين يحتسي اللنجتال 
يُفُضئلى في يمين أو شمال 


وشغفل بالتفكر والعيال 


وقسمته على هذا امثال 


وربجع العممر أمراض وشيب 
فحب المرء طول العمر قبسح 
فصل وهو المقالة العاشرة 

اعام أيها الْمَلِك إذا أردت معاندة الملك فاعتبر جيشك وخلصه من المواطأة 
والنفاق, ثم زن مالك فإن قدرت على مشاركته فلا تبدده بالغي. وقلل ذلك 
وافتح له أبواباً موجبة. وإن خفته ولا طاقة لك به فمل إلى مصالحته فالزمان 
يدور كالكواكب ؛ وحَبّبْ من قدرت من أصحابه ولو برشوة. وفاسخهم وألق 
بينهم. وكاتب بعضهم على بعض ؛ وإن خفت أحداً من دولتك فداهن وسلم 
وتواضع. فربما تحجد الأمل. وإذا كشر الزمان فاصبر لعضه فلا بد أن يبتسم 
لك. وإن عزمت على حصار مكان فأوقع الخلاف في الحصن؛ كتب سليان إلى 
رستم : وأما بعد فإني لأخشى عليك من مخامرة الذين معك. فربما يسلمونك 
لأعدائك » ثم كتب إلى كبار أصحاب رست : « خافوا على أنفسكم. وهذه خطة 


ل 


إل في اغتيالكم, وقد زعم أنكم نافقتموه, فإن سام حصنه إلى شهرباز فلا تكون 
الدائرة إلا عليكم ». فلما قام القتال بينهما فروا جميعا إلى شهر باز . وكمن سليان 
عليه| بعد الكسر . وسهم بأصحابه فقتل رستم وقبض على شهرباز , ومر السيف 
على الفئتين فأصابهم مثل نوبة ب بني إسرائيل مع بختنصر : أوقع الخلاف في الحصن , 
فتحمل النساء على فجأة المبارزة» ثم تسجن على ذلك أو أقطعه للذين لا خير 
هم. ولا تنهبهم فتنصف بنفسك من نفسك . فتكون كالذي طابت له حلاوة 
العسل فعمد إلى خراب كوارة النحل , فتكون أشقى الثلاثئة: يروح المظلوم 
بالثواب . والظالم بالانتهاب. وتظفر أنت بمرارة الحساب» ومتى يعم المخراب يا 
غراب . ثم تكتب إلى أهل الحصن ولو في نشابة : من أراد خيره فلينزل إلينا! في 
قدر فلك الحصار فيكون في حزيران. واحفظ اليلد بالمقطعين من السياسة 
واللائذين بالدواب. وليكن لك في كل قرية علامة؛ وعاقب المخالف بأنواع ما 
تريد ما لم تجاوز النصفة, ومد المشتري, ثم انصب الأخواص. وشرع الثياب 
وصواني فيها ذهب. وفرق القتال في حنيات الحصن . وامنع خروجهم ودخوهم 
خوف الاغتيال, وقد كان عَلِْتَهِ عام خيبر مكنهم من الخروج., أطمعهم. وخرج 
الأكثر منهم ثم منعهم من الدخول. فإن اتفق له جهة أخرى ترك على الحصن 
مقطعين مع طائفة من خواصه؛ فإن اتفق قتال نقب ورزق ومنجنيق». فافعل 
ورهب وغزغز رمحك وتقعقع . وليكن باطنك على أهل السواد سلما ؛ والله تعالى 
أعلم . 
فصل وهو المقالة الحادية عشرة 

افتقد آلات سفرك قبل خروجك. وناد في سفرك لعسكرك بالإعلام قبل 
الخروج بمدة. واترك بعدك من يتفقد الناس. وليكن عندك صناع فما تحتاج 
إليه. وليكن لسوق عسكرك أمناء تحفظه بالتغليظ في السياسة, وليكن وزيرك 
عالماً بكتب أرباب السياسات مثل الممالك والمسالك وسياسات المعري التي أودعها 


>33 


الرئيس في آخر كتابه المسمى بالأدوية القلبية. وكتاب قوانين الملك لابن مرة. 
ويقتني مثل كتب البيزرة لكشاجم. وكتب البيطرة لابن قتيبة» والمنهل الروي» 
فهذا يحتوي على أصناف البزاة وأدويتها ودائها. وأصناف الخيول ستون صنفاً 
وكان الإسكندر ينظر الدابة فيعرف مرضها؛ وهذا هو الطب الأصعب. إذ لا 
يمكن فيه من المساءلة. وكان يقف في شباك له أو خيمة مشرفة على الدواب 
وعلفها فقيل له: أتباشر هذا الأمر بنفسك؟ فقال: نعم ؛ لأنها لنفسي. وأمغخص 
له فرس فسقاه ماء الأشئنان مبردا فهدأ. ومن جملة الخواص تمشيتها على قبور 
أهل الذمة. فقد سئل رسول الله يَلِنَةِ عن ذلك فقال: « تسمع من قبور أهل 
الذمة صعقات الانتقام وصراخهم من تحت فتفزع وتشفى » وهذه الخواص 
كثيرة من الحيوان والنبات والجاد. فقد ذكرنا أشياء منها في فصول هذا 
الكتاب. وقد روى أبو هريرة رضي الله تعالى عنه قال: «لما فتح عمر بن 
الخطاب رضي الله عنه مدينة القدس وأمر فيها عبد الله بن مسعودء فأتيته 
مهاجراً إليهاء فدخلت عليه فام أر له حاجباً ولا بواباً. فسألته عن ذلك» فقال: 
سيظهرها عثان ثم تسمعون بمنزها ؛ ثم رأيته ينقي شعير فرسه بيده فقلت له في 
ذلك. فقال: سمعت رمول الله يَلِنُهِ يقول: من افتقد قضم دابته بيده ونقاه 
بيده كان له بكل حبة عشر حسنات, أفتراني أعطى هذا الثواب لغيري! افتقد 
تقاف وجا ستاك :نه حي للك من تبر كف" الذى بطنتالك 1 ول نذا انقل :نخن 
أبي حازم قال: دخلت على عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى , فأخذ المصباح 
ينطفىء . فقلت : أما أنبه غلامك ؟ فقال لاء فقلت : (أفوع 510 فقان:0190ام قام 
عمر وأصلحه ثم قعد وهو يقول: قمت وأنا عمر وقعدت وأنا عمرء قبحاً 
لوجوه المتكبرين ! ثم أنشد : 

إذا عظم الإنسان زاد تواضعاً 2 وإن لؤم الانسان زاد تَرَقُما 
كذا الغصن إن تقو الثار تناله ‏ وإن يَعْرَ عن حمل الثار تمَتعا 


ارذنا 


فصل وهو المقالة الثانية عشرة 
في ذكر صفات منامك 


أيها الملك, إذا كنت في سفر فبرجاً أو حرماً حاداً أو مشاعل. وكن متيقظاً 
لنفسك , واشبع بالنهار واسهر بالليل بالمنادمة والقصص والسير وتدبير الأشغال. 
وإن كنت في الحصن فشد حراسة الباب والسور , وليكن البواب من جملة البرافيء 
ونم وحدك في مقصورة لطيفة. وأهلك خارجها والمفتاح عندك؛ فإذا استدعت 
اشيلن, يحقى بخرارياك ليلا ستل كار لتكتلا » فمعاشره الوحش الخفيف خير 
من حسن الثقيل ؛ قيل لجعفر الصادق رحمه الله تعالى : لم تختار السود على البيض ؟ 
فقال: مصيف ومشتى, وأخونة شتى. قال عبد الملك بن مروان: أطيب الجماع 
أفحشه. وقد شكا بعض الملوك من قلة الانعاظ . وكان يخاف الأدوية الحارةء 
فاتخذوا له كتاب الباه بطريق الحكايات فعلت فلانة وفعل بفلانة كما قال ابن 
الحجاج : 
ما كرهن النساء للشيب إلا أنه مؤؤذن بنومالذكور 

وانظر البيت الذي في القصيدة اليتيمة : 
وله قن راب بجستقته ‏ ضيق المسالك حره وَقْدٌ 
وإذا طعنت طعنت في لبد وإذا جذبت يكاه يَنَقشَكٌ 

واختلف جاريتان عند المأمون سوداء وبيضاء . فقالت البيضاء : الثلج يصلح 
للدواء ؛ وبياض الشمس عجب؛ وخير الثياب البييض ؛ والبييض أحسن من 
الفحم . فقالت السوداء : 

عنبر أشلهب وعود قباري 2 يتعاطى عند العناق لذيذا 

وفحم الشتاء خير من حجمأة الصيف الباردة» وعيب الشيب شديد . والبياض في 
العين عمى ؛ وليلة القدر خير من الف شهر 


3 


وسواد الشباب يطلبه الغانيات حقاً عجولا 

وسواد ثياب بني العباس أهيب, وعندنا مجامر الشتاء بساتين المصيف. ثم 
أنشدت ؛: 

أحب لحبها السودان حتى ‏ أحب لأجلها سُوة الكلاب 

وهو لكثير عزة. 

وحكى لي من أثق به أن المنصور أغرى بقتل العلويين حتى نفر أكثرهم إلى 
اليمن, فلما وصلت النوبة إلى المأمون وكان يتولى محبة أهل البيت. فسأل عمن 
بقي من الأشراف الفاطميين, فأخبروه عن قوم منهم بأرض اليمن , فنفذ إليهم 
ليستعطفهم, فأجمعوا رأيهم على أن كل واحد منهم يبعث شخصاً يشبه به من 
وكيله أو غلامه. فإن كان خيراً فيا يضره. وإن كانت الأخرى فلهم الأسوة 
بالسادات. فلا وصلوا إلى المأمون أكرمهم وأعطاهم وتزوجوا وتوطنوا. فإذا 
وجدت شريفاً مفتخراً غير ذاك ولأزكى فهو منهم. إذ هذا البيت المعظم لا 
انبساط للفحشاء على منازلهم. وهو معنى قوله: ٠‏ نحن أهل البيت لا نفجر ولا 
يفجر بنا ». والله أعام . 

فصل وهو المقالة الثالثة عشرة 
في حيل اليمين 

اعقد على نفسك عقد الدور لابن سريج؛ وقد كنت لا أقول به, ثم رأيت 
الخمر المغلى بالثوم له منفعة لأرباب القولنج البارد , وجماعة من أصحابنا يقولون 
به؛ وكل مسألة خلاف إذا حكم الحا بصحتها زال خلافها . ويشترط في نسخة 
اليمين معاني تؤول منهم إلى الفسخ بالتأويل ؛ واليمين على نية المستحلف . واحترز 
في عقد الوكيل وأعم الألفاظ : كلما وقع عليك طلاقي وطلاق وكيلي فأنت طالق 
ثلاثاً. ولا تمنع أيها الملك قول الحكباء والفتوى بهاء وإذا اخترتها فليكن باطناً , 


30 


وخطوط الشهود والحكام عندك؛ وإن ادعى نفيه فسام إليه ولا تسام إلى العامي 
عنانه» فهو جهول باليمين والعنان. واحذر اليمين بكل ما يتعلق بالله وبكلياته 
وصفاته؛ واختلف العلماء فما له حرمة غير هذا ؛ وأما اليمين الغموس فإنها تذر 
الديار بلاقع. وذلك أن يحلف على ما يعام كذبه. واقعد أيها الملك قعود 
المتأدبين. وكن قليل الكلام. إذ لا يصلح الكلام الكثير للملك ولا للزاهد . 
وقد يحصل إظهار الفوائد للعلماء بالكلام . ولا تخطيء المفتين, ولكن قابل بعضهم 
ببعض , وقد سمعت ما قال عليه الصلاة والسلام : : استفت نفسك وإن أفتوك» 
فالحلال بين, والحرام بين. وبينها أمور متشاببات, فذر ما يريبك إلى ما لا 
يريبك » وقال عليه الصلاة والسلام: « من جعل الحلال له قوتا اجيبت دعوته. 
وعلمت مروءته. وحسنت سريرته.ء وعلت كلمته. وحصلت امنيته. وطابت 
هيئته. وطهرت ذريته, وتنورت نطفته, وذرفت دمعته. وظهرت حكمته. وقل 
غضبه, ورق قلبه وخف ذنبه. يا علي رد درهم مظلمة أفضل عند الله من أربعة 
آلاف حجة مقبولة؛ يا عل من غضب غضب الله عليه. ومن ظم ظامء ومن أكثر 
من الصدقة نصر في ذريته». في الحرام هو أن معاد النفوس واحد. ومرجعها 
إليه بعد القبض . فإذا ظام بعضها سرى الظام في كلها. وهو معنى قوله تعالى : 
«من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً ومن 
أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً © [المائدة: ١‏ ] فإذا أوصلت إلى النفوس برا 
وصدقة وخيرا وعدلا وإشفاقا. سرى ذلك إلى جميع النفوس بعد القبض فصار 
خيراً. فإذا وصل بهم كان ذلك خيراً للجميع ؛ ألا ترى قول الرجل لامرأته: 
بعضك طالق . كيف يسري الطلاق في الكل ؟ إذ الطلاق لا يتبعض . 

وليكن لك أيها الملك إمام يوم بك , وليكن عالاً ديناً يعرف بذلك., وليكن 
شيخاً أو أعمى. وعام مماليكك خطاً ورموزاً . فإن اتفق أن يكون المعلم خادماً أو 
شيحاً فأولى. وللنساء امرأة دينة. واعم أها الملك أن أهل الزمان فاسدون 
لتشاغل الرجال بالرجال والنساء بالنساءء وهو أعظم المقت والسخط. ومنه 


35 


حصلت الاباحة لبعض الطوائف حتى بسطوا فيه وأقاموا لهم فيه شبهاً نقلية 
وعقلية: أما النقلية فقوله تعالى: هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً » 
[ البقرة: 59 ] قالوا : هكذا كان الناس على المنهج القديم ليس تحليل ولا تحر , 
ولكن الأنبياء حللوا أشياء وحرموا أشياء . وقال تعالى : # وويل للمشر كين الذين 
لا يؤتون الزكاة» [ فصلت: 7] وقد تعلقوا بإباحة أبي بكر رضي الله عنه 
أموال بي حنيفة؛ وزعموا أن الخطاب من الرسل إما أن يكون لموجود أو 
لمعدوم ؛ فالمعدوم لا يخاطب , والموجود المخاطب في زمانهم فقد درج معهم. فمن 
هذه الشبهة تمسك أرباب الإباحة مثل النصيرية وغيرهم. وسنذكر تعلقاتهم في 
اماكنها. وقد عرفتك ايها الطالبطريقك النفيسةمثل لبس النظيف والطيب وقلة 
الكلام بطريق الاختصار . 

وأدب أصحابك أن لا يشكو منهم قريب ولا بعيد مثل قول الحكاء : ثلاثة 
إن لم تظلمهم ظلموك: ولدك وزوجتك والمملوك. وإياك وقرب الملوك؛ فإن 
قربوك فتنوك . وإن بعدوك احزنوك. 

وهذه وصايا الملوك. فإن هممت بتحصيله فربما أعانتك السعادة, وإن أراد 
الله أمرأ هيأ أسبابه وحرك القضاء بتحريكه؛ وقد كان الله قادراً على تحصيل 
الرطب لريم من غير هز ك) قال في النظم البديع : 
ألوترأنالله قال لريم 2 وهزي إليك الجذع يَسّاقط الرطب 
ولو شاء أجنى الجذع من غير هزها 2 ولكنا الأشياء تجري لا سبلب 

فإن وقع لك صناعة الحجرين الأحمر والأبيض فحصله., ولكن ذاك عنك 
بعيد . وبالهمة يفتح عليك بعض هذه الطريق؛ أما سمعت في رموز أمير المؤمنين 
رضي الله عنه أن في الزئبق الرجراج مع الشب المصعد مالا هنيا؟ فذوو الهمم 
القصيرة يقصرونك عن نيل مقاصدك. وإلا فمن طلب وجد ومن جد وجد؛ 
ولهذه مثل. وهو أن بعض المتصوفة سمع هذا الحديث فقال: سأجرب نفسي في 


7” 


طلب المملكة . وكان فيه آلة من علم وأدب. وكان محلاً قابلاً للملك. فتقرب 
إلى الفراشين فخدم معهم ففشا أمره في السيرة الحميدة؛ ثم مات مهتارهم فصار 
مكانه, ثم عبث في الديوان حتى انتقل إلى مكان زمامهم؛ فلا انتشر شكره وذاع 
خبره وذكره قُبض الوزير ورتب مكانه. فساس الرعية وأظهر العدل واستراح 
الناس من ثقل ما كانوا فيه. حتى مات الملك فتصور مكانه وتزوج ابنته. 
فاجتهد في التدريج والتطويل وحصل. وقد شاهدت خمد بن صباح إذ تزهد 
تحت حصن ألَمَوْت وكان أهل الحصون يشتهون أن يطلع إليهم فام يفعل. وهو 
يحصل المريدين ويعام طريق الإرادة والتلمذة وشيئاً من الجدل؛ ثم جعل يمهذر بكلام 
على قدر عقوهم من جملته: ما تقول في قائل لا إله إلا الله هل هو محق أو غير 
محق ؟ فإن قلت محق فليزمونك باليهود والنصارى؛ وإن قلت غير محق. قالوا فلم 
تتعلق بها ؟ ثم جذب الناس وجعل يقول للمريدين: أما ترون الناس قد تركوا 
الشريعة ! فلما كبر الأمر خرج إليهم بطريق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكرء 
فصبا إليه خلق كثير. وخرج صاحب القلعة إلى الصيد والتلامذة أكثرهم أهل 
القلعة. ففتحوا الحصن . ودخله وقتل الملك في الصيد . وفشا أمره ومذهبه حتى 
صنفت في الرد عليهم كتاباً وسميته قواصم الباطنية ومنتظرهم فلا بد في آخر 
الزمان أن يهجروا الشرائع ويبيحوا المحرمات فانظر هذه الطريق التي شرعنا لك 
أيها الملك وجعلناها إشارة وسلما تنال بها مقاصدك. 

وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه أمر الحطيئة أن يجمع حديث عبس 
وذبيان» ولا بأس بجمع هذه الكتاب, حتى تنور نيران النخوة. فتمد باع همتك 
إلى أسنى طلبتك وأقصاها وأعلاها. وقصص الأنبياء تكفيك إن غفلت., وقد 
علمت صبر الأنبياء على نيل المقاصد مع الأعداء حتى فازوا بالنيل. وقد سمعت 
حديث داود بن شعيا ولد سلبان عليها الصلاة والسلام؛» وكان صبياً. فليا 
حاول وعضدته يد السعادة فقتل جالوت حتى تزوج ابئة طالوت, وكان طالوت 
دباغاً. وهكذا سير الملوك. فانظر في كتاب: والأسباب والمعارف» لابن قتيبة 


8 


ودع النظر في الصغر, وانظر الشاعر كيف يقول: 
لا تأمنن إذا ما كنت ذا أدب مع الخمول بأن تَرْقَى إلى الفنك 
بينا ترى الذهب الإبريز مُطَّرَّحاً في الأرض إذ صار إكليلاً على الملك 

وبطعم الحديد وذوقه يتأدب الكرم عند كسحه., وإذا ترك عجمه سنة 
هلك ؛ ألا ترى إلى الحيوان البهم كيف بالضرب والأدب يتعام الرقص والتطاير ؟ 
ولما مات هارون استخلف الأمين وفر المأمون إلى مدينة أصفهان ومعه الحسن بن 
سهل. وكان المأمون ذا فنون وعلوم وآداب, فقعد المأمون في المسجد الجامع 
وقد فرشه باللبد زهدا والناس يبرعون إليه لتعلم العلوم . وابن سهل يوميء إلى 
الطوائف ويقول لهم: أليس هذا هو الخليفة حقاً؟ فبايعوه! ويقول هم: سنة هذا 
سئة الأولين الطاهرين؛ فام يزل يستدرج الناس حتى حوى عسكره ثمانين ألفا . 
وكانت الأعاجم تسمع بطريق الأمين الفاسد ففروا وطليوا المأمون. حتى عقد 
الجيوش لطاهر بن الحسين فدخل على الأمين فقتله, واستولى المأمون. فكم من 
هذه السير المنقولة ! وإنما نسمعك بعضها تقوية وإعانة لهمتك . 

والولع بكتب الأولين مثل كليلة ودمنة والمغازي وحديث عبد الوهاب. ولا 
يلزمك من سقمها وصحتها شيء» قال الشافعي رضي الله عنه: مسقط الرأس 
مسقط الإنسان. فكن وف العهد والكلام, وليكن لك محتسب يحتسب عليك 
وعلى من في دارك من المسلمين, ثم ينظر في مشارع البلد ومصالحه والأسعار. 
وإن كان قد نهي عن التسعير لكنه ليس به بأس. فقد فسدت الناس وقلت 
الأمانات كبا ذكر في كتب الملاحم لرسول الله علِتَمِ . وخطبة الإمام فيا يتجدد . 
ويكون للسعادة مباد وتناه. فقد نقل أن الله تعالى لما بعث نبيه مومبى عليه 
الصلاة والسلام قيل لفرعون: تلميذك موسى يخاطب علة العلل. فأمر بإحضاره 
وقال: يا بني تزعم أنك تخاطب علة العلل ؟ قال: نعم. قال: بم نلت هذا ؟ قال: 
بسهم السعادة. فقال: من أي جهاتك تسمع كلامه؟ فقال: من جهاتي الستء 


>38 


فقال: إن لكل نبي معجزة فيا معجزتك؟ فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين؛ 
فقال بعض الحسدة الحاضرين: إن عصي سرنديب إذا نقلت إلى هذه البلاد 
تكون حيات. فقال له موسى: خذها إليك. فإن كان كما تقول فستكون وإلا 
فتبطل . فبهت الرجل وبطل . فقال فرعون: اتبعوه فقد جاء بخرق العادات. 

والسعادة الكلية هي من الفيض الأول, ثم يفيض من طريق التحري إلى كل 
محل بما يقبله. والفيض الأول من العلة الأولى يتنائى بطريق الفيض الوهمي 
الذي عجزت العقول عن تحصيل كنهه . والذي صدر عن علة العلل من الفيض 
الأول هو العقل الفعال الصادر بالكلية عنه. والنفس الكلية هي التي تفيض 
النفوس عنها . والذي يتجلى للخلق من العقل هو بقدر نزول الشعاع للشمس في 
النوافذ والنور. ومثل تحلي العقل للأنبياء كمثل الشمس المنخرقة في الأرض 
الفلاة, وهو معنى قوله عليه الصلاة والسلام: « خلق الله الخلق في ظلمة ثم رش 
عليهم شيئاً من نوره. فمن أصابه شيء من ذلك النور اهتدى, ومن لم يصبه 
فظلرات بعضها فوق بعض » وهو معنى قوله تعالى: #ألم نشرح لك صدرك » 
[ الشرح: ١‏ ] وقوله تعالى: #أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من 
ربه 6 [ الزمر: ؟؟ ] وهو النور الذي تحلى لإبراهم عليه الصلاة والسلام. وكان 
في بدئه ضعيف شاهد من نوره الكوكب. فلا تحلى لابراهيم عليه الصلاة 
والسلام» وتقوى جناح همته بطريق المجاهدة, وانخرقت له الأنوار القدسية من 
رؤية حالة باطنه وسرهء شاهد الشمس والقمر؛ فلا صفت العلة وخلصت الخلة 
شاهد بمقياس الحظ أصل العلة الأولى التي فيها مبدأ فيض السعادة. فقال عند 
وجود سهم السعادة والحظ #وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض » 
[ الأنعام : 79 ] فلما وجد انخراق النور الالهي لم يلتفت إلى مال ولا ولد. فنهب 
يد الانتقاد ماله وولده. فجعل ذلك غرامة بطريق التصوف لوجود حاله فقال 
في رفض ترك نقصه عند وجود حقه ورؤيته الكبال: ها هو ذا جسدي للنيران» 
وولدي للقريان» ومالي للفيضان . 


فكن أيها الملك على هذه الطريقة والوتيرة حتى ينكشف لك ستر الباطن عن 
منهج الحقء فتقعد على كرسي طب أحوال العالمين» فتجس بمقياس الفراسة 
طريق معرفة الظالم من المظلوم. واعام أن الغنى والأموال هي مدخرة لتحصيل 
المملكة الدنيوية والأخروية» فإذا صح لك هذا الطريق غلبت بسهم السعادة من 
عصاك. ومنه يحصل لك تسخير الهمم العلوية. ولا يراد الخلق إلا للثواب والثناء 
وإلا فيا هي إلا أرواح سائرة عن أجساد خالية. وقد ورد في لطائف الحكايات 
أن الملائكة قال بعضهم لبعض: اتخذ ربنا من نطفة رديئة خليلاً وقد أعطاه ملكاً 
عظباً ؛ فأوحى الله تعالى للملائكة اعهدوا إلى أزهد كم ورئيسكم! فوقع الاتفاق 
على جبريل وميكائيل فنزلا إلى إبراهيم في يوم جمع غنمه عند رابية للحلب. 
وكان لاإبراهيم أربعة آلاف راعء وأربعة آللاف كلب. في عنق كل كلب طوق 
من ذهب أحمرء وأربعون ألف غنمة حلابة. وما شاء الله من الخيل والجيال» 
فوقف الملكان في طريق الجمع فقال أحدهها بلذاذة صوت: سبوح قدوس» 
فجاوبه الآخر: رب الملائكة والروح» فقال: أعيداها ولكبا نصف مالي ! ثم قال: 
أعيداها ولكما مالي وولدي وجسدي ! فنادت ملائكة السموات: هذا هو الكرم » 
فسمعوا منادياً من العرش يقول: الخليل موافق لخليله. فكن أيها الملك غير مبال 
يوجود المال وعدمه إذا سلمت لك نفس رياستك وقلة مملكتك. وسنذكر 
حكايات الكرم في مواضعها من كتاب: «السلسبيل» وكتب «إحياء علوم 
الدين ». فإذا اردت اقتفاء اثار السابقين فقد ذكر في كتاب فتوح سيف الدين 
الكوفي أن أهل الشام لما أثقلهم الحصار وقالوا لا نسام إلا لأمير المؤمنين عمر بن 
الخطاب رضي الله عنه. فلما علم عمر ذلك حصل فرساً وحماراً. فقال له كبار 
أهل المدينة : المملكة بناموسها , فأجابهم بأن المملكة معطيها صاحب المماء . فصفوا 
خواط رم وعلوا هممكم لتبصروا السعادة بمقاييس الأنوار من وراء الأفلاك. ثم 
مار إلى الشام فاتفق له أن وقع به الحمار في غدير ماء متغير وحبأة. فابتلت 
مرقعته. وكانت نوبتهء فعرضوا عليه ركوب الفرس فأبى . وقالوا : قد أقبلت 


ص 


العساكر والرهابين لتم عليك., فغير ما عليك! فلم يلتفت حتى أقبل عليه جملة 
الشاميين بنواقيسهم وقبعاتهم, فلا رأوه في تلك الحالة قالوا بأجعهم: أنت عمر 
ولك نسام ولك نطيع وندين» كما قال المسيج: « إذا وصلكم صاحب المرقعة 
المبلولة بالماء والتراب فسلموا إليه». فهذا خبر سر معارف رسول الله يدم كيف 
صفا ووفى., فعرفه سر ما كان وما يكون. ومن تلك الأنوار اغتصر الناس 
ملاحم رسول الله عَِنّهِ ٠‏ وقمر النبوة الذي هو أخوه وشريكه في نوره اعتصر 
كتيباً مثل الجفر والجامعة وكتاب خطبة البيان وهي حاوية على أكثر ما يكون 
في الزمان. 


وإن طلب أحد المدنة فهادنه إن كان مسلاً. وإن كان كافراً وقدرت عليه 
فلا تهادن كيلا تفوت الفرصة؛ ولتكن الهدنة إلى أمد معلوم وأقلها أربعة أشهر . 
فإن صفت همتك وكانت روحانية ها مجانسة في الملكوت الأعلى, وعلو همتك 
ظاهرة, فخذ طريقاً صالحاً من تثليث وتسديس من نجهم ناظر إليك لا إلى سواك 
ويخر له فإن تونست به صار لك وزيراً» والأصل في البخور هو علو الهمةء 
وتزكية النفس . وتقليل المأكل. والانقطاع في الخلوة ودوام الذكر. ينخرق 
لك من رؤية الغيب من عم الباطن أنوار المكاشفة. فتصير الأملاك والأفلاك 
حديثاً يغلب لاهوتك على ناسوتك» فتصير زيتاً لمصباح مشكاة الأنوار الإلهية 
كها قيل ( شعر ): 
ثقلت زجاجات أتتنا فرغاً ‏ حتى إذا ملشت بصرف الراح 
خفت فكادت أن تطير بما حَوَتْ | وكذاالجسوم تخف بالأرواح 

وإذا حصل لك خمير السعادة من العلة الأولى التي هي مبدأ كل علة بطريق 
المجاهدة في تحصيلها . أفرغت عليك أنوار المحبة» فصار الخلق لك طائعين بلا 
سيف يسيف بينهم, ثم يبسط باع فيهم كا كتب بعض الملوك على درع له 
( شعر): 


زذنا 


على درع تلين المرهفات له من الشجاعة لا من نسج داود 

وإني فيه أمر الله صيرني 2 ناراً من البأس في بحر من الجود 
فإن انسد عليك باب المجاهدة وغلقت , ورأيت باب الطلب مسدوداً فلا 

ترض بالمناقصة. بل تميل إلى الزهد فإن الناس رجلان ناسك ومالك, كما تمثل 

عمر رضي الله عنه ببيت الفرزدق استشهاداً به ثم أنشد ( شعر ) : 

إما دُبَاباً فلا تعبا بمنتقصة أو قمة الرأس واحذر أن تقع وسطا 
ومثلها قال أمير المؤمنين عل رضي الله عنه ( شعر ): 

إذا مالم تكن ملكاً مطاعاً كا ترضى فكن عبداً مطيما 

فإن لم تملك الدنيا جميعاً| »عا تختار فاتركها ججميعا 

هما شيئان من نسك وملك "2 ينيلان الفتى شرففاً رفيعهما 

إذا ماالمرء عاش بكلثبيء | سوى هذين عاش به وضيعا 


وكتب معاوية إلى ابنه يزيد : إن فاتك يا بني الملك فلا يفوتنك المحراب. 
وبهذا الطريق نال الناس مطالبهم حتى رأينا الملوك متقاطرين على باب الزهاد ؛ 
وهذا قال القشيري : 
إذا ما لفقي لباب الأمير ‏ فبئس الأمير وبئس- الفقير 
وأما الأميي بياب الفقير فنع م الأمير ونعم الفقير 

واعام أنه إذا حصلت القلوب بمعرفة صمديتهاء وانكشف لا نور الجلال 
بالبراهين الباطنة. وحصلت التخلية والتصفية. كوشف بالعالم العلوي والاخروي 
وعم سر معانيها ؛ فهو الذي كوشف بمعرفة الكيمياء الأكبرء فتصير الملائكة له 
خداماً . فيشاهد أساور الجنة وأسرها كما قال رسول الله ينه : و كيف أصبحت 
يا حارث؟ قال: أصبحت بالله مؤمناً حقاً. فقال عليه السلام: إن لكل حق 
حقيقة فا حقيقة إيمانك ؟ فقال: أعرضت نفسي عن الدنيا فاستوى عندي ذهبها 
ومدرهاء وكأني بأهل الجنة في الجنة يتزاورون» وبأهل النار في النار يتعاورون» 


وكأني بعرش رلي بارزاً. فقال عليه السلام: مؤمن نور الله قلبه الآن عرفت 
فالزم! واقسم عمرك وأيامك ودهرك أثلاثا : ثلثا لنفسك . وثلثا لرعيتك , وثلثا 
لربك ». 

واعلم أن الناس بك لائذون لطلب منافعهم. وكل أحد يريدك لنفسه إلا 
الله فانه يريدك لك. فكن معه ولازمه ولا تستهويك الأماني, فالظل لا بد أن 
يزول ولو عمرت ما عاش آدم؛ أخبرني الأستاذ الجويني عن مشايخه: قيل 
لحمود بن بويه: كيف عمدت إلى طلب المملكة ولم تكن فا أهلاً ؟ فقال: سمعت 
امرأة تنقر دف وتقول بيت لعمر بن سبطي ( شعر ) : 
من هاب خاب وجاسر بلغ المنا ‏ والدهر فيه عذوبة وعذاب 

فحملني ذلك على طلبها فطلبتها ونلتها . 

وقد تحالى المتنبى حيث قال ( شعر ): 
فب وائثقاً بالله وثبة حازم20 يرىالموتفيالهيجاجنا النحل في الفم 

وانظر إلى علو همة الحلاج. وإن كان قد قال الحاسدون فيه ورجموه 
بالحلول. وقد تلقى الموت غير خائف, ونطق ظاهره بما أعمى جهلتهم. حتى 
قيل لأبي العباس بن شريح: ما تقول في الحلاج؟ قال: ما أقول في رجل هو أفقه 
مني في الفقه. وفي الحقيقة ما أفهم ما يقول. فقيل له: ما سمعت منه من جملة ما 
سمعت؟ قال: سمعت في بعض كلامه وهو يشير إلينا: من حضر بطلت 
شهادته. ومن غاب صحت. وفي مثل هذا قال رسول الله عله : ٠‏ حسنات 
الأبرار سيئات المقربين؛ لأنهم واقعون مع صف التجلي, فرا لهم والندم على ما 
كان والخوف مما يكون؛ صفت أحواهم في راووق المجاهدة. فامتنعوا بطريق 
الدلال لا عن الالتفات إلى غيره, فطاروا بأجنحة علومهم المجموعة في المجاهدة 
والتصفية والتزكية فخرقوا حجاب الناسوت حتى وصلوا إليه؛ ضاقت بهم 
العبودية فخرجوا عن حيز العالمين, فمزجت الناسوتية بصفات اللاهوتية. ثم 


3 


عادت النفوس الطاهرة إلى معادنهاء فهبت عليهم نسمات واجب الوجود . فحلوا 
في خيام الراحة بعد البعث في مقعد صدق عند مليك مقتدر كما قال السكران 
من العشق ( شعر ) : 
إنما الحب ئغ ا كله رحممالله امرءا قال به 
إن من أضحى بقلي سالا لم يذرمنهسوى قالبه 
في ظلال الشوق قلبي راقد 2 من هجير الجر قد قال به 
فإن لم تكن أيها الملك الطالب لا بهمة علوية ولا بيد باسطة سبعية فأنت كما 
قيل ( شعر): 
إذا كنت لا ترجَى لدفع ملمة ولا لذوي الحاجات عندك مطمع 
ولا أنت ذو جاه يعاش بجاهه ولا أنت يوم الحشر ممن يشفع 
فعيشك في الدنيا وموتك واحد ‏ وعود خلال من حياتك انفع 
ومثله ( شعر): 
كتب القتل والقعال علينا وعلى الغانيات جر الذيول 
وقد مر بك شعر آخر: 
إن لم يكن بد من الموت فمت 00 تحت ظلال الأسل الذواببل 
وكن آخذاً بقلوب الناس بكتب وهداياء واستجلاب مودات الكبارء 
والخدمة للأخيار . وإكرام العلماء . وإمدادات أحوال الناس. وسد خللهم, 
والصفح عن زلاتهم؛ وانظر كيف أدبك المصطفى عليه السلام حيث قال: 
وأمرت أن أعفو عمن ظلمني وأصل من قطعني وأعطي من حرمني., وأن أجعل 
سكو فكرة وكلامي عبرة». إن أردت الجواب فلا تعجل, واستعرض كلام 
الرسل متفرقين غير مجتمعين, وأعط الجواب على تؤدة؛ وأرض الرسل ينبسط 
ناؤك. فقد قيل إنه لما دخل حكم العربعلى كسرى أجزل له العطاء . فلامه 
بعضى الكبار . فقال الملك : مملكة وجمع لؤم داءان ودواء فالغلبة للأكثر . واتعظ 


بقول الله تعالى : # وتلك الأيام نداوها بين الناس» [ آل عمران: ١4٠‏ ] فهكذا 
قد انتقلت من سواك إليك. وستنتقل منك إلى سواك؛ وانظر إلى الأمثال 
المضروبة في شعر أمير المؤمنين عليه السلام ( شعر ) : 
الناس في زمن الاقبال كالشجرة ‏ وحوها الناس ما دامت لا ثحرة 
حتى إذا ما عَرَتْ من حملها انصرفوا 2 عنها عقوقاً وقد كانوا بها بررة 
وحاولوا قطعها من بعد ما شفقوا دهراً عليها من الأرياح والغيرة 
قلت مروءات أهل الأرض كلهم إلا الأقل فليس العششر من عشرة 
لا تحمدن امرءاً حتى تجحربه فربا لم يوافق خْبِرهُ خَبَره 
واصطف لك من الناس من تركن إليهء فقد اصطفى الله من الناس رسلاً 
ومن الملائكة. والله أعلم حيث يجعل رسالته. واذا عزمت على دخول الحام 
فالأفضل يوم الأربعاءء ففي الأثر «من دخل أربعين أربعاء الحيام أمن من 
الفقر» وآخْل ليلة الخميس والجمعة لطلب حاجاتك من الله الكريمء ففيها بلغ 
الأنبياء والعلماء وأرباب المقاصد والرياسة (شعر): 
وكان ما كان مما لست أذكره ‏ فظن خيراً ولا تأل عن الخبر 
وني يوم الجمعة ساعة من أدركها بلغ حاجته, فقد قيل هي في أول النهار. 
وقيل وسطه. وقيل آخره. وهكذا نقل عن فاطمة صلوات الله عليها أنها كانت 
تترك جارية لها لتعرفها غروب الشمس من يوم الجمعة. واقرأ فيها سورة الأنعام 
ولا تكام فيها أحدا. فإذا وصلت إلى قوله تعالى: «#الله أعلم حيث يجمل 
رسالته » [الأنعام: 5؟١]‏ فاسأل. لأن الله ما رذ قمم من أقسم عليه من 
النبيين. وكل من الأنبياء كان له خاصية في يومه؛ مثل السبت لموسبى, والأحد 
لعيسى . والاثنين لإبراهي: وفي يوم الثلاثاء جاءت البشارات لنوح عليه السلام 
بالنصرة. وف يوم الأربعاء انتصر زرادشت على أهل أرمينية» وكان الخميس 
والجمعة لرسول الله يِه . وقد قال المنجمون في أيام الأسبوع ما قالوا وجعلوا 


اونا 


لكل كوكب يوماً: فالسبت عندهم لزحل, والأحد للشمس. والاثنين للقمر. 
والثلاثاء للمريخ . والأربعاء لعطارد . والخميس للمشتري , والجمعة لنزهرة. وقد 
ذكرالجمهور منهم أن طالع رسول الله عَم تولاه الزهرة؛ وهم لم يطلعوا على 
الأسرار. ونحن نكشف نبذآ من ذلك فنقول بأن مومى دعا إلى المغرب لتحكم 
زحل في تلك الجهة. وقبلة عيسى إلى المشرق نحو الشمس. وقبلة نبينا جمد عله 
إلى جهة الكعبة وهذا سر لم يطلع عليه أحد إلا من شاء اللهء وذلك أنه إذا قام 
مستقبل القبلة الحرام كان سهم زحل بميناً. وسهم الشمس ثملاً. والجدي في 
مقابلة وسط الكتفين. والنسر الطائر وسعد بلع في جهة العلوية؛ فتم مع السعادة ما 
تم فأصيب بسهم السعادة ما لم يصبه أحد سواه. فبلغت حجته. وعلت كلمته 
ودامت دولته. وسعدت امته. وعضدت شريعتهء فنصرها الترك من المشرق 
وأهل المغرب حتى بلغ أنهم آمنوا لا بالسيف بل بالكتب ( شعر ) : 


أوائل الركب مالي منهم خبر 

وهكذا البيت الثاني . 

واسمع قصة عيسى عليه السلام مع جالينوس ملك الساحل وطبيبهم. حين 
نفذ إلى عيسى: إنا لا نطلب منك إحياء الموتى بل هذا الرجل المسلول اشفه لنا 
في هذا الشهر كانون وأنا أومن بك! قال المسيح: انتوني ببطيخة, فسقاه منها, 
فقاء الرجل شيئاً أسود على هيئة الخبز المحرق. فقام بقدرة الله تعالى سلياً لا 
مرض به. ثم قال عيسى عليه السلام : مهددني جالينوس» ثم دخل هيكل العبادة 
فا انتصف الليل إلا وثار على جالينوس علة اساطوريا والكرائثية. فهات بها قبل 
الصبح. وحدثني يوسف بن علي بأرض اه ركان التي بنبات أرضها خواص عظيمة 
نذكر نبذاً منها في أماكن من هذا الكتاب, وشيئاً في كتاب « السلسبيل ؛ قال 
يوسف شيخ الإسلام: دخلت المعرة على زمانالمعري وقد وثشى به الوزير إلى 
الملك مود بن صالح. وقال إن المعري رجل برهمي لا يرى إفساد الصورة 


/ 


وأكل الحيوان. وإنه يزعم أن الرسالة تحصل بصفاء العقل؛ ولم يزل الوزير 
جاهدا حتى حمل الملك على إحضار الشيخ ألي العلاء المعري . فانفذ وراءه خسين 
فارساء فدخل إلى الشيخ رجلان من اصحابه واعلباه بالقصة. فد خل المعري 
المسجد وأنزل الفرسان في دار الضيافة. فدخل مسم عم المعري على الشيخ وقال: 
يا ابن اخي قد نزلت بنا حادثة. يطلبك الملك . فإن مانعنا عنك عجزنا. وإن 
سلمناك كنا عاراً عند ذوي الذمام وتكون الذمام على آل تنوخ؛ فقال المعري: 
خفف عنك غمك وأكرم أضيافك. فلى سلطان يذب عني ويحامي عمن هو في 
ححاه؛ ثم قال الشيخ لغلامه: قدم الما ! فقدمه إليه واغتسل بهء فام يزل يصلي حتى 
انتصف الليل ومر أكثره. ثم قال لغلامه: أين المريخ ؟ فقال: هو في منزلة كذا 
وكذا فقال: ارقبه واضرب وتدا تحته. وعقد خيطا في يدي متصلا بالوتد ! 
ففعل به ذلك فسمعناه يقول: يا علة العلل يا قديم الأزل. يا صانع المصنوعات, 
أنا في حماك الذي لا يضام ؛ ثم جعل يقول الوزير الوزير حتى برق بارق الصبح . 
فسمعنا هدة عظيمة, فسألنا عنها فقيل هي دار الضيافة وقعت على ثمانية وأربعين 
رجلاً . وعند طلوع الشمس جاءنا كتاب الطائر يقول فيه: لا تزعجوا الشيخ فقد 
وقع الحمام على الوزير. ثم التفت الشيخ إل وقال: من أي أرض أنت ؟ فقلت : 
من أرض الله تعالى. فقال: أنت من أرض الهركازء. أنت يوسف بن عليء 
حلوك على قتلي وزعموا أني زنديق؛ وكان حجتنا بالشام, ثم قال لي: اكتب 
على صفة الحالة ( شعر ): 

باتوا وحتفي أماني لنيتهم | وبت لم يحضروا مني على بال 
وفوّقوا لي إشارات سهامهم فأصبحت وقعاً مني بأميال 
فا ضونك أن جندي ملائكة وجندهم بين طواف وحجال 
لقيتهم بعصا موسى التي منعدت | فرعون ملكا ونجت آل إسرال 
أقمي خسين صوم الدهمر ألفه واد من الذكر أبكاراً لآصال 
عيدين أفطر في عامي إذا حضرا عيد الأضاحي ويقفوعيد شوال 


8 


إذا تنافت الجلاس في حلل) رأيتني من خسيس القض سربالي 
لا آكل الحيوان الدهر مأئرة أخاف من سوء أغاللي وآمالي 
نهيتهم عن حرام الشرع كلهم | ويأمروني بترك المنزل العالي 
واعبدالله لا ارجو مثوبته ‏ لكن تعبيد إكرام وإجلال 
أصون ديني عن جَعُل أؤمله إذا تعبد أقوام بأجعال 

فإذا كنت أيها الملك على هذا الوصف بلغت المقاصد . ووصلت إلى المشرب 
الهني» ونكبت أعداءك, وتصير مثل دعاء القلنسوة والنجاشي» وربا تكون أنت 
املك السفياني يفتح لك الحصون من غير تعبء ويجود بك الذرع والضرع 
والزرع, إذ الناس بالمال, وربما تسعد بهذه الحالات كبا سعد الإسكندر . فيا قد 
كان يجوز أن يكون. وقد قال في خطية البيان: لا بد من ظهور ملك عادل 
زاهد خائف. بمهد البلاد ويحسن إلى العباد وهذا بعد ثلاث وسبعين بما شاء الله. 
وهذه من الخواطر الربانية كيف ظهرت فراشتها في كشف الأمور المغيبة» فإذا 
رق حجاب القلب يرتفع السد , يتبينله ما في اللوح المحفوظ فيخبر بما في عالم 
الغيب من غير ريب ؛ والله عالم الغيب يعلمه من يشاء . والملوك تودع سرها عند 
من تحبه وتختارهء وقد سمعت حكاية أيار مع السلطان ممودء فانتبه أيها الملك 
هذه النكت والإشارات. وقد نصحت لكم إن كلتم تحيون الناصحين . والملك 
بالعلماء أليق من الفجرة الفاسقين, ولكن ليقضي الله أمراً كان مفعولاً . ولا بد 
للأرض من ناصر ووارث يورثها من يشاء من عياده. 


م لمالاو ل وبليه القترالش) 


ا 





5 
للامكا م حختة الإسسثلام 
7 د عٍِ 2 
7 ال ل 
و فيك 7 * ل 


امال شان 


يسم الله الر حمن الرحيم 


اعلم أن الناموس هو مفتقر إليه في بعض الأحيان كالدواء» لكن نكشف 
شرح مشقة الأحوال عند العوام» فإن صاحب الشرع خاطب الناس على قدر 
عقولهم, والمنزه ذكره خاطب كل أحد بما يستحقه ويعقله: فلقوم ولدان 
مخلدون. ولقوم سدر مخضود وطلح منضود, ولأرباب الهم العالية 9 وجوه 
يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة» [ القيامة: .٠7‏ 7 ] والمنشد قد نبه في نظمه 
( شعر): 
إما ذباباً فلا تعبا بمنقصة أو قمة الرأس واحذر أن تقع وسطا 

واعام أن الزمان حبيب أهله؛ وطائفة تخترع لها مذهباً في الناموس بطريق 
الزهد . كالسبح» والمرقعات, وجلود الغنم. والبرانس » وأذان اليل والانقطاع 
في الكهفان, وكير الأمور بحيث أن يقول لصاحبه اذهب ففي الموضع الفلاني 
كذا وكذا. وطائفة تظهر النور. وأخرى تقعد بين القبور. وإظهار الخزعبلات 
والنير نجيات بمعرض الكرامات. ودهن الأقدام, والخوض في النورء وإظهار 
الخرق من سمندل الصين التي يذهب وسخها النار. وإظهار الخفف. ومد 
الشعبذة. وضرب طلسم على النعل فيعبر الماء » ووقوف السجادة في الهواء .» وشعلة 
القناديل » وإشعال السسراج بالماء دون الدهن . وكثير من ذلك لا عدد لها . والفرق 
بين المعجزة والسحر والكرامة هو دوام الشيء وإظهاره للناس , كالقرآن المجيد ‏ 
فهو المعجز الأكبرء والناموس الأعظم. فلا تطلى على الملك حالات المبرهن. 
وأما أرباب الكرامات والمكاشفات فهم الذين استخدموا وخدمواء واستعملوا 
وعملواء فكشفب لم العمل سد الغفلة, وضرب جهة الذكر ما في الشبه القلبية 


و 


فأزال زرقتها وسوادهاء ووقعت المشاهدة عقيب المجاهدة. فتنورت القلوب 
بنور الصدق والتصديق, فهامت النفوس المقدسة في مهامه المروج الصمدية, 
وانكشف سر اللوح والمحفوظ من دار الديمومية, وظهرت الخواطر الصافية عن 
الأجسام الرذلة المعلولة فأغرقت في قلب كال الوجود . ووافت من صحبة أهل 
الجود ؛ وبزغت هم أقبار الحقائق من فلك الطرائق, فكان باب بدو البداية رؤية 
كوكب ضعيف. ثم انبسط النور الرياني من نقش عرش الايمان فصار قمرا 
إبراهيميا . ثم انبجست عيون المحبة الربانية عن فيض شمس الحقيقة البرهانية , ثم 
رق القلب الصادق الصافي الوافي على براق علو الهمة فصادفت فلكا وملكاء, ثم 
صفقت أجنحة الاشتياق فصادفت عقار المحبة ممزوجا بمياه الخوف؛ شربت 
لما قربت. وطربت وتقربت . وشقت ثياب البشرية والتحقت به بالكلية. 
وأنشدت في سكرها ( شعر): 
ولقد خلمت على العواذل سلوتي 2 وحلفت بالحرمين لا أنساككم 
ففتحت أبواب مجالس الطرب. ونادى العاشق الصادق من عظيم الويل. 
والحرب عجز عن حمل حلاوة الخلاة فنادى بين شوارع دروب الكروب: 
بالله ربى) ععوجَّاعلى سكني وعاتباه لعل العتب يعطفه 
وعَرّضا بي وقولا في حديثك] ما بال عبدك بالهجران تتلفه 
فإن تبسم قولا في ملاطلفة ما ضر لو بوصال منك تسعفه 
وإن بدا لكا من مالكي غضلب ‏ ففغالطاه وقولا لسنانعرفه 
فإذا شوهد منه ضعف الحمل أماتته يد القدرة تحمل التنين. فهو معروف في 
البداية بالجنون. وفي النهاية بالفنون. فنراه في حال بدايته يتشبب بالنفيات 
والسماع. إن اتخذه دأبه وعادته صرف وجهه عن الباب فضرب بينهم بسور له 
بابء وإن جعل ذلك جسرراً يجوز به من العلم الأصغر إلى العام الأكبر وهو عام 
المعارف. فيدخل في حالات العاشقين ومقامات الصادقين, فيقيل تحت أشجار 


5 


الحكم اللاهوتية عند رب العالمين,. فتنكسر زجاجات جسمانية ويدور به دولااب 
سعادته. فأقل مقامه إظهار كرامته, فإذا رأى أحداً من أحبائه وضع خده تحت 
نعله وترابه» كما نقل في الحكايات المجنونية في ليل العامرية أنه رئي على كتفه 
كلب يطعمه ويسقيه. وقيل له في ذلك. فقال: رأيته يحرس باب ليلى, ثم أنشد 
حين تأود ( شعر): 
رأى المجنون في الفلوات كلباً م إليه بالاحس ان ذَيْلا 
فلاموه على ما كان منه وقالوا لِمَ مَنَمْت الكلب نَيْلا 
فقا ذروا مَلَآَتَكُمٌ فعينيي رأنهمرةٌ في باب ليل 
وهذا يعضده ما روي ١‏ أن النبي صل الله عليه وآله وسام قيل له: ألا تصلي 
على فلان وقد مات؟ فقال: لا أصلى على من لم يصل. فقال عمر: أنا رأيته 
يصلٍ ركعتي العيد . فقال عليه السلام: كيف أصلى على من لم يصل إلا نافلة! 
فجاءه جبريل عليه السلام أمين الحضرة وقال له: يا مد أليس رأوه في بابنا مرة 
إذا رددته من بالي فبباب من يقف؟ يا جمد إني قد غفرت له فصلت عليه 
ملائكتي , إن الله لغني عن العالمين». 


م 
.. 


المقالة الرابعة عشرة 
في المواعظ التي تجلب بها قلوب الناس إلى طاعة الملك 

إنا قد عرفناك بطرق ثلاثة داعية إلى الملك. وها نحن نعرفك بطريقة أخرى 
فنقول: يا أيها المعيب القائل مَنْ فلان حتى يثبت على الملك بماله وآله وملكه ومقاله 
وأبيه وأمه . فنقول له: من كان نمرود بن كنعان. وعاد صاحب الجنان ؟ فإدريس 
مخيط الخيام . ونوح نجار الأيام. وإبراهيم راعي الضأن, وداود زرادء وطالوت 
دباغ ‏ وصالح تاجر. وسليات خواص. وعيسى سراج. وآدم حراث. أما تتعظ 
بقوله تعالى : « تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من 


0 


تشاء » [آل عمران: 51 ] واعم أنه لا بد لك من ملك تقتدي به وتميل إليهء 
فللحيوان أمير ومقدم كالنحل والنمل وغيره. إن فهمت باذان العقل 
فكن أطوع من ضيف. وإلا هامتك والسيف. أما سمعت قول المشرع عليه 
السلام : « أطيعوا أميرم ولو كان عبداً حبشيًاً ». قال الله تعالى : #أطيعوا الله 
وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم» [النساء: 08 ] فإن فهمت المواعظ فقد 
قال رسول الله يَِتَهِ : ٠لا‏ تشابكوا المساعيد فإني سيدهم» فإن عريد الجهل 
فانظر إلى البازي والعقاب والنسر والذباب كما نظمه ذوو الألباب ( شعر ): 
يا طالب الرزق السنيّ بقوة هيهات أنت بباطن مشفوف 
رَعَتِ النسورٌ بقوة جيّف القّلا ورَعَى الذبابُ الشهد وَهْوَ ضعيف 
وأنت أيها العاقل لا تشابك الزمان والدول, ولا تفتن بما جرى للقوم 
الأوَلء وإذا سمعت بالمرتاضين فكن بهم ملمَاً فإن خواص أنفاس القوم فيها 
جذب مغناطيسي , أما سمعت بذي القرنين لما سمع بأرباب الهمم الهندية, وهم 
أربعون رجلا . اتخذ هم ما أزعجهم وفرق هممهم. مثل زعجة الطبول 
والأبواق» فتفرقت هممهم فداسهم. وانظر إلى المعاني التي أودعناها في كتاب 
الملك فإنها كافية؛ واستزد من الاشارات ولا تكذب الكليات فإنها أخوات 
المعجزات. واعام أنه ل يستقيم جسم من غير رأس. ولا سماء من غير شمس ؛ ولا 
نَحْسَن أرض من غير عمارة. وفلاحة ونحارة. وموت وحياة. وغنى وفقر. 
وملك وسياسة. وإمارة ووزارة» فالأمور منظومة بعضها ببعض ., كبا سنبين لك 


ك5 


المقالة الخامسة عشرة 
في قطع دليل المستدل 

مسألة ما يقول في الدليل: ما أحد منكم يا معاشر المناظرين إلا وقد تمسك 
بدليل يصلح عقده أن يكون دليلاً. فيعارضه مناظرة بما يناقضه, والمنقوض 
كيف يكون دليلا والناقض إذا نقض بغيره فقد دخلته العلة فبطل عن منهج 
الدليل؛ وعارضه العلة بالنقض فصار كل دليل مزلزلاً معلولاً غير مقطوع؛ فإن 
كان منقولاً أو معقولاً وعارضه النقض فقد بطل حكمه أو قوله. فإن قلت 
بطل قوله فقد هدرت الشرع, لأن الحكم والقول معاً؛ فأين آثار فقه المستدل؟ 
وإن كان دليلك معقولا قياسا فكيف يستند بالقياس إلى منقول منقوض؟ وإن 
كان غير قياس فكيف يمشبي به السؤال؟ فبطل الكلام في النظرء وإذا علمت أن 
كلامك مدخل تحت العلة والمعلول. فيا العلة التي تنفصل عن المعلول؟ أم هي 
غير منفصلة عن المعلول؟ فإن كانت العلة غير منفصلة عن المعلول فكيف يجوز 
أن يكون دليلاً ؟ وإن كانت داخلة في المعلول فإما أن تكون جنسه أو غيرهء 
فإن قلت إنها غيره فأين دليلك لتبيان القول؟ وإن قلت بأنها جنسه فكيف يأتي 
بعد مبين من غير نتيجة بأنها علية ومعلول؟ وكل من فقهت نفسه لثبيء فهو 
فقيه. فكيف خص الفقه؟ وأين آثار التخصيص به والدليل المقطوع له؟ وما 
النظر وما معنى المناظرة والمجاورة؟ فإن قلت المجاروة هو زوال الاشكال من 
الحجة بطريق التبيينء كبا يقال التبعيض إن فلاناً أعرب حين بين؛ وفلان بيض 
قصيدته ورسالته. فأين آثار تبيين حجتك إذا قطع الدليل والبرهان؟ وإن قلت 
الجدال المتشابكة أو جدال الجبل حين حاستك بعضه ببعض . فا ينفعك هذه 
المقالة اللغوية واللفظات الاصطلاحية إذا كان متن دليلك مقطوعاً بالنقض 
والعلة الداخلة عليه من الخصوم. فلا بد من جواب فخور يفهم الخاطر , فما هذا 
مقام أو مقال يحتمل المغالطة والمدافعة. فإن كان جوابك من غير السؤال فهو 


/اع 


مداخلة ضعيفة به. وإن كان من نفس المألة فلا بد من برهان قاطع غير 
منقوض. فالمنقوض معلول لا يصلح أن يكون جوابا. وإذا سئلت عن الحجة 
والمعرفة بالشيء فإما أن يكون معرفتك برهان قاطع نقلاً أو عقلاً غير منقوض» 
فمشه وكن به مستدلاً , فالمعرفة بالشيء إما بنفسه أو بغيره؛ فإن كان بنفسه فهو 
البرهان المقطوع به إذا لم يكن سبيل البعض داخلاً عليه, فالبراهين التصديقية 
كان برهانها تصديقها مثل ما تقول : هذا رجلء فلا تفتقر أن تبرهنه . وهذا ليل 
أو نهار أو عشرة أكثر من خمسة. فهذا لا يطرد عليه معنى في بعض ولا 
ينعكس ؛ لأن تصديقه ينقسم ولا يفتقر إلى برهان؛ فأت بدليل على مثل هذا 
المعنى ! فقد علمت أن هذه العلة لا تفارق معلوهاء وأن المعل لا يكون لجهل أو 
لفهم أو قبحه. وإنما يكون براهين تصديقية أو براهين معلولة أو منقولة غير 
منقوضة, فإذا دخل النقض أزال حكم الدليل؛ فهذا معنى قولنا قطع الدليل. تم 
تستدلون بأخبار الآحاد والمراسيل وقد علمتم بالملزم فيها من الطعن والتشكيك » 
ثم المتواتر بنفسه عندم فهو دليل» ولا يعتبرون فيه العام إذ هممكم إنما هو 
ؤقائع وخصومات وإظهار مناقشات في رياسات؛ والباحث عن إظهار الحق قليل . 


المقالة السادسة عشرة 
في كتاب الطهارة وآدابها وأسبابها 
واعام أن الطهارة فرض ظاهراً أو باطناً ؛ فأما الباطن فطهارة القلب من كل 
شىء سوى الله فإذا وجدت من القلب هذه الطهارة الصافية الكاملة صار القلب 
محلاً للفيض الرباني والعلوم اللدنية الإهية, وكشف أغطية الأسرار عن نير نهار 
القدس؛ فانيجست عيون الكرامات, وترقى العقل من حضيض الشهوات إلى 
سماء الخاصة ومعارفهاء عم إلى سماء كشف أسرار الربوبية , ثم يترقى العقل الجوهر 
الكامل إلى كرسي المراقبة, ثم إلى عرش حضرة القدس ؛ ثم تقدم له موائد فوائد 


م 


تحف المحبة فيشرق أنوارها على هياكل الطباع المظلمة. ويجري قم التوحيد فوق 
لوح التمجيد بطريق التأييد » فمنهم شقيَ وسعيد . وإذا كشفت لك هذه المملكة 
الباطنة لم تلتفت على الموت, فإن الموت هو جامع بين الأحباب. وفي الطباع 
المتنافرات مفرق بينهم # فتمنوا الموت إن كنتم صادقين» [ البقرة: 45 ] وقد 
سمعت النظم فيه شعرا : 
سهل عليك الذي تلقاه منألى إن كان شملك بالأحباب يجتمع 

فإذا طلعت عليك كاسات الوصال في دار التخلية» وهبت ريح النسمء 
ونادى منادي التقديم طوفي ذلك فليتنافس المتنافسون» [المطففين: 77] 
فعند ذلك تصير روحك ملكا يضيء , ولو لم تمسسه نار . 

واعام أن الله تعالى خلق الخلق وصنفهم ثلاثة أصناف : فطائفة عقل مجرد وهم 
الملائكة, وطائفة شهوة مجردة وهم البهائم ' وطائفة عقل وشهوة وهم بنو آدم 
وهم وسط بين الطائفتين. فمن غلب عقله شهوته التحق بالملائكة » ومن غلبت 
شهوته عقله التحق بالبهائم 9فاستقم كبا أمرت6 [هود: ؟١١].‏ 


ثم نعود إلى الطهارة الظاهرة؛ قدم الماء الطاهر في الإناء المخمر. واغسل 
يديك قبل الوضوء ثلاثاً. واستقبل لوضوئك القبلة. وكن على نشز خوف 
النضح, وعليك بالتسمية والسواك والنية في مبدأ الفرض؛ ففرض الوضوء ستة: 
النية عند أول جزء من الوجه. ثم غسل الوجه, ثم غسل اليدين إلى المرفقين» 
ومسح المقبل من الرأس. وغسل الرجلين مع الكعبين, ثم الترتيب في الموالاة في 
أصح الوجهين, ثم غسل الحيض والجنابة بوضوء , وغسل ثلاثاً ثلاثاً. ونيته ونية 
غسل الجنابة أو الحيض . ثم مناقض الوضوء وهي: النوم قاعداً متمكناً ثم زوال 
العقل بأي فن كان, ثم لمس الرجل المرأة ولا حائل بينهما » وينتقض طهر اللامس 
دون الملموس في أصح الوجهين. ولمس الفرج. ثم آداب دخول المسجد بالقدم 
اليمنى في الدخول واليسرى في الخروج. ولا يستدبر ولا يستقبل القبلة ولا 


: 


الشمس والقمر إلا من وراء ستر وحائل» وينحي ما عليه امم الله من عليه 
ويجوز الاستنجاء بكل طاهر إلا ماله حرمة كالمطعم وغيره. ولا يجوز 
الاستنجاء بعظم أو جارح أو بما يؤذي المحل. فقد قال ته : « لا تستنجوا 
بالعظم فإنه طعام إخوانكم الشياطين » فإن الله يكسوه لحرا فيأكلوه. والأفضل أن 
يعقب الاستجار بالماء وهي طهارة أهل فناء , ويقول في دخوله: ‏ اللهم إني أعوذ 
بك من الخبث والخبائث. ومن الشيطان الرجس النجس » فإن خرج يقول: 
«غفرانك الحمد لله الذي أخرج عني الأذى وعافاني » ولا يجوز البول في الماء 
الراكد . ولا ثقب أرض . ولا على قارعة طريق أو شاطىء . وتحت شجرة مثمرة 
وغيره. ثم يجوز التيمم من عذر طارىء ء أو برد مخوف طارىء »ء أو جراحء أو 
حدوث ثمين, فيجوز التيمم بتراب وغبار تعلق باليد ؛ ويجوز عن الحيض والجنابة 
مع الأعذار المخوفة الموجودة. بضربتين لوجهه ويديه. قال غيرنا: يجوز التيمم 
بكل ما صعد عن الأرض من حجر أو جدار ؛ ولكن بعد دخول الوقت, ونزع 
الخاتم من اليد. ويجوز للمتيمم أن يصلي بالمتوضيء. فقد فعل ذلك اصحاب 
رسول الله عَييَهِ » ويجوز المسح على الجبائر بشرط الطهارة 


كتاب الصلاة 


وهو مقالتان: مقالة في الأحكام الظاهرة, والمقالة الأخرى 
في الأحكام الباطنة وما يجد فيها العارفون 


اعام أن الصلوات الفرض هي خمس صلوات وركعاتها سبع عشرة ركعة. 
وأكمل سْنّتها ثماني عشرة ركعة. وأحكامها الظاهرة مثل كمال الوضوء بالماء 
الطاهر . وطهارة الثوب والبدن والمكان, واستقبال القبلة. والاتيان بتشديدات 
الفاتحة . والطبأنينة في الركوع والسجود , والاعتدال بين السجدتين, والرفع من 
الركوع . وقولك في الركوع ثلاث مرات: و سبحان ربي العظيم وبحمده» وتقول 
في السجود : و سبحان ربي الأعلى وبحمده؛ مثلها. وهو أقل الكبال, ثم 
الاكتناف؛ ومعرفة الأوقات: فوقت الصبح إذا تبين الفجر الثاني ويبقى وقت 
الأداء إلى طلوع الشمس. ووقت الظهر إذا غربت الشمس من وسط الفلك 
ويبقى وقت الأداء إلى وقت العصر إذا صار ظل كل شيء مثله وزاد عليه أدنى 
زيادة» ويبقى وقت الأداء إلى غروب الشمس والمغرب مع طلوع الليل. ووقت 
العشاء إذا غاب الشفق الأحمرء وعند ألي حنيفة والمزني إذا غاب الشفق 
الأبيض. وهو وقت صلاة المتقين والأبرار. والأذان شرط لا فرض إلا على 
الكفاية. ثم تلزم قوانين الآداب. وتستحي من الله كما تستحي من سلطانك ؛ أما 
سمعت الخبر : لا تجعلني أهون الناظرين إليك . قال الله تعالى: #أيحسب أن لم 
يره أحد». وتعظم شعائر الله وتأتي بها في أوقاتها إلا الظهر في شدة الحر كبا 
قال: وأبردوا بالظهرء ونوروا في الفجرء. وأخروا في العصر ٠‏ . ثم تأتي بكوامل 
النوافل مثل الضحى.ء والتراويح, والصلاة بين المغربين, وأوراد الليل والسحرء 


ه١‎ 


وسنن يوم الجمعة العشرة وآدابها مثل الاغتسالء والسبق إليها . وقراءة الكهف. 
وكثرة الصلاة على رسول الله عَظتَهِ . وتواظب فيها على الصلاة السبعينية قبل 
الزوال» وتطلب فعلها في الإحياء . وتأتي فيها بصلاة الحاجة من اثنتي عشرة 
ركعة بست تسلهات تقرأ بعد الفاتحة آية الكرمي مرة» وثلاث مرات: #قل هو 
الله أحد © فإذا فرغت من جميع الصلاة تسجد بعد السلام فتقول في سجودك: 
وسبحان الذي لبس العز وقال به. سبحان الذي تعطف بالمجد وتكرم به. 
سبحان الذي أحصى كل شيء بعلمه. سبحان الذي لا ينبغي التسبيح إلا له 
سبحان ذي العز والكرم. سبحان ذي الطول والرحمة؛ أسألك اللهم بمعاقد العز 
من عرشك. ومنتهى الرحمة من كتابك. وباسمك الأعظم. وجدك الأعلى. 
وبكلماتك التامات كلها التي لا يجاوزهن بر ولا فاجرء أن تصلى على جمد وآل 
جمد ثم تسأل حوائجك الجائزة. ولا تصل في المواضع لحي والمواضع 
المغصوبة. ولا في ثوب حريرء ولا في خاتم ذهب. وتقوم بالمسكنة به' والذل 
والصغار , فإذا اجتمع الناس تحسبه القيامة » وتحسب صوت المؤذن كنفخ الصور؛ 
فظهور الخطيب في الموعظة كتجلى الحق بعتب الخلق والتوبيخ . وقيام الناس في 
الصلاة كقيامهم في الموقف ثم الانصراف في المسجد كتفرقهم يوم المعاد: فريق في 
الجنة . وفريق في السعير . 

والسر في الوضوء هو طهارة الأعضاء وتنبيهها . والشجرة الآدمية كغيرها من 
الشجر لا بد لها من خدمة؛ فتقليم فروعها كقص الأظفار والحلق. وشربها الماء 
كالوضوء والغسل . وتتظيفها وخدمتها كحسن أدابهاء وترك الفضلات الدنيوية 
إنبات بقول العلوم عن سواقي الخدمة. وصون النفوس عن القبائح والرذائل 
سباطها وحرمتها ء وجريان مياه الفضل في مجاري أنهار العقول يكسب في الشجرة 
نوح حمام المحبة وصفير بلبل التوحيد, وتمام المعرفة وأنوار اليقين في برك 
البركاتء وصفاء نسيم الصدق في جواز أحداقالمعرفة . وأهداب الشجرة مخاطبة 
بأنوار الإيمان, ومنادي الأزل ينادي بقلوب المريدين: سيروا من قواليب الأغيار 


6 


إلى الشجرة الزيتونة المباركة التي ليست بشرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء 
ولو لم تمسسه نار [ النور: 0 ] هذا معنى قوله تعالى: ٠‏ لا يزال عبدي المؤمن 
يتقرب إل بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته صرت سمعه الذي يسمع بهء وبصره 
الذي يبصر به. فبي يسمع وبي يبصر؛ فمن يبصر ويسمع لي أقل ما أعطيه أن 
أخرق بيني وبينه روزنة يراني بهاء وينظر من غير مثال, وأعطيه نوراً يفرق به 
بين حقائق معلومات». معناه تحمل قلوبهم في صلاتهم إلى حظيرة القدس 
فيشاهدون جلال الربوبية من الديمومية , ويظهر لهم شموس المعرفة من صفاء سماء 
حقائق القلوب, وينجلى لهم حالات الآخرة بذاتها مثل ميزان العقل وصراط 
اليقين. وهو معنى قوله عليه السلام: ٠‏ أرحنا بها يا بلال؛ ومعنى قوله تعالى: 
#واسجد واقترب» [ العلق: ١5‏ ] قال جعفر الصادق رضي الله عنه: و عند 
سجود العارف لذي المعارج يرفع الحجاب فيرفع القلوب الطاهرة إلى سدرة 
المنتهى» فيتجلى لها أنوار القدس ويفتح ها أبواب جنات حرم الحق. فيعطي ما 
تريد لتابعتها لما تريد » كما تمثل فيه بعض أهل التوحيد ( شعر): 
أريهذ عطاءها وتريد مني فأترك ما أريد لا تريد 
وإذا صفت القلوب في الصلاة من الوساوس المرذلة. حظيت بالمشاهدة لرفعم 
غيام الغم وظام الوساوس عن عرصات القلوب , فهناك نشاهد الأفلاك والأملاك 
مثل ما نظمه القاضي البستي : 
رؤية الحق بالعمى عن سواه وعيون ترنو بهستراه 
هو في الكل ظاهر غير أنذال ‏ لهو ببالعيش ولمهوا ستراه 
وسأضرب لك مثلاً فأقول: اعم أن القلب كعرصة فيها شجرة أراد أحد أن 
يصل متحتها فوجد فيها عشاش طيور بزقازق وهدير منعته عن لذة قراءته 
ومناجاته. فإن تشاغل بطرد الطيور فاته الوقت. فلا سبيل إلى وجود اللذة إلا 
قطعها؛ وأنت قد غرست في قلبك شجرة حب الدنياء وملأت الشجرة بوسواس 


07 


اكتسابك وهمك وغمك . فإن قطعتها صفاحالك وعظم إجلالك وتحلى جلالك 
كبا قال الجنيد : 
تركت هم الدنيا فصفا عيشي وتركت هم الآخرة فصفا قلبي 

والسر في الصلاة إنما هو كتقرب الخادم.إلى المخدوم إذ يراه في قواليب الذل 
والانكسارظ عسى أن يبعثك ربك مقاماً مود © [الإسراء: 1079] وهو معنى 
قول سقراط : اشتباك نغمات الأصوات من هياكل العسادات» تحل ما يعقد في 
الأفلاك الدائرات. إذ باب خواص الأدعية مفتوح ترجم عنه القرآن: 89 إليه 
يصعد الكام الطيب والعمل الصالح يرفعه» [ فاطر: ]٠١‏ وصفة داود مع 
المزامير معروفة؛ كان إذا كان له حاجة جاء بزهاد المجاهدة. وأقامهم في 
مخاريبهم. ووكل بكل واحد منهم صاحب مزمار ليقطع بلذة نغمه قلب المريد 
إلى حاجة داود . فتسرع الااجابة كإجابة الاستسقاء ؛ والسحر المعول به متاثرة من 
الهمة. 

واعام أن الأوزان القلبية لا تظهر إلا بطهارة المحل. فإذا ارتفع السد من 
القلب بانت موازين معارف القلوب., وامتد فيها صراط الحق. وفتحت أبواب 
المعرفة بالله. وبانت أنفاس حيم حب الدنياء كما قيل: هناك حميمها القاسي. 
حميمها جنة فيها الحرام . فإذا كان على هذه الوتيرة. فاجعل حوائجك من مولاك 
في خدمتك , وتطيب بطيب االمعرفة , والبس ثياب شعار الندم» وضع خدك على 
تراب التواضع . واعم أن لكل شيء وزناً: ووزن الشعر بعروضه, وأوزان المميز 
بالنظر . وأوزان المأكول والمشروب بالكفتين والقبان. وميزان الصوفية بأوقات 
النهار . وميزان الخطب بتعديل الكلام. وميزان القيمة بقصاص الأفعال. فكفة 
ظلمة ظلمك وكفة نور طهارة أعيالك . فاعام حالك واستقم في أحوالك» فإبراهم 
لما بان له ميزان النظر قال بطريق التشكيك: هذا ربيء فلا استقام بين كفتي 
الأحوال قال: وجهت وجهي . 


6 


المقالة السابعة عشرة 


اعم أن الخواص غير محصورة وليس لا تأويل يحل فتؤخذ بذواتهاء كالصبر 
المسهل . والسقمونياء والشيء المقبض. ليس علينا أن نسأل لم أسهل هذا أو قبض 
هذا فكيف نعترض طبيب الشرع فيا جاء به من التحليل والتحريم» أو ليس 
حجر يشم يذهب النفخة! فكيف تشك في شفاء خواص القران وما فيه من 
التحرير , وفيه قوارع تخصوصة معاني مخصوصة مثل سورة الواقعة للغْناء والمال» 
وإذهاب الغم بسورة الدخان, ورفع البلاء والتحرز بسورة الكهف. وخاصيتها 
#فا اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقباً» [ الكهف: لاو ] ولا يجوز 
قراءة الآية وحدها إلا بإضافة السورة إليها كا قلتم لا يجوز استعبال الأدوية 
المفردة. 

مسألة في تعجيز المنجم 

تقول: يا حكيم هذا النجم الفاعل المتصرف في العبد , المولد في نقطة الكرة» 
كيف تصرف فيه بطبعه أم بجنسه أم بخاصيته ؟ فإن قلت بالطبع فالطباع مختلفة» 
وإن قلت بالجنس فذاك سماوي وهذا تراني. وإن قلت بالخاصية فالخاصية 
عَرَض لا بقاء له؛ وإن سلمنا إليك بالخاصية فهل هي في نفس النجم أم في 
نفس الشخص ؟ فلا بد من الكشف والتبيين وإقامة البرهان. أما السحر فهو عمل 
وكلام قد تداولوه بينهم في أوقات معلومة وطوالع معروفة وطلسمات مضروبة. 
فإذا أردت أن تولد طلسماً يصلح لما تريد فخذ من كل ثلاثة أحرف حرفاً, فإذا 
اجتمعت لك في التأليف ثلاثة أحرف من تسعة فهو طلسم يصلح لما تريدء 
فانظر فى الاسط لاب عند ساعة التأليف فهو يصلح لما دلت عليه الدقيقة من 
الساعة ؛ ومثاله ا بات ث فتأخذ الحم والثاء أليق عوضاً عن الجيم ج ح خ خذ 
الصاد ص ط ظ خذ. العين فيصير عقربا لتدوير الحروف فضع صورتها عل 


606 


خاتم والقمر في العقرب. تكف خاصيتها عنك أذى النساء . ترمي الخاتم في الماء 
فينفع سقياه الملسوع . وتلقي به سوءاً بين من أردت» وترش من مائه على سطح 
المبغض أو طريقه أو داره فإنه يستضر من سنة. وخذ صورة أسد والقمر في 
الأسد. وانقشه على خاتم بسواد ومعه كلمة وهي : « أتينا طائعين». فتدخل به 
إلى الملك فيذله الله لك . 

ذكر كلمات تذل الملوك: #ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل » « ذل 
البحر لبني إسرائيل .١‏ وشاهت الوجوه». فهم لا ييصرون ولا يعقلون ولا 
يسمعون. 

ذكر كلات يأمن بها الخائف من السلطان بقدرة الله: لا تزال تقول 
وأنت داخل إليه أو قاعد عنده في نفس ك: يا قدي الإحسان بإحسانك القدم . 


ذكر كلرات تصدق بها عند لسان السلطان: تقول عند الدخول عليه: 
«اليوم نختم على أفواههم» [يس: 710] ##ولا يؤذن لهم فيعتذرون» 
[ المرسلات57 ] #صم بكم عمي فهم لا يرجعون# [البقرة:8١]‏ ولا 
يعقلون . 

ذكر كلات تفرق بها بين جماعة فاسدة تخافهم: تأخذ أفراداً من شعير 
حزام وتقول عليه أربع مرات: هاطاش ماطاش هطاشنة «#وألقينا بينهم 
العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة © [ المائدة: 14 ] وترميه من حيث لا يشعرون 
وتنظر ما يصنع الله. 

ذكر ما يبفض بين الشخصين: يكتب على بيضة وتشوى وتطعم 
«ومزقناهم كل ممزق» [سبأ: 19] #وحيل بينهم» [سبأ: 04 ] قطعاً. 
بغضاً. ويكتب على بيضة مخيط عليها بخام مضيق سبع ضادات وتوضع في جمرة 
ملة. فإنها تستوي ولا تحترق الخرقة . وتطعم البيضة للمحموم ؛ وكثير مثل هذا . 
وقد حصرناها وشرحناها في كتاب عين الحياةء وهو صغير الحجم كثير الفوائد , 


كه 


وفيه المقالة الاهية التي هي سبب الجمع بين الأجساد والأرواح بطريق بعث 
ال كسير . 

اعام أن الصناعة الإلهية لا تخلق. إن كانت فتكون وإن لم تكن فليس 
بصحيح؛ لأن ججماهير الناس أجمعوا على: إن كانت فلا شك أن تكون. 
ودلالات المنقول والمعقول قائمة دالة على الجواز؛ فالمنقول قوله تعالى : #ومما 
يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله 6 [ الرعد : ١0‏ ] وقوله تعالى : 
«إنما أوتيته على علم عندي» [ القصص : 78] وأما المعقود دل عليه عمل 
الصابون. فإنه جامع بين الأضداد . ماسك الطباع الدهنية والمائية والنارية» فلم 
حصل تجميده على تجميده. دل بتجميده على تجميده. ولو لم تكن صناعة 
صحيحة لما كان الإبريز كثيراً لبعد المعدن, وهي حالة مصنوعة كسائر 
المصنوعات. وقد ضاع العالم فيها.ء وضيعت الأموال في تحصيلها. فام يظفر بها 
إلا الرجال الأفراد المطلعون على علوم خواص النبات وخواص الحيوان. ولكن 
يا مومى لا بد لك من خضر يعلمك معنى خرق السفينة وقتل الغلام وإقامة 
الجدار ؛ مع معرفة الخصال الثلاثئة حصل له كشف الكنز 8 وكان تحته كنز ليا » 
[ الكهف: 8١‏ ] فإذا خرقت سفينة الصنعة. وقتلت غلام الزئبق الآبق حتى 
يصير ماء زلالاً. فأضف إليه جدار تصعيد الزرنيخ. فإذا صح لك قوامه 
وملكت إكسيره فهي الحالة الفضية؛ ولكن بشرط نشر الفلوس الرومية حتىق 
تصير على هيئة التراب فتوضع وزناً بوزن؛ فبعد حسن السبك وقوام التصعيد 
وصارت الأرض فضة يتخذ منها دراهم معدودة وكانوا فيها من الزاهدين. 
واعام أن الزرنيخ اسم مركب فأوله زر بالعجمية؛ فإذا صح لك فأنخ بجيال 
غنائك على باب أستاذك ومعلمك. وسر بذي القرنين من عقلك إلى مغرب 
الشمس الذهبية عند عين حيوان من نبات طأطأ ؛ فبياضها للأبيض, وصفارها 
للأصفر . هي دواء العيون إذا نامت العيون؛ ثم سر إلى مطلع شمس حرارة زئبق 
الآبق وحصله, فإذا بلغت بين السدين فانفخ عليه من نار لطيفة طيبة, فإذا صح 


/اه 


إكسيرها أو لم يصح فارجع إلى حد الطلق. فإن صح لك فهو الاكسير اللؤلؤ 
الكبير فحصله فإنه موجود . وإن لم تقدر على تحصيله ؛ والعمل بها قد ذكرناه في 
كتاب عين الحياة. فعليك بمداراته والصبر على التطويل . 

واعام أن هذه الصناعة هي صناعة ربانية لا يقدر عليها إلا الأبدال والرجال 
والأبطال الذين كشف الله الرين عن عيون قلوبهم. وهذه لا تصح إلا للطائع 
الذي يريد به عونا على الآخرة أو وفاء دين أو دفم شين, وهي حريزة غريزة» 
وها أربعون صناعة قبلها ليكون عوناً عليها: مثل عمل الأكحال والأبراد 
والأدوية والدوانيق ؛ ونحن نذكر خواصاً دالة مظهرة لبدائعها وصناعتها مذكورة 
في كتاب عين الحياة؛ وأعظم ملكها الأكبر هو تصاعد الزرنيخ , ومعرفة أجزائه. 
وزمانه المعتدل الصالح النافع للأبدان, غير مضر من حر وبردء وهذه الصناعة 
الفضية الى يسميها ارباب الصنعة القمرية. فقد تعمل فيا يتصعد من إكسير 
بياض البيض . وأصلح ذلك هو الزرنيخ المصعد قواماً معتدلاً ووزناً واحداً 
معروف الصفة. فافهم واعرف زمانه المعتدل وخف عليه من الحر المحرق والبرد 
الممزق والمفرق» فتربيته كتربية الأطفال مفتقر إلى الاعتدال. فابدأ أولاً بصنائع 
الأبراد والأكحال. مثل الغريزي الصغير والكبيرء والجلاء الصدفي. وبرود 
الحسك. وبرود المياه؛ وهو أن يجتمع المياه مثل مياه التفاح والحصرم والرمان 
وتضيف إليه عرق الماميرون وعرق الريح ودواودي جعفران وبهمني سهر وماء 
الرازيانج وئوتيا أخضر رقيق وهو المرادني؛ فإذا صح هذا كله فاجبله بهذه المياه 
مع ماء الرازيانج وماء الحسك ثم نشفه بين الشمس والظل . فإذا أمسكت نفسه 
وزالت رطويته فاعمل منه فصوصا أو تصحنه جلاء فهذا هو التوتيا الهندي 
النني يساوي مثقاله مثقالاً؛ ولا بأس معه بماء الماميئا. وماحي العالم هذا هو 
البرود الجامع والجلاء النافع والتوتيا الهندي القاطع. فإن عملت منه شيئاً فلا 
يكون وهو رطب حارء هذا هو كيمياء الأبراد وبه يحصل لك إن شت مكسبا 


تستريح من تعب غيره. 


مه 


إذا أردت عمل الاون: خذ ما شئت من الادن الخرق الصحيح وتضيف 
إليه لكل جزء ثلاثة أجزاء من شمع صافي, وتطبخه بنار لطيفة بقدر ما يمتزج 
وتحطه. فهو الادن. وكل مصنوع لا بد له من خمير خالص وهو إكسيره. 

صفة عمل الزعفران: تأخذ أصفر لحم البقرء وليكن من فخذهلا سميناًء 
وتطبخه بالخل والزعفران ثم تبرده وتغسله شعرات زعفرانية, ثم تضيف إلى كل 
أربعة أجزاء جزءا من الزعفران الخالص . 

فأما عمل المسك والزيادة: تأخذ من الخالص خسة أجزاء وتضيف إليه 
مثله من الخبز المحترق. أو الكبد المشوية المحترقة, أو جزء فأرة مسكيّة. من كل 
واحد جزءاً يضاف إلى الجزء الأصلي من مسك أو زباد. 

فهذه الاشارة كافية إن عقلت بصدق العمل . فقد قالت الشطيات : لقمة من 
القدر تكفي لمن يشم الرائحة وفضل لقمة يتحت لمن لم يكن شبعان. والصنائع 
مغطاة فإذا كشفت بان سرها. والعجائب ظاهرة في كتاب عين الحياة . 

واعام أن المسك هو من دم غزال بري يأكل من أطايب الأفاويه البرية 
كالغلفل والقرنفل وغير ذلك ؛ وقد قيل في العنبر إنه ينبع من عين بأرض مدينة 
عنصورياء والكافور هو من عين. فيعجن العنبر بأوراق بحرية بين أشهب 
وأبيض وما شكت من الألوان؛ وقد نزل من السماء عشرة أشياء كالمن 
والشيرخشك والترنجبين واللاذن؛ وقيل هو عين في جبال مرعش. وينزل من 
السماء القطر مع السحاب. يضاف إليه شيء من الزوائد فيطبخ بماء الشعير فيسقى 
للمرأة التي لا لبن لها ولا حيض فتحيض هذه ويدر لبن هذه؛ وقد ينزل من 
السماء ضفدع أخضر يصلح للبواسير. وقد ينزل من السماء بأرض سقسين حنطة 
حمراء لينة باردة على طعم الزبد والعسل والثلج؛ إذا أخذ من دقيقها وكحلت بها 
العيون المعيبة زال عيبهاء ومن ههنا أخذ من أخذء وإذا بخر بعضها تحت أحد 
أبصر الملائكة. وبه يبخر لعطارد فيكلمه. وقد قويت عزائم المنجمين بأن 


08 


الأنبياء بخروا؛ فالكلم بخر لزحل أول ماعة من يوم السبت. والمسيح بخر 
للمشتري. وإبراهيم بخر يوم الأحد للشمس وللمريخ يوم الثلاثاء.» وقد بخر 
زرادشت للمريخ وعطارد . وقد بخر مد رسولنا للزهرة يوم الجمعة. واختفى 
في غار حراء, فكانت تأتيه في صورة جبرائيلية وهو تمثال لدحية الكلبي . 

ومن أراد أن ييصر الجن مشاهدة ومصادقة ومخاطبة., ويسمع كلامهم 
ويعينونه على ما يريد , فليقرأ سورة الجن في بيت خال من يوم بطالة في أحد أو 
أربعاء . وبين يديه بخور جرع ا كدي عبد فاون يتمع عم احور 
وهو يقرأ #قل أوحي إل أنه استمع نفر من الجن» أربعين مرة. وهو يمثلهم 
ويحدث إليهم. فإذا خرجوا إليه لا يخافهم . ويستخدم منهم من شاء على ما يشاء 
من سحر وطلسم وهياج وتسخير وإظهار كنوز وحب وتبغيض . 

واعام أن من الخواص النباتية ما يطول شرحه. ونحن نشير إلى بعضه: 

من أراد أن لا يبصره ولا تراه العيون فليزرع الخروع عند بدوّ زراعة القطسن 
في رأس سنور أسود ؛ فإذا طلع يخيط عليه كيساً. ويربيه حتى يجني القطن. ثم 
يقطف العنقود كرا هو بكيسه ويشقه حجرة, ويأخذ مرآة بيده. ثم يقطف منه 
حبة حبة ويضعها في فمه وينظر صورته في المرآة. فأي حبة لم يشاهد فيها نفسه 
عند نظر المرآة فليمسك عليها . 

ولهم الأبهر الفم وهو نبت في الأرض على صورة ابن آدم. فهذا يصلح لمن 
علقه على نفسه لو مر حجر لتبعه الحجر . 

وهم حشيشة تسمى بحشيشة الراسن», تبخر من أوراقها على اسم من تريد 
فيأتيك وإن لم يرد.ء ولكن بشرط أن تقول هذه الكلمات على البخور. تقول: 
ويا جامع يا جن اجمعوا وقدموا لاق لاق عاجلاً عاجلاً اشروثا اشروثا كبيبا ال 
صبي : اثتنا كرهاً أو طوعاً : قالتا أتينا طائعين». وليكن في يوم الأحد أو أربعاء. 
وهذا حشيش الراسن يعمل منه شراب يسمى شراب الملائكة يصلح لأرباب 


الأخلاط المتساويةء ويصلح للنساء العجفاوات من شدة الحرارة؛ وتجفف ورقه 
ويعمل منه برود يصلح للعين التي ارتخت أجفانهاء وقد يعمل منه دواء يقوي 
اللثة. وقد يبخر منه تحت صاحب الحمى فيبرا. أو يبخر تحت النفساء ذات 
المشيمة المعلقة فتنزل. وقد يسلق ورقه بالخل مع ورق الزيتون فينفع الأسنان 
الضاربة . 

وهم نبات لا أصل له في الأرض وهو على هيئة العنقود على شجر البطم 
والبلوط ويسمى حب العصفور . ويسمى حب دبق صيد العصافير. يصلح بخوره 
للبيوت. خاصيته طرد الشيطان,. ويبطل السحر المدفون مثل مشاقة الشعر 
المقعد, وبرادات الأمشاط والأوتار المعقدة؛ فبهذه دخل السحر على جمد عله , 
وهذا قال عَِنهِ : ٠‏ ضيعوا مشاقات الشعور فبها يعقد أكثر السحور , وأعظم العبر 
في الآولياء والابر التي تترك قريب النار يا عائشة .٠‏ وعزيمتها عشر ايات من آخر 
سورة الرعد . وهذا الحب يعمل مئه الند فيؤخذ منه جزء. وجزء من عروق 
القسط وعروق الزعفران, وثيء من برادة العود القباري» يدق ويطبخ جميعاً إلا 
حب العصفور . فيطبخ جميعا بماء الورد الجيد العرق الغاية. فإذا تجبل وصار طينا 
يحط إلى الأرض . وإذا برد عمل منه الند على ما تريد . 

أما صفة عمل الدرانيق النافعة فقد سسقنا إلى ذكرها وعملهاء. ولكن أقرب 
ما تأخذه هو أن تضيف البندق المدقوق مع الجوز واللوز والسمسم القليل 
والفستق. فيعجن جميع هذا بالعسل الشهد مع قليل من ماء الورد ويرفع, ففيه 
منفعة وخاصية لسم العقرب . وفيه خاصية للوقاع. 

وجوف اجوز المندي الحديث على الهريسة والحنطة نافع في الوقاع ويصلح لمن 
وثبت عليه الأرياح الباردة. أما الترياق الأكبر فهو أربعون حاجة مع لحوم 
الحيات مشروحة في كتاب عين الحياة. 


واعام أن في النبات والأدهان والحيوان ما يطول شرحه ولا يشغل كتابنا به. 


"١ 


لكني أذكر لك عمل إساءة وهي الظنبوث: تأخذ من بصاصات الربيع ما تريد 
على ما تريد واسم من تريد في ساعة جمومة . فتضعها في قارورة زيت بأعلى النارء 
فتعمله ظنبوث إن شئت حيشية للبغض . وإن شئت قرشية للمحبة. وإن شتت 
فارسية للسلطان, وإن شئت كرمانية للخروج من المضرة والأمراضء وتعلقها 

في الشمس وكلا نقصت تزيدها دهناء م تتركها في نافذة ظاهرة وتربيها 
وتخدمها وتبخرهاء وتقول عندها في كل يوم هذه الكلمات «أبها الظنبوث 
الطاهرة كوني لما أريد » وهو يبخرهاء ولا يبخرها إلا طاهراً لا حائضاً ولا 
جنباً. فهي تنقص عند نقص الملال وتزداد بزيادته. فهذا من جملة الخواص 
الدهنية ؛ وفي الدهن ما يطلى به الجسم فلا يعمل فيه النار ؛ وفي الأحجار ما يعمل 
منها فأس أو قدوم فإذا نقر به لا يسمع صوته؛ وفي الأحجار ما إذا وضع في التنور 
سقط خبزه. وقد عرفت خاصية المغناطيس وأما خواص الحيوان فتطلبه في كتابه . 


المقالة الثامنة عشرة 
في عزائم التسخير 


تقف أولساعة من يوم السبت مستقبل الغرب بثياب سوداء وزرق بأبخرة 
مذكورة مثل اللبان والحرمل وقشور الرمان والخردل البري. ثم تقول في وقت 
سعيد من تثليث أو تسديس مناط إلى شرف فتقول: «أيها السلطان الأعظم 
والملك العرمرم, مالك الفلك التابعة له النجوم, الخاسف المزلزل: زحل أنت 
أشرف الكواكب وسيدها وقائدها ومؤيدهاء أسألك أن تعطيني وأن تمنحني ما 
يصلح منك ل » وتقول يوم الأحد عند طلوع الشمس وأنت مستقبلها بهمة 
مصروفة إليها: « أيتها السيدة الرفيعة والملائكية المطيعة والمدبرة الكبيرة التي 
جادت بفيضها على الظلام فصارت نوراً. ذاتها طاهرة وسلطنتها قاهرة. أسألك 
أن تعطيني ما يصلح منك لي. واصرفي همتك إليّ وأنت الملكة العزيزة والسلطانة 


311 


الحريزة بحق من سخرك وهو الملك العظيم .٠‏ وتقول أول ساعة من يوم الاثنين: 
وأها الكوكب الأظهر . والقمر الأمهرء البارد الرطب الحال في الفلك المعتدل 
البارد اللطيف, أسألك بحقك وبحق الملك المعطيك من نورهء أسألك أن تعطيني 
ما يصلح منك لي » وتقول في يوم الثلاثاء مخاطب المريخ: وأها السلطان الحاد 
النوري النار النوراني المزعج المدهش. أنت بهرم السلطان صاحب السيف 
والسفك. ذو الحربة النارية والفتن الأرضية. صاحب الحرب والصلاح والدم. 
أسألك بحق سلطنتك ودولتك وقهرك أن تعطيني ما يصلح لي منك » وتخاطب 
يوم الأربعاء العطارد فتقول: ٠‏ أيها الكوكب اللطيف الشريف, والكوكب 
الكاتب الحاسب العالم. ممازج الفلك ووزيره وملاطفه ومشيره بلطافة أخلاقك 
وطيب أعراقك وحسن سمعتك وصفاتك الحميدة وأخلاقك المجيدة الحسنة 
الطيبة أن تعطيني ما يصلح لي منك. ولتكن على الماء في فروج من حشيش 
أخضر وهواء لطيف بنفس فرحة وريح طيب وأنت متصف بصفات الكتاب» 
وتبخر في يوم الخميس للمشتري فتقول في دعائك: ١«أبها‏ الكوكب الدين 
الصالح التقي الرفيع البديع المطيع السميع السريع الذاكر الشاكر الناشر والحامد 
الباهر الخائف المستغفر عندك أكثر أحياء الأموات والذي يبرىء من كل داء 
أسألك بحق دينك وأمانتك ومودتك ومروءتك وطاعتك أن تعطيني ما يصلح لي 
منك » وتقول في يوم الجمعة مخاطباً للزهرة: «١‏ أيتها النفس الطاهرة والزهرة 
الزاهدة الباهرة ذات اللهو والطرب والرقص واللعب والشرب والأكل . الفرحة 
النزهة الناظرة المزيئة الطائعة لربها الحرة الطاهرة. أسألك أن تعطيني ما يصلح 
منك لي » فاأما يوم السبت فهو تخصوص عندهم لمومى لانه زحلي. والااحد 
خصوص بسليان وجماعة من الأنبياء وصاحية الشمس وفيه يتبخر الملوك لها. 
ويوم الاثنين هو للقمر يصلح للوزارات والوزراء . ويوم الثلاثاء للمريخ وفيه 
بخر إبراهيم الخليل. ويوم الأربعاء لعطارد وفيه بخر زرادشت وهو نبي المجوس 
صاحب كتاب سبطاء ويوم الخميس مخصوص به عيسى» وأما يوم الجمعة فهو 


انف 


لحمد يِه . فالذي يُطلب من زحل وهو كيوان مثل المنافع الأرضية وإظهار 
الكنوز وشق الأنهار والأشجارء وأما ما يخص الشمس فمثل الملك والملكة. 
والقمر لائق بالوزارات. والمريخ بالحروب والبأس. وعطارد للكتابة والنقش 
والحساب والهندسة والعلوم الدقائق والعزائم ومخاطبات الجن كا سبق ذكره. وأما 
المشتري فهو للزهد والديانة وحل الطلسمات المماوية, ثم الجمعة للزهرة. قالوا : 
إنما أمر باجتاع الخلق عند نصف النهار في هيكل العبادات لاجتاع خواص 
الأنفاس ليؤثر ذلك في حصول المطالب لشرف نفسه الفياض منه على تابعيه من 
قولهم في لحظة واحدة اللهم صل على مد وآل جمد . 

واعام أن الناس قد اختلفوا في الخاصية كما ذكرناه في أول الكتاب ؛ وخواص 
النبات والحيوان كثيرة. وقد ذكرنا منها فصلا طويلا زائدا خارجا عن الحاجة. 
وم في الحيوان من خواص لا تعرفه مثل مرارة الدب للسمن وشحمها أيضاً 
ولخمها مع تحريمه يذهب بالأرياح. وأكباد الأرانب تنفع الأكباد. وعيونها 
للعيون. وشحمها للأرياح. ويصلح منه طلاً لمعنى. وشحم الخنزير في علف 
الدواب , ودهن البيض للشعر , وما قطع من الكرم ينفع في الشعر. ودهن الشوك 
والحنطة للثواليل. وشحم القنفذ للأرياح . وقصبه مع السكر للطحال وزناً وسفا. 
ومخ الحمار قاتل. وفي الهدهد منافع ذكره صاحب كتاب الحيوان. والجوز المندي 
في الهرايس نافع للجاع. ومعاجين وأدهان للقيام. والحرارات الغالبة قاتلة» 
وهكذا البرودات . والماء عقيب الطعام متلف, وحقن البول أتلف . والفصد مود 
والحجامة أحمد . والقيء ينظف. والقليل من لباب الخيار نافع . والشوذاج للمبرود 
أجمل. والحنطيات لصاحب الجاع يغنى. وأكل الهرايس أفضل . وشراب الرمان 
في المعدة موحل . والبطيخ فيه فوائد: مطعم ومشرب, وريح طيب. ومقطع 
سال. ومدرّ البول. ومقطر لغسل المثانة» ويذهب مع القيء الخلط . وفيه مضار : 
ينشف الخلق. ويزيد الصفراء , ويورث الحكاك . ودفعه بالسكنجبين . والقبيت 
لمحل يقطع الشهوات., ويعصم ويسمن مع الريح الطيب . وخير الفواكه أنضجها, 


51 


وأجودها قبل الطعام إلا الكمثرى فقليله نافع بعد الطعام . وتقليل الغرد أجود 
لعينك: عن صفة الطبيب فدت. والجائع درهم أو أقل. وقد تصعب مداواة 
المتخوم. ويكره تعجيل الماء عقيب الطعام» ويستحب امتصاصه . ويكره عَبّهِ 
وأكل الحوامض في الصيف أنفع . والسوداج في الشتاء . وأنفع الفواكه الغدي مثل 
التين والعنب» وأنفع الرمان الملامي قليله بعد الطعام أو عند النوم. وهو مضر 
بأصحاب الجماع لاسها حامضه. 


فصل وهو المقالة التاسعة عشرة 
في الأشربة 


أما السكنجبين فهو أول ما صنع لذي القرنين. وأجوده المعتد. وإبقاء 
المنعقد . وشراب الرمان يوحل المعدة وفيه تبريد الكبد. وشراب الخنشخاش 
والبنفسج والنيلوفر فوائد عملها في الرأس. وشراب الراسن يعمل في الخلط 
السوداوي حتى زعم أبو نصر الفاراني أنه يغني عن المفرح الصغير. وأما شراب 
التفاح وما يتخذ منه ففيه الفوائد القلبية. وأما شراب الورد فهو يسهل الخلط 
الصفراوي . فإن أعنته بدرهم ونصف ثريد . ودرهمين سورنجان. فيكون سفوفاً 
قبل شراب الورد أو بعده. وأما الأرباب فرب السفرجل يعصم المحرورء ورب 
التفاح يعمل في النميجة الواردة عن ضعف القلب إذا كان من حرارة. ورب 
التوت فخاصيته في الحلق. وجميع الأشربة والربوب فالغناء عنها بالحمية مع العود 
إلى العادة القديمة كما جاء في حديث «المعدة بيت الداء والحمية رأس الدواء, 
وعوّدوا كل بدن ما اعتاد » ولا بأس لمن اعتاد الشربة أن يتعهدها عند الحاجة 
إليهاء قال أبو طالب المكي رضي الله عنه: لا تتعرضوا مع العافية إلى الدواء 
فربما يفضها. وشرب الدواء في الخريف أولى من الربيعء لقربه من المآكل التي 
تحدث السهولة. وأما البقول فأنفعها الهليون والاسفناج .روى ابن قتيبة أن النبي 
ينه قال: أربع حشائش من الجنة يقطر عليها في كل ليلة قطرة من ماء الجنة؛ 


50 


وهي الاسخناج والمندبا والهليون والخس ؛ ففي المندباء تبريد وفي الاسفناج 
والهليون ترطيب. والخس يولد دما صالحاً. وأنفع الهليون ما عمل بمخاض 
البيض والزيرباج. وأنفع البيض مخاخه, وأجود الخيار القليل من باطنه. وأما 
الكرفس فإنه يفتح السدد قليله . وقد يتبرك به الناس في بعض البلاد . والسداب 
يورث الجذام إذ أصله من خرء الذباب. قال لَه في التين « كل التين رطباً 
كان أو يابساً فإنه ينفع في الجذام والنقرس والبرص ». زعم الأطباء أن اني التين 
خاصية قطع الناسور ويدر دم الحيض. وأنفعه الغدي الصغير الأزرق البالغ. 
وأكله على الريق أنفع وآخره أجود من أوله. وأول البطيخ أجود من آخره. 
وخيار الخريف حمى. وريحان الخريف زكام. والشرب في كوز الجماعة يورث 
الآلام. وسره من أبخرة الأفواه. وحقن البول يورث حصة المثانة. وشرب بذر 
البطيخ السقي يعمل في عسر البول. وغديه إذا دَق مع الكشنة أو العدس ينعم 
البدن ويزيل الزهكة . ويكره الغسل في الحمام بالعدس والمواضع النجسة. ويجوز 
الغسل بالعدس في الأواني. ودارك الأشنان ينشف رطوبات الأبدان ويسمن 
ويسمر الألوان. ومعجون السمسم فيه ترطيب الشعر وتنعم البدن وشقاق القدمين 
أمان من الجذام . وأكل اليقطين يعمل في الخلط السوداوي . وحلاوة القرع تزيل 
التجفيف. والزيرباج فأعدل الألوان. لكن بشرط أن يضاف إليه الخنشخاش 
المرضوض . واللوز المحمص المرضوض مع الدارجيني والزعفران يحل بالماء الورد 
والعسل ويوضع في رأس البطيخ . هذه حيلتهم على السكنجبين. وأنفع الحلوة ما 
كثر خبزهء وأرطبها حلوة البيض . والقطايف أميرها. والمسير ثقيل في المعدة. 
وأجوده السهل الناعم مثل الصابونية والكافورية. وأما خبيص اللوز فثقيل» 
وأجوده الناضج الكثير الخشخاش . وأما الهرايس فأجودها أنضجها وأحقها بلحم 
الحديث من المعز والضأن قال صل الله عليه وآله وم هشكوت إلى أخي 
جبرائيل ضعف الوقاع فأمرني بأكل الهرايس فوجدت لأمري جبرا ». والاكثار 
من لحم الدجاج يورث الحرارة في الأطراف. والأمونية بالخروف المشوي أججمل 


11 


لكنها أثقل. هذا فصل إشارة في الأدوية والأطعمة وأنفعها ما دام وقل حسابه. 
فهذا طعام المترفين. فقد قدم عثيان بن عفان إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم 
قطايفاً بالقند والفستق ودهن القرعء ففرك وجهه عَظِتم ثم قال: ٠آه‏ من طعام 
المترفين وحساب المترفين» وقدم قعب من حليب وتمر إلى النبي. ينه فقال: 
« كليه يا عائشة بالسمن يكن أليق ». وكان يأكل النيت بعسل العرفط والمعافير . 
فمن ترك شهوات الدنيا وهو قادر عليها كتب له من الأجر ما لا يعد ء والسر 
فيه أنه أوقع بينه وبين نفسه فسكت عن اللذات والشهوات؛ فإذا فارقت هذا 
العالم النسيس والحبس المظام والجسد المعتم م تتأسف على مفارقة المحقورات. 
رقت على عالمها وشرفت بعلمهاء مثل الملوم المرسومة المنتقشة فيها. مثل علم 
التوحيد . وهو العم بالله وحده بالبراهين النقلية والعقلية. يحدث به لك جناح 
تخرق به عالم الملكوت؛ إذ الأرواح ثلاثئة: نفس العارف, والناسك» والزاهد , 
إذا اجتمعت خلاها الثلاثة فلا يضرها الموت ولا الفوت؛ لأنها كاملة رقت إلى 
عالم الكمال فهي تحظى بما ليس في الجنة من المقامات العلوية والأنوار القدسية في 
الحضرة الصمدية. مجاورة للملائكة الروحانية. تجتمع إليها وتسمع عليها من 
العلوم المودعة عندها؛ فهي تنفصل عن عالم الكون والفساد وتلتحق بعالم البقاء 
الذي ليس فيه نقض ولا نقاد «أعددت لعبادي في جنتي ما لا عين رأت ولا 
أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ؛ اعلم أن هذا الحديث يدل على أن وراء 
نعم الجنة نعياً لا تدركه النفوس إلا مع مشاهدة, فهذا يعجز عن صفة مشاهدة؛ 
لأنها لذة ذاتية تجوز عن حد التعبير والتفسير. كيا لو قيل للعنين عن لذة الجماع 
لما عقل. ومدرك اللذة لا يقدر على تعبيرهء فهذا لا يدركه إلا شاهده وهو 
النظر إلى الله الكريم. وأنت تريد أن تعرف لذة المشاهدة من غير إبصار, كما لا 
ينتفع الجبان بذكر الحرب من غير مشاهدة ولا مواقعة؛ وكيف تطمع مع الغفلة 
برفع الحجاب وقد سمعت أن زين العابدين عليه صلوات الله كان إذا قام في 
صلاته يرفع السد بينه وبين محبوبه فيطاف بقلبه في عالم الملكوت الأعلى ؟ وهو 


034 


معنى قول أمير المؤمنين على عليه السلام : سلوني عن طريق السموات فإني أخبرم 
بها . وأنت أيها المبطل الغافل عبد نفسك وأسير شهوتك وتريد أن تلحق بالأبرار 
والمقربين» أو تطعن مع حجتك وجهلك في كرامات الصالحين! ( شعر) : 
تريدين إدراك المعالي رخيصة ولا بد دون الشهد من إبر النحل 
تريدين أن أرضى وأنت بخيلة فمن ذا الذي يرضي الأحبة بالبخل 
فجاهد ولا تجاهد . واركب فرس حسن ظنك ء واقطع الغاية حتى تكون آية. 

والبس ثوب الشفاء إن أحببت اللقاء. وارض بالعيش الطفيف إن أحببت أن 
ترقى في عالم المجد إلى قلة حى الملكوت, قال صلى الله عليه وآله وسام ه ظفر 
الزاهدون بعز الدنيا ونعيم الآخرة». وسم المجنون على ليلى فابت رد السلام 
فقال لها: ولِم؟ فقالت: أخبرت أنك نمت البارحة لحظة. ولو كنت صادقاً لما 
نمت عناء فقال: عسر عل زيارتكم فأحببت أن أراك في المنام فنمت , فقالت له 
ليل : كأن شخصي قد زال عن قلبك ومثالي » فقال: عزفت عن المثال فاستفقت إلى 
التمئال» فأنشدت ليل : 

لم يكن المجنون في حالة 2 إلا وقد كنت كرا كانا 

بل لي عليه الفضلمنأجل ما باح وإني مت كتانا 

قالوا: يا رسول الله إن بشراً وهنداً ماتا في حبهماء فقال عَلِنَهِ : عجزا عن 

حمل المحبة فياتاء ثم قالت عائشة: حتى لك يورثك شوقاً وفقراً ؟فقالت:أو أبقى 
بعدك لا كنت إن بقيت. فقال: ستبقين ولكن تشقين حتى تلقين, ثم قال:يا 
عائشة إذا مات الزوجان المتحابان فلينظر أحدهها رفيقه كانتظار الغائب. 
(شعر): 8 ِ 7 

نرى تقدم الغياب حتى نراهم١‏ وناخذ شوقا مئهم حين نانس 

لقد ضاقت الدنياعلينا ببعد م كمنغص بلماء الفراتفييأس 

لئن غبتم عن ظاهر الأمر بيننا ‏ فا أنا إلا للمحبة أدرس 

إذاماجلنانذ كر البين بينتا تضيقالقوافيمنكم حي ثأجلس 


328 


ولما حضر الموت الصديق قالت زوجته: وافراقاه! فقال الصديق: بل أنا 
وافرحاه بلقاء الأحباب! فلا تخف الموت إن كنت مشتاقاً إلى أحمابك . فلا بد 
من اللقاء في دار البقاء ؛ فشمر عليك , وقدم بين يديك عساك تظفر بسهرك. 
فمن أدلج بلغ المنزل. ومن جعل الليل له جملا قطم عليه مفاوز الهلكات. 
( شعر ): 
فيب واثقاً بالل وَنَْةَ ماجد 


ترى الموت في الميجا جنى النحل في الفم 


وشق الجنيد جبيبته لما سمع صبياً يترنم ويقول: أرى زماني يمر بخشن وينقضي 
بالمغالطة. وقد تركنى زماني بحال مالي حال. إذا صحت الأعبال وطينت 
الأجسام وسهر العاشقون وقللوا الزاد والرقاد. فتحت أبواب بساتين الاشتياق» 
ونزعت شموس المعرفة, وأزهرت مزاهر القرب من وراء الحجب. وأشرقت 
هياكل القلب من أنوار جمال الربء ورفع الحجاب وقطعت الأماني. ونادى 
العاشق بمعشوقه. كوشف بالكائنات, وشاهد حقائق الموجودات, وحظي بأنواع 
المكاشفات. ونثر عليه نثار الكرامات, وبشر بأعلى المقامات. وقال أبو الحسن 
النوري : دخلنا على أني يزيد البسطامي فوجدنا لديه رطباً. فقال كلوه فإنه هدية 
الخنضر جاء بها من عند رسول الله يَلِتَمٍ . وأنا ما طلبتها إلا من الله تعالى. ما 
طلبتها بواسطة الخضر , أكلها على يدي الخضر . ثم دخلنا عليه في الجمعة الثانية 
فوجدنا بين يديه رطباً في طبق ذهب أحمر , فقلنا: ما تطعمنا منه؟ فقال لا هي 
لي ولا لكم. فقلنا: كيف حديثها؟ فقال: كنت قاعداً بالليل أتلو القرآن 
فسمعت خذ الحديةمنا لا واسطة بيننا . 

واعلم أمها الغافل المحجوب عن لذة المعرفة أن أحباب الله يتدللون عليه كما 
يتدلل المعشوق على عاشقه. كما قالت رابعة: بحق ما كان بيني وبينك البارحة 
اجمع اليوم بيني وبين شيخنا يونس بن عبيد ! فدخل يونس فقال: يا رابعة 


33 


ضيعت دعوة فيا لا بد أن يكون. فقالت: يا شيخ دع عنك هذا فأين آثار دلال 
الأحباب وأنت تريد سبباً بلاش. فهذا طلب الأوباش . قال الجنيد لرجل يعطي 
أجرة الفعلة: أما تعطيني معهم يا شيخ؟ فقال الرجل: يا أحمق تمني نفسك 
بالبطالة لو عملت لأخذت. وقد مر الشبلى بدار فسمع صاحبة الدار تقول 
لزوجها: لا نمن عليك إلا بقدر فعلك. تريد بلاش عناق وزقاق. فقال: الزوج 
الكل يعمل أكثر من هذاء وأنشد : 
قد فاتنى مقصدي فذبت جَوى)- حطت لدينا مصائب الكسل 
لو عملت لرضيت عني خليلة 


المقالة العشرون 
في المأكل والمشرب واداب المائدة 


اعم أن الله تعالى خلق هذه الصورة الآدمية وجعل ها غذاء وهو سبب 
بقائهاء فالناس فيه ضروب: فطائفة تقنع بالقليل من المأكل . وهي المتقنعة التي 
يصلح أن يكون منها متعبدون. والتيى هي شبيه الملائكة بخصاها وخلاها ونومها 
ومأكلها ؛ فكلا قل الغذاء كنت مشبهاً لسكان السماء ؛ وثمرته العافية والغناء عن 
الطبيب, ومن قلة الأكل يحصل رقة القلب وقلة المخرج؛ فمن كانت همته ما 
يدخل في بطنه كانت قيمته ما يخرج منها ؛ والإقلال من الأمراق والفواكه أسام. 
واعلم أن كثرة المأكل ككثرة الرفاق لا تربح من كثرتهم خيراً ؛ ألم تر إلى رسول 
الله مَلِنَهِ ما كان يجمع بين الإدامين؟ فهذا فيه زهد وطب. وفي البطون بطون 
نارية تأكل ما يلقى إليها؛ والنار لها سبعة أبواب, وللبطون مثلها؛ مثل باب 
الحرص. وباب الشرهء وباب النميمة. وباب شدة الجوع. وقلة المبالاة بالخطايا 
والمأكل الحرام أشد الذنوب وأعظمها. وللجسد سبعة أبواب دالة على أبواب 
جهنم . مثل السمع والبصر واللسان والبطن والفرج واليدان والقدمان. فهذه 
أبواب السعاية الدالة على القبائح وأعظمها البطون, وأعظم الأفعال القبيحة مظالم 


العبيد . وقال الني عََلَهِ : « من أكل لقمتين من حرام حجبت دعوته أربعين 
صباحاً. ومن ملأ بطنه كانت النار أولى به». والحرام هو مثل المغخصوب 
والسرقةء وأخذ القصاص والجناية بغير إذن ربهاء وقطع الطريق, وقبول 
الرشوة. والاجارات على الطاعات, وابتياع الحرام. وأجرة الحجامات, وأخذ ما 
لا يستحق حتى نوبة الماء . وأنواع كثيرة ذكرناها في كتب «١‏ الإحياء » من الحلال 
والحرام. وأما المكاسب الحلال فأصلها الحلال مثل البيض والبلوط والمن 
والحشيش والحطب . وأما الصيد ففيه كلام بين العلماء فتركه أجمل ؛ وعملك 
بيدك مع النصح أجل وأكسب. اجتمع أبو الحسين النوري وأبو يزيد وسفيان بن 
عيينة فأخذوا ببعض أجرتهم خبزاً وتصدقوا بالباقي, فلما قعدوا لأكل الزاد قال 
سفيان: هل تعلمون منكم النصح في الحصاد ؟ فقالوا :لا نعام : فتركوا الخبز مكانه 
وراحوا. واعام أن سر الحرام غامض نكشف بعضه فنقول: إن الصانع واحد 
والخلق من فيضه , فالمعتدي على بعض أجزاء الفيض يسري بعدوانه إلى الكل 
كما قال تعالى في القاتل 8 فكأنما قتل الناس جميعاً ومن أحياها فكأنما أحيا الناس 
جميعاً © [ المائدة: 7١‏ ] والقياس إذا قال: شعرك طالق. سرى الطلاق في جميع 
جسدها؛ وهكذا إذا تصدقت فقد أرضيت به الصانع والمصنوع . واللقمة الطيبة 
وهي الحلال أفضل عند الله من صدقات كثيرة, فإذا أردت الأكل فكل ما دنا 
من الأرض بالأصابع الثلائة بعد الجوع. وقم قبل الشبع. واقعد كقعودك بين 
يدي شيخك للتعليم. واعام أن الله سبحانه وتعالى قد نزع البركة من الحار 
والحرام. وفي المأكل الحار أربع مضار : يهدم الأسنان. ويصفر الألوان» ويزيل 
الكبد . وربما يخاف عليه من أذى المصران. وغسل اليدين من قبل الطعام وبعده. 
ولا يجوز أكل المنتن للزوجين إلا بإذن بعضهم بعضاً. والسر فيه أنه يورث النفرة 
بين الزوجين. والريح الطيب مؤلف ومحبب. وترك غسل اليدين يقمل الثوب 
ويولد رائحة كريبة وربما على ما ورد أن الشيطان يسترضع اليد ويستحسن 
الصورة فيألفها. ولما كان المقصود من الحلال تصفية القلوب وتقليل الذنوب», 


الا 


صار طلبه فرضاً كطلب العم فإن العم إذا لم يدل على خير فهو ضضرر. وفي 
الحديث «من أكل الحلال سنة كشف له عن طراز العرش وصفت أنوار 
خواطره». وهو كيمياء السعادة الأبدية» ينشرح به الصدورء. وتصفو به أنوار 
المعرفة , ويثبت في القلب عيون الحكم ؛ وبه تكشف غشاوة الغفلة. وترفع سدود 
الغرور , فيبين صفاء سماء التوحيد . وينكشف له عن اللوح المجيد . وتسمع بأذن 
صفا خاطرك هدير تسبيح الملائكة المقربين. 


واعلم أن النفوس لا تكون مرهونة بعد الموت إلا بمظالم العبيد ؛ والسر فيه 
مطالبة حاضرة بين غريمين بين يدي حام عدل عل باق. والمساواة واقعة بين 
العبدين إلا من أتى الله بقلب سلم؛ تخلصت الذمم من المظالم. وانفك قيد 
النفوس. فصارت الأرواح أين تختار؛ وهذا قال يليم : « إن الأرواح لتزور 
بيوتها وأهلهاء. فإن رأتهم بخير شكرت وإلا نفرت وهي تنادي يا أهلي إيام 
والدنيا فلا تغرنكم كما غررت لي » وهذا هو سر نداء الندم وأما الأرواح الطيبة 
الطاهرة من الدنس والآثام والمظالم فهي تطير أين شاءت واختارت على صور ما 
ذكرها الناس. إما جوهرء أو هيئة ملك. أو جسم لطيف, والكل مدرك 
حساس عل بمفارقة الجسد. فبقدر انتقاش علمك يا هادي سيرقى العليم فوق 
الجهول؛ وف الحديث: ٠‏ إن رد درهم مظلمة أفضل عند الله من أربعة آللاف 
حجة مقبولة » فإذا كان حجك واجتهادك خوفاً من الآثام فاقطع أصوها . 

المقالة الحادية والعمشرون 
في تبذيب النفوس 


اعلم أن نفسك أشد عداوة لك كما في الحديث : « نفسك التي بين جنبيك هي 
أعدى عدوك تدعوك إلى الوبال. وترشدك على الضلال. وتوقعك في الدناءة» 
وتركبك نفس الموى , وتوقعك . وتطمعك , وتهلكك , وتملكك . فاقطع خصاها 


8 


وخلالها وشرهها وشركها وطمعها وولعها وشبعها ». وفي الحديث: ١‏ أن الله تعالى 
لما خلق النفس قال لا : من أنا ؟ فقالت : وأنا من أنا؟ فعذبها بأنواع العذاب, 
فكل) قال ها من أنا فتقول وأنا من أناء حتى عذبها بالجوع والتواضع. فقالت: 
أنت الله الذي لا إله إلا أنت » فنفسك زنجية تطالبك بالشهوات, فإذا شبعت 
طمعت , وإذا عصيت رفضت؛ هي الموقعة في البلايا وهي أم الرزايا.؛ هي الذئب 
الكلبء والأسد الحرب., والكلب النهم. والعدو القرم؛ داؤها كثير ودواؤها 
قليل: وأعظم وسائل السلامة منها الخلاف لا ( شعر): 


إذا طالبتك النفس يوماً بشهوة وكان عليها للهواء طريق 
فخالف هواها ما استطعت فإنما ‏ هواها عدرٌ والخلاف صديق 
ولا يجد المريض حسن الشفاء إلا بالصبر على مر الدواء ؛ فعذبها بما تهذبها. 
فقد انشد البستي لنفسه ( شعر ): 
العاقل هبزا لي والخلوة تهذيبي 
ما أصعب أحوالي ونفسي كالذيب 
فإذا عزمت على تهذيبها فاضربها بسياط تعذيبها. واقمع بالتواضع كبرها. 
واطبخها بنار الامتحان, واجعل العام لها سيد الأخدان, والعمل الصالح لها مولى 
الخلان. وتعام الأخلاق اللطيفة. وتكسب الأعبال الصالحة. والطف واظرف». 
وتكايس ولا تتيايس . واعلم أن الله لطيف. وليس من ثأن اللطيف أن يعذب 
اللطيف والمهذب لنفسه والمعذبها بنيران المجاهدة. واعلم أن الخير عادة والشر 
لجاجة. فربها بالنوافل, وهذبها بين يدي شيخك بالسمع والطاعة؛ واعلم أن 
حرمة الشيخ أعظم من حرمة الوالدين ؛ والشيخ هو الوالد على الحقيقة. والمرشد 
إلى الطريقة. والمخرج للمريد من ظم الجهل إلى نور المعرفة. وإلى السعادة 
الأبدية . والنجاة الحاصلة, والالتحاق بالملائكة؛ لأن الشيخ هو الطبيب 
للذنوب, وأما الوالدان فهاجت نيران شهواتها لقضاء الوطرء وجنيت أنت من 


ثمار الشهوة ما تقدمت نيتها بإيجادك عند الوطء وكان سبباً لاخراجك من ظلم 
العدم إلى ظم الجهل ودار المكايدة والعناءء فقد أجادا نقلاً وقصرا عقلاً. 
وأنشدني المعري لنفسه وأنا شاب في صحبة يوسف بن على شيخ الإسلام : 


أنا صائم طول الحياة وإنما 
قد فاز من صبح وليل أودنا 
قالوا فلان جيد لصديقه 
فأميرهم نال الإمارة بالخَنَا 
كن من تشاء نيجنا أو خالصاً 
واللهوما سمعوا مقالة صادق 


فطري الحمَامٌ ويوم ذاك أَعَيِدٌ 
شعري وأيدني الزمان الأيَدٌ 
كذباً أتوا ما في البرية جَيِدٌ 
فإذا رزقت حجى فأنت السيدٌ 
إلا ونواكأئنه متزرزئده 


هذا الشعر في بحر لزوم ما لا يلزم . 

ومن علامة علمك أنهم إذا مرجوا لا تلتفت. وإذا مزحوا لا تتزلزل» وإذا 
كابروك لا تحول. وكابد نفسك عن المزاعقة والمصايحة . فالكبر مطيب النفس؛ 
فإذا أردت الغاية الكبرى في تهذيبها فاقصرها في بيت أربعين صباحاً أو أربعة 
أشهر. وهو الأفضل. وانقطع كأنك ميت. ولا تبق لك حاجة. وحصل من 
الزاد ما وافقك وأعانك كرا تحصل طريق مكة, ثم اركب مطية متابعة الشرع؛ ثم 
سر في فلوات قمع النفس . وليكن البيت مظلاً وزمان الشتاء أولى . ولا تأت بغير 
الفرائض من الصلوات, ولا تنم إلا عن غلبة؛ وكل ثلثي أكلك بعد الجوع. 
ومقداره من اللقم الوسيطة ستة وثلاثون لقمة . وليكن ذكرك لا إله إلا الله الحي 
القيوم. فإذا كل اللسان فقل بقلبك ولا تخف من الواردات عليك فقد يجيئك 
صورة قبيحة. وخيالات قاطعة. وجن وشياطين وملانكةومعلمون. فواحد يقول 
أعلمك الكيمياء. وآخر يمنيك بالكنوز. وهذا يوعدك. وهذا مبددكء فلا 
تلتفت , فإنه سيظهر لك مع الصدق وترك التجربة عجائب وفنون. فعند ذلك 
تذوب كثائف الحجب عن القلب. وترفع ستور الغفلة بين قلبك وبين اللوح 


7/5 


المحفوظ فتشاهد ما فيه. وتنقل إلى الخلائق معايئة, وينتكشف لك في اليقظة ما 
كنت تشاهده في المنام» فيستنير القلب, وينشرح الصدر بأنوار الجلال» وتنخرق 
الكائنات, وتنكشف المستورات, وتظهر الكرامات التي هن أخوات المعجزات. 
وبينههما فرق في التحدي والاظهار والاستتار؛ بل إذا وصل العبد إلى درجة 
التمكين صار الكل بحكمه؛ ما شاء فعل أو قال: #وأما بنعمة ربك فحدث» 
[ الضحى: ١١‏ ] وكل ما تجده في الخلوة تعرفه شيخك . فالشيخ في قومه كالنبي 
في أمته. ومن ليس له شيخ فالشيطان شيخه, ومن مات بغير شيخ فقد مات ميتة 
الجاهلية؛ فيعلمه ويدله ويعرفه طريق الوصول إلى الله تعالى. وصاحب الخلوة 
هب عليه نسيم القرب من دواخل الحجب , وينكشف له أسرار قلوب المخلوقين. 
ويزوره الأبدال» فتراه فرحا طيب الخلق حسن العشرة» دعب لعب ؛ لأن الله 
يكون قد تحلى بقلبه. فيسمع كلامه, ويبلغ منه مرامه. ويكاشف شموس 
المشاهدة. ويعم المخفيات. ويطلع على الكائنات. ومن علامات الواصل بالله: 
حسن الخلق . وكثرة العامء وحلاوة الكلام . والتواضع ؛ وصاحب هذا الطريق مع 
علمه العزيز لا عبوس. ولا حقود. ولا متكبر. ولا ظالم. ولا متجبر . ولا 
أكول. ولا شروب. ولا نؤوم؛ نفسه ملكوتية؛ قَوَّى جبرائيل همته. وتفخ 
إسرافيل سعادته في صور همته. فحدا به حادي محبته. وسار به في بيداء 
معرفته. حتى تحلى له بيت الجلال». فانكشف منه خاصية يمشي بها على الماء والهواء 
ويطوى له بها البعيد . فاقربوا من هذا الرجل تكتسبون من قربه وفيض خاصيته 
ما اكتسبه الحلال من قرب الشمس . وربما ينتقل أحوال الأبدال إلى التلاميذ 
والمريدين ىا انتقلت النبوة من مومى إلى يوشع بن نون . 

واعام أن هذه الأحوال والمقامات لا يصدقها إلا من عرفهاء. كما لا يصدق 
عام الكيمياء إلا من عالجه وعرفه؛ فكل من يكم عند الصانع الواصل العليم فقد 
هدي. فإن الأعمى لا يبصر القمرء. والزمن لا يعدو خلف الطريدة. وأنت 
تغيب وليس فيك نصيب, ولا أنت محب ولا حبيب؛ بطنك ملاءة وعينك 


محيطة ولسانك معقود . وعلمك قليل وأملك طويل , وذنيك عزيز وربك بصير . 
فاسمع مناديك في جانب واديك قال: لا تعب الحرائر حتى تكون مثلهم؛ 
واخش بمفلح نادى من وراء اللوح. فأحسن الظن فإنك قد طرحت فطرحت»ء 
وجرحت فجرحت, ولو أوصلت لوصلت. ولوخدمت لخدمت؛ لكنك متشبث 
تجعل ط م ع وهي خالية من النقط فهلكت وما ملكت ؛ وما فاتك فاتك والندم 
تجده عند وفاتك. واعم أن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ( شعر): 

قل للكئثيب المعشى إلى مق تتعللسلى 

فلا حياتك تصفو ولا بنا تتهننا 


المقالة الثانية والعشرون 
في الأذكار 


واعام أن الآيات الدالات على الذكر والأخبار كثيرة؛ فمن ذلك قوله تعالى: 
فاذكروني أذكركم# [البقرة: ]١86*‏ وقوله: «إاذكروا الله ذكراً كثيراً » 
[الأحزاب: ]4١‏ وقوله: «#ولذكر الله أكبر» [العنكبوت: 140 ] وقوله: 
«#واذكر ربك في نفسك تضرعاً وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال 
ولا تكن من الغافلين» [الأعراف: 7٠٠6‏ ] بين المراتب والأوقات. والذكر 
الخفي أجمل. إذ ليس فيه أذى لسامعه. وهو خالص عن الرياء والنفاق. مثل 
صوم السر وصدقته. والحث عليه كثير. وقد سثل رسول الله َبَلِلّهِ في رجل 
يتصدق بمال حلال وآخر يذكر الله من صلاة الصبح إلى طلوع الشمس فأي 
الرجلين أفضل ؟ فقال: « ولذكر الله أكبر ». وفي الحديث : ١‏ أنه من ذكر الله من 
طلوع الفجر إلى طلوع الشمس فله أجر من تصدق بمائة ناقة حمراء حملها من 
ذهب أحمرء وكأنه قد أعتق ثمانية رقاب من بني عبد المطلب٠.‏ ثم الذكر له 
ثلاث وظائف: فذكر الظاهر بلقلقة اللسان. فهذا يستحب في التلاوات من 


ك/ 


هياكل العبادات. والذكر الخفى أعلى ضروب العيادات والصدقات؛ وذكر 
القلب . ومنه يحدث الغناء من العالم والاشتغال بالمحبوب: ‏ أنا ذاكر من ذكرفي, 
وجليس من شكرني». وحبيب من أحبني. من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي, 
ومن ذكرني في ملأ من قومه ذكرته في ملأ من ملائكتي » ثم يحصل من الفناء 
الأول فناء ثان وهو أن يغبب عن النفس لمشاهدة حضرة القدس. فيصير الذكر 
لك عادة وعبادة. كشف الموت عنك أعباء الأئقال عدت في عادة ذكرك مع 
الملائكة الذاكرين . إذ الخير عادة. ويطاف بك في ماحة حظيرة القدس وتحظى 
بقرب من ذكرت؛ وهو قرب إكرام ومنزل احتشام. ومن هذا الذكر ما هو 
قرانء ثم بعده تسبيح. ثم صلوات النبي يِه . ثم استغفار ودعاء . فهذه وظائفه, 
فواظب عليه فإنه يكشف لك من سر الربوبية ما يغنيك عن ملتمس كل حال؛ 
تشاهد الملائكة. ويخدمك مؤمن الجن. ويطيعك أعضاؤك ويزول وقر أذنك 
فتسمع تسبيح الجادات «وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون 
تسبيحهم» [الإسراء: 44 ] وقد يحصل من ثمر الذكر أكثر ما مر بك في 
تهذيب النفوس . ويثمر عليك أيضاً بعض ما أثمر على زين العابدين ذي الثفنات 
السجاد . فإنه كان يسجد بين الليل والنهار ألف سجدة فأتئمر عليه؛ كان إذا قام 
في صلاته يكشف له الكائنات فيطلع على حومة حظيرة القدس . وبه بلغ أصحاب 
المقامات درجات المكاشفات والسير على الماء والهواء . وبه سمت الملائكة إلى أعلل 
قُلل الشرف, واستحقوا دوام البقاء للتنزه عن المأكل والمشرب مع مداومات 
الذكر وشراب الفكر ؛ وهو التنزيه والتسبيح من الملائكة, وبه تجذب الملوك إلى 
المتزهدين » وبه تنال مراتب العاشقين. ويحدث منه خاصة جذب القلوب. وقد 
يقف الذاكر الصادق على باب حسن الآداب, وينحل بالذ كر طريق الأسباب , 
فتخلع نعل حب الدنيا عن قدم إقدامه, ويقطع عوسج وساوسهم ببلوغ مرامه 
ويقف على طور صفاء قلبه في وادي تقديس لبه هناك فيسمع كلام ربه : 9 إني 
أنا الله رب العالمين» [ القصص : *٠‏ ] ويكفيك ما مر بك من قصة أمية بن ألي 


/ب/ا 


الصلت الثقفي: كان يترشح إلى طلب النبوة فقال لأخيه : ها أنا أنا فاصطنع لي 
طعاماً ! قال فبينا هو نائم إذ رأيت قد نزل طائران من النافذة فشق أحدهها 
صدره ثم أخرج منه نكتة سوداءء فقال أحدهم|: أوعى ؟ قال: نعم وعى علوم 
الأولينء فقال: أوَ زكى؟ فقال: لاء فقال: رد فؤاده إليه فليست النبوة له إنما 
هي لسلالة آل عبد المطلب. فلم| انتبه أخبرته بالقصة فبكى وتمثل : 


بانت همومي تسري طوارقها 
نماأتاني من اليقين ولم 
إمالظى عليه واقدة 
أم أسكن الجنة التي وعد الأب 
ها فريقان فرقة تدخل ال 
وفرقة منها قد أدخلت الن 
لا يتوي المنزلان ثم ولا ال 
تعاهدت هذه النف وس إذا 
وصدها للشفاء عن طلب الجن 
عبد وعى نفسه فعاتبها 
ما رغبة النفس في الحياة لتح 
إن لم تمت غبطة ثمّمت هرما 


أغض عيني والدمع سابقها 
أوت براءة يقض ناطقها 
النار محيط بهم سّرادقها 
رار حنت بهم حدائقها 
جنلنة مصفوفة ثارقها 
ار وسيثياتهم مرافقها 
أعمال لا يستوي طرائقها 
هَمِّتَ بخير عاقت عوائقها 
ة دنيا الله ماحقها 
يعم أن البصير رامقها 
يا طويلاً فالموت لاحقها 
يومأعلى غرة يوافقها 
الموت كلأس ولمرء ذائقهها 


وبها مات مصدوع الكبد : منعه شِرَكّه عن نيل مقصده؛ إذ الشهوات قاطعة. 
واللذات مانعة. ومن رام الماء صبر على الكدر. ومن قطع الليل خلص عن حر 
الطريق . ومن جعل نفسه ذات الشهوات كان مسقطه الكنيف والخلوات. ومن 
قطع العلو بهمة المجاهدات نال أعظم المراتب بالصبر على المصائب والنوائب . وما 
صاحب المأكل الكثير يحظى بسوء التدبير وهو مستور لا يفلح أبدا. 


م 


المقالة الثالثة والعشرون 
فق جهاد النفس والتدبير 


قال النبي ميلم : « رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر» قالوا: يا 
رسول الله وما الجهاد الأكبر ؟ فقال: « هي مجاهدة النفس». وقال عله : 
«أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك ». وقال عله : « بعثت لأهم مكارم 
الاخلاق ». واعم ان النفس أخلاقها ذميمة غير مستقيمة. فإن فيها مع صغر 
حجمها ‏ كا قلناه ‏ ما في السموات والأرضين. وهى النار الموصدة فيها ذئاب 
الغيبة » و كلاب الشهوة؛ وسباع الغضب . ونمور الكالنة وتعالب اطبلةبواكمين 
الشياطين بعسكر الهوى, ومناجيق الامتحان. ووساوس القبيح. كل هذا نمكن 
تحت قلة قلعة النفوس محيط بربضها وحصنها . واعام أن القلب مدينة وساكنها 
الملك ؛ وهي النفس اللطيفة. المدركة, العالمة الطاهرة, الربانية, الخارجة عن 
صفة النفخة المشار بها إلى الروح . وهي محجوبة بالأبخرة الظاهرة المتولدة من دم 
القلب الذي هو الشكل الصنوبري واللحم المجوف . وما هذا هو القلب المخاطب 
وإنما العقل. فهو المخاطب من قوله تعالى : 9 واتقون يا أولي الألباب4 [ البقرة: 
7 ] وقوله تعالى : # إن في ذلك لذ كرى لمن كان له قلب» [ ق:0” ] وهو 
معنى قوله: «إأذن واعية» [الحاقة: ]١١‏ والنفس المشار إليها هي أسيرة 
الشهوات . مقيدة بقيد الغفللات. مشوهة مستورة بالخياللات . عاشقة للدنيا قد 
أطمعت ببخسها. فأصبحت محبطة. سكرى. قلقة. حيرانة, مشغولة بخدمة 
الجسد الترابي تحمله للكنيف, مشغولة بتربيته وتغذيته ألفته فعشقته, فإذا فرق 
بينهها تأنف., حتى إذا مر عليها بمثل قدر ما خدمته بطول المدة نسيته وأنكرته 
كأنها ما عرفته. فإذا ردت إليه نفرت حتى تسمع إشارة القدس 9يا أيتها 
النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك »© [ الفجر: 1؟. 78 ] هذا خطاب موجد 
لموجود غير مفقود إذ لا يجوز خطاب المعدوم. ومن شواهد ذلك قوله عله : 


37 


« تعرض علٍٍ أعبال أمتي في كل اثنين وخميس. فما كان من حسنة أسر بهاء وما 
كان من سيئة أستغفر لهاء اشتد غضب الله على الزناة». وقوله عَهِ : ٠‏ أكثروا 
من الصلاة على فإن صلاتكم علي معروضة» فأيها المككذب المذيذب الغافل 
المتأول. أتراك تعجز الصانع القادر ؟ تزعم يا مسكين أن لا عود للأجسام 
والأرواح إلى الصانع القدي القادر , أهو ذاك أم غيره سواه ؟ أتتجحد عليه وتتحكم 
وتعجزه في قدرته وآيته ونبوته؟ أفمن رباك في بطن أمك أفلا يربيك في 
بطن قبرك؟ ثم تقول: تختلط العظام بعضاً ببعض . فكيف السبيل إلى تخليصها ؟ 
فانظر إلى الصانع كيف يخلص التراب وبرادات الذهب والفضة والحديد. وهو 
اجزاء تعجز انت عن خلاصها.ء فالصانع القادر ليس بمعجز ولا يدخل نحت 
طوق ما تريد ‏ وإنما أنت عاجز تعجز وتغتر بمقالات أبي على بن سينا ؛ أقد صار 
عندك أصدق من ممد ته ؟ فانظر إلى فعل هذا وهذاء ثم احكم بالفسق 
والعدالة» وارفع الحكومة إلى حا عقلك في التصديق والتعديل واحسبه| 
حكمين. فإن قلت هذا عقل وهذا نقل فانظر ما يذكرون لك من حوائج 
طلبك ؛ ألا تسأله عن خواصها وبراهينها وتقول: لم يقبض هذا ويسهل هذا ؟ 
فيكون جوابك عنده إنما أنت معارض أم مريض ؛ فكيف تعارض طبيب 
آخرتك وقد كان الذين قبلك أكثر منك بصيرة وعقلاً . علموا أن الاعتراض 
والتعجيز كفر فأسلموا منه وآمنوا. فجاهد نفسك واتبع شرعك فلا تخالف 
نبيك. وأكرم كتابك فهو هدية الله إليك. وقبيح بمن أكرمه ملكه بهديته أن 
يستهين بها . وعن قليل تلتقي ونتواقف وتستحبي ؛ وإن كانت الروح راجعة إلى 
مبادئها عند بارئهاء فإن صدق الشرع فهناك يتبين غليظ التوبيخ . والجماهير أكثر 
منك. إذ أنت منخرط في سلك نظام الآحاد لا التواتر. تبعت طاعة نفسك 
فاردتك إلى البلايا.» وإلا فانظر الليل والنهار . والصيف والشتاء والربيع 
والخريف. وتنقل الاحوال فيهما. وإحياء الارض بعد موتهاء ونومك وانتباهك 
بغير اختيارك, وآيات كثيرة أنت عنها غافل, ثم ارجع إلى مجاهدة نفسك تمح 


صفاتها الذميمة وتثبت صفاتها الحميدة المستقيمة. فاقمع الغضب بالرضاء والكبر 
بالتواضع . والبخل بالبذل. والإمساك بالصدقة. والصمت بالذكرء والنوم 
باليقظة . والشبع بالجوع . والغفلة بالانتباه. والخلطة بالخلوة. والاشتراك بالعزلة 
والمداهنة بالصدق. والشهوة بالقمع . والباطل بالحق» فإذا حوت صفات آفاتك 
بان لك عند رفع ستر الغفلة كيف يحبي الموتى وهو على كل شيء قدير. لكنك 
شيطان مريد . وتزعم انك.لله مريد . فاين اثار حلاوة التوحيد ؟ نام واحد من 
بنى إسرائيل في موعظة داود عليه السلام. فأوحى الله تعالى أن يا داود من ادعى 
محبتي ثم ينام عند ذكري فقد كذب لا أمر إبراهم عليه السلام بذبح إسماعيل 
عليه السلام في منامه فقال: يا أبت هذا جزاء من نام عن خليله. وآدم لما نام 
خلقت حواء . قال الشاعر ( شعر ): 
عجباً للسمحب كيفاينامٌ ‏ كل نوم على المحب حرام 
واعام أن قلبك هو المدينة التي أشرناء فيقدم شيطان نفسك إلى تعبئة جيوش 
الموى. وعساكر حب الدنيا. ونقاب الوساوس. ونقاب التمني . ومشاغل سوء 
اللن وفها عيق بالمشالفةة :وير ق الكت ».وول إساوة الشفعة .وساف تل 
الشره. وزحف رجل المكر 8 وأجلب عليهم بخيلك ورجلك 4 [ الإسراء : 14 ] 
فإذا أحاطت هذه الجيوش بهذه المدينة ولم يكن لها زاد ولا رجال من الأخلاق 
الحميدة. هلكت المدينة إن لم يدفع عنها البلاء. وسلب الملك وخربت مدينته. 
ونام عنها حارس الذكر ء وتهدمت أبراج الصدق. وقعد شيطان النفس على سدة 
أسرار القلب. وهتك أستار خزائن الأعبال. ودارت في المدينة عوانية الشك. 
وقطعت أشجار المعاملة. ونهبت أموال الأعمال. وأكلت ثمار الآمال. ووقع 
الشك في الكتاب. ونفرت النفوس عن مصاحبات الأصحابء. وعصى كل 
مولاه. وتبع كل منهم هواه. وكبكبوا على مناخرهم في النار وقالوا يا ويلنا ما 
لنا لا نرى رجالاً كنا نعدهم من الأشرار أتخذناهم سخرياً أم زاغت عنهم 
الأبصار © [ ص: *7] وكل ما الناس فيه من التشكيك والبلايا هي الشبه 


م 


والحرام. وإلا فصف زادك وانظر لشرح نور الإيمان في سرك وفؤادك ينكشف 
لك زادك ليوم بعثك ومعادك. هي النفس ما عودتها تتعود ؛ واعلم أنك بنفس 
المجاهدة تهذب نفسك حتى تصير ملكا روحانيا , وبمتايعة الغفلة والشهوات تصير 
شيطاباً رجباً. فجاهد النفس الأمارة بالسوء تَمْمٌ صفات آفاتها حتى تصير 
لوّامة. ثم انقل اللوامة إلى مقام المطمئنة كيا ينقل السلطان فراشه إلى مقام 
الكاتب, ثم إلى مقام الوزير» ثم يتصرف مع نصحه في ملكه فينظر إلى حسناته 
فيكون عنده سيئات هذا مقام حسنات سابقه كا قيل: حسنات الأبرار سيئات 
المقربين. والطريق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق, والمقامات تعلو مع الأنفاس؛ 
كان يتم يعلو من مقام إلى مقام . وهي مقامات الكشف والمعارف بها نبه حيث 
قال: « إنه ليغان على قلبي, وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة ؛ والرّين أشد من 
الغين. واسمع نظم أمير المؤمنين عل عليه السلام في النفس : 
صبرت عن اللذات حتى تولت) والزمت نفسي صبرها فاستمرت 
وكانت على الأيام نفسي عزيزة فلم رأت عزمي على الذل ذلت 
وقلت لها يا نفس موتي كريمة ‏ فقد كانت الدنيا لناثم ولت 
فلا الجود يفنيها إذا هي أقبلت) ولا البخل يبقيها إذا ماتولت 
وما النفس إلا حيث يجعلها الفتى ‏ فإن أطعمت تاقت وإلا تسلت 
فهذبها وعذبهاء وقريها من بابها. وانظر مقام الأنبياء والأولياء فيها. واغتم 
الثواب والثناء فا ذكر الصادقين كذكر الفاسقين «ولتعلمن نبأه بعد حين» 
[ص: 48 ] وقد سمعت مقالات اللعابات» وم لي كراراً. فلك لذا التواني 
غائلة وللقبيح خميرة. يتبين بعد قليل والناس نيام فإذا ماتواانتبهوا. ولكنك 
كالعود النخر لا يحمل ثمرا ولا يظل بششراء وكالمرأة القرعاء التي باههت 
صاحبات الشعور بشعرها الزور فإذا كشفت عن رأسها هتكت بين جلاسها ؛ 
وأنت قد رضيت بقعقعة ثيابك ونذل ثوابك. غداً ترحل القوافل. وتبقى على 
الطريق يا غافل. وتقعد بغير زاد وتقول لشاويش القافلة ارجعون لعلى أعمل 


ذه 


صالحاً فيا تركت؛ هيهات غلق الرهن فلا يقال. قالوا: يا رسول الله ما السر في 
نقطة دمعة الميت على خده؟ فقال: «أما الصغير لما يشاهد من حال أبويه في 
اللوح, وأما الكبير فيكاشف بأعماله وانتقال زوجته وأمواله » فبم تتنبه وهذا الحال 
أنت فيه وبه. كما قيل: عود نخر ما يحمل . وأقرع ما يمتشط. وما يجيء من مربح 
مزبلة لسبيل . فأنا أرفعك وهمتك تضعك. لا شك أن الغلبة لك. فمن كانت 
همته ما يدخل في بطنه كانت قيمته ما يخرج منها . إن فهمت فانتبه, وإلا فأنت 
بنفسك أخبر . ونصحت ولكن لا تحبون الناصحين. 


المقالة الرابعة والعشرون 
في المحبة والشوق والمشاهدة والمكاشفة والمواعظ والزواجر 
النقلية وا قلية 


اعلم أن المحبة جائزة وجارية أولاً بين الله وأوليائه وقد نوه بها القرآن من 
قوله : 9 والذين آمنوا أشد حبّاً لله» [ البقرة: ١16‏ ] وقوله: 8 يحبهم ويحبونه » 
[ المائدة: 64 ] فإن قلت وثارت نفسك الخبيثئة : كيف تحب من لم تره وليس من 
جنسك؟ فقد تحب الصانع لما يظهر من حسن صناعته , فانظر إلى بساطه وما فيه 
من بدائع النقوش والخضر والأشجار والثار والأنهار. وإلى الفلك وما فيه من 
الليل والنهار وشموس وأقبار وكواكب كبار وصغار. فهذه آيات صناعة الصانع 
دالات على استمرار وجوده. فسبحان صانع المصنوعات! فترتيب نفسك إن 
عقلت أعظم مما رأبت وسمعت. والذي يدلك وهو من أقوى الدلائل في محبته 
لذة سامع كلامه. إذ هو معجز لا نظير له. فبه يستدل على محبة المتكام ؛ أما 
سمعت نظم الشعراء : 
وكاعب قالت لأترابها 0 يا قوم ما أعجب هذا الضرير 
أيعشق الإنسان من لاايرى ‏ فقلت والدمع بعيني غغعزير 
إن كان طرف لا يرى شخصّها 0 فإنها قد صورت في الضمير 


لله 


وأنشد الشيخ أبو العلاء المعري لنفسه رحمه الله : 
يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة والأذن تعشق قبل العين أحيانا 
إن العيون التي في طرفها مرضص20 قتلساثْْم لم يحيين قتلاانا 
يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به وهن أضعف خلق الله أركانا 

وأما الأخبار فكثيرة وقد ذكرناها في كتب الإحياء » وإشارة من جملتها 
كافية مثل قوله: « كذب من ادعى محبتى » وإذا جن الليل نام عني » ومثل قوله: 
«لايزال عبدي المؤمن يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه, فإذا أحبيته صرت سمعه 
الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به» الحديث. واعام أن الحب والعشق واحدء 
والأفضل فيه هو هيام العاشق بالمعشوق. وهو النظر لاستحسان بعض الصور 
بطريق الولع به نار عن طريق بخار حاد من خَاطِرٍ ذكي لوذعي سبك نيران 
المجاهدة فظهرت أبخرة نيرانها من وراء مؤخرات الدماغ. وظهرت ملوحات 
الفكر في العشق من متقدمات اليافوخ,» وفتحت مصاريع خلوة القلب فأقعد 
خيال المعشوق قبالة عين اليقين. والنفس تصقل مراأة المجاهدة في نظر جمال 
المحبوب , والأصل في المحبة هو المنادمة والألفة واستحسان كلام المعشوق, فعند 
ذلك تثور همة الطلب بقدح نيران الشوق؛ فتستغلب عليه حالة العشق فيصير في 
الشوارع مجنونا ما صارت نيران الماليخوليا؛ فخلط الكلام . واحترق البلاغم 
والأخلاط . وصفقت سماء القلب لتجلى قمر المعشوق. فيبقى العاشق والما والعا 
تائهاً في تح جلال المعشوق, فإذا انكشفت البلاغم فارت عرائس القلب تحمل 
صواني نثار الأشعار . ورقصت عرائس الآمال في مجالس الأوصال. فزمر مزمار 
التمني » وضرب مزهر التأني كما قال سابق الرجال: 
تشنيحناتعن: إذممياء فتليت طربت كأني قد دعوت ولبّت 
تمنيتها حتى إذا ما رأيتها ريت المنايا شُرَعاً قد أَظَلّت 
تمنت أحاليب الرعايا وخيمة ‏ بنجد وما يُِقَضْ لا ماءتئمحنئنت 
فلا تسيا أن يعفو الله عنكيا ‏ ولوماإذا صليتَا حيث صلت 


م 


فياليتني أحجار حائط مسجد ‏ لعَرَةَ إِذ فيه تصلي وولت 
ثم هيج الغبار فترى بخار التمني , ويقوى بخار العناء . فترى التقسمم الواقع في 

القلوب. فهنالك لا نوح ولا قرارء ويظهر مبادي النحول والصفار. ويبرز 

أعراض السهر . وتقدح نيران العشق لهزال سمان الأبدان, وينشد المغني من غير 

توان: 

وجه الذي يعشق معروف الأنه أصقر متحوف 

ليس كمن أضحى له جشئة | كأنه للذبح معلوف 


في الحديث « ينادي مناد في كل ليلة: ألا لعن الله الأكول النؤوم » ابن آدم 
لهذا خلقت؟ تقنع ليخف حسابك. ويصح جسدك. ويقل أمراضك. وينصلح 
أعراضك. ويقل منامك . ويكثر ذكرك. فيهديك محبوبك إليه. فيجذبك إلى 
طاعته ويعصمك عن معصيته. فأكثر من النوافل تفلح والسلام . 


ذكر الشوق والمكاشفة 


اعلم أن الشوق هو الداعي إلى حالة المكاشفة؛ والشوق هو التمني للقاء 
المعشوق . ولقاء المعشوق لا يحصل إلا بالمكاشفة, والمكاشفة إما أن تكون عياناً 
أو قلبية وهو تحلي المعشوق بحالة يحملها قلب العاشق, لكن العيان هو أفضل . بل 
بشرط جامع بين القلب والعين كحالة رسول الله يِه , فإنه كاشفه ليلة إسرائه 
بالتجلي القلبي والنظري لصحة الروايتين عن عائشة وعلي وابن عباس . واعام أن 
حقيقة المكاشفة هي عين النظر إلى المحبوب». ولكن يتفاوت على قدر درجات 
المحبين؛ وليس نظر الخلق كله واحداً. فأدنى درجاتهم النظر القلبي, أما النظر 
البصري فهو عند قوم عَرَضْ غير دائم؛ وأعظم المنزلتين هو الجمع بين النظر 
والقلب ؛ فإذا رفعت ستور الغفلة والهواء تحلى المحبوب فتلاشى المحب حتى يخرج 
من الستور والبشرية والحجاب الجسماني فيرى الحجاب ويسمع الخطاب #وما 


6م 


كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب# [ الشورى: 0١‏ ] فعند 
ذلك يمتد له خطاب من المواء في جميع مايحدث في الكائنات فيصير عيسوي 
الحال #وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم» [آل عمران: 19 ] 
فيصير الملائكة ومؤمنو الجن بحكمه وطاعته. وينخرق بينه وبين الله روزنة يعام 
بها خلاصة صفاء أسرار الكائنات, ولكن بشرط خير العام والعمل بصدق من 
غير تحربة. فإذا هبت نسمات اللطف برفع حجاب الغفلة انقلبت له الكائنات على 
ما يريد . إذ الإرادتان امتزجتا: واحدة ى| سبق في أحوال الصوفية من قوهم : 
فإذا ايصرتنا ابصرته وإذا ابصرثه ابصرتئنا 

فيصير الناسوت معنى لطيفاً يحدث له من الغيب قوة يقبل بها جميع الواردات 
عليه . فمنه ثمار الكرامات والتحدث بالأمور الغيبيات . يعرفه الباحث من جنسه 
وسائر الطير له منكر. فتتجوهر النفس بزوال الأعراض الفاسدة عنها. فتصير 
قدسية لا يخفى عليها الأمور الغيبية. فإن قلت: هذا نوع مشاركة عزت على 
الأنبياء فكيف يناها الأولياء ؟ فاعام أن أصل الغيب هو من الله القدي. فمنته 
عليهم إطلاعهم على شيء من علوم الغيب؛ أما سمعته يقول: «عالم الغيب فلا 
يظهر على غيبه أحداً إلا من ارتضى من رسول4 [الجن: 51 ] وقوله # من 
رسول» وهو ستر على الحال لكلا يحسب أجلاف العامة أنها مشاركة غيبية ؛ 
وهذا غير بعيد إذ خزائن الملوك يطلع عليها المملوك, والأمور المستورة من 
المعشوق فقد يشاهدها العاشق الصادق قياساً بالصورة الحسناء يشاهدها مالكها 
وهي مستورة عن الغير 9 وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون » 
[ العنكبوت: 4*5 ] وقد سمعت الحجنيد يقول: كل أحد حلاج لكن ليس كل 
أحد خراج» وقال أبو يزيد البسطامي : من وصل درجة التمكين فهو طبيب يقعد 
على سرير أسرار الخلق» فيطلع بإذن مالكه على خواطر أسرار الملوك مثل اطلاع 
مملوكك المحبوب عليك في حالاتك ؛ أليس فاطمة السلاسية كانت تخرج وقد 
أذن مؤذن الظهر من سلياس فتصلى الظهر جماعة في بسطام ؟ فإن قلت : هذا غير 


1م 


ممكن . فإنها حالة لم تنخرق للأنبياء فكيف لغيرهم ؟ الجواب أنك تحكم على الله 
أو على نفسك. فإن كان على نفسك فأنت أخبر. وإن كان على الله فأنت 
أصغر. فمن عجز عن عدد عروقه وعظامه ولا يحصر عدد أدوار عرامته على 
هامته. فكيف يدخل بين الله وبين غلامه ؟ ثم ما علمت ما أعطى الله للأنبياء . 
فإن علمت بعض علومهم من طريق النقل فالمعجز يكذب العقل ويحكم عليه؛ 
فبواطن أسرارك لا يطلع عليها ولدك ولا جارك. فكيف مليكك وجبارك» 
وقد قال لك #إفلا يظهر على غيبه أحداً إلا من ارتضى من رسول4 [ الجن : 
55]'وانت غير >راضل: إلى كفف شور الوصول» فاذا" نلفة الى والشؤال 
تعرف ما بين الله والرسول. وقد قلنا لك سابقاً : جاهد ولا تحاحد , فالمجاهدة 
تزيل غبار الشكوك مع المشاهدة. وأنت معصب العين بعصابة حطام الدنياء 
وهمتك ضعيفة خسيسة. فأين خنافسة الكنيف سن المقام الشريف! وحسن الظن 
وهو الإكسير العظيم الذي به يقلب كل جهل علا . فمن تمسك به فقد استراح. 
فهذا نوع المحبة والشوق والمكاشفة على وجه الاختصار . 
فصل 

وأما الزواجر والوعظيات فمثل الآيات الرادعة المذكرة للوعد والوعيد. 
والأخبار المذكرة للفزعة. والحكايات الجاذبة والأشعار المخوفة والمشوقة؛ 
فخوفوا المبتديء وشوقوا المنتهي, لأن المبتديء هو قريب من خروج دار الجهل 
فيضرب عليه سور من التخويف خوفاً من الزيغ والميل, وأما المنتهي فقد غفر 
الذنب ورق القلب وأصابه عناء المجاهدة. فلا بد للجمل من حادٍ لقطع 
الوادي . فالمجاهدة قلاشية, والنغمات تنشية, قياساً بأرض ميتة تجيا بوابل المطر 
فتهتز وتربو وتنبت وتثبت وتنثر على المريد نثار ال همم. انظر كيف قال أبو حيان 
التوحيدي: إن كنت تنكر أن للنغمات فائدة ونفعاً. فانظر إلى الابل اللواتي هن 
أغلظ منك طبعاً. تصغي إلى قول الحداة فتقطع الفلوات قطعاً. فعليك بالخلوات 


/ع/ 


الأربعينية التي يسميها مشايخ العجم جله. فهي عند العجم الجلاء. واعتد بها ؛ 
وليكن زادك وزناً تنقص كل يوم منه لقمة, أو تزن مأكلك بعود ندي فهو 
ينقص على قدر جفافه. فقلل ولا تتعلل» خفف وطفف في مأكلك تلتحق بعالم 
الملائكة ففي الحديث «أكثرك شبعاً في الدنيا أطولكم جوعاً يوم القيامة ». وإذا 
فعلت ذلك تستغنى النفس بالقدس وتصير لك بها أنس؛ فلا تتخذ على محبة 
الدنيا والفلس» فينتقل إليك حالة الصفة المحمدية يِه من قوله ولست 
كأحدكى. أنا أظل وأبيت عند ربي فيطعمني ويسقيني » فهو حالات الصادقين 
ومنازل المتقين, فلا تكن من المكذبين الضالين, فإن عجزت عن مقام المقربين, 
فكن من أصحاب اليمين» والحمد لله رب العالمين. 
المقالة الخامسة والعشرون 
في العام والعمل 

اعام أن الخواص من خلق الله تعالى ثلاثة: عالم وعارف وناسك ؛ فأما العالم 
فهو الذي عم واطلع على العلوم الظاهرة فعمل بها فورثه الله بعمله العلوم الباطنة : 
مثل عام المحبة. وعلم الشوق والرضى . وعم القدر . وعم المكاشفة والمراقبة. وعلم 
القبض والبسط. فهذه علوم الصوفية الصافية الصادقة الوافية؛ مثل الحسن. 
وسفيان. والفضيل بن عياض. وألي يزيد البسطامي, وأبي الحسين النوري» 
وحبيب العجمي . ومعروف الكرخي ., وشقيق البلخي وهمد بن حفيف وبشر بن 
سعيد وأحجمد الخوارزمي وأحجد الدارانيء وحارث المحسابي. وسرى السقطي , 
وألي الحسين بن المنصور الحلاجء والجنيد . والشبلي ء وألي نعيم انقاضي. فهذه 
الطائفة الالهية الذين نبغ ذكرهم ليسوا كالطائفة المشغولة بالعلوم والشهوات, 
وصرفوا همومهم إلى الزيدية والقرصين فأتتهم المعاملات: بيضوا الثياب وسودوا 
الكتاب. صقلوا الخرق ولا نقلوا عن الخرق. وجعلوا المرقعات شركاً على 
الشهوات. فهؤلاء هم الزنابيل وأولئك هم القناديل» وأولئك تمسكوا بالواحد 


8/4 


الشاهد . وهؤلاء انصبوا إلى محبة الشاهد . أولئتك هجروا المناصب وهؤلاء ديوا 
إلى المناصب ؛ أكثر كلامهم اذهيوا لمذهب حتى يذهب , والخلاف عندهم كورق 
الخلاف. الأصول عندهم فضول. والنحو عندهم محو. أكثر علومهم الرقص 
والشبابة. لا يفرقون بين القرابة والصحابة. فم| أكثر عيوبهمء لقد نسوا محبوبهم. 
تشاغلوا بماكل الدويرات, ونسوا مدارج الطاعات. نصيوا السجادات لآأجل 
الخلق. ونسوا الله والحق. فهؤلاء الذين جاء فيهم الحديث: ١‏ إن الله ينزع 
مرقعاتهم ويعلقها على أبواب الجنة ويكتب عليها مرقعات زور». تركوها 
مناصب للا كتساب , ووهبوها لكلب أهل الكهف واقتسموا جلده عليهم عوضا 
من مرقعاتهم. فهؤلاء صوفية الدنيا واولئك صوفية الأاخرى؛ جمعوا بين العلم 
والعمل. وسهروا حتى ظفروا؛ قالوا فنالوا؛ صدقوا فحققوا؛ علموا ثم عملوا ؛ 
فجمعوا بين المقال والحال. فهم أهل العام والمغفرة» والنسك والزهادة؛ فأحدثت 
لهم جميع هذه الحاللات خاصية قوة الحيئة؛ فطاروا بأجنحة الاشتياق إلى رياض 
القدس وحظيرة الصمدية, فاقتطفوا علوم الغيب» فقالوا هؤلاء فقراء الآخرة 
وصوفيتها الذين علموا أن النعمة هي من المنعم فتركوا الأسباب جوانب. وأما 
علماء الآخرة فمثل الحسن البصري . وسفيان بن عيينة, والشوري صاحب 
المذهب. والطائي الطاهري, وأبو سعيد الخدري, وأبو حنيفة النعمان بن ثابت 
الكوني. ومالك بن أنس المدني, وممد بن إدريس الشافعي المطلبي, وأحمد بن 
حنبل الشيباني. والمزني» وابن شريح» والحداد. والقفال, وأبو الطيب » وأبو 
حامد. وأستاذنا إمام الحرمين أبو المعاي الجويني, والشيخ الإمام أبو إسحاق 
إبراهيم الفيروزابادي المعروف بالشيرازي. فقد جرى له مع شيخنا نوبة عند 
السلطان وكنت أحضرهاء فا رأيتهم طلبوا بالمناظرة غير إظهار الحق. لا غلبة 
ولا صقل كلام. ولا نقص في الخبر النبوي. ولا تأويل باطل في متن آية. ولا 
مزاعقة ولا مخاصمة. بل هو على طريق الفائدة والمباحثة. فأولتكك من علاء 
الآخرة الذين شبهوا صحب رسول الله لَه بترديد الفتاوى من واحد إلى 


3 


واحد . وقالوا أميرم أحق بالتقليد ونحن علماء السوء نشتغل بسواد الليقة وبري 
القام والتصدي والتحدي وذرب اللسان وسواد الطيلسان وقعقعة الثياب وطول 
الأردان وسعة الأكبام والصيحة والدهشة وذكور إناث العجم ولا ينبئك مثل 
خبير» [ فاطر: ١5‏ ] فانظر الفرق بين الطوائف والفرق: أليس في الحديث 
«من ترك المراء وهو محق بني له بيت في أعلى الجنة». فنحن لا بيوت ولا 
تخورت. ولا حور ولا سخوت؛ رأى الشافعي مناماً وكان قد تكلم في مسألة مع 
أبي يوسف. فرأى كأنه قد أدخل الجنة, فرأى 006 وهي تشرق العررضة من 
نورهاء قال: لمن أنت؟ فقالت : لمن ترك المراء وهو محق؛ ثم ولت وهي تقول: 
خلطوا الحق بالقبائح زورا 2 ثم مالوا إلى المراء نسورا 
ثم راموا من الإله بدورا قد ذجرتم من المقال قبورا 
أيا مالكم تنالون دورا ‏ سوف تجزون في المعاد فجورا 
وطلبتم من الإله أجورا ‏ سوف تلقونفيالجحيٍأجورا 
ثم قالت: يا شافعي ما ثُنال بالقال والقيل هذه الثياب والخلاخيل, إن كنت 
صادقاً وتريد أن تكون للجنة مالك فعليك بالعم والعمل مثل مالك . فمن أراد 
المالك يصبر على المهالك. ثم انتبهت فعلمت أن مراء هؤلاء لا يقود إلا إلى 
الموى. والآخرة عند ربك ا الحديث ٠‏ إن العام يتف بالعمل. فإن 
أجاب وإلا ارتحل» فهؤلاء علاء الدنيا وعلماء الآخرة. وفقراء الدنيا وفقراء 
الآخرة؛ وأنت مشغول بالكرم عن الكرامات, وبالقصور عن القصور العاليات؛ 
أنت مثل الذيب وهمك في التشكيك والتكذيب . 
سوف ترى إذا انجلى الغغبار ‏ أسابق تحتك أم جار 
أما العلوم فكثيرة. وأقربها ما دل على الآخرة: مثل عام الشريعة» وتفاسير 
الواحدي. وأمتان الصحاح. وقراءة القرآن. ومحافظات الأوراد المذكورة في 
كتب الإحياء. وإن أردت حسن العقيدة على وجه الاختصار فعليك بلواقح 
الأدلة وهو لشيخنا إمام الحرمين. وإلا قواعد العقائد. وإن أردت. سلوك 


طريق السلف الصالح فعليك بكتاب نجاة الأبرار. وهو آخر ما صنفناه في أصول 
الدين . وقد ذكرنا لك التصانيف في معرض هذا الكتاب» فاقرأ ما شئت واعمل 

شئت فإن اللقاء قريب .واعام أن فصول السنة معروفة: مثل صيفها وخريفها , 
وشتائها وربيعها ؛ فمن الحمل إلى الجوزاء ربيع . ومن السرطان إلى آخر السنبلة 
صيف. ومن الميزان إلى آخر القوس خريف, ومن الجدي إلى آخر الحوت شتاء 
#وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب*» قال أمير المؤمنين عل عليه 
السلام: هذا الحواء إذا أقبل فتلقوه. وإذا أدبر فتوقوه, فإنه يفعل بأبشارم كا 
يفعل بأشجارى؛ أوله مورق وآخره محرق. ففي العلوم ما يضر مثل العمل 
بالسحر والكهانة؛ وصبغ الصفر فضة يضر في الآخرة إذا قلبها فضة بالصناعة 
وباعهاء وفي المكاسب مكاسب خسيسة تأباها النفوس: كالغسالء والحفار, 
والكناس , والحجام. والصنائع من جملة العلوم المفهومة التي تعينك على طلب العام 
الأخروي؛ فكن عالماً عاملاً تنال المقصد الأسنى في دار الله الحسنى. هنالك 
تستقر نفسك من غير ضجر في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك 
مقتدر » [ القمر: 84 . 68 ]. 

فصل في أعاجيب الفنون والأسفار 

قال صلى الله عليه وآله وسام « إن بالمغرب ههنا لأرضاً بيضاء من وراء قاف 
لا تقطعها الشمس في أربعين سنة, قالوا : يا رسول الله أو فيها خلق؟ قال: نعم 
فيها مؤمنون لا يعصون الله طرفة عين, لا يعرفون آدم ولا إبليس. بينهم 
الملائكة يعلمونهم شريعتنا ويحكمون بينهم ويدرسونهم الكتاب العزيز , قالوا : يا 
رسول الله زدنا من هذه الأعاجيب ! فقال: إن لي صديقة من مؤمني الجن غابت 
عني سنين فسألتها أين كنت. فقالت: كنت عند أختي من وراء الأرض البيضاء 
التي وراء قاف جزد فقلت: أزاهم مؤمتون 8فقالت مم ء"قرات علبق انك 
فآمن به قومنا. فقلت: وما وراء تلك الأرض؟ فقالت جيال ثلج وماء وهواء 


05١ 


وظلاء , ثم وراء ذلك جهنم فقلت: أوَ تصعد الشمس في تلك البلاد ؟ فقالت 
نعم ). 

وأما حديث نمم بن حسب الداري فعجيب ٠.‏ حيث اختطفته الجن . فشاهد 
من عجائيها حتى رأى القصر الذي فيه الدجال مقيداً. فقال له: من أي الأمم 
أنت ؟ فقال: من أمة عمد . متم . فقال: أوَقد بعث ؟ فقال نعم. فقال: آن أوان 


خروجى. 


وأما حديث جن العقبة فأعجب. قال عبد الله بن مسعود : « مشيت مع رسول 
الله َه وعلي بن أبي طالب عليه السلام في ليلة مظلمة حتى وقف بنا على ثقب , 
فظهر منه رجل فقال: انزل بنا يا رسول الله! فناولني فاضل ثيابه, ثم أخذ بيد 
علي عليه السلام ونزلا في الثقب وأقعدني مكاني. فلا برق بارق الصبح عادا 
ومعهها رجال يشبهون الزط . فقال: هؤلاء إخوائك المؤمنون» وكان معي ماء فيه 
منبوذ شيء من التمرء فشرب منه ثم توضأ». صح ذلك من غير نزاع. وقد أوله 
أرباب الهوى على اختيار ما يريدون؛ فمن أراد أن يعام حقيقة هذا وغيره 
فلينظرن في كتاب «٠‏ مغايب المذاهب » وهو من جملة تصانيفنا . 


وأما قصة زعيم بن بلعام فهي عجيبة؛ قد أراد أن ينظر من أين منبع 
النيل. فم يزل يسير حتى وجد الخضر فقال له. ستدخل مواضع؛ ثم أعطاه 
علائمها. فوصل إلى جبل وفيه قبة من ياقوت على أربعة أعمدة, والنيل يخرج 
من تحتها وفيه فاكهة لا تتغيرء قال: فرقيت رأس الجبل فرأيت وراءه بساتين 
وقصوراً ودوراً وعالاً غزيراً» وكنت شيخاً أبيض الشعر » فهب على نسيم سود 
شعري واعاد شبالي, فنوديت من تلك القصور : إلينا يا زعيم إلينا. فهذه دار 
المتقين! فجذبني الخنضر ومنعنيء فهذا سر قوله يَرِنهِ سبعة أنهار من الجنة: 
جيحون وسيحون ودجلة وفرات ونيل وعين بالبردن وبالمقدس عين سلوان؛ لأن 
منها ماء زمزم. وأعجب من هذا الحديث حديث بلوقيا وعفان. فحديثهها 


047 


طويل » وإشارة منه كافية فقد بلغ من سفرههما حتى وصلا إلى المكان الذي فيه 
ملهان. فتقدم بلوقيا ليأخذ الخاتم من أصبعه. فنفخ فيه التنين الموكل معه. 
فأحرقه فضربه عفان بقارورة فأحياه, ثم مد يده ثانية وثالثة فأحياه بعد ثلاث, 
فمد يده رابعة فاحترق وهلك فخرج عفان وهو يقول: أهلك الشيطان أهلك 
الشيطان, فناداه التنين: ادن أنت وجرب, فهذا الخاتم لا يقع في يد أحد إلا في 
يد عمد عَلَِمْ إذا بعث. فقل له إن أهل الملأ الأعلى قد اختلفوا في فضلك 
وفضل الأنبياء قبلك. فاختارك الله على الأنبياء ؛ ثم أمرني فنزعت خاتم سلمان 
فجئتك به. فأخذه رسول الله يَيلَِهِ فأعطاه عليَاً فوضعه في أصبعه . فحضر الطير 
والجان والناس يشاهدون ويشهدون. ثم دخل الدمرياط الجني» وحديثه طويل . 
فلما كانوا في صلاة الظهر تصور جبرائيل عليه السلام بصورة سائل طائف بين 
ل و لك ١‏ وقف اببائل من وراء عل عليه السللام طاليا » 
فآأشار على بيده فطار الخاتم إلى السائل. فضجت الملائكة تعجباء فجاء جبرائيل 
مهنياً وهو يقول أنتم أهل بيت أنعم الله عليكم (ليذهب عنكم الرجس أهل 
البيت ويطهرم تطهيراً » فأخبر النبي بذلك علياً فقال على عليه السلام: ما 
نصنع بنعيم زائل. وملك حائل, ودنيا في حلالها حساب, وفي حرامها عقاب؟ 
فإن اعترض المفتي وقال: كيف قاتل معاوية على الدنيا؛ فالجواب أنه قاتل على 
حق هو له يصل به إلى حق؛ وأما التحكم فباطل غير صحيح ؛ لأن التحكم إنما 
يكون على موجود ومحدود ومعروف ومعلوم غير مجهول؛ هذا فقه وشرع؛ ثم 
قولوا ما تريدون. فمن أراد أن ينظر في كشف ما جرى فيطلع في كتاب صنفته 
وسميته « كتاب نسي التسنيم »٠‏ وفي قصص ذي القرنين كفاية. وكتاب رياض 
النديم لابن ألي الدنياء وانظر في كتاب الأقاليم. وانظر في كتاب المالك 
والمالك, وكتب الماوردي الموصل . 

ثم إذا أردت أن تعرف سعة الأفلاك بعضها على بعض . فاعم أن سعة 
الأرض قطع الكوكب في ليلة واحدة؛ وأما الفلك الهوائي فقد يقطعه القمر في 


04 


شهر ؛ فانظر الفرق في القطع في ليلة وشهر . ثم الفلك الناري يقطعه الشمس في 
سنة. ثم فلك زحل وهو الأعلى يقطع فلكه في ست وثلاثين سنةء ثم فوقه 
الكرسي والعرش الذي هو سقف الجنان الثانية التي واحدة منهسن بعرض 
السموات والأرضين. وخذ دليلك من هذا المساق المذكور, فا لهمتك ناقصة لا 
ترفعها إلى درج المعاللي, ولا تكسوها سهم السعادة؛ بل أنت مشغول بعلف 
النفس وخدمتهاء. فأنت كالذي عشق حمارة فاشتغل بباء ففاته سير القافلة 
فظهر له قاطع الطريق . وهذه دار أحلام, والأنبياء مفسرون المنام. فعند الانتباه 
يتين لك صحة التأويل . اما سمعت الإشارة : « والناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا »؟ 
ومثلك في دنياك كمثل طفلين في بطن واحد قال أحدهها لصاحبه: أما أخرج, 
عسبى أن أرى غير هذا المكان والعالم! فلما خرج رأى سعة الدنيا؛ هل يطيب له 
أن يعود إلى ضيق بطن أمه؟ وهكذا إذا خرجت إلى سعة آخرتك لا يطيب لك 
العود إلى دنيا حملتك كضيق حمل أمك. ومثلك في باب مولاك كرجل أراد 
الدخول إلى ملك وهو جائع. فوجد على باب الملك كلباً ورغيفاً. فالكلب 
يصده عن الدخول؛ فإن كان ذا همة عالية اثر حضرة الملك على الرغيف. 
فيدخل إلى الملك فيحظى بالمآكل اللينة وينسى جوعه؛ لأنه شغل الكلب برغيفه 
فتشاغل الكلب بالرغيف. ودخل الرجل إلى الملك؛ وإن كانت همته في بطنه 
أكل رغيفه فصده الكلب عن دخول الملك., ثم يتعفن الرغيف في بطنه. فبعد 
ساعة رماه. فدنياك هو الرغيف, والكلب هو الشيطان يصادك عن دخول 
الملك. فارم الرغيف إلى الكلب تستريح. واكتسب من جواهر الأعمال تشرف 
بها عند عرض البضائع . ونيل المدخر الباقي في دار زفاف الحور وفتح أبواب 
القصور ؛ فأنت مثالك كجاعة سافرت إلى وادي الظلمات فقال هم الخبير 
بالمكان: احملوا من حصاها تظفروا !فصاحب حسن الظن حمل فأوقرء والمتشكك 
بطل فتحقر ؛ فلم) خرجوا من ضياء الشمس إلى الوادي وشاهدوا بضائعهم. فإذا 
هي درّ ويواقيت, فندم البطال وفاز الحمال. فهذه صورة أعمالك في دنياك, فإما 


04 


أن تنادم فتصير غلاماً. وإما أن تعمل فتحظى من الله تحية وسلاماً. فدع 
كبرك. وقلل شبعك. ونظف بطنك. ومن النوم عينك. عساك أن تقطع 
شينك . وتوف دينك . فانت الذي تنتنك العرقة. وتوهنك البقة. وتقتلك 
الشرقة. وملابسك من قزة. وحلاوتك من نحلة, وخبزك من طينة ؛ وأنت غدآ 
مستور باللبنة تؤاخذ بنعيمك, أما سمعت النبي حاسبه الله على شبعه مرة واحدة 
من خبز شعير وتمر وقال له (إثم لتسألن يومئذ عن النعيم © ؟. 
فصل 
في علو الهمم ونبلها لمقاصدها 

اعام أن الهمة هي إجماع قلب المهتم وجمعه لنيل مقصده بالتوجه إليه دون 
غيره. من غير قلب قاصد لسواه. وصاحب اطمة لا يكون همه في مقصده لنيل 
أغراض متفرقة. كمن أراد أعالاً لا يقع في يده غير عمل واحد. الحمم هي 
فروع من فروع النفس على قدر وضع النفس وارتفاعها. إن همة كل أحد على 
قدر نفسه في علوها وطهارتها. ألا ترى إلى أصحاب الصنائع الخسيسة كالكناس 
والزبال واللإسكاف والدباغ والغسال, فهؤلاء هممهم على قدر خسائس انفسهم 
النازلة. لسابق ما قدر هم عند اعتصار حمير السعادة من عجين الطالع في خير 
الولادة؛ وهذا حال يتعلل به العاجزء إذ الملك معشوقك فلا تألف الخسائس ؛ 
فليس هذا أنساباً معروفة بأب وأم, وإنما هي بعلو الهمة كما كانت من أول 
الفيض الصادر عن النفس الكلية همم العلماء والملوك. ثم كلما تباعد الفيض عن 
النفس الكلية رذلت الهمم كما رذل الحيوان بعد فيض الإنسان, الا ترى إلى 
همة الفيل والحار في المأكل والمشرب؟ فهذا همه بريحء وهذا تبن وشعير؛ 
وانظر إلى همة ذي القرنين وهو ابن هيلانة وأبوه نساج كيف تعرض بعلو الهمة 
إلى الملك ول ينزل إلى الصنائع . فمثله في العالم كثير. ومن جملة علو همته إظهار 
اليغزن الذي أشاع بذكره المسافرون, واتخذ المتقدمون ألحان الموسيقا التي زعموا 


أنهبا معتصرة من دورات لحان الأفلاك حين تدور. ويسمع له نغمات بطرائق 
وأوزان غير خارجة نقلوها عن موسى وإدريس . وطائفة أخرى زعمت أن العود 
متخذ من شكل طائر معلق في جبل. في أنفه أنقاب مخارج بعدد مخارج العود . 
وهذا من جملة فروع الهمم. فنيل المقاصد من غير همة غم عمن تعلق بها ؛ 
فاكتساب الحمم ونيل مقاصدها للعلماء بالدرس والمواظبة والجوع والصبر ونيل 
مقصد المملكة. هو بالاشتغال فيا يجذبها من التهاب وما يشاكلها . فإن قلت هذه 
سعادات أزلية, فمن قدر له في السابق شىء أخذه وبلغه ولا يمحى ما سطر على 
جبين العبد. فقد صدقت؛ ولكن 50-7 غبار طلب العز لا على مزابل 
الشهوات بالذل كما مر بك الاإنشاد السابق ( شعر ) : 


اطلب العز في لَظَّى وذَّر الذلّ ‏ ولو كان في جنان الخلود 

وقد سمعت كلاماً لمعاوية إذ قال: هموا بمعالي الأمور لتنالوها. فإني لم 
أكن للخلافة أهلاً فهممت بها فئلتها . وقد ذكرت حكاية في كتاب « سر خزانة 
المدى والأمد الأقصى إلى سدرة المنتهى » أنه مات بعض الملوك. فغلقت المدينة 
وقالوا: لا نملكها إلا لملك كان في ساعده علامة نور شعشعاني, فورد إليهم 
رجل فقير وفي ساعده نور كما كان في ساعد الملك المتقدم. وكان ينظر إليه 
وزير المدينة بعين الدراية بعد أن ملكوه البلد. فدخل الوزير إليه بهبدية وهي 
قشرة من عود قناري كجفنة كبيرة. فقال الملك: من أين لك هذا؟ فقال 
الوزير: كثير مثل هذا يجيء في نهرناء فقال الملك: لا تستقر في الوزارة حتى 
تأتيني بخبره وفي أي بلد يكون؛ فاتخذ الوزير له مركباً فسار حتى دخل تحت 
جبل » فليا قطعه بخروجه إلى جانبه الآخر رأى بلاداً أشجارها كلها مثل هديته: 
ثم رأى جماعة قائمة منقطعين في جبل فقال: ما الذي يريد هؤلاء ويفعلون؟ 
فقالوا كلهم في طلب الملك يتجرعون سنة مع أنواع المجاهدات فمن رقي على 
ساعده نور أبيض فهو مستحق الملك. فلم عاد الوزير أخبر الملك بقصة ما رآه 


11 


فقال الملك: لا تحتقر فتحقرء. وسافر واعمل لتذكرء فهذا علو الهمة بالجوع 
والمجاهدات ؛ ثم قال: لا يغرنك الجواشن والبيض . 

وقد رأيت بعينيك مشار علو الهمة فإن أردت ذلك فعليك بالجوع والعلم 
والخلوات يكشف لك العلامات بسرائر الكائنات. فاطلب وجد واجتهد . فنيل 
مقاصد الرجال من غير تعب هذيان. والحمد لله رب العالمين. وصلاة الله وسلامه 
على سيد المرسلين آمين. 


[ انتهى كتاب سر العالمين وكشف ما في الدارين . ويليه كتاب الدرّة الفاخرة 
في كشف علوم الآخرة ]. 


/ا04 


لَه الصَاطة وسور 
يسم الله الر حمن حمن الرحيم 
خطدة الكتاب 


الحمد لله الذي خص نفسه بالدوام , وحكم على من سواه بالانصرام . وجعل 
الموت حال أهل الكفر والإسلام. وفصل بعلمه بين تفاصيل الأحكام. وجعل 
حكم الآخرة خلفاً للمعهود من الأيام. وأنبج ذلك لمن يشاء من خلقه أهل 
لإكرام » وصلَّى الله على سيدنا مد رسول الملك العلام , وعلى آله وصحبه الذيسن 
خصهم بجزيل الإنعام في دار السلام . 

أما بعد . فقد قال الله تعالى # كل نفس ذائقة الموت 4 [ آل عمران: ١88‏ ] 
وثبت ذلك في كتابه العزيز في ثلاثة مواضع. وإنما أراد الله سبحانه وتعالى 
الموتات الثلاث للعالمين؛ فالمتحيز إلى العالم الدنيوي يموت,. والمتحيز إلى العالم 
الملكوتي يموت. والمتحيز إلى العالم الجبروتي يموت. فالأول آدم وذريته وجميع 
الحيوانات على ضروبه الثلاث. والملكوتي وهو الثاني أصناف الملائكة والجن». 
وأهل الجبروتي فهم المصطفون من الملائكة. قال الله تعالى : # الله يصطفي من 
الملائكة رسلاً ومن الناس» [الحج: 176] فهم كروبيون وروحانيون وحملة 
العرش وأصحاب سرادقات الجلال الذين وصفهم الله تعالى في كتابه وأثنى عليهم 
حيث يقول: #ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون يسبحون 
الليل والنهار لا يفترون» [الأنبياء: ]٠ 2١9‏ وهم أهل حظيرة القدس 
المعينون المنعوتون بقول الله تعالى: # لا تخذناه من لدنا إن كنا فاعلين» 
[ الأنبياء : ٠07‏ ]. وهم يموتون على هذه المكانة من الله تعالى والقربى» وليس 
زلفاهم بمانعة لهم من الموت. فأول ما أذكر لك عن الموت الدنيوي فألق أذنيك 


44 


لتعي ما أورده وأصفه لك بنقل عن الانتقال من حال إلى حال إن كنت مصدقاً 
بالله ورسوله واليوم الآخر؛ فإني ما آتيك إلا ببينة, شهد الله على ما أقول 
ويصدق مقالتي القرآن. وما صح من حديث رسول الله عه . 


فصل 

لما قبض الله القبضتين اللتين قبضهها عندما مسح على ظهر آدم عليه السلام ‏ 
فكل ما جمعه في جمعه الأول إنما جمع من شقه الأيمن. وكل ما جمع في الآخر إنما 
جمع من شقه الأيسر, ثم بسط قبضته سبحانه فنظر إليهم آدم في راحتيه الكريمتين 
وهم أمثال الذر ثم قال: هؤلاء إلى الجنة ولا أبالي فهم بعمل أهل الجنة يعملون 
وهؤلاء إلى النار ولا أبالي فهم بعمل أهل النار يعملون . فقال آدم عليه السلام : 
يا رب وما عمل أهل النار ؟ قال: الشرك بي. وتكذيب رسلي . وعصيان كتابي 
في الأمر والنهي . قال آدم عليه السلام : أشهدهم على أنفسهم عسى أن لا يفعلوا ! 
فأشهدهم على أنفسهم: ألست بربكم ؟ قالوا: بلى شهدنا! وأشهد عليهم الملائكة 
وآدم أغهم أقروا بربوبيته ثم ردهم إلى مكانهم. وإِنما كانوا أحياء أنفساً من غير 
أجسام , فلا ردهم إلى صلب آدم عليه السلام أماتهم وقبيض أرواحهم وجعلها 
عنده في خزانة من خزائن العرش. فإذا سقطت النقطة المتعوسة أقرت في الرحم 
حتى تمت صورتها والنفس فيها ميتة. فلجوهرها الملكوني منعت الجسد من النتن. 
فإذا نفخ الله تعالى فيها الروح رد إليها سرها المقبوض منها الذي خبأه زماناً في 
خزانة العرش فاضطرب المولود. فكم من مولود دب في بطن أمه فربما سمعته 
الوالدة أو لم تسمعه ! فهذه موتة أولى وحياة ثانية. 


ثم إن الله عز وجل أقامه في الدنيا أيام حياته حتى استوفى أجله المحدود 


ورزقه المقدور وآثاره المكتوبة. فإذا دنت موتته ‏ وهى الموتة الدنيوية - فحينئدذ 
نزل عليه أربعة من الملائكة : ملك يجذب النفس من قدمه اليمنى, وملك يجذ بها 


من قدمه اليسرى. وملك يحذ بها من يده اليمنى . وملك يجذبها من يده اليسرى . 
وربما كشف للميت عن الأمر الملكوتي قبل أن يغرغرء فيعاين الملائكة على 
حقيقة عمله على ما يتحيزون إليه من عالمهم؛ فإن كان لسانه منطلقاً تحدث 
بوجودهم. فربما أعاد على نفسه الحديث بما رأى. وظن أن ذلك من فعل 
الشيطان. فسكن حتى يعقل لسانه. وهم يجذبونها من أطراف البنان ورؤوس 
الأصابع والنفس تنسل انسلال القذارة من السقاء ؛ والفاجر تسل روحه كالسفود 
من الصوف المبلول؛ هكذا حكى صاحب الشرع عليه الصلاة والسلام . والميت 
يظن أن بطنه ملئت شوكاً كأنما نفسه تخرج من خرم إبرة, وكأنما السماء انطبقت 
على الأرض وهو بينهما؛ ولهذا سئل كعب رضي الله عنه عن الموت فقال: 
كغصن شوك أدخل في جوف رجل فجذبه إنسان ذو قوة فقطع ما قطع وأبقى 
ما أبقى . وقال عليه الصلاة والسلام : لسكرة من سكرات الموت أشد من ثلاثمائة 
ضربة بالسيف . فعندها يرشح جسده عرقاً. وتزور عيناه, وتمتد أرنبته » وترتفع 
أضلاعه, ويعلو نفسه. ويصفر لونه. وما عاينت عائشة رسول الله علِتَمٍ في هذه 

الحالة وهو مستلق في حجرها وهي تكفكف الدمع جعلت تقول شعراً : 

بنفسي افدي ما غصك من المايعات وما توجع 

وما مسّك الجن من قبل ذا وما كنت ذا روعة تفزع 

ومالي أنظر في وجهك) كمثل الصباغ إذا ينقع 

إذا شحب اللون من ميت20 فأنوار وجهك قد تسطع 
فإذا احتضرت نفسه إلى القلب خرس لسانه عن النطق؛ وما أحد ينطق 
والنفس مجموعة في صدره لوجهين: أحدههما أن الأمر عظيم قد ضاق صدره 
بالنفس المجتمعة فيه ألا ترى أن الإنسان إذا أصابته ضربة في صدره بقي 
مدهوشاً. فتارة يتكام وتارة لا يقدر على الكلام ؛ وكل مطعون يطعن بصوت إلا 
مطعون الصدر فإنه يخر ميتاً من غير تصويت ؟ ‏ وأما الآخر فإن السر الذي فيه 
حركة الصوت المندفعة من الحرارة الغريزية قد ذهب فصار نفسه متغير الحالتين: 


حال الارتفاع والبرودة؛ لأنه فقد الحرارة, فعند هذا الحال تختلف أحوال 
الموتى. فمنهم من يطعنه الملك حينئذ بحربة مسمومة قد سقيت سما من نارء 
فتفر النفس وتفيض خارجة فيأخذها في يده ترعد أشبه شيء بالزئيق على قدر 
النحلة شخصاً إنسانيا. ثم الملائكة تناوها الزبانية ؛ ومن الموتى من تحذف نفسه 
رويدا حتى تنحصر في الحنجرة وليس يبقى في الحنجرة إلا شعبة متصلة بالقلب . 
فحينئذ يطعنها بتلك الحربة الموصوفة؛ فإن النفس لا تفارق القلب حتى يطعن . 
وسر تلك الحربة أنها تغمس في بحر الموت. فإذا وضعت على القلب صار سرها 
في سائر الجسد كالسم الناقع ؛ لأن سر الحياة إنما هو موضوع في القلب ويؤثر 
سره فيه عند النشأة الأولى؛ وقد قال بعض التكلمين: الحياة غير النفس. 
ومعناها اختلاط النفس بالجسد. وعند استقرار النفس في الترقي والارتفاع 
يعرض عليه الفتن. وذلك أن إبليس قد أنفذ أعوانه إلى هذا الانسان خاصة. 
واستعملهم عليه. ووكلهم به فيأتون المرء وهو في تلك الحال فيتمثلون له في 
صورة من سلف من الأحباء الميتين الباغين له النصح في دار الدنيا كالأب والأم 
والأخ والأخت والصديق الحمم. فيقول له: أنت تموت يا فلان ونحن قد 
سبقناك في هذا الشأن. فمت بهوديا فهو الدين المقبول عند الله تعالى! فإن 
انصرفوا عنه وأبى جاءه آخرون وقالوا له: مت نصرانيا فإنه دين المسيح ونسخ 
به دين موسى ! ويذ كرون له عقائد كل ملة. فعند ذلك يزيغ الله من يريد زيغه . 
وهو معنى قوله تعالى: 9 ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك 
رحمة إنك أنت الوهاب» [آل عمران: 8 ] أي لا تزغ قلوبنا عند الموت وقد 
هديتنا من قبل هذا إلى الايمان. فإذا أراد الله تعالى بعبده هداية وتثبيتاً جاءته 
ال حمة . وقيل هو جبريل عليه السلام » فيطرد عنه الشيطان ويمسح الشحوب عن 
وجهه فيتبسم الميت ضاحكاً لا محالة. وكثير من يرى متبسماً في هذه الحالة فرحا 
مسرورا بالبشير الذي جاء رحمة من الله تعالى يقول: يا فلان ما تعرفني؟ انا 
جبريل وهؤلاء أعداؤك من الشياطين. مت على الملة الحنيفية والشريعة المحمدية ! 


فا شبيء أحب إلى الإنسان وأفرح منه بذلك الملك, وهو قوله تعالى: #وهب 
لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب» [ آل عمران: 8 ] ثم الموت على الفطرة . 
ومن الناس من يطعن وهو قائم يصلى. أو نائم. أو مار في بعض أشغاله, أو 
منعكف على اللهو ؛ وهو البغتة» فتقيض نفسه مرة واحدة. ومن الناس من إذا 
بلغت نفسه الحلقوم كشف له عن أهله السابقين, وأحدق به جيرانه من الموتى, 
وحينئذ يكون له خوار يسمعه كل شيء إلا الإنسان. ولو سمعه لصعق. واخر 
ما يفقد من الميت السمع؛ لأن الروح إذا فارقت القلب بأسرها فسد البصرء 
وأما السمع فلا ينقد حتى تقبض النفس ؛ وهذا قال عليه الصلاة والسلام : ٠‏ لقنوا 
موتاكم شهادة أن لا إله إلا الله وأن مدا رسول الله » ونهى عن الإكثار بها عليهم 
لما يجدونه من الهول الأعظم والكرب الأقصم. فإذا نظرت إلى الميت قد سال 
لعابه وتقلصت شفتاه واسود وجهه وازرقت عيناه فاعم بأنه شقي, قد كشف له 
عن حقيقة شقوته في الآخرة؛ وإذا رأيت الميت جاف الفم كأنه يضحك , منطلق 
الوجه. مكسورة عينه؛ فاعام أنه بُشر بما يلقاه في الآخرة من السرور. وكشف له 
عن حقيقة كرامته. فإذا قبض الملك النفس السعيدة تناوها ملكان حسان 
الوجوه. عليها أثواب حسنةء وطيا روائح طيبة» فليفونها في حريرة من حرير 
الجنة وهى على قدر النحلة شخصاً إنسانياً ما فقد من عقله ولا من علمه 
المكتسب في دار الدنيا. فيعرجون به في الهواء. منهم من يعرف ومنهم من لا 
يعرف. فلا تزال تمر بالأمم السالفة والقرون الخالية كأمثالالجراد 
المنتشر حتى تنتهي إلى سماء الدنيساء في قرع الأمين الباب. فيقال للأمين: 
من انت ؟ فيقول: أنا صلصيائيل - أي جبريل - وهذا فلان معي بأحسن أسمائه 
وأحبها إليه؛ فيقولون له: نعم الرجل كان فلان وكانت عقيدته حسنة غير 
شاك. ثم ينتهي إلى ااه الثائية قر الأمين الباب فيقال : من أنت ؟ فيقول 
مقالته الأولى فيقال: أهلاً وسهلاً بفلان. كان محافظاً على صلاته وجميع 
فرائضها. ثم يمر حتى ينتهي إلى السماء الثالثة فيقرع الأمين الباب فيقال: من 


أنت ؟ فيقول الأمين مقالته الأولى والثانية؛ فيقال: كان يرعى الله في حق ماله 
ولا يتمسك منه بشي . ثم يمر حتى ينتهي إلى السماء الرابعة فيقرع الباب فيقال: من 
أنت ؟ فيقول كدأبه في مقالته؛ فيقال: أهلا بفلان كان يصوم فيحسن الصوم 
ويحفظه من إدراك الرقث وحرام الطعام. ثم ينتهي إلى السماء الخامسة فيقرع 
الباب فيقال: من أنت؟ فيقول كعادته؛ فيقال: أهلاً وسهلاً به أدى حجة الله 
الواجبة عليه من غير سمعة ولا رياء . ثم ينتهي إلى السماء السادسة فيقرع الباب 
فيقال: من أنت ؟ فيقول الأمين مقالته؛ فيقال: مرحباً بفلان كان كثير 
الاستغفار بالأسحار ويتصدق بالسر ويكفل الأيتام . ثم يفتح له فيمر حتى ينتهي 
إلى سرادقات الجلال فيقرع الباب فيقول الأمين مثل قوله. فيقال: أهلاً وسهلا 
بالعبد الصالح والنفس الطيبة. كان كثير الاستغفار وينهى عن المنكر ويأمر 
بالمعروف ويكرم المساكين. ويمر بماح من الملائكة كلهم يبشر ونه بالجنة ويصافحونه 
حتى ينتهي إلى سدرة المنتهى فيقرع الباب فيقول الأمين كدأبه في مقالته, فيقال: 
أهلاً وسهلاً ومرحباً بفلان. كان عمله عملاً صالحاً لوجه الله تعالى. ثم يفتح له 
فيمر في بحر من نار ثم يمر في بحر مسن نورء ثم يمر في بحر من ظلمة. ثم يمر في 
بحر من ماءء ثم يمر في بحر من ثلجء ثم يمر في بحر من بردء طول كل بحر منها 
ألف عام ثم يخترق الحجب المضروبة على عرش الرحمن وهي ثمانون ألفاً من 
السرادقات, لكل سرادق ثمانون ألف شرافة, على كل شرافة قمر يبلل الله 
تعالى ويسبحه ويقدسه. ولو برز منها قمر واحد إلى سماء الدنيا لعبد من دون 
الله ولأحرقها نوره؛ فحينئذ ينادي مناد من الحضرة القدسية من وراء 
السرادقات: من هذه النفس التى جثتم بها ؟ فيقول: فلان بن فلان. فيقول 
الجليل جل جلاله: قربوه فنعم العيد كنت يا عبدي! فإذا وقفه بين يديه 
الكريمتين أخجله ببعض اللوم والمعاتبة حتى يظن أنه قد هلك ثم يعفو عنه 
سبحانه. كبا روي عن يحبى بن أكثم القاضي وقد رئي فيالمنام فقيل له: ما فعل 
الله بك؟ فقال: وقفني بين يديه ثم قال يا شيخ السوء فعلت كذا وفعلت كذاء. 


فقال: يا رب ما بهذا حدثت عنك؛ قال: فهاذا حدثت عني يا يحبى ؟ فقلت: 
حدثني الزهري عن معمر عن عروة عن عائشة عن الني يََلْلّهِ عن جبريل عنك 
سبحانك أنك قلت إني لأستحي أن أعذب شيبة شابت في الإسلام. فقال: يا 
يحى صدقت وصدق الزهري وصدق معمر وصدق عروة وصدقت عائشة 
وصدق تمد وصدق جبريل. وقد غفرت لك . 

وعن أبن بنانة وقد رئي في المنام فقيل له: ما فعل الله بك ؟ فقال: وقفني بين 
يديه الكريمتين وقال أنت الذي تلخص كلامك حتى يقال ما أفصحه؟ قلت: 
سبحانك إني كنت في الدنيا أصفك ؛ قال قل كما كنت تقول في دار الدنيا! 
قلت: أماتهم الذي خلقهم . وأسكتهم الذي أنطقهم , وسيوجدهم كبا أعدمهم, 
وسيجمعهم كا فرقهم. قال لي: صدقت اذهب قد غفرت لك. 

وعن منصور بن عبار أنه رّئي في المنام فقيل له :ما فعل الله بك ؟ قال: وقفني 
بين يديه الكريمتين وقال لي بماذا جئتني يا منصور ؟ قلت : بستة وثلاثين حجة؛ 
قال لي: ما قبلت منها ولا واحدة., ثم قال: بماذا جثتني ؟ قلت : بثلائمائة وستين 
ختمة قرأتها لوجهك الكري ؛ قال: ما قبلت منها واحدة؛ ثم قال لي : بماذا جئتني يا 
منصور ؟ فقلت : جئتك بر حمتك؛ قال سبحانه : الآن جئتني , اذهب فقد غفرت 
لك ! وكثير من هذه الحكايات تخبر بهذه الأمور. وإنما حدئتك شيئاً ليقتدي به 
المقتدي والله المستعان. 

ومن الناس من إذا انتهى إلى الكرسي وسمع النداء ردوه. فمنهم من يرد من 
الحجب؛ وإنما يصل إلى الله تعالى عارفوه, ولا يقف بين يديه إلا أهل المقام 
الرابيع فصاعدا. 


تفل 

وأما الفاجر فتؤخذ نفسه عنفاً. فإذا وجهه كآكل الحنظل. والملك يقول: 
اخرجي أيتها النفس الخبيئة من الجسد الخبيث! فإذا له صراخ أعظم ما يكون 
كصراخ الحميرء فإذا عزرائيل ناوها زبانية قباح الوجوه. سود الثياب, منتني 
الريح. بأيديهم مسوح من شعرء فيلفونها فيه. فتستحيل شخصاً إنسانيا على قدر 
الجرادة؛ فإن الكافر أعظم جرماً من المؤمن. يعني الجسم في الآخرة. وفي 
الصحيح أن ضرس الكافر في النار مثل أحد . قال فيعرج به حتى ينتهي إلى باب 
سماء الدنياء فيقرع الأمين الباب. فيقال: من أنت؟ فيقول: أنا قياييل, فيقال: 
من معك؟ فيقول: فلان بن فلان؛ بأقبح أسمائه وأبغضها إليه في دار الدنياء 
فيقال : لا أهلاً ولا سهلاً !ولا يفتح له أبواب السماء : #لا تفتح لهم أبواب السماء 
ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط » فإذا سمع الأمين هذه المقالة 
طرحه من يده فتهوي به الريح في مكان سحيق ‏ أي بعيد ‏ وهو قوله عز وجل 
#ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو هوي به الريح في 
مكان سحيق» فيا له من خزي حل به! فإذا انتهى به إلى الأرض ابتدرته 
الزبانية وسارت به إلى سجين وهي صخرة عظيمة تأوي إليها أرواح الفجار. 
وأما اليهود والنصارى فمردودون من الكرسي إلى قبورهم؛ هذا من مات منهم 
على شريعته ويشاهد غسله ودفنه؛ وأما المشرك فلا يشاهد شيئا من ذلك لأنه قد 
هوى به ؛ وأما المنافق فمثل الثاني يُرَد ممقوتاً مطروداً إلى حفرته ؛ وأما المقصرون 
من المؤمنين فتختلف أنواعهم: فمنهم من ترده صلاته؛ لأن العبد إذا نقر في 
صلاته سارقاً لها تلف كما يتلف الثوب الخلق ويضرب بها وجهه ثم تعرج وهي 
تقول ضيعك الله كهاضيعتني . ومنهم من ترده زكاته؛ لأنه إنما يزكي ليقال فلان 
متصدق. وربما وضعها عند النسوان فاستجلب بها محبتهن ؛ ولقد رأيناه. عافانا 
الله مما حل به. ومن الناس من يرده صومه؛ لأنه صام عن الطعام ولم يصم عن 


الكلام؛ فهو رفث وخسران, فخرج الشهر عنه وقد لموجه 7 . ومن الناس من 
يرده حجه؛ لأنه إنما حج ليقال فلان حج أو يكون حج بمال خبيث . ومن الناس 
من يرده العقوق . : 

وسائر احوال البر كلها لا يعرفها إلا العلماء يأسرار المعامللات و تخصيص 
العمل الذي للملك الوهاب . فكل هذه المعاني جاءت بها الآثار والأخبار كالخبر 
الذي رواه معاذ بن جبل رضي الله عنه في رد الأعمال وغيرها. وإنما أردت 
تقريب الأمر ء ولولا الاختصار لكنت ملأت الدواوين من تصحيح ذلك ؛ وأهل 
الشرع يعرفون صحة ذلك كما يعرفون أبناءهم. فإذا ردت النفس إلى الجسد 
ووجدته قد أخذ في غسله إن كان قد غسل. فتقعد عند رأسه حتى يغسل. 
فيكشف الله عن بصر من يشاء من الصالحين فينظرها على صورتها الدنيوية. وقد 
حدث شخص ابناً له فإذا هو بشخص قاعد عند رأسهء فأدركه الوهم. فترك 
الجهة التي رأى فيها الشخص وتحول إلى الجهة الأخرى, فام يزل ينظره حتى 
أدرج الميت في كفنه » فعاد إليه ذلك الشخص فشاهده العالم وهو على النعش . 
كما روي عن غير واحد من الصالحين أنه نادى ميت وهو في النعش : أين فلان 
وأين الروح؟ فانتقض الكفن من تلقاه صدره مرتين أو ثلاثة. وعن الربيع بن 
خيثم أنه اضطرب في يد غاسله . وقد عام أن الميت تكلم في نعشه على عهد الصديق 
وذكر فضله وفضل الفاروق. وإنما هى النفس تشاهد أمرا ملكوتيًا ويشكف الله عن 
سمع من يشاء؛ فإذا أدرج اميت في أكفانه صسارت الروح ملتصقة 
بالصدر خارجة وا خوار وعجيج وهي تقول أسرعوا بي إلى أي رحمة ربي لو 
علمتم ما أنتم حاملوني إليه! فإن كان ممن يبشر بالشقاء يقول رويداً بي إلى أي 
عذاب لو تعلمون ما أنتم حاملوني إليه. ولأجل ذلك كان رسول الله عَِقَهِ لا يمر 
به جنازة إلا قام لها قياماً . وفي الصحيح أنه يقي مرت به جنازة فقام لها تعظياً 
فقيل: يا رسول الله إنه بودي . فقال: أليست نفساً ؟ وإنما كان يفعله لأنه كشف 


. في القاموس لوج أمره إذا لم يبرمه اه أي لم يتقنه‎ )١( 


له عن أسرار الملكوت, فكان يسر بالميت إذا مر به لأنه من أهل فهمه ومعانيه. 
فإذا دخل الميت القبر وأهيل عليه التراب ناداه القبر كنت تفرح على ظهري 
والآن تأكلك الديدان في بطني؛ ويكثر عليه مثل هذه الألفاظ الموبخة حتى 
يسوّى عليه التراب, ثم يناديه ملك يقال له رومان. وقد روي عن ابن مسعود 
رضى الله عنه أنه قال: يا.رسول الله ما أول ما يلقى الميت إذا دخل قبره؟ قال: 
يا 9 مسعود ما سال عنه أحد إلا أنت» فأول ما يناديه ملك اسمه رومان 
يحوس خلال المقابر فيقول: يا عبد الله اكتب عملك! فيقول: ليس معي دواة 
ولا قرطاس. فيقول: هيهات! كفك قرطاسك , ومدادك ريقك. وقلمك 
إصبعك . فيقطع قطعة من كفنه ثم يجعل العبد يكتب ؛ وإن كان غير كاتب في 
الدنيا فيكتب حينئذ حسناته وسيئاته كيوم واحد , ثم يطوي الملك الرقعة ويعلقها 
في عنقه. ثم قرأ رسول الله يَِقْهِ وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه» 
[ الإسراء : ٠‏ ] فإذا فرغ من ذلك دخل عليه فتّانا القبر وها ملكان أسودان 
يخرقان الأرض بأنيابههاء لما شعور مسدولة يجرانها على الأرض., كلامهه| 
كالرعد القاصف. وأعينهها كالبرق الخاطف. ونفسهها كالريح العاصف. وبيد 
كل واحد منهما مقمع من حديد لو اجتمع عليه الثقلان ما رفعاه. ولو ضرب به 
أعظم جبل لجعله دكا ؛ فإذا أبصرتها النفس ارتعدت وولت هاربة, فتدخل في 
منخر الميت . فيحيا الميت من الصدر ويكون كهيئته عند الغرغرة, ولا يقدر على 
حركة, غير أنه يسمع وينظر . قال: فيسألانه بعنف, وينهرانه بجفاء . وقد صار 
التراب له كالماء حيثما تحرك انفتح.فيه ووجد فيه فرحةء فيقولان له: من ربك ؟ 
وما دينك ؟ ومن نبيك ؟ وما قبلتك ؟ فمن وفقه الله وثبته بالقول الثابت قال: 
من وكلكيا عل ومن أرسلكيا إلى ؟ ثم يقول: الله رليء وجمد نبي . والإسلام 
ديني ؛ وهذا ما يقوله., إلا العلماء الأخيار فيقول أحدها للآخر صدق لقد كفي 
شرنا ولقن حجته؛ ثم يضربان عليه القبر كالقبة العظيمة ويفتحان له بابا إلى 
الجنة من تلقاء يمينه. ثم يفرشان له من حريرها وريحانها. ويدخل عليه من 


نسيمها وروائحهاء ويأتيه عمله في صورة أحب الأشخاص إليه يؤنسه ويحدثه 
ويملأأ قبره نوراً؛ ولا يزال في فرح وسرور ما بقيت الدنيا حتى تقوم الساعة 
فليس شيء أحب إليه من قيامها. ودونه في المنزلة المؤمن القليل العام والعمل . 
ليس معه حظه من العام ولا من أسرار الملكوت؛» يلج عليه عمله عقيب رومان في 
أحسن صورة طيبة الريح. حسن الثياب. فيقول له: أما تعرفني ؟ فيقول: من 
أنت الذي من الله عل بك في غربتي ؟ فيقول: أنا عملك الصالح لا تحزن ولا 
توجل! فعا قليل يلج عليك منكر ونكير يسألانك فلا تدهش ؛ ثم يلقنه حجتهء 
فبيها هو كذلك إذ دخلا عليه كا تقدم ذكرهما فينهرانه ويقعدانه مستندا 
ويقولان له: من ربك؟ فيسبق إلى القول الأول فيقول: الله ربي. وحمد نبي 
والقرآن إمامي, والكعبة قبلتي, وإبراهي ألي, وملته ملتي ؛ غير مستعجم؛ 
فيقولان له: صدقت ! ويفعلان به كالأول. إلا أنهها يفتحان له باباً من النار من 
تلقاء شماله. فينظر إلى حيّاتها وعقاربها وأغلالها وسلاسلها وحميمها وجميع ما فيها 
من صديدها وزقومهاء فيفزع فيقولان له: لا عليك سوء. هذا موضعك كان 
من النار قد أبدله الله تعالى به موضعك هذا من الجنة, نم سعيداً ! ثم يغلقان عنه 
باب النار ولم يدر ما مرّ عليه من الشهور والأعوام والدهور . ومن الناس من ينعجم 
في مسألته. وإن كانت عقيدته مختلفة امتنع أن يقول الله ربي, وأخذ يذكر غيرها 
من الألفاظ ؛ فيضربانه ضربة يشتعل قبره منها نار ثم يطفأ عنه أياماً. ثم يشتعل 
عليه أيضاً, ثم دأبه ما بقيت الدنيا. ومن الناس من يعتاص عليه ويعسر أن يقول 
الإسلام ديني, بشك كان يتوهمه. أو فتنة تقع به عند الموت؛ فيضربانه ضربة 
واحدة فيشتعل عليه قبره ناراً كالأول. ومن الناس من يعسر عليه أن يقول القرآن 
إمامي ؛ لأنه يتلوه ولا يتعظ به ولا يعمل بأوامره ولا ينتهي بنواهيه . يطوف عليه 
دهره ولا يعظ نفسه خيره, فيفعل به ما فعل بالأولين. ومن الناس من يستحيل 
عمله جروا يعذب به في قبره على قدر جرمه. في الأخبار أن من الناس من يستحيل 
عمله خنوْصاً وهو ولد الخنزير ومن الناس من يعتاص عليه أن يقول جمد نبيّي ؛ 


لأنه كان ناسياً لسنّته. ومن الناس من يعتاص عليه أن يقول الكعبة قبلتي ؛ لقلة 
تحريه في صلاته , أو فساد في وضوئه, أو التفات في صلاته . أو اختلال في ركوعه 
وسجوده. ويكفيك ما روي في فضائلها أن الله لا يقبل صلاة ممن عليه صلاة ومن 
عليه ثوب حرام. ومن الناس من يعتاص عليه أن يقول أني إبراهيم؛ لأنه سمع 
كلاماً يوماً أوهمه أن إبراهيم كان يبوديًا أو نصرانيًا. فإذا هو شاب مرتاب, 
فيفعل به ما فعل بالآخرين. وكل هذه الأنواع كشفناها في كتاب الإحياء . 
فصل 

وأما الفاجر فيقولان له: من ربك؟ فيقول: لا أدري؛ فيقولان له: لا 
دريت ولا عرفت! ثم يضربانه يتلك المقامع الحديد حتى يتجلجل في الأرض 
السابعة. ثم تنفضه الأرض في قبره, ثم يضربانه سبع مرات؛ ثم تختلف أحواهم 
فمنهم من يستحيل عمله كلباً ينهشه حتى تقوم الساعة. وهم المرتابون: وهي 
أنواع تعتري أهل القبور. وإنما آثرنا الاختصار في ذكرها؛ وأصلها أن الرجل 
إنما يعذب في قبره بالشيء الذي كان يخافه في الدنياء فمن الناس من يخاف 
الجرو أكثر ؛ وطبائع الخلق مفترقة. نسأل الله السلامة والغفران قبل الندامة. 

وقد روي عن غير واحد من الموتى أنه رئي في المنام فقيل له: كيف كان 
حالك ؟ فقال: صليت بلا وضوء فوكل الله عل ذئباً يروعني في قبري , فحالي 
معه أسوأ حال. وآخر رثئي في المنام فقيل: ما فعل الله بك ؟ فقال دعني فإنيلم 
أتمكن في غسل يوم من الجنابة فألبني الله ثوباً من نار أتقلب فيها إلى يوم 
القيامة. ورئي آخر فقيل: ما فعل الله بك؟ فقال: الغاسل الذي غسلنى حلنى 
بعنف فخدشني مسهار كان في المغتسل قائياً فتألمت منه؛ فلما أصبح الصباح سئل 
الغاسل فقال: كان ذلك من غير اختياري . ورئي آخر في المنام فقيل له: كيف 
حالك أو لم تمت؟ قال: نعم. وأنا بخيرء غير أن الحجر كسر ضاعي عندما 
سُوّي عل التراب فأضرني . ففتح القبر فوجدوه كما قال.وآخر جاء إلى ولده في 
النوم فقال له: يا ولد السوء أصلح قبر أبيك, لقد آذاه المطر! فلما أصبح بعث 


١1١ 


الرجل إلى قبر أبيه فوجد جدولاً من الماء وقد أتى عليه من سيل, وإذا بالقبر 
مملوء من الماء. وعن أعراني أنه قال لولده: ما فعل الله بك ؟ قال ما ضرني إلا 
أن دفنت بإزاء فلان وكان فاسقاً قد روعني ما يعذب به من أنواع العذاب . 
وكثيراً ما جاء في مثل هذه الأخبار حكايات تبين أن أهل القبور يؤلون في 
قبورهم؛ وكفى بالخبر دلالة حيث يقول صاحب الشرع لَه : « يؤلم الميت في 
قبره كما يوْلم الحي في بيته » وقد نهى رسول الله يده عن كسر عظام الميت . 
وقد مر برجل قاعد على فناء قبر فنهاه وقال: لا تؤذوا الموتى في قبورهم. 
وقد زار النبي يَيلِقَهِ قبر أمه آمنة فبكى وأبكى من كان معه ثم قال: ٠‏ استأذنت 
رلي في الاستغفار لها فام يأذن لي ثم استأذنت أن أزور قبرها فأذن لي فزوروا 
القبور فإنها تذكر الموت». وكان إذا حضر إلى المقابر ليزورها يقول عَلَِهِ : 
« سلاماً على أهل الديار من المسلمين والمؤمنين. وإنا إن شاء الله بكم لاحقون؛ 
أنتم لنا فرط ونحن لكم تبع. اللهم اغفر لنا ولهم وتجاوز بعفوك عنا وعنهم» 
فكان يعام نساءه عَلَوِ إذا خرج النساء إلى المقابر يقول لن قولوا هذا الكلام, 
ويعلمهن إياه. وقال صالح المزني : سألت بعض العلماء لأي شيء نبي عن الصلاة 
في المقبرة؟ فقال: ورد حديث ؛ فاستدل بحديث ولا تصلوا بين القبور فإن ذلك 
حسرة لامنتهى لما». وروي عن بعضهم أنه قال: قمت أصلي ذات يوم في المقابر 
وقد اشتد الحر وقوي. إذ رايت شخصا يشبه الي جالسا على ظهر قبره. 
فسجدت فزعاً. فسمعته يقول: ضاقت عليك الأرض رحباً حتى جئت تؤذينا 
بصلاتك منذ زمان. وفي الحديث الصحيح أن رسول الله نه مر بيتهم يبكي على 
قبر أبيه فيبكى رححمة له ثم قال: ه إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه » أي أن ذلك 
يحزنه ويسوؤه. فكم من ميت رثي في المنام فقيل له كيف حالك يا فلان فيقول 
حال سوء ساء حالي من فلان وفلانةكانا يكثران البكاء والنواح عللّ. إلا أن 
الزنادقة ينكرون ذلك قبله . ورسول الله يَِنُم قال: « ما من أحد منكم يمر بقبر 
أخيه المؤمن ممن يعرفه في الدنيا فيسم عليه إلا عرفه ورد عليه» وكذا حدث 


١11 


عليه الصلاة والسلام وقد انصرف عن جنازة دفئوها أنه يسمع قرع نعالهم وهم 
بغيره أسمع وأسمع. ومات بعض الفقهاء ولم يوص بشيء ثم طاف على أهل بيته 
بالليل وقال: أعطوا فلانا كيت وكيت من الزرع! وادفعوا لفلان كتابه الذي 
كان عندي مودوعاً منذ زمان! فليا أصبحوا ذكر كل واحد منهم لأخيه ما 
رأى؛ ثم إنهم وجدوه بعد زمان في زوايا البيت. وعن بعضهم قال: أتخذ أبونا لنا 
مؤديا يعلمنا الكتابة في الدار فيات. فخرجنا إلى قبره بعد ستة ايام وجعلنا 
نتذاكر أمر الله عز وجل ., فمر بنا طبق من تين فاشتريناه وأكلناه ورمينا الأذناب 
على القبر . فلم) كان تلك الليلة رأى أبونا الشيخ في المنام فقال له: كيف حالك ؟ 
فقال: بخير. غير أن أولادك اتخذوا قبري مزبلة. وتحدثوا عل بكلام هو كفر؛ 
فخاصمنا أبونا للشيخ وقال: إن الشيخ قال لي إنهم قالوا عند قبري شيئا يشبه 
الكفر. فقلنا: يا سبحان الله لا يزال يؤدبنا في الدنيا والآخرة. ومن هذه 
الحكايات كثير إلا أني ذكرت هذا القدر أمثالاً ومواعظ ليُعتبر بالأقل. 
فصل 

وأما أهل القبور فعلى أربعة أحوال: فمنهم القاعد على عقبه حتى تنتثر العيسن , 
ونورم الجثة. ويعود الجسم تراباً. ثم لا يزال بعد ذلك طوافا في الملكوت دون 
سماء الدنيا ؛ ومنهم من يرسل الله عليه نعسة فلا يدري ما فعل حتى ينتبه مع 
النفخة الأولى ثم يموت؛ ومنهم من لا يقوم على قبره إلا شهرين أو ثلاثاء ثم 
تركب نفسه على طير يهوي به في الجنة؛ وهو الحديث الصحيح حيثُ يقول 
صاحب الشرع َيه : « نسمة المؤمن من طائر يعلق في شجرةالجنة» 
وفي المعنى الصحيح والوجه الحسن . وكذلك سئل عن أرواح الشهداء فقال: 
« الشهداء في حواصل طيور خضر تعلق بهم في شجرة الجنة». ومن الناس مسن 
إذا بادت عينه عرج به إلى الصور فلا يزال لازماً له حتى ينفخ في الصور . 
والنوع الرابع خص به الأنبياء والأولياء ولهم الخيار. فمنهم من يكون طوافا في 
الأرض حتى تقوم الساعة. وكثيراً ما يرى في الليل. وأظن الصديق منهم 


1١11 


والفاروق. والرسول عَِنّهِ له الخيار في طواف العوالم الثلاثة. وعن هذه الإرادة 
قال يوماً تنبيهاً وإشارة بَيِتهِ « إني أكرم على الله من أن يدعني في الأرض أكثر 
من ثلاث» وكانت ثلاث عشرات؛ لأن الحسين قتل على رأس الثلاثين سنة 
فغضب على أهل الأرض وعرج إلى السماء. وقد رآه بعض الصالحين في النوم 
فقال: يا رسو لالله بأبي أنت وأمي ما ترى في فتن أمتك ؟ قال: زادهم الله فتنة! 
قتلوا الحسين ولم يحفظوني فيه. ثم جعل يعدد كلاماً اشتبه على الراوي . ومنهم من 
اختار السماء السابعة كإبراهيم عليه السلام؛ وفي الحديث أنه أمر به َنم وهو 
مسند ظهره إلى البيت المعمور وقد أحدق به أولاد المسلمين. وعيسى عليه السلام 
في السماء الخامسة, وني كل سماء رسل وأنبياء لا يخرجون منها ولا يبرحون حتى 
الصعقة ؛ وليس منهم من له الخيار إلا الخليل والكليم والروح والحبيب» هؤلاء 
ينتهون حيث ارادوا من العالمين؛ واما الأولياء فمنهم من وقف على البعثة 
الدنيوية كبا روي عن ألي يزيد أنه تحت العرش يأكل من مائدة. وعلى هذه 
الأنواع الأربعة حال أهل القبور يعذبون وي رحمون ويهانون ويكرمون . فالذين 
هم منهم يُحدقون بالميت إذا احتضر حتى يضيق بهم رحاب المنازل» وربما كشف 
له فيراهم ويفطن بهم؛ وقد رأيت من حدث بهذا النوع. وقد رأيت بعض 
الأصحاب كشف عن بصيرته فنظر إلى ولده الميت قد ولج البيت والميت يفيق 
ويتصور . وهذه الفوائد الملكوتيه إنما تكون لكريم أو نسيب . نسأل الله أن يجود 
لنا بمعرفة ما نخوض به بحر اسرارها حتى يرتفع الشك والارتياب. 

ومع هذه الأنواع الموصوفة لا يعقل منهم تكوين الليل والنهار إلا من كان 
عينه باقية لم يعرج به علواً . فمنهم من يعرف الجمعة والأعياد وإذا خرج أحد 

من الدنيا اجتمعوا إليه وعرفوه, فهذا يسأل عن زوجته, وهذا يسأل عن والده. 
وكل واحد يسأل عن أربه. وربما مات الميت فام يلق أحد معارفه لزيغغ يصيبه 
عند الموت» فيموت بهوديا أو نصرانيا فيصير إلى عساكرهم. فإذا قدم أحد من 
الدنيا سأله جيرانه: ما علمك بفلان؟ فيقول لهم: قد مات؛ فيقال: إنا لله وإنا 


١1 


إليه راجعون! ما رأيناه سلك به إلى أمه الهاوية . وقد رئي بعض الناس فقيل له: 
ما فعل الله بك ؟ قال: أنا وفلان وفلان. وعد خمسة من أصحابه., في خير كثير 
ونعمة ؛ وكان قتله الخوارج مع أصحابه المعروفين. وسثل عن جار له ما فعل الله 
به. ففال: ما رأيناه. وإنما كان هذا المنكور ألقى نفسه في اليم حتى مات غرقاء 
وأظنه والله مع قاتلي أنفسهم. وفي الصحيح أن رسول الله عتم قال « من قتل 
نفسه بحديدة جاء يوم القيامة وحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه في بطن«جهمم 
خالداً مخلداً فيها أبداً. ومن تردى من جبل فقتل نفسه فهو يتردى في نار 
جهن » الحديث. وكذلك المرأة تموت بحد, لا تزال تجد ذلك الألم حتى النفخة؛ 
فهذه حياة ثانية. وقد صح أن آدم عليه السلام لقى موسى عليه السلام فقال له: 
أنت الذي خلقك الله بيده. ونفخ فيك من روحه. وأسجد لك ملائكته, 
وأسكنك جنته فام عصيته ؟ قال له: يا موسى نعم؛ فقال له: في م سنة وجدت 
الذنب قدر على قبل فعله؟ قال له: كتب عليك قبل أن تفعله بخمسين ألف سنة ؛ 
قال: يا موسى أفتلومني على ذنب قدر عل قبل أن أفعله بخمسين ألف عام ؟ وفي 
الصحيح أن رسول الله يِه صلَى بالمرسلين ليلة أسري به ركعتين» وأنه سام على 
هارون عليه السلام» فدعا له بالرحمة ولأمته. وأنه سام على إدريس فدعا له 
بالرحمة ولأمته. وكان أولئك قد ماتوا وبادت أعينهم . وإنما هي الحياة الأنفس. 
وبعد هذا الإحياء حياة ثالثة. والحياة الأولية يوم أشهدهم على أنفسهم ألست 
بربكم قالوا بلى شهدنا! ولا يعتد بالحياة الدنيوية ‏ فإنها مسخرة للتنعم . ويروى 
عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال « الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا .٠‏ 


فهذه أحوال الأموات إذا بادت أعينهم: منهم المستقرء ومنهم الطواف. 
ومنهم المضروب عليه. ومنهم المعذب؛ والدليل على صحة ذلك قوله تعالى 
#النار يعرضون عليها غدواً وعشياً ويوم تقوم الساعة ادخلوا آل فرعون أشد 
العذاب » [ غافر: 17 ] واليوم بيان عذاب البرزخ. 


١١6 


فصل 

فإذا أراد الله تعالى قيام الساعة دون النفخ في الصور على السسر الذي بيناه في 
الاحياء. فإذا الجبال تتطاير وتسير مثل السحاب. وإذا البحار قد تفجرت 
بعضها في بعض ., وتكورت الشمس فعادت سوداء مزيرة. وسجرت الجبال على 
أمئال عالم الهواء. ودخل العالم بعضه في بعض. وانتثرت النجوم كالسلك إذا 
انتثر من نظمهء وعادت السماء كدهن الورد تدور كدوران الرحا. والارض قد 
زلزلت زلزالاً شديداً تارة تنقبض وتارة تنبسط كالأديم . حتى أن الله يأمر بخلع 
الأفلاك؛ فلا يبقى في الأرضين السبع ولا السموات السبع ولا ني الكرسي حي 
كائن إلا وقد ذهبت نفسه. وإن كان روحانيا ذهبت روحه؛ وقد خلت 
الأرض من عرارها. والسماء من سكانها على ضروب الموحدين. ثم إن الله جل 
جاده يتجل في العام عيض المسرات السبع لواعيسة: والارضين السبع 
الأخرى. ثم يقول الله عز وجل: يا دنيا يا دنية أين أربابك وأين : أصحابك » 
منيتهم ببهجتك وشغلتهم عن آخرتهم بزهوك؛ ثم يثني على نفسه بما شاء . ويفتخر 
بالبقاء المستمرء والعز الدائم, والملك الباقي . والقدرة القاهرة . والحكمة الباهرة. 
نم يقول تعالى: لمن الملك اليوم . فلا يحيبه احد . فيجيب نفسه بنفسه بأن يقول. 
لله الواحد القهار. ثم يفعل فعلاً أعظم من الأول وهو أن يأخذ السموات على 
إصبع والارضين على إصبع ثم هزها ويقول سبحانه : انا الملك الديان أين عبدة 
الأوثان الذين عبدوا غيري من دوني. وأشركوا بي وأكلوا رزقي» أين الذين 
تقووا برزقي على المعاصي » أين الجبابرة» أين من تكبر وافتخرء لمن الملك اليوم ؛ 
كالمرة الأول . ثم يمكث كذلك سبحانه وتعالى ما شاء الله وليس من العرش إلى 
المقام نسمة تلوح تعقل. وقد ضرب الله على آذان الحور والولدان في جنتهم . نم 
يكشف الله سبحانه وتعالى عن بئر في سقر. فيخرج منها لهيب النار . فتشتعل في 
الأربعة عشر بحرا كبا تشتعل النار في الصوف المنفوش. فيا تدع منها قطرة 
واحدة. وتدع الأرضين جملة سوداء والسموات كأنها عكر الزيت والنحاس 


1١1 


المذاب ؛ فإذا دنا اللهيب أن يتعلق بعنان السماء زجر الله النار زجرة فخمدت. ثم لا 
يرفع لها هيب , ثم يفتح الله سبحانه وتعالى خزانة من خزائن العرش فيها بحر 
الحياة, فتمطر الأرض. فإذا هو كمني الرجال. فيلقى الأرض عطشى ميتة 
هامدة فتحيا وتهتز ولا يزال المطر عليها حتى يعمها . ويكون الماء أربعين ذراعاً. 
فإذا جاء الأجسام تنبت من العصعص . وفي الحديث أن الانسان يبدأ من عجب 
الذنب ومنه يعود ؛ وفي رواية أخرى ٠‏ يبلى المرء كله إلا عجب الذنب منه بديء 
ومنه يعود » وهو عظم على قدر الحمصة ليس له مخ؛ فمنه تنبت الأجسام في 
مقابرها | ينبت البقل. حتى يشتبك بعضها في بعض . فإذا رأس هذا عند 
منكب هذاء ويد هذا عند عجز هذا؛ لكثرة البشر . وفي معنى قوله عز وجل 
#قد علمنا ما تنقص الأرض منهم وعندنا كتاب حفيظ » [ ق: ؛ ] نبهنا عليه 
في كتابنا الإحياء. فإذا تمت النشأة على حسبها: الصبي صبي » والشيخ شيخ» 
والكهل كهل ., والفتى فتى, والشاب شاب, أمر الجليل جل جلاله أن تهب ريح 
من تحت العرش فيها نار لطيفة. فيكشف ذلك عن الأرض» وتبقى الأرض 
بارزة ليس فيها حدب ولا عوج ولا أمت. وقد عادت الجبال رمالاً ‏ وهو 
الكثيب المهيل - ثم يحبي الله سبحانه وتعالى إسرافيل فينفخ في الصور من صخرة 
ببيت المقدس ؛ والصور قرن من نور له أربعة عشر دارة. الدارة الواحدة فيها 
ثقوب بعدد أرواح البرية» فتخرج أرواح البرايا لها دوي كدويّ النحل فتملأ ما 
بين الخافقين. ثم تذهب كل نسمة إلى جثتها. فسبحان ملهمهم إياها! حتى 
الوحش والطير وكل ذي روح؛ فإذا الكل كما قال تعالى اعم تفخ فيه أخرى 
فإذا هم قيام ينظرون4 [ الزمر: 18 ]. والزجرة العظيمة هي الصيحة كما قال 
الله تعالى : # فإنما هي زجرة واحدة فإذا هم بالساهرة4 [ النازعات: ١4.1‏ ] 
والساهرة هي الأرض السفلى؛ لأنهم فتحوا أبصارهم عند قيامهم فنظروا إلى 
جبال منسوفة. وبجحار منزوفة والأرض لا عوج فيها ولا أمت ؛ والأمت الشيء 
المرتفع كالربوة. والعوج الأرض المنخفضة كالوهدة والأودية» وإنما صارت 


١ 17/ 


مستوية كأنها صحفة قاعدة. فتعجبوا لما نظروا من الساهرة وقعد كل واحد 
منهم على قبره عرياناً منتظراً متعجباً متفكراً معتبراً كما قال عَلِنَهِ في الصحيح 
«عراة غرلاً» أي غير مختومين؛ إلا قوماً ماتوا في الغربة مؤمنين لم يكفنوا , فإنهم 
يحشرون وقد كسوا ثياباً من الجنة, وأقواماً ماتوا شهداء فيقومون وقد كسوا 
من الجنة. وأقواماً أيضاً من أمة مد عله متحرين السنة ما خافوا عنها سم 
الخياط. فإن رسول الله عَنّهِ قال: ٠‏ بالغوا في أكفان موتام فإن أمتي تحشر 
بأكفانها وسائر الأمم عراة» رواه أبو سفيان مسنداً . وقال عَلِتهِ : « يحشر الميت 
في ثيابه » وبعض الموتى لما احتضر قال: اكسوني الثوب الفلاني. فمنع منه حتى 
مات في غلالة ليس عليه غيرهاء. فرئي في المنام بعد أيام قلائل كأنه حزين فقال 
له: ما بالك ؟ فأعرض عن خطابه ثم قال: منعتموني ثوبي وجعلتموني أحشر في 
هذه الغلالة لا غير . 
فصل 
في الاقامة التي بين النفختين 

وهي الموتة الثانية ؛ لأنها منعت من الحواس الباطنة؛ والموت الجسماني منع 
من الحواس الظاهرة؛ لأن الأجرام هي الفاعلة للحركة, ولأنهم لا يصلّون ولا 
يصومون ولا هم يتعبدون. ولو أدخل الله ملكا في جثئة لأقام فيها؛ لأنه ذو 
حرص على التحيز إلى عالمه. والنفس جوهر بسيط. فإذا ركيت في الجسد 
صحت حياته وأفعاله. 

واختلف الناس في هذه المدة الكائنة بين النفختين, واستقر جمهورهم على أنها 
أربعون سنة؛ وحدثنى من لا أشك في علمه ولا معرفته أن أمر ذلك لا يعلمه 
إلا الله تعالى لأنه 1 أسرار الربوبية ؛ وكذلك حدثني أن الاستثناء واقع عليه 
سبحانه وتعالى خاصةء فقلت: ما معنى قول النبي َه : «أنا أول من تنشق 
الأرض عنه يوم القيامة. فإذا أخي موسى آخذ بقائمة العرش فلا أدري أبعث 


1١148 


قبل أم كان ممن استثناه الله عز وجل ؛؟ فلا يخرج من هذا الحديث على ما 
نقدره إلا غير أجسام. وإن كان موسى الآن لا جئة له وبعد الاستثناء الذي 
عن رسول الله ِنَم في أمر الفزع ؛ لأن البرايا عند الصعقة وعند الفزعة كما قال 
كعب وقد حدث في يجلس عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن هول المقام حيث 
قال: فلو كان ذلك يابن الخطاب عمل سبعين نبياً لظننت أنك لا تنجو من ذلك 
اليوم إلا قوماً استثناهم الله في هول الفزع والصعق وهم أهل المقام الرابع. لا 
شلك أن وين أحدهم والاستثناء من بلوغ الأمرء ولو كان هناك أحد لأجاب 
الله تعالى حين يقول لمن الملك اليوم لقال: لك يا واحد يا قهار. 
فصل 

فإذا استوى كل أحد قاعداً على قبره فمنهم العريان والمكسو والأسود 
والأبيض. ومنهم من يكون له نور كالمصباح العظيم . ومنهم من يكون له نور 
كالشمس. إلا أن كل واحد منهم لا يزال مطرقاً برأسه ما يدري ما يصنع ألف 
عام. حتى تظهر نار من المغرب لها دوي تسوق الخلق إلى المحشر , فيند هش ها 
رؤوس الخليقة إنساً وجناء ووحشاً وطيراًء فيأخذ كل واحد عمله ويقول قم 
وائبض إلى المحشر ؛ فمن كان له حينئذ عمل جيد تشخص عمله بغلا . ومنهم 
من تشخص عمله له حماراً. ومنهم من تشخص له عمله كبشا تارة يحمله وتارة 
يلقيه. ويجعل لكل واحد نور شعاعي بين يديه . وعن بمينه مثله . يسري بين يديه 
في الظلرات وهو قوله تعالى (إنورهم يسعى بين أيديهم وبأهانهم 4 [ التحري :8 ] 
وليس عن شمائلهم نور بل ظلمة حالكة لا يستطيع أحد ينظر فيهاء يحتار فيها 
الكفار ويتردد المرتابون, والمؤمن ينظر إلى قوة حلكها وشدة حندسها ويحمد الله 
على ما أعطاه من النور المهتدي به في تلك الشدة. ويسعى بين أيد.هم؛ لأن الله 
يكشف للعبد المؤمن المتنعم عن أحوال أهل الشقاء المعذبين ليستبين له سبل 
الفائدة. كما فعل أهل الجنة وأهل النار حيث يقول #فاطلع فرآه في سواء 


اليل 


الجحي » [ الصافات: 08 ] وكيا قال سبحانه وتعالى 8وإذا صرفت أبصارهم 
تلقاء أصحاب النار قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين © [ الأعراف: 47 ] 
لأن أربعاً لا يعرف قدرها إلا أربعة: لا يعرف قدر الحياة إلا الموتى. ولا 
يعرف قدر الشدة إلا أهل النعم. ولا يعرف قدر الغنى إلا الفقراء . ولا يعرف 
قدر الصحة إلا المرضى. ومن الناس من يسعى على قدميه وعلى أطراف بنانه» 
ومنهم من له نور ينطفيء تارة ويشتعل أخرى. وإنما نورهم عند البعث على قدر 
إيمانهم . وسرعة خطواتهم على قدر أعالهم. قيل لرسول الله علا في حديث 
صحيح « كيف نحشر يا رسول الله؟ قال: اثنان على بعير. وخمسة على بعير. 
وعشرة على بعير » ومعنى هذا الحديث والله أعلم أن قوماً يتلاقون في الإسلام 
فيرحمهم الله تعالى» خلق هم من أعمالهم بعيراً يركبون عليه؛ وهذا من ضعف 
العمل ؛ لأنهم مشتركون معهم. فهم كقوم خرجوا في سفر بعيد وليس معهم 
أحد , منهم من يشتري مطية توصله, فاشترك في ثمنها رجلان أو ثلاثة, فاشتروا 
مطية يتعقبون عليها في الطريق وقد يبلغ بعير مع عشرة. فهذا العجز في العمل 
معناه قبض اليد في المال. أي منع التصرف فيه. ومع هذا يحكم له بالسلامة. 
فاعمل هداك الله عملاً يكون لك بعيراً خالصاً من الشركة, واعام أن ذلك هو 
المتجر الرابح ؛ فالمتقون وافدون كا قال الجليل جل جلاله : يوم نحشر المتقين 
إلى الرحمن وفدا » [ مريم: 6] وفي غريب الحديث أن رسول الله عله قال 
يوماً لأصحابه: « كان رجل من بني إسرائيل كثيراً ما يفعل الخير حتى إنه 
ليحشر فيكم. قالوا له: وما كان يصنع؟ قال: ورث من أبيه مالا كثيراً 
فاشترى بستاناً فحبسه للمساكين وقال هذا بستاني عند الله. وفرق دنائير عديدة 
في الضعفاء وقال بهذا أشتري جارية من الله تعالى وعبيداً. وأعتق 
رقاباً كثيرة وقال هؤلاء خدمي عند الله والتفست ذات يوم إلى رجل ضرير 
البصر فرآه تارة يمشي وتارة يكبو فابتاع له مطية يسير عليها وقال هذه 
مطيتي عند الله تعالى أركبها . والذي نفسي بيده لكأنني أنظر إليها وقد جيء بها 


حن 


مسرجة ملجمة لأركبها في الموقف». وقيل في تفسير قوله تعالى #أفمن يمشي 
مكنا على وجهه أهدى أمن يمشي سَويّا على صراط مستقم» [الملك: 57 ] أنه 
مثل ضربه الله ليوم القيامة في حشر المؤمنين والكافرين. كما قال الله تعالى: 
«ونسوق المجرمين إلى جهم ورداً © [ مريم: 41 ] أي مشاة على وجوههم؛ هذا 
قول بعض المفسرين, وليس الأمر كما حكاه., وإنما السر في ذلك أنه تارة يمشي 
وتارة يكبو على وجهه؛ والذي تأوله بعيل ؛ لأن الله تعالى ذ كر الأرجل فقال 
تعالى «[وأرجلهم بما كانوا يعملون» [النور: 54 ]. وقوله «عمياً وبكآ 
وصما # [ الإسراء : اه ] تفسير غير المقصد الذي أرادوه. وترك الإشارة التي 
نبأك عليهاء فقد رأيت العرب يتمثلون بها ويقولون: هذا يمشي على وجهه. إذا 
كان يكبو ؛ ومعناه: عمياً عن النور الذي يشعشع بين أيدي المؤمنين وعن أيمانهم . 
وليس العمى الكلى إرادتهم؛ لأنه لا خلاف أنهم ينظرون السماء تنشق بالغهام » 
والملائكة تنزل. والجبال تسير. والكواكب تنثر . وكل أهوال يوم القيامة تفسير 
قوله تعالى #أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون4 [ الطور: ١6‏ ] فمعنى العمى في 
القيامة الخوض في الظلمة والمنع عن النظر إلى الكريم ؛ إذ نور الله سبحانه وتعالى 
تشرق به الأرض البيضاء » وهم قد ضرب على أبصارهم غشاوة لا يلظرون إلى 
شيء من ذلك . كذلك ضرب على آذائهم فلا يسمعون كلام الله تعالى والملائكة 
الذين ينادون لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون» [الأعراف: 18 ] 
«ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم تحبرون4 [ الزخرف: ٠١‏ ]. وكذلك منعوا من 
الكلام كأنهم بكم. يفسره قوله تعالى #هذا يوم لا ينطقون ولا يؤذن لهم 
فيعتذرون4 [ المرسلات: 70 81 ] والممنوع من الشيء موصوف بالضعف عن 
قدرته وإن كانت الصفة فيه موجودة كأنها معدومة الوجود في حال دون حال. 

ومن الناس من يحشر بفتنته الدنيوية ؛ فقوم مفتونون بالعود وعاكفون عليه 
دهرهم, فعند قيام أحدهم من قبره يأخذه بيمينه فيطرحه من يده ويقول سحقاً 
لك شغلتني عن ذكر الله! فيعود إليه ويقول أنا صاحيك حتى يحكم الله بيننا 


وهو خير الحاكمين. وكذلك يبعث السكران سكراناً والزامر زامراً وكل أحد 
على الحال الذي صده عن سبيل الله ؛ ومثله الحديث الذي روي في الصحيح « أن 
شارب الخمر يحشر والكوز معلق في عنقه والقدح بيده وهو أنتن من كل جيفة 
على الأرضء يلعنه كل من يمر عليه من الخلق». والميت أيضاً يحشر بظلامته» 
وفي الصحيح أن المقتول في سبيل الله يأتي يوم القيامة وجرحه يشخب دما . اللون 
لون الدم. والريح ريح المسك. حتى يقف بين يدي الله عز وجل . فإذا ساقتهم 
الملائكة زمراً وأفواجاً تحت كل واحد ما قدر له. وجمعوا في صعيد واحد من 
إنس وجن وشيطان ووحش وسبع وطيرء تحوهم الملائكة إلى الأرض الثانية 
وهى أرض بيضاء من فضة نورية» وصارت الملائكة من وراء العالمين حلقة 
وا فإذا هم أكثر من أهل الأرض بعشر مرات. ثم إن الله سبحانه وتعالى 
يأمر ملائكة السماء الثانية فيحدثون حلقة واحدة فإذا هم مثلهم عشرين مرة. ثم 
تنزل ملائكة السماء الثانية فيحدقون بالكل حلقة واحدةفإذا هم مثلهم ثلاثين 
ضعفاً. ثم تنزل ملائكة المماء الرابعة فيحدقون من وراء الكل فتكون حلقة 
واحدة أكثر منهم بأربعين ضعفا . ثم تنزل ملائكة السماء الخامسة فيحدقون من 
ورائهم حلقة واحدة فيكونون مثلهم سين مرة. ثم تنزل ملائكة السماء السادسة 
فيحدقون من وراء الكل حلقة واحدة وهم مثلهم ستين مرة. ثم تنزل ملالكة 
السماء السابعة فيحدقون من وراء الكل حلقة واحدة وهم مثلهم سبعين مرة. 
والخلق تتداخل ويندرج بعضهم في بعض حتى يعلو القدم ألف قدم لشدة 
الزحام » ويخوض الناس في العرق على أنواع مختلفة إلى الآذان وإلى الصدر وإلى 
الحلقوم وإلى المنكبين وإلى الركبتين. ومنهم من يصيبه الرشح اليسير كالقاعد في 
الحمام. ومنهم من يصيبه البلل كالعطش إذا شرب الاء . واصحاب الراي هم 
أصحاب الكراسي » وأصحاب الكعبين قوم يموتون غرقى. والملائكة تناديهم 
#لاخوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون» [ الأعراف: 14 ]. وحدثني بعض 
العارفين أنهم الأوابون كالفضيل بن عياض وغيره إذ الني عَيْلتَهِ قال: ٠‏ التائب 


بحن 


من الذنب كمن لا ذنب له» فإن دليل ذلك قول مطلق. 

وهذه الأصناف الثلاثة: أهل الرأي؛ والرشح. وأهل الكعب, هم الذين 
تبيض وجوههم ومن دونهم تسود وجوههم. وكيف لا يكون القلق والعرق 
والأرق وقد قربت الشمس من رؤوسهم حتى لو أن أحداً مد يده يضاعف حرها 
سبعين مرة! وقال بعض السلف: لو طلعت الشمس على الأرض كهيئتها يوم 
القيامة لأحرقت الأرضء وأذابت الصخرء ونشفت الأنهار . فبيها الخلائق 
يمرحون وهم ني تلك الأرض البيضاء التي ذكرها الله تعالى حيث يقول: #يوم 
تبدل الأرض غير الأرض والسموات وبرزوا لله الواحد القهار» [ إبراهيم: 
] وهم على أنواع في المحشر , وملوك أهل الدنيا كالذر كيا روي في الخبر في 
صفة المتكبر . وليس هم كهيئة الذر عيئاً, غير أن الأقدام تطأ عليهم حتى صاروا 

وقوم يشربون ماء بارداً عذباً صافياً؛ لأن الصبيان يطوفون على أبائهم 
بكؤوس من أنهار الجنة يسقونهم. وعن بعض السلف الصا حين أنه نام فرأى 
القيامة قد قامت وكأنه في الموقف عطشان, ورأى صبياناً صغاراً يسقون الناس» 
قال فناديتهم: ناولوني شربة ماء ! فقال لي واحد منهم: ألك فينا ولد ؟ قلت : لا » 
كتابنا « الااحياء »). 

وقوم قد دنا على رؤوسهم ظل يمنعهم من الحر وهي الصدقة الطيية؛ ولا 
يزالون كذلك ألف عام حتى إذا سمعوا نقر الناقور الذي وصفناه في كتابنا 
واللاحياء 26 وهو من بعض أسرار القرآن» فتوجل له القلوب وتخشع له الأبصار 
لعظم نقره. وتساق الرؤوس من المؤمنين والكافرين يظنون ذلك عذاباً يزداد في 
هول القيامة؛ فإذا بالعرش يحمله ثمانية أملاك يسير قدم الملك منهم مسيرة 
عشرين ألف سنةء وأفواج الملائكة وأنواع الغيام بأصوات التسبيح لا يطيقه 
العقول. حتى يستقر العرش في تلك الأرض البيضاء التي خلقها الله تعالى لهذا 


1١ 


الشأن خاصة, فتطرق الرؤوس وتحصر وتنحبس ., وتشفق البراياء. وترعب 
الأنبياء , وتخاف العلماء , وتفزع الأولياء والشهداء من عذاب الله الذي لا يطيقه 
شيء. فبينا هم كذلك إذ غشيهم نور غلب على نور الشمس التي كانوا في 
حرهاء فلا يزالون يموج بعضهم في بعض ألف عام والجليل لا يكلمهم كلمة 
واحدة. فحينئذ تذهب الناس إلى ادم عليه السلام فيقولون : يا ادم يا ابا البشر 
الأمر علينا شديد . وأما الكافر فيقول: يا رب ارحمني ولو إلى النار؛ من شدة ما 
يرى من الهول. ويقولون: يا آدم أنت الذي خلقك الله بيده. وأسجد لك 
ملائكته, ونفخ فيك من روحهء اشفع لنا في فصل القضاء ! فيؤمر بكل حيث 
يشاء سبحانه وتعالى فيفعل بهم ما يشاء فيقول: عصيت الله حيث نهاني عن أكل 
الشجرةء وأنا أستحي أن أكلمه في هذه الحالة. ولكن اذهبوا إلى نوح عليه 
السلام فإنه أول المسلمين! فيقيمون ألف عام يتشاورون فيا بينهم, ثم يذهبون إلى 
نوح فيقولون له: أنت أول المرسلين؛ فيذكرون له مثل ذلك» ثم يطلبون منه 
الشفاعة في فصل القضاء بينهم. فيقول: إنني دعوت دعوة أغرقت بها أهل 
الأرض» وإفي أستحي من الله تعالى أن أسأله مثل ذلك. ولكن انطلقوا إلى 
إبراهيم خليل الله تعالى. هو سما المسلمين من قبل فلعله يشفع لكم! فيتشاورون 
فيا بينهم ألف عام ثم يأتونه عليه السلام فيقولون له: يا إبراه يا أبا المسلمين 
أنت الذي اتخذك الله خليلاً فاشفع لنا إلى الله لعله يفصل فا بين خلقه! فيقول 
لهم: إني كذبت في الإسلام ثلاث كذبات جادلت ببن عن دين اللهء فأنا 
أستحي من الله أن أسأله الشفاعة في مثل هذا المقام. ولكن اذهبوا إلى موسى 
عليه السلام فإنه اتخذه الله كلياً وقربه نجيا عسى أن يشفع لكم . فيتشاورون فيا 
بينهم ألف عام والحال يزيد شدة والموقف ضيقاً فيأتون مومى فيقولون له: يا بن 
عمران أنت الذي اتخذك الله كلباً وقربك نيا وأنزل إليك التوراة؛ فاشفع لنا 
في فصل القضاء فقد طال المقام واشتد الزحام وتراكمت الأقدام ونادى أهل 
الكفر والإسلام من طول المقام ! فيقول لهم موسى : إني سألت الله تعالى أن يأخذ 


1 


آل فرعون بالسنين وأن يجعلهم مثلاً للآخرين, وأنا استحي من الله تعالى أن 
أسأله الشفاعة في مثل هذا المقام مع أسباب جرت بيني وبينه في المناجاة يلوح 
فيها تعريض المحلاك. إلا أنه ذو رحمة واسعة ورب غفور. لكن اذهبوا إلى 
عيسى عليه السلام فإنه من أصح المرسلين يقيناً, وأكثرهم معرفة بالله تعالى» 
وأشدهم زهدا. وأبلغهم حكمة, فلعله يشفع لكم! فيتشاورون فها بينهم ألف 
عام والحال يزيد شدة والموقف يزداد ضيقا. وهم يقولون: حتى متى نحن من 
رسول إلى رسول ومن كر إلى كريم ؟ فيأتون عيسى عليه السلام فيقولون له: 
أنت روح الله وكلمته. وأنت الذي سماء الله وجيهاً في الدنيا والآخرة, اشفع لنا 
إلى ربك في فصل القضاء ! فيقول إن قومي اتخذوني وأمي إلهين من دون الله, 
فكيف أشفع عند من عبدت معه وسميت له ابنآً وسمي لي أبآء ولكن أرأيتم لو 
كان لأحدم كيس فيه نفقة وعليه خاتم أكان يبلغ إلى ما في الكيس حتى يفض 
الخاتم ؟ قالوا: نعم يا نبي الله قال لهم: اذهبوا إلى سيد المرسلين وخاتم النبيين 
أخي العرب, فإنه ادخر دعوته شفاعة لأمته. وكثيراً ما آذاه قومه: شجوا 
جبينهء وكسروا رباعيته. وجعلوا بينه وبين الجنة نسباً. وإنه لأحسنهم فخاراً , 
وأكبرهم شرفاً. وهو يقول كما قال الصديق لإخوته #لا تثريب عليكم اليوم 
يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين# [يوسف: 48 ] وجعل يتلو عليهم من 
فضائله يِه ما لم تمجه آذائهم حتى امتلأت نفوسهم حرصاً على الذهاب إليه. 
فساروا حتى أتوا إلى منبره علا وقالوا له: أنت حبيب الله والحبيب أوجه 
الوسائط . اشفع لنا إلى ربك! فقد ذهينا إلى أبينا آدم فأحالنا على نوح. 
فذهبتا إلى نوح فأحالنا على إبراهيم, وذهينا إلى إبراهم فأحالنا 
على موسى , فذهبنا إلى مومى فأحالنا على عيسى . فذهيئا إلى عيسى فأحالنا 
عليك صلى الله عليك وسلم . وليس بعدك مطلب ولااعنك 
مهرب. فيقول عَيلْقهِ : أنا لها حتى يأذن الله لمن يشاء ويرضى . ثم ينطلق يِه إلى 
سرادقات الجلال فيستأذن فيؤذن له ثم يرفع الحجاب ويلج إلى العرش ويخر 


١” 


ساجداً يمكث فيها ألفاً. ثم يحمد الله تعالى بمحامد ما حمده بها أحد قط قال 
بعض العارفين: إن تلك المحامد التي اثنى الله بها على نفسه يوم قراعه من خلقه 
- فيتحرك العرش تعظياً وقد حاز صحيفة من الصحف التي تقدم ذكرها في 
والاإحياء » والناس في تلك المدة قد ضاق مكانهم. وساءت أحواهم. وترادفت 
أهوالهم. وقد طوق كل واحد منهم ما بخل به في الدنيا : فرانع زكاة الإبل يحمل 
بعيراً على كاهله له رغاء وثقل يعدل الجبل العظيم. ومانع زكاة البقر يحمل ثورا 
على كاهله له خوار وثقل يعدل الجبل العظيم ‏ والرغاء والخوار كالرعد القاصف 
- ومانع زكاة الزرع يحمل على كاهله اعدالا قد ملئت من الجنس الذي كان 
يبخل به. برا كان أو شعيراً. أثقل ما يكون. ينادى تحته بالويل والثبورء 
ومانع زكاة المال يحمل شجاعاً أقرع له زبيبتان. وذنبه قد صب في منخره, 
واستدار بجيده. وثقل على كاهله, حتى كأنه طوق به كل رحى في الأرض. 
وكل واحد ينادي ما هذا فتقول هم الملائكة: هذا ما بخلتم به رغبة فيه وشحاً 
عليه. وهو قوله تعالى سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة» [آل عمران: 
] وآخرون قد عظمت فروجهم وهي تسيل صديداً تتأذى بنتنهم جيرانهم » 
واخرون قد صلبوا على جذوع النيران. واخرون قد خرجت السنتهم على 
صدورهم أقبح ما يكون؛ وهم الزناة واللاطة والكاذبون,. وآخرون قد عظمت 
بطونهم كال جبال الرواسي. وهم آكلو الربا. وكل ذنب قد بدا سوء ذنبه ظاهراً 
عليه . 
فصل 

فينادي الجليل جل جلاله يا مد ارفع رأسك. وقل يسمع لك. واشفع 
تشفع. فيقول يَلِنَهِ : يا رب افصل بين عبادك! فقد طال مقامهم. وقد أفصح 
كل واحد بذنبه في عرصات يوم القيامة. فيأتي النداء نعم يا مد ؛ ويأمر الله 
بالجنة فتزخرف ويؤق بها ولها نسيم طيب أعبق ما يكون وأزكى؛ فيوجد ريحها 
مسيرة خمسمائة عام, فتبرد القلوب, وتحيا النفوس. إلا من كانت اعاهم خبيثة 


١15 


فإنهم منعوا من ريحهاء فتوضع عن يمين العرش . ثم يأمر الله تعالى أن يؤقى بالنار, 
فترعب وتفزع, وتقول للمرسلين إليها من الملائكة: أتعلمون أن الله خلق خلقاً 
يعذبني به؟ فيقؤلون: لا وعزته! وإنما أرسل إليك لتنتقمي من عصاة ربك . 
ولثل هذا اليوم خلقت؛ فيأتون بها تمشي على أربع قوائم. تقاد بسبعين ألف 
زمام. في كل زمام سبعون ألف حلقة لو جمع حديد الدنيا كله ما عدل منها 
حلقة واحدة. على كل حلقة سبعون ألف زباني لو أمر زباني منهم أن يدك 
الجبال لدكها وأن يبد الأرض دهاء وإذا لها شهيق ودوي وشرر ودخان. 
تفور حتى تسد الأفق ظلمة. فإذا كان بينها وبين الخلق مقدار ألف عام انفلتت 
من أيدي الزبانية حتى تأتي إلى أهل الموقف وها صلصلة وتصفيق وسحيق فيقال: 
ما هذا ؟ فيقال: جِهم انفلتت من أيدي سائقيها وم يقدروا على إمساكها لعظم 
شأنهباء فيجثو الكل على الركب . حتى المتوسلون, ويتعلق إبراهيم وموسى وعيسى 
بالعرش. هذا قد نسبي الذبيح. وهذا قد نسي هارونء, وهذا قد نسي مريم, 
ويجخعل كل واحد منهم يقول: يا رب نفسبي لا أسألك اليوم غيرها - وهو 
الأصح عندي - وشمد عليه الصلاة والسلام يقول: أمتي أمتي سلمها وغيها يا 
رب! وليس في الموقف من تحمله ركبتاه وهو قوله تعالىى : لإوترى كل أمة جائية 
كل أمة تدعى إلى كتابها » [ الجائية: 54 ] وعند تفلتها تكبو من الحنق والغيظ 
وهو قوله تعالى: # إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا ها تغيظاً وزفيرا » 
[ الفرقان: ١‏ ] أي تعظياً وحنقاً؛ يقول سبحانه وتعالى تكاد تميز أي تكاد 
تنشق نصفين من شدة غيظها فيبرز َيه ويأخذ بخطامها ويقول لها ارجعي 
مدحورة إلى خلفك حتى تأتيك أفواجك ! فتقول: خل سبيلي فإنك يا جمد عل 
حرام فينادي مناد من سرادقات العرش: اسمعي منه وأطبعي له! ثم تجذب 
و تجعل عن شهال العرش . ويتحدث أهل الموقف بجذبها. فيخف وجلهم وهو قوله 
تعالى: #وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين» [الأنبياء : ٠١0‏ ] فهناك ينصب 
الميزان. وهو كفتان: كفة من نور عن يمين العرش , وكفة عن يساره من ظلمة . 


1 / 


ثم يكشف الجليل عن ساقه فيسجد الناس تعظباً له وتواضعاً. إلا الكفار فإن 
أصلابهم تعود حديداً فلا يقدرون على السجود وهو قوله تعالى يوم يكشف 
عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون4 [ القام: ؟ ] وروى البخاري في 
تفسيره مسنداً إلى رسول الله يلم قال « يكشف الله عن ساقه يوم القيامة فيسجد 
كل مؤمن ومؤمنة » وقد أشفقت من تأويل الحديث وعدلت عن منكريه, وكذا 
أشفقت من ذكر صفة الميزان وزيفت قول واضعيه بلمثل وجعلته محيزاً إلى العالم 
الملكوتي. فإن الحسنات والسيئات أعراض ., ولا يصح وزن الأعراض إلا بالميزان 
الملكوتي . فبيا الناس ساجدون إذ نادى الجليل بصوت يسمعه من بَعْد كيا يسمعه 
من قَرّب: أنا الملك أنا الديان ‏ حكاه البخاري ‏ لا يجاوزني ظم ظالم. فإن 
جاوزني فأنا الظالم. ثم يحكم بين البهائم, ويقتص للجاء من القرناء , ويفصل بين 
الوحش والطير, ثم يقول لما: كوني تراباً! فتسوى بها الأرض . ويتمنى الكافر 
فيقول يا ليتني كنت تراباً! ثم يخرج النداء من قبل الله: أين اللوح المحفوظ , 
فيرى به هوج عظم فيقول الله: أين ما سطرت فيك من توراة وإنجيل وفرقان. 
فيقول: سلبني الروح الأمين؛ فيؤق به يرعد وتصطك ركبتاه فيقول الله: يا 
جبريل هذا اللوح يزعم أنك نقلت منه كلامي ووحبي أصدق؟ فيقول: نعم يا 
رب! فيقول له: فما فعلت فيه ؟ فيقول: أنهيت التوراة إلى موسى . والانجيل إلى 
عيسى. والفرقان إلى جمد يَلِنّهِ . وأنبيت إلى كل رسول رسالته. وإلى أهمل 
الصحف صحائفهم. فإذا بالنداء : يا نوح! فيؤق به يرعد وتصطك فرائصه 
فيقول له: يا نوح زعم جبريل أنك من المرسلين. قال: صدق. فيقول له: ما 
فعلت مع قومك؟ قال: دعوتهم ليلا ونهاراً فلم يزدهم دعائي إلا فراراً. فإذا 
بالنداء : يا قوم نوح! فيؤق بهم زمرة واحدة فيقال هذا أخوك نوح يزعم أنه 
بلغكم الرسالة. فيقولون: يا ربنا كذب ما بلغنا من شيء . وينكرون الرسالة ؛ 
فيقول الله: يا نوح ألك بينة عليهم ؟ فيقول: نعم يا رب بينتي عليهم جمد وأمته ؛ 
فيؤق بالنبي فيقول الله عز وجل: يا مد هذا نوح يستشهدك. فيشهد له بتبليغ 


1١178 


الرسالة ويقرأ عَم «إنا أرسلنا نوحاً © 1[ نوح: ١‏ ] إلى آخرها فيقول الجليل: 
قد وجب عليكم الحق وحقت عليكم كلمة العذاب, فقد حقت على الكافرين؛ 
فيؤمر بهم زمرة واحدة إلى النار من غير وزن عمل ولا حساب. ثم ينادى : أين 
عاد؟ فيفعل قوم هود مع هود كا فعل قوم نوح مع نوح. فيشهد عليهم النبي 
وخيار أمته فيتلو #8 كذبت عاد المرسلين» [الشعراء: ١5+‏ ] فيؤمر بهم إلى 
النار. ثم ينادى: يا صالح ويا ثمود ! فيأتون فيستشهدون عندما ينكرون النبي 
يله ٠‏ فيتلو # كذبت ثمود المرسلين» [الشعراء: ]١4١‏ إلى آخر القصة. 
فيفعل بهم مثلهم. ولا يزال يخرج أمة بعد أمة قد أخبر عنهم القرآن بياناً . 
وذكرهم فيه إشارة. كقوله تعاللى #وقروناً بين ذلك كثيراً » [ الفرقان: 78 ] 
وقوله ثم أرسلنا رسلنا تترى كلما جاء أمة رسوها كذبوه» [ المؤمنون: 45 ] 
وقوله #والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله جاءتهم رسلهم» [ إبراهيم: 4 ] 
وفي هذا تنبيه على أولئك القرون الطاغية كقوم يارخ ومارخ ودوح وأسر وما 
أشبه ذلك حتى ينتهي النداء إلى أصحاب الرس وتبّع وقوم إبراهيم؛ وفي كل 
ذلك لا يروج أي يرتفع هم ميزان؛ ولا يوضع لهم حساب, وهم عن ربهم 
يومئذ حجوبون, والترججان يكلمهم , لأن من نظر إليه الله وكلمه لم يعذب. ثم 
ينادى بموسى فيأتي وهو كأنه ورقة في ريح عاصف فيقول له: يا موسى إن 
جبريل زعم أنك بلغت الرسالة والتوراة؛ فتشهد له بالبلاغ؟ قال: نعم. قال: 
فارجع إلى منبرك واتل ما أوحي إليك! فيرقى المنبر ويقرأ فينصت كل من في 
الموقف. فيأق بالتوراة غضة طرية على حسبها يوم أنزلت حتى يتوهم الأخبار 
أنهم ما عرفوها يوماً. ثم ينادى: يا داود ! فيأي وهو يرعد كأنه ورقة في ريح 
عاصف. ويقول جل ثناؤه: يا داود زعم جيريل أنه بلغك الزبور؛ فتشهد له 
بالبلاغ؟ فيقول: نعم يا رب, فيقول له: ارجع إلى منبرك واتل ما أوحي إليك! 
فيرقى ويقرأ وهو أحسن صوتاً ‏ وفي الصحيح أنه صاحب مزامير أهل الجنة - 
فيسمع صوته أمام تابوت السكينة فيقتحم الجموع ويتخطى الصفوف حتى يصل 


8 


إلى داودء فيتعلق به فيقول: أما وعظك الزبور حتى نويت لي شرا ؟ فيخجله 
ويسكته مفحاً ؛ فيرتج الموقف لما يرى الناس من شأن داود عليه السلام . ثم يتعلق 
به فيسوقه إلى الله فيرخى عليهم السترء فيقول: يا رب أنصفني منه! فإنه 
تعمدني بالفلاك. وجعلني أقاتل حتى قتلت. وتزوج امرأقي وعنده يومئذ تسع 
وتسعون امرأة غيرها؛ فيلتفت الجليل إلى داود فيقول له: أصدق فها يقول؟ 
فيقول له: نعم يا رب, وهو منكس رأسه حياءً وتوقعاً لما ينزل به من العذاب, 
ورجاء فها وعده الله من المغفرة؛ فكان إذا خاف نكس رأسه. وإذا طمع ورجا 
رفعه ؛ فيقول الله تعالى : قد عوضتك عن ذلك كذا وكذا من القصور والولدان» 
فيقول: رصيت يا رب. ثم يقول لداود : اذهب قد غفرت لك . 


وكذا ثأنه سبحانه وتعالى مع من أكرمه. يعطى عنه من سعة رفده وعظم 
عفوه, ثم يقول له: ارجع إلى منبرك واقرأ بما بقي من الزبور ! فيفعل حينئذ . 
فيؤمر ببني إسرائيل أن ينقسموا قسمين: قسم مع المؤمنين وقسم من المجرمين. عم 
ينادي المنادي: أين عيسى ابن مريم؟ فيؤق به فيقول له: أنت قلت للناس 
اتخذوني وأمي إلهين من دون الله؟ فيحمد ما شاء الله ويثني عليه كثيراً. م 
يعطف على نفسه بالذم والاحتقار ويقول #سبحانك ما يكون لي أن أقول ما 
ليس لي بحق. إن كنت قلته فقد علمته, تعلم ما في نفسي ولا أعام ما في نفسك 
إنك أنت علام الغيوب » [المائدة: ١١7‏ ] فيضحك الله تعالى ويقول # هذا 
يوم ينفع الصادقين صدقهم » [ المائدة: ]1١1١9‏ صدقت يا عيسى ارجع إلى 
منبرك واتل الانجيل الذي بلغك جبريل! فيقول: نعم, ثم يقرأ فتشخص إليه 
الرؤوس من حسن ترديده وترجيعه, فإنه أحكم الناس به رواية, فيأتي به غضاً 
طرياً حتى يظن الرهبان أنهم ما علموا منه آية قط. ثم ينقسم النصارى فرقتين: 
المجرمون مع المجرمين, والمؤمنون مع المؤمنين. ثم يخرج النداء : أين مد ؟ فيؤق 
به لَه فيقول له: يا حمد هذا جبريل يزعم أنه بلغك القرآن. فيقول: نعم يا 


رب» فيقال له: ارجع إلى منبرك واقرأ! فيتلو عَم القرآن فيأتي به غضاً طرياً 
عليه حلاوة يستبشر بها المتقون؛ وإذا وجوههم ضصاحكة مستبشرة, والمجرمون 
وجوههم مغبرة. ويستدل على السؤال المتقدم للرسل والأمم يقوله تعالى 
«فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين» [ الأعراف: 7 ] وقيل بقوله 
تعالى «إيوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لا عام لنا إنك أنت علام 
الغيوب © [ المائدة: ]٠١9‏ والأول أصح . حكيناه في «الاحياء » لأن الرسل 
يتفاضلون والمسيح عليه السلام من أجلهم لأنه روح الله وكلمته. فإذا تلا النبي 
لَه القرآن توهمت الأمة أنهم ما سمعوه قط ؛ وقد قالوا للأصمعي: تزعم أنك 
أحفظهم لكتاب الله تعالى. قال: يا ابن أخي يوم أسمعه من النبي يَِنَهِ كأني ما 
سمعته قط. فإذا فرغت قراءة الكتب خرج النداء من قبل سرادقات الجلال: 
«إوامتازوا اليوم أيها المجرمون» [ يس: 04 ] فيرتج الموقف ويقوم فيه دوع 
عظيم , والملائكة قد امتزجت بالجن والجن ببني آدم. ولج الكل لجة واحدة. ثم 
يخرج النداء : يا آدم ابعث من بنيك بعثا إلى النار! فيقول: كم يا رب؟ فيقول 
له: من كل ألف تسعرائة وتسعة وتسعين إلى النار وواحداً إلى الجنة. فلا يزال 
يستخرج من سائر الملحدين والغافلين والفاسقين حتى لا يبقى إلا قدر حفنة 
الرب كما قال الصديق: نحو حفنة من حفنات الرب. ثم يقرب اللعين بالشياطين 
فمنهم من يزيغ له الميزان فإذا سيئاته ترجح على حسناته ؛ وكل من وصلت له 
الشريعة لا بد له من الميزان. فإذا اعتزلوا وأيقنوا أ:مهم هالكون قالوا : آدم ظلمنا 
ومكن الزبانية من نواصينا ؛ فإذا النداء من قبل الله تعالى : لا ظام اليوم إن الله 
سريع الحساب» [غافر: ١07‏ ] فيستخرج لهم كتاب عظيم يسد ما بين المشرق 
والمغرب فيه جميع أعبال الخلائق. فا من صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها «إولا 
يظام ربك أحداً » [ الكهف: 54: ] وذلك أن أعبال الخلائق كل يوم تعرض على 
الله فيأمر الكرام البررة أن ينسخوها في ذلك الكتاب العظيم وهو قوله تعالى: 
«#إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون» [ الجائية : 59 ] ثم ينادى بهم فرداً فرداً 


حون 


فيحاسب كل واحد منهمء فإذا الأقدام تشهد, واليدان تشهدان وهو قوله 
تعالى : يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيدهم وأرجلهم بما كانوا يعملون » [ النور : 
]. وقد جاء في الخبر أن رجلاً منهم يوقف بين يدي الله تعالى فيقول له: يا 
عبد السوء كنت مجرماً عاصياً. فيقول: ما فعلت؛ فيقال له عليك بينة؛ فيؤق 
بحفظته فيقول: كذبوا عل ويجادل على نفسه وهو قوله تعالى: يوم تأي كل 
نفس تحادل عن نفسها » [ النمل: ١١١‏ ] ويختم على فيه وهو قوله تعالى : « اليوم 
نختم على أفواههم وتكلمنا أيد.هم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون» [ يس : 
6 ] فتشهد جوارحه عليه فيؤمر به إلى التارء فيجعل يلوم جوارحه فتقول له: 
ليس عن اختيارناء أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء . ثم يدفعون بعد الفراغ إلى 
خزنة جهنم فترتج أصواتهم بالبكاء والضجيج. ويكون لهم رجة عظيمة حين 
يعرض الموحدون المؤمنون. فتحدق بهم الملائكة تلقى كل واحد منهم يقول: 
هذا يومكم الذي كنتم توعدون4 [ الأنبياء : ٠١+‏ ]. والفزع الأكبر في أربعة 
مواضع : عند نقر الناقور. وعند تفلت جهم من الخزنة. وعند إخراج بعث 
أدم وعند دفعهم إلى الخزنة. فإذا بقي الموقف ليس فيه إلا المؤمنون. 
والمسلمون المحسنون, والعارفون,. والصديقون. والشهناء . والصالحون. 
والمرسلون. ليس فيهم مرتاب ولا منافق ولا زنديق فيقول الله تعالى: يا أهل 
الموقف من ربكم ؟ فيقولون: الله؛ فيقول لهم : تعرفونه ؟ فيقولون: نعم ؛ فيتجلى 
لهم ملك عن يسار العرش لو جعلت البحار السبعة في نقرة إبهامه ما ظهرت 
فيقول لهم: أنا ربكم؛ بأمر الله ؛ فيقولون: نعوذ بالله منك! فيتجلى لهم ملك عن 
يمين العرش لو جعلت البحار الأربعة عشر في نقرة إبهامه ما ظهرت فيقول هم : 
أنا ربكم؛ فيتعوذون بالله منه. ثم يتجلى لحم الله تعالى في الصورة التي كانوا 
يعرفونها وسمعوه وهو يضحك فيسجدون له جميعهم فيقول أهلاً بكم ثم ينطلق 
بهم سبحانه إلى الجنة فيتبعونه فيمر بهم على الصراط والناس أفواج, أعني 
المرسلين ثم النبيين ثم الصديقين ثم المحسنين ثم الشهداء ثم المؤمنين ثم العارفين. 


نضين 


ويبقى المسلمون منهم المكبوب على وجهه, ومنهم المحبوس في الأعراف, ومنهم 
قوم قصروا عن تمام الاإيمان. ومنهم من يجوز الصراط على ماثة عام واخر يجوز 
على ألف عام؛ ومع ذلك كله تحرق النار كل من رأى ربه عياناً لا يضام في 
رؤيته. وأما المسلم والمحسن والمؤمن فقد كشفنا عن مقام كل واحد منهم في 
كتاينا المسمى «١‏ بالاستدراج ؛ وهم في زمرة الانطلاق قد كثر مرورهم وترددهم 
بالجوع والعطش , قد تفتتت أكبادهم, لهم نفس كالدخان» يشربون من الحوض 
بكؤوس عدد نجوم السماء . وماؤه من نهر الكوثر. وقدره من إيلياء إلى صنعاء 
طولاً. وعرضه من عدن إلى يثرب» وهو قوله عليه الصلاة والسلام « منبري على 
حوضي » أي على أحد حافتيه في المكيال والمقدار, والمذادون عنه هم المشتغلون 
في حبس الصراط بمساوي قبائح ذنوبهم؛ فكم من متوضيء لا يحسن أن يسبغ 
وضوءه. وك من مصل لم يسأل عن صلاته اتخذ صلاته حكاية قد عريت من 
الخضوع والخشوع لو قرصه غملة لالتفت., والعارفون بجلال الله لو قطعت أيديهم 
وأرجلهم ما ارتجوا؛ لذلك شغلتهم الهيبة والفكرة لعملهم بقدر من قاموا بين 
يديه. فربما رجل لسعته العقرب في مجلس أمير من الأمراء لم يتحرك صبراً عليها 
وتعظياً للأمير في المجلس ؛ فهذه حالة الآدميين مع المخلوق لا يملك لنفسه نفعا 
ولا ضراً. فكيف حال من يكون قائياً بين يدي الله عز وجل وهيبته وسلطانه 
وعظمته وجبروته! وحكي الظالم العارف أنه يؤتى به إلى الله تعالى فتخرج عليه 
المظالم ويتعلق به المظلوم فيقول له: التفت أيها المظلوم فوق رأسك! فإذا بقصر 
عظم تحار فيه الأبصار فيقول: ما هذا يا رب؟ فيقول: إنه للبيع فاشتره مني ! 
فيقول: ليس معي ثمنه. فيقول: إن ثمن هذا أن تبريء مظلمة أخيك فالقصر 
لك. فيقول: قد فعلت يا رب. هكذا يفعل الله بالظالمين الأوابين وهو قوله 
تعالى : # فإنه كان للأوابين غفوراً # [ الإسراء : ٠6‏ ] والأواب الذي أقلع عن 
الذنب فام يعد أبداً . وقد سمي داود عليه السلام أواباً وغيره من المرسلين. 


فصل 


في كيفية دعاء أهل الموقف وذكر 
الاختلاف فيا جاء في تفسيره 


وفي الصحيح أن أول ما يقضي الله تعالى في الدماء» وأول من يعطي الله 
أجورهم: الذين ذهبت أبصارهم. نعم ينادى يوم القيامة بالمككفوفين فيقال لهم: 
أنتم أحرى» أي أحق من ينظر إليه, ثم يستحي الله منهم فيقول لهم : اذهبوا إلى 
ذات اليمين! ويعقد لهم راية. وتجعل في يد شعيب عليه السلام. فيصير أمامهم 
العروس . فيمر بهم على الصراط كالبرق الخاطف, وصفة أحدهم في الصبر والحام 
كابن عباس ومن ضاهاه من هذه الأمة. م ينادى : أين أهل البلاء ؟ ويريد 
المجذومين. فيؤى بهم فيحييهم الله بتحية طيبة بالغة» فيؤمر بهم إلى ذات اليمين 
ويعقد لهم راية خضراء وتجعل بيد أيوب عليه السلام فيصير أمامهم إلى ذات 
اليمين؛ وصفة المبتلى صبر وحام: كعقيل بن أبي طالب ومن ضاهاه من هذه 
الأمة. ثم ينادى : أين الشباب المتعففون؟ فيؤق بهم إلى الله فيترحب بهم ويقول 
ما شاء الله أن يقول, ثم يأمر بهم إلى ذات اليمين ويعقد لهم راية خضراء, ثم 
تجعل في يد يوسف عليه السلام ويصير أمامهم إلى ذات اليمين؛ وصفة الشباب 
المتحابون في الله؟ فيؤتى بهم إلى الله فيترحب بهم ويقول ما شاء الله ثم يأمر بهم 
إلى ذات اليمين؛ وصفة المتحابين في الله صبر وحم لا يسخط ولا يسيء من 
توارد الأحوال الدنيوية كأبي تراب أعني على بن أني طالب رضي الله عنه ومن 
ضاهاه من هذه الأمة. ثم يخرج النداء : أين الباكون من خشية الله ؟ فيؤق بهم إلى 
الله فتوزنت دموعهم ودماء الشهداء ومداد العلياء فير جح الدمع ' فيؤمر بهم إلى 


3 


ذات اليمين ويعقد لهم راية ملونة لأنهم بكوا في أنواع مختلفة: هذا بكى خوفاً. 
وهذا بكى طمعاً. وهذا بكى ندماً. وتجعل بيد نوح عليه السلام فتهم العلماء 
بالتقدم عليهم ويقولون علمنا أبكاهم. فإذا النداء : على رسلك يا نوح ! فتوقف 
الزمرة ثم يوزن مداد العلماء ودم الشهداء فيرجح دم الشهداء على مداد العلياء . 
فيؤمر بهم إلى ذات اليمين ويعقد هم راية مزعفرة ومجمل في يد يحى ثم ينطلق 
أمامهم. فهم العلماء بالتقدم. ويقولون: عن علمنا قاتلواء فنحن أحق منهم 
بالتقدم؛ فيضحك الله عز وجل ويقول: هم عندي كأنبيائي اشفعوا فيمن 
تشاءون! فيشفع العالم في أهل بيته وجيرانه وإخوانه, ويأمر كل واحد منهم 
ملكا ينادي في الناس : ألا إن فلاناً العالم قد أمره الله أن يشفع فيمن قضى له 
حاجة أو أطعمه لقمة أو سقاه شربة ماء حين عطش ؛ فيقوم إليه من فعل معه 
شيئاً من ذلك فيشفع له. وفي الصحيح « أن أول من يشفع المرسلون ثم النبيون ثم 
العلماء » ؛ ويعقد لهم راية بيضاء تجعل في يد إبراهيم عليه السلام فإنه اشد المرسلين 
مكاشفة. ونضرب عن هذا الفن. ثم ينادي مناد : أين الفقراء ؟ فيؤق بهم إلى الله 
تعالى » فيقول لهم: مرحباً بمن كانت الدنيا سجنهم؛ ثم يأمر بهم إلى ذات اليمين 
وتعقد لهم راية صفراء وتجعل في يد عيسى عليه السلام ويصير أمامهم إلى ذات 
اليمين. ثم ينادى: أين الأغنياء ؟ فيؤقى بهم إلى الله تعالى فيعدد لهم ما خوهم 
خسمائة عام, ثم يأمر بهم إلى ذات اليمين وتعقد هم راية ملونة وتجعل بيد سلهان 
عليه السلام ويصير أمامهم إلى ذات اليمين. وني الحديث ١‏ أن أربعة يستشهد 
عليهم بأربعة : ينادى بالأغنياء وأهل الغبطة فيقال لهم : ما شغلكم عن عبادة الله ؟ 
فيقولون: أعطانا ملكا وغبطة شغلتنا عن القيام بحقه , فيقال: من أعظم ملكا أنتم 
أم سلبان ؟ فيقولون: سليان, فيقال: ما شغله ذلك عن القيام بحقي. ثم يقال: 
أين أهل البلاء ؟ فيؤتى بهم فيقولون لهم: أي شيء شغلكم عن عبادة الله؟ 
فيقولون: ابتلانا الله في الدنيا فشغلنا عن ذكره والقيام بحقه, فيقال لهم: من أشد 
بلاء أنتم أم أيوب؟ فيقولون: أيوب. فيقال لهم: ما شغله ذلك عن القيام بحق 


1١7 


الله. ثم ينادى أين الشباب والماليك ؟ فيؤتى بهمء فيقال لهم : ما شغلكم عن عبادة 
الله؟ فيقولون: أعطانا جالاً وحسناً فنا به فكنا مشغولين عن القيام بحقه؛ 
وتقول الماليك : شغلنا رق العبودية. فيقال لهم: أنم أكثر جالاً أم يوسف؟ 
فيقولون: يوسف. فيقال لهم: ما شغله ذلك وهو في الرق عن القيام بحق الله. ثم 
ينادى: أين الفقراء ؟ فيؤتٍ بهم. فيقال لهم: ما شغلكم عن القيام بحق الله؟ 
فيقولون : ابتلينا في الدنيا بالفقر فشغلنا عن القيام بحق الله؛ فيقال لهم: من أشد 
فقرأً عيسى أم أنتم ؟ فيقولون: عيسىء فيقال: ما شغله عن ذكرنا ». فمن ابتلي 
بشيء من هذه الأربع فليذكر صاحبه. وقد كان عَم يقول في دعائه « اللهم إني 
أعوذ بك من فتنة الغنى والفقر» فاعتبروا بالمسيح فقد صح أنه ما كان يملك 
شيئاً قط. وقد لبس جبة صوف عشرين سنة, وما كان له في سياحته إلا كوز 
وسبحة ومشطء فرأى يوماً رجلاً يشرب بيده فرمى الكوز ولم يمسكه بعدء 
ورأى رجلا آخر يخلل لحيته بيده فرمى المشط من يده ولم يمسكه بعد. 
وكان يقول عليه السلام : دابتي رجلاي. وبيوتي كهوف الأرض» وطعامي 
نباتهاء وشرالي أنهارها. وني بعض الصحف المنزلة: يا بن آدم حسنة وسيئة من 
أنواع الحياة والقتل متعمداً والخطأ أيضاً إذا استهين بكفارته ولم يقسصء 
فاحذرهما فإنهها فعل عظم ؛ والكبائر قد يرجى لصاحبها الشفاعة بعد التخليص » 
فأكرمهم يخرج من النار بعد ألف سنة وقد امتحش . وكان الحسن البصري رمه 
الله تعالى يقول في كلامه : يا ليتني ذلك الرجل ! ولا شك أنه كان رحمه الله تعالى 
عالماً بأحكام الآخرة. ويؤق يوم القيامة برجل فام يجد حسنة ترجح بها ميزانه أو 
قد اعتدلت بالسوية فيقول الله تعالى له رحمة منه: اذهب في الناس من يعطيك 
حسنة أدخلك بها الجنة؛ فيسير يجوس خلال الناس فيا يجد أحداً يكلمه في 
ذلك. وكل من كلمه وسأله يقول: أخشى أن يخف ميزاني أنا أحوج إليها منك ؛ 
فييأس فيقول له رجل : ما الذي تطلب ؟ فيقول له: حسنة واحدة, فلقد مررت 
بقوم لهم منها ألوف فبخلوا عل فيقول له الرجل: لقد لقيت الله تعالى فيا 


رن 


وجدت في صحيفتي إلا حسنة واحدة وما أظن أنها تغني عني سيأخذها هبة مني 
إليك ؛ فينطلق بها فرحا مسروراً فيقول الله له: كيف جاء لك ؟ وهو سبحانه 
أعام» فيقول ما كان منه مع الرجل , فيدعى بالرجل الذي أعطاه الحسنة فيقول 
الله تعالى: كرمي أوسع من كرمك. خذ بيد اخيك وانطلق إلى الجنة! وإذا 
استوى كفتا الميزان لرجل فيقول الله: لا هو من أهل الجنة ولا هو من أهل 
النار ؛ فيأتي الملك بصحيفة يضعها في كفة السيئات فيها مكتوب «أف» فترجح 
على الحسنة لانها كلمة عقوق. فيؤمر به إلى النار. فيلتفت الرجل ويطلب أن 
يرده الله إليه. فيقول: ردوه! ثم يقول له: أيها العبد العاق لأي شيء تطلب 
الرد ؟ فيقول: إلهي إن رأيت أني سائر إلى النار لا بد لي منها. وكنت عاقاً لأبي 
فضعف على عذاب أي وأنقذه منها! قال فيضحك الله ويقول: عققته في الدنيا 
تررك قي الآخرة» جد بيدا أبيك: وانظلق ريه إلى (الكلة]. فنا من انين يذهب به 
إلى النار إلا والملائكة توقفه لعلمهم بسر أحكام الآخرة. حتى لقد ينادى بقوم 
لا خلاق لهم خلقوا حطباً لها وحشواً فيقال #وقفوهم إنهم مسؤولون» 
[ الصافات: 5؟] فتحبس تلك الزمرة حتى يخرج النداء فيهم: «ما لكم لا 
تناصرون4 [ الصافات: 70 ] فيستسلمون ويعترفون بالذنب كما قال الله تعالى 
#فاعترفوا بذنبهم» [ الملك: ١١‏ ] فيدفعون دفعة واحدة إلى النار. وكذا يؤق 
بأهل الكبائر من الأمة شيوخاً وعجائز ونساء وشباناً. فإذا نظر إليهم مالك 
خازن جهن قال: أنتم معاشر الأشقياء ما لي أرى أيديكم لا تغسل ولم تسود 
وجوهكم؟ ما ورد عل أحسن حالاً منكم؛ فيقولون: يا مالك نحن أشقياء أمة 
همد دعنا نبكي على ذنوبنا ! فيقول لهم : ابكوا فلن ينفعكم البكاء , فكم من شيخ 
وضع يده على لحيته يقول واشيبتاه واطول حزناه! وم من كهل ينادي واطول 
مصيبتاه واذل مقاماه! وم من شاب ينادي واشباباه! وم من امرأة قد قبضت 
على شعرها وهي تنادي واسوأتاه وافضيحتاه! فإذا النداء من قبل الله تعالى : يا 
مالك أدخلهم النار من الباب الأول! فإذا همت النار أن تأخذهم يقولون 


1١/ 


بأجمعهم: لا إله إلا الله فتفر النار منهم مسيرة خسمائة عام. فيأخذون في 
البكاء . وإذا النداء: يا نار خذيهم يا مالك أدخلهم الباب الأول! فعند ذلك 
يسمع صلصلة كصلصلة الرعد فإذا النار همت أن تحرق القلوب زجرها مالك 
وجعل يقول: لا تحرقي قلباً فيه القرآن؛ وكان وعاء للايمان ولا تحرقي جباهاً 
سجدت للرحمن ! فيعودون فيهاء وإذا برجل يعلو صوته على صوت أهل النار 
فيخرج وقد امتحش فيقول الله له: مالك أكثر أهل النار صياحاً ؟ فيقول: يا 
رب حاسبتني ولم أقنط من رحمتك , وعلمت أنك تسمعني فأكثرت الصياح 
فيقول الله تعالى: ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون» [الحجر: 01 ] 
اذهب فقد غفرت لك وكذا يخرج من النار فيقول الله له: خرجت من النار 
فبأي عمل تدخل الجنة؟ فيقول: يا رب ما أسألك منها إلا يسيراً. فترفع له 
شجرة منها فيقول الله: أرأيت إن أعطيتك هذه الشجرة تسألني غيرها ؟ فيقول: 
لا وعزتك يا رب! فيقول الله: هي هبة مني إليك؛ فإذا أكل منها واستظل 
بظلها رفعت له شجرة أخرى أحسن منها فيجعل يكثر النظر إليها فيقول الله 
تعالى : مالك لعلك أحببتها ؟ فيقول: نعم يا رب, فيقول له: إن أعطيتك أياها 
هل تسألني غيرها ؟ فيقول: لا يا رب؛ فإذا أكل واستظل بظلها رفعت له شجرة 
أحسن منها فيجعل ينظر إليها فيقول الله له: إن أعطيتك إياها تسألني غيرها ؟ 
فيقول: لا وعزتك يا رب لا أسألك غيرهاء فيضحك الله عز وجل فيدخله 
الجنة. ومن غريب حكم الآخرة أن الرجل يؤق به إلى الله فيحاسبه ويوبخه 
وتوزن له حسناته وسيئاته وهو في ذلك كله يظن يقيئاً أن الله ما اشتغل إلا 
بحسابه ووزنهء ولعل في تلك اللحظة حاسب فيها آلاف ألوف ما لا يحصى 
يفال اله كل من لظن أن التسناتب :له وصدمم كذ لا برا ينضهم 
بعضاء ولا يسمع أحدهم كلام الآخرء بل كل واحد تحت أستاره. فسبحان من 
هذا شأنه وهو قوله تعالى: ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة» 


[ لقيان: 78 ] وهو في قوله سر عجيب من أسرار الملكوت. إذ ليس لملكه حد 


28 


تخدودء فسسحان من لا يشغله شأن عن شأن! وفٍ هذه الحالة يأني الرجل إلى 
ولده فيقول له: يا بني إني كسوتك حيث لا تقدر تكسو نفسك. وأطعمتك 
طعاماً وسقيتك شراباً حيث كنت عاجزاً عن ذلك». وكفلتك صغيراً حيث 
كنت لا تستطيع دفع الضراء ولا جلب السراءء فكم من فاكهة تمنيتها فابتعتها 
لك. حسبك ما ترى من هول يوم القيامة وسيئات أبيك كثيرة فتحمل عني منها 
ولو سيئة فيخف عني. وأعطني ولو حسنة أزيدها في الميزان! فيفر منه الولد 
ويقول له: أنا أحوج منك إليها. وكذا يفعل الفصيل مع الفصيلة والصاحب 
والأخ وهو قوله تعالى يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه © 
[ عبس: 74 . 76 . 5 ] «وفصيلته التي تؤويه » [ المعارج: ١‏ ] وني الحديث 
«ويحشر الناس عراة. قالت عائشة رضي الله عنها: واسوأتاه ينظر بعضهم إلى 
بعض ؟ فقرأ النبي عَيْلَِهِ : لكل امرىء منهم يومثذ شأن يغنيه ». لأن شدة الهول 
وعظم الكرب تشغلهم أن ينظر بعضهم إلى بعض . فإذا استقر الناس في صعيد 
واحد طلعت عليهم سحابة سوداء فأمطرتهم صحفاً منشرة. فإذا صحيفة المؤمن 
ورقة وردء وإذا صحيفة الكافر ورقة سدرء والكل مكتوب. فتتطاير الصحف 
فإذا هي بالميامن والمياسر . وليس عن اختيار , وإنما هي تقع بيمينه وبشماله وهو 
قوله تعالى: ونخرج له يوم القيامة كتاباً يلقاه منشوراً © [الإسراء: ]1١‏ 
وحكى بعض السلف من أهل التصنيف أن الحوض يورد بعد جواز الصراط . وهو غلط 
من قائله فإنه تعين أنه يَرِدُه من قد جاز الصراط . ففي السبعة جسور هلك الناس . 
والسبعون ألفاً الذين يدخلونالجنة بغير حساب لا يرفع لهم ميزان ولا يأخذون صحفا , 
وإنماهي براءة مكتوب فيهاولا إلهإلااللهسحمحدرسولاللههذهبراءة 
فلان بن فلان بدخول الجنة ونجاته من النار » فإذا غفرت له ذنوبه أخذ الملك 
بعضده وجاس به خلال الموقف ونادى : هذا فلان بن فلان قد غفر الله له 
ذنوبه وسعد سعادة لا يشقى بعدها أبداً ؛ فما مر عليه شيء أسر من ذلك المقام . 
والرسل يوم القيامة على المنابر والأنبياء والعلماء على منابر صغار دونهم. ومنبر 


الخو 


كل رسول على قدره؛, والعلماء العاملون على كراسي من توره. والشهداء 
والصالحون كقراء القرآان والمؤذنون على كثبان المسك. وهذه الطائفة العاملة 
أصحاب الكراسي هم الذي يطلبون الشفاعة من آدم عليه السلام ونوح حتى 
ينتهوا إلى رسول الله مَُِمِ ؛ وقد جاء أن القرآن يأتي يوم القيامة في صورة رجل 
حسن الوجه والخلق فيشفع . فيشفع الإسلام مثله. فيخصم ويخاصم عن صاحيبه؛ 
وقد ذكرنا حكاية الإسلام مع عمر بن الخطاب رضي الله عله في كتاب 
«الااحياء » بعد مخاصمته ؛ فيتعلق به من شاء الله فيهوي بهم إلى الجنة. وكذلك 
تأتي الدنيا في صورة عجوز شمطاء أقبح ما يكون فيقال للناس : أتعرفون هذه ؟ 
فيقولون: نعوذ بالله من هذه! فيقال لهم: هذه الدنيا التي كنتم تتحاسدون عليها 
وتتباغضون فيها. وكذلك يؤقى بالجمعة في صورة عروس تزف. فيحدق بها 
المؤمنون. ويحوط بهم كثبان المسك والكافور , عليهم نور يتعجب منه كل من 
رآه في الموقف, فام تزل بهم حتى تدخلهم الجنة. فانظر إلى رحمة الله تعالى وجود 
القرآن والإسلام والجمعة. وكيف هم أشخاص: القرآن موجود جبروتي. 
والإسلام ملكوتي كالصيام والصلاة والصبر . ولا يلتفت إلى من احتج في تلاثي 
الأنفس عند الموت بقوله عَلِكّمِ يوم الخندق: «اللهم رب الأجسام البآلية 
والأرواح الفانية» فإن ذلك كله يحوج إلى العلوم وقد نبهنا عليه في غير هذا 
الكتاب وقصدنا الااختصار لسلوك طريق السنة, ولا يلتفت إلى البدع الطارئة 
على الشريعة من شياطين الاإنس . فبشر المؤمنين بالرشاد وسلوك المراد . 

نسأل الله العصمة والتوفيق بمنه وكرمه آمين. وحسبنا الله ونعم الوكيل. 
وصلى الله على سيدنا جمد وعلى اله وصحبه وسام. 


[ انتهى كتاب الدرّة الفاخرة في كشف علوم الآخرة ]. 


١1 


فهرس 
سر العالمين 
القت الأول 


الموضوع 

خطية الكتاب 

ترجمة الأبواب وهي ثلاثون مقالة 

فصل تضمن نبذأ من قصة ذي القرنين 

قصة السلطان ابن سملتكين وقد نفذ رسولاً إلى ملك المند 
السلطان ظل الله في الأرض 

باب الترتيب في قعود الملك وسياسته ونومه وليلته 

فصل وهو المقالة الثالثة : في تنظهات ملكية 

باب في ترتيب الخلافة والمملكة 

فصل وهي المقالة الخامسة: ترتيب الملك في الملك 


فصل وهو المقالة السادسة : في ترتيب الولاة 0 
فصل وهو المقالة السابعة: في ترتيب حاشية الدولة 01000 


من لطائف الحكايات الملكية 


فصل وهو المقالة الثامنة : في اداب ملكية وواف وا ةر ة ةراما ل رمق ره 


فصل وهو المقالة التاسعة: في ترتيب الخباز والطباخ والقصاب 


فصل وهو المقالة العاشرة: في صنيع الملك مع الجيش 5252 


ووم مم 6069666 مه 


ممة ةو و وثوة ووه 


الموضوع الصفحة 


فصل وهو المقالة الثانية عشرة: في ذكر صفات منام الملك م 7 
فصل وهو المقالة الثالثة عشرة: في حيل اليمين اط شا ام 78 
خبر استخلاف الأمين وفرار المأمون إلى أصفهان ثم انتصاره على الأمين . 79 
كرم سيدنا إبراهيم عليه السلام ا م ماق م اا 
ماعة الإجابة يوم الجمعة ا ب و ا 
قصة عيسى عليه السلام مع جالينوس 00009 0 0 0 0 
قصة أبي العلاء المعري مع الوزير الذي وشىبه انوا او ل 
سر العالمين 


في الكلام على الناموس ا 
القرآن المجيد هو المعجز الأكبر والناموس الأعظم جم 1 
المقالة الرابعة عشرة: في المواعظ التي تجلب بها قلوب الناس إلى طاعة الملك 40 
المقالة الخامسة عششرة: في قطع دليل المستدل الوقن طخس و قا ا 517 
المقالة السادسة عشرة: في كتاب الطهارة وآدابها وأسبابها 01 
كتاب الصلاة. وهو مقالتان ا 1 010 
المقالة السابعة عشرة: في أن خواص الأشياء غير محصورة فتؤخذ بذواتها 00 
من خواص سورة الواقعة 0 
من خواص سورة الدخان امود وكاس 10 اساسا 66 
من خواص سورة الكهف 00000 100000000 
مسألة في تعجيز المنجم 000000 


١ 


الموضوع 

ذكر كلمات تذل الملوك 1 1 2711111 
ذكر كلمات يأمن بها الخائف من السلطان بقدرة الله 
ذكر كليرات تصدق بها عند لسان السلطان 520 
ذكر كلمات تفرق بها بين جماعة فاسدة تخافهم .... 
ذكر ما يبغض ببن الشخصين 00000 


صفة عمل المسك م ل 
المقالة الثامنة عشرة: في عزائم التسخير 

المقالة التاسعة عشرة : في الأشربة 1552-0 
من توجيهات السنة إلى فوائد التين 010 
المقالة العشرون : في المأكل والمشرب وآداب المائدة 
المقالة الحادية والعشرون: في تهذيب النفوس 

المقالة الثانية والعشرون: في الأذكار 2000 
المقالة الثالثئة والعشرون: في جهاد النفس والتدبير . 


وافة ومة و وموم مو ة ووو وو وودوة 


وممء.ثء. مو روه مو ووو م6 رمو وومةه 


ففوووة ومو و تو و قوق ووة وو مثةه 


ووه وو ةو ووو عو وو نو دوم ه066 


ووقم مث ووم ثوءة م وام نوو وة 6م56 


وفهوق ور ووم ف ووو مم رمو زر قوونوه 


وفع ةم وو 6و ووم م مهمو 


وقوه وو وهو ووو و قووهة د وقوقوووة 


المقالة الرابعة والعشرون : في المحبة والشوق والمشاهدة والمكاشفة والمواعظ 


والزواجرالئقلية والعقلية ام ا 
ذكر الشوق والمكاشفة 0 
فصل في الزواجر والوعظيات كيك رده رودلا ار ا 21 
المقالة الخامسة والعشرون: في العلم والعمل 206 
فصل في أعاجيب الفنون والأسفار 0000 
فصل في علو الهمم ونيلها لمقاصدها 5*6 


1١5 


فافع ةة م ههه ورووهة وو وم عوثع وقوه 


وومه وو وه وو ووو ووو وو ومو 


ووق عو ةو مم رعو ةر و ونوةدون ووه 


هووج هو ووم ووم وو و ومع 0666 


فهرس الدرة الفاخرة في كشف علوم الآخرة 


الموضوع الصفحة 
خطية الكتاب 4 
الموتات الثلاث للعالمين 11 
فصل في أمثال الذر من المسح على ظهر آدم 06١‏ 
فصل في الموتة الدنيوية 6١١‏ 
فصل في موت الفاجر ا 
عواقب جماعات من الناس /7غع ١١‏ 
فصل في أحوال الموتى الفجرة في القبور ١1١‏ 
تحريم كسر عظم الميت ١١‏ 
الميت يعذب ببكاء أهله 01 
فصل في أحوال أهل القبور ١‏ 
فصل في أحوال الدنيا عند قيام الساعة وما بعد ذلك حمل 
فصل في الاقامة التي بين النفختين 0 
فصل في أحوال الناس في المحشر ١1‏ 
فصل في شفاعته عه هيل 
فصل في كيفية دعاء أهل الموقف وذكر الاختلاف فما جاء في تفسيره  ١١1‏ 
الشفعاء يوم القيامة ١‏ 
أربعة يستشهد عليهم بأربعة اين 
خاتمة الكتاب ١4‏ 
الفهر س ١1١‏ 


ل 


هذه 


مه 


ك١‎ 


7 
فل سس مخ د هه 


5 
لامكا م تح الإمل كار 
5 رج سم م ا 7 آذآ ا : 
و حاو سك مدان ع الاك 
الع قر و سس ب ل[ اس ل 
عر ايان وهار شرو وَصع ءَوابم 
ف 0 رت 
تيد ددر 
4_- اقرغ 5-4 
ه ١‏ 25 مر ١‏ الفتلؤانت 
٠‏ قانويت التأويتل 


ُ 4 :2 ل 2 سي ع 


تقديم 

الحمد لله الذي هدانا للحق « وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ». والصلاة 
والسلام على سيدنا مد الحادي إلى سنن ربه. المهتدي بوحيه وقرآنه, وعلى آله 
وصحبه المنتجبين الكرام . 

أما بعد : 

يرى أكثر المؤرخين والباحثين أن أصول الفلسفة الإسلامية ترجع في نشأتها 
وزرع بذورها الأول إلى فرقة المعتزلة الذين كانوا أول من حاول التوفيق بين 
الدين والعقل في الإسلام. وقد أداهم بحثهم في العقائد الدينية» وبالتالي مناظرة 
خصومهم في أرائهم. إلى معالجة بعض المسائل الفلسفية. فرغبوا لذلك في 
الاطلاع على مذاهب الفلاسفة اليونانيين وغيرهم. وقد أدى ذلك إلى انتعاش 
حركة الترجمة في العالم الإسلامي فها بعد. حيث نقلت كتب أرسطو وغيره من 
فلاسفة الاغريق إلى اللغة العربية ( مياشرة من اللغة اليونانية إلى اللغة العربية أو 
غير مباشرة عبر اللغة السريانية كوسيط بين اللغتين اليونانية والعربية. حيث كان 
جزء كبير من التراث الفلسفى اليوناني قد نقل إلى اللغة السريانية قبل ازدهار 
الترجة إلى اللغة العربية). .. 

بعد اطلاع المسلمين على الفلسفة اللإغريقية. تشعب الفكر الفلسفي الاإسلامي 
بخطوطه العريضة إلى ثلاث شعب رئيسية, انضم أكثر المفكرين تحت لواء واحدة 
منها بطريقة أو بأخرى؛ فقد كان هناك اتحاه يرى في الفلسفة اليونانية ( وخاصة 


فلسفة أرسطو) الصورة العليا للحقيقة. فسعى أصحاب هذا الاتجاه إلى إخضاع 
العقائد الدينية لمباديء هذه الفلسفة, فبرروا العقائد بها. وجعلوا الفلسفة أصلاً 
والدين تابعاً وفرعاً. فكان من الطبيعي أن يثير ذلك معارضة شديدة لدى فرقة 
المتكلمين ( وهم يمثلون الاتجاه الثاني) فهبوا يدافعون عن الإسلام وعقائده في 
وجه الحجمة الأرسطية إذا صح التعبير. ولكن هؤلاء المتكلمين اضطروا في 
دفاعهم عن عقائدهم للاستعانة بحجج الفلاسفة انفسهم, من منطق وغيره؛ وكان 
لاشتغالهم بالفلسفة أثر كبير في إدخال الكثير من النظريات العلمية في علم 
الكلام . مثل نظرية ٠‏ الجوهر الفرد » التي أخذها المتكلمون من الفلسفة الطبيعية 
اليونانية» ولكنهم تومعوا فيها وحوروها لتناسب أغراضهم الدينية . وهكذا 
وصل الأمر إلى وضع نرى فيه فئة المتفلسفين تحاول إخضاع العقائد الدينية 
للنظريات الفلسفية , بينا نجد فئة المتكلمين وهي تبدل وتحور النظريات الفلسفية 
والعلمية لتتناسب والعقائد الديئية. فكان 531 ذلك أن ظهرت الطريقة 
الصوفية ( باعتبارها منهجاً يستند إلى قواعد وأصول) فرأى المتصوفة أن الجدل 
الفلسفي الكلامي لن يؤدي إلى الوصول إلى المعرفة. فانتهجوا سبيل العيادة 
العملية والكشف الباطني والمشاهدة المباشرة. وانتبذوا وراء ظهورهم الجدل 
الكلامي والتنظير الفلسفي . 

في خضم هذا النقاش السائد في العالم اللإسلامي انذاك, ظهر الغزالي كمفكر 
فذ وعالم عظيم من علاء الإسلام, فانتهج طريقاً وسطأ بين الفلاسفة والمتكلمين 
والمتصوفة؛ فهو لم يعمل كالفلاسفة على إخضاع الدين كلا لقوانين العقل 
وأحكامه, وم يجعل العقل ونظرياته تابعا ثانويًا يخضع للعقائد الدينية» ولم ينبذ 
العقل كليًا كبا كان سائداً في الطرائق الصوفية المنتشرة في عصره؛ بل اتخذ 
لنفسه مذهباً صوفيًا خاضًا به يرتكز على العام والعمل» وعلى الفكر والكشف 
الباطني في نفس الوقت. فالغزالي لم ينكر الحقائق العلمية. طبيعية كانت أو 
رياضية. بل يعترف بصحة براهينها ولا يشك في صحة استنتاجاتها . ولكنه يحد 


من نطاق العقل, فلا يجعل العقائد الدينية مستندة عليه كليًّا, ولا يحصرها في 
نطاق أحكامه وقواعده؛ كما أنه يرفض بناء صرح العلوم على الاعتقاد وحده. 
فهو يجعل لكل من الناحيتين مجالها الخاص : فالعم يستند إلى العقل , والدين ينبع 
من القلب . وهكذا تتمثل أمامنا صوفيته الخاصة باعتباره القلب مصدر الايمان. 
والعقل أساس العم , بما يترتب على ذلك ما سبق وذكرناه من ثنائية العام والعمل 
لدى هذا المفكر العظم . هذه الطريقة التي انتهجها الغزالمي وتميز بها كانت نتيجة 
لجهود فكرية هائلة , ومعاناة نفسية وجسدية ألمح إلى بعض منها في كتابه هذا . 
والحقيقة أن حياة الغزالي تخللها من الغرائب والعواصف والانقلابات ما جعل لما 
أثر كبير في تطوره الفكري ونفسيته . ولعل نبذة قصيرة عن حياته تساعدنا على 
فهم أكمل وأوسع لفكره وفلسفته. 

ولد الامام أبو حامد جمد بن مد بن مد بن أحد الغزالي 0) سنة 460٠‏ ه. 
٠١64(‏ م) في الطابران ( قصبة طوس. بخراسان) وكان والده رجلاً فقيراً 
صالحاً يغزل الصوف ويبيعه في دكانه بطوس. وتوفي والده قبل أن يبلغ سن 
الرشد ؛ وكان قبل وفاته قد أوصى به وبأخيه أحمد إلى صديق له متصوف 
ليأدبهها ويعلمهها الخط. 

تلقى الغزاليي مباديء العربية والفقه في بلده على الإمام أحمد بن جمد 
الراذكاني» ثم انتقل إلى جرجان وهو دون العشرين ودرس على الإمام أبي القامم 
إسماعيل بن مسعدة الإسماعيلي . ثم عاد إلى طوس فمكث بها ثلاث سنين؛ ارتحل 
بعدها إلى نيسابور حيث لازم إمام الحرمين الجويني, ودرس عليه الفقه 
والأصول والجدل والمنطق والكلام والفلسفة . وتعتبر هذه الفترة من حياة الغزالي 


)١(‏ الغزالي: بتشديد الزاي نسبة إلى الغزال على عادة أهل خوارزم وجرجان, فإنهم ينسبون إلى 
القصّار قصاري وإلى العطار عطاري. أو بتخفيفها نسبة إلى غزالة من قرى طوس . قال ابن 
الأثير في اللباب: والتخفيف خلاف المشهور . 


أخصب فترات حياته. ففيها ابتدأ بالتأليف والكتابة؛ وفيها ‏ كها يرى البعض- 
ابتدأت الشكوك تتطرق إلى نفسه . 

بعد وفاة إمام الحرمين (سنة 4لا هم 1٠١86‏ م) خرج الغزالي إلى بلاط 
الوزير نظام الملك السلجوقي وزير السلطان ملكشاه في ظاهر نيسابور. وقد 
أعجب الوزير أشد الإعجاب بع الغزالي ومقدرته على المناظرة, مما حدا به إلى 
نعيينه أستاذا في المدرسة النظامية في بغداد سنة 444 ه  ٠١9١‏ م. وقد نال 
هناك شهرة واسعة حتى ١‏ صار بعد إمامة خراسان إمام العراق» على حد تعبير 
عبد الغفار بن إسماعيل الفارسي . 

في هذه الفترة من حياته في بغداد . انصرف الغزالي إلى البحث والاستقصاء . 
فتفرغ لدراسة الفلسفة دراسة عميقة. حيث اطلع على كتب الفلاسفة المتقدمين 
كالفاراني وابن سيناء ووضع على إثرها كتابه: « مقاصد الفلاسفة» وألف بعده 
كتابه المشهور : « تهافت الفلاسفة », الذي كان الهدف الرئيسى من وراء تأليفه له 
هو هدم المنهج العقلٍ الذي استندت إليه آراء الفلاسفة , 7 يكن مقصده في 
هجومه هدم هذه الآراء في نفسهاء إذ كان بعضها موافق للدين ؛ فالغزالي مثلا 
يهاجم المسلك الذي اتبعه الفلاسفة لاثبات خلود النفس. ولم بهاجم ‏ بالطبع - 
فكرة خلود النفس ذاتهاء فهي من صلب معتقداته وإيمانه. فهو - كما يقول في 
التهافت ‏ لم يلتزم إلا تكدير مذهبهم والتغيير في وجوه أدلتهم بما يبين تهافتهم . 


في بغداد كانت وطأة الشكوك في نفس الغزالي قد بلغت درجة جعلته يفكر 
بالتخلٍ عن التدريس . وكان إذ ذاك منغمساً في المال والجاه والشهرة» فغادر 
بغداد في سنة ٠١96‏ بعد تردد طويل وبجاهدات نفسية عنيفة تمثلت في الصراع 
بين « شهوات الدنيا » من جانب . وبين « دواعى الآخرة» من جانب آخر ؛ يقول 
,2 من جانب » وبر عي الاخرة » من جانب اخر ؛ يقو 
في وصف حاله: « ثم لاحظت أحوالي, فإذا أنا منغمس في العلائق وقد أحدقت 
بي من الجوانب , ولاحظت أعالي وأحسنها التدريس والتعلم , فإذا أنا فيها مقبل 


على علوم غير مهمه ولا نافعة في طريق الآخرة؛7(). ويقول: ٠‏ فلم أزل أتردد 
بين تجاؤب شهوات الدنيا ودواعي الآخرة قريبا من ستة اشهر, اوها رجب سنة 
تمان وثمانين وأربعمائة ؛ وفي هذا الشهر جاوز الأمر حد الاختيار إلى الاضطرار» 
إذ أقفل الله على لساني حتى اعتقل عن التدريس., فكنت أجاهد نفسي أن 
أدرس يوماً واحدا تطييباً لقلوب المختلفين إليّ. فكان لا ينطق لساني بكلمة 
واحدة. ولا أستطيعها البتة. حتى أورئت هذه العقلة في لساني حزناً في القلب 
بطلت معه قوة الهضم ومراءة الطعام والشراب, فكان لا ينساغ لي ثريد . ولا 
تنهضم لي لقمة؛ وتعدى إلى ضعف القوى, حتى قطع الأطباء طمعهم من العلاج 
وقالوا: هذا أمر نزل بالقلب ومنه سرى إلى المزاج. فلا سبيل إليه بالعلاج إلا 
بأن يتروح السر عن الهم المم. ثم لما أحسست بعجزي » وسقط بالكلية اختياري» 
التجأت إلى الله تعالى التجاء المضطر الذي لا حيلة له. فأجابني الذي يجيب 
المضطر إذ دعاه. وسهل على قلبى الاعراض عن الجاه والمال والأولاد 
والأصحابية: وأظهرت عر اخروع. إلى «مكة أن أدير قي تفيق سفن العا 
حذراً أن يطلع الخليفة وجملة الأصحاب على عزمي في المقام بالشام 20 . 

خرج الغزالي من بغداد في ذي القعدة من سنة 444 ه قاصداً الحج إلى بيت 
الله الحرام. ووصل إلى دمشق في مطلع مسنة 9م؛ ه. وظل بعدها مدة عشر 
سنوات ينتقل من دمشق إلى القدس إلى القاهرة إلى الاسكندرية. كان خلاها 
منشغلاً بتزكية النفس وتهذيب الأخلاق وتصفية القلب لذكر الله. 

ثم عاد الغزالي إلى بغدادء ولكنه استمر في اعتزاله التدريس إلى أن دعاه 
الوزير فخر الملك للتدريس في نظامية نيسابور. ولكنه لم يلبث هناك طويلاً» 
فبعد سنه غادر نيسابور إلى طوس حيث لازم بيته وانقطع إلى الوعظ والعبادة 


)١(‏ انظر ص 9ن من هذا الكتاب. 
(؟) انظر ص 51١85٠0‏ من هذا الكتاب. 


والتدريس, واستمر إلى أن مات سنة 0٠60‏ هل ١111م‏ عن سن بلغت به 
الخامسة والخمسين. 

تدلنا سيرة الغزالي على العلاقة الوثيقة بين حياته وتطوره الفكري؛ 
فتقلباته النفسية والجسدية, وانتقاله من الانغياس في المال والجاه والشهرة إلى 
الزهد والتقشف. حددت اتحاه تفكيره وفلسفته. كذلك أثرت رحلته الطويلة 
واعتكافه وعزلته في توجيه أفكاره وتركيز مذهبه. فاندفع إلى الإصلاح الديني 
عبر نقده للمذاهب والفلسفات السائدة في عصره. فوضع عددا ضخا من 
المؤلفات, تتميز بمعظمها بوحدة الموضوع والاتجاه. ألا وهي الفكرة الدينية التي 
شغلت حياته . وتتميز بقوة التعبير في الدفاع عن آرائه , والقدرة الجدلية الحائلة في 
تأييد مذهبه بأسلوب لغوي سلس بعيد عن التعقيد والغرابة والصناعة اللفظية . 

وقد ألف الغزالي أكثر من مائتي كتاب 7( بينها ما هو مشكوك في صحة 
نسبته إليه. ومن أهم كتبه : ٠‏ المنقذ من الضلال» الذي نقدم له هناء وه إحياء 
علوم الدين» وهو أكبر مؤلف له. شرح فيه طرق النجاة وتفصيل المعاملات 
والعبادات. وبين حقيقة العقائد . و« مقاصد الفلاسفة » و« تهافت الفلاسفة» 
و« معيار النظر» في المنطق. وغيرها. وقد جمعت كتبه بين الفلسفة والمنطق 
والتصوف والعقائد والفقه والأصول وعم النفس . 

يعتبر الغزالي نسيج وحده في تاريخ الفلسفة الإسلامية.ء فقد كان صاحب 
نبج ومدرسة انفرد وتميز بها بين أقرانه . فهو ربما كان الوحيد الذي وضع نهجاً 
كاملا متكاملاً فلم يكتف مثل علراء الكلام والفلاسفة الذين سبقوه وعاصروه 
بانتقاد بعض المسائل الفلسفية التي كانوا يعالجونها. بل إنه بنى صرحا شامخا في 
الفلسفة يرتكز على أساس ينطلق من منهجية صارمة تبدأ بالشك في المناهج 


)١(‏ علد الدكتور جميل صليبا والدكتور كامل عيّاد 7١4‏ كتاباً. وعد الزبيدي منها ما يقرب من 
انين كتاباً ورمالة. وعد السبكى ما يقرب من ستين كتاباً . 


والعقائد . وتنتهي بمذهب متكامل في الدين والأخلاق والفلسفة وعم النفس. 
يقول عنه المفكر الفرنسي أرنست رينان: ٠‏ إنه الوحيد بين الفلاسفة المسلمين 
الذي انتهج لنفسه طريقاً خاصاً في التفكير الفلسفي .. على الرغم من أن رينان 
هذا هو نفسه الذي يقول: «٠‏ إن الفلسفة الإسلامية ليست سوى فلسفة اليونان 
القديمة مكتوبة بحروف عربية ,7 . 

وقد تفوق الغزالي في منهجه وآرائه الفلسفية على معاصريه , بل كانت له آراء 
مبتكرة سبق بها الفلاسفة المتأخرين في عصر التنوير في أوروبا. فالفيلسوف 
الفرنسي ديكارت بنى فلسفته على نفس الأساس الذي انطلق منه الغزالي. وهو 
الشك في الحسيات والعقليات 9 , 

وقد تعرض الغزالي لمسألة مهمة في تاريخ الفلسفة. هي ١‏ السببية » فيقول: 
« إن الاقتران بين ما يعتقد في العادة سببا وما يعتقد مسببا ليس ضروريا عندناء 
بل كل شيئين ليس هذا ذاك. ولا ذاك هذاء ولا إثبات أحدهها متضمن 
لإثبات الآخر, ولا نفيه متضمن لنفي الآخر؛ فليس على ضرورة وجود أحدهما 
وجود الآخر. ولا من ضرورة عدم أحدهها عدم الآخر؛ مثل الري والشرب 
والشبع والأكل والشفاء وشرب الدواء. وهام جرًا إلى كل المشاهدات من 
المقترنات في الطب , والنجوم , والصناعات ؛ والحر ف . وان اقترانها لما سبق من 
تقدير الله سبحانه لخلقها على التساوي. لا لكونه ضروريًا في نفسه غير قابل 
للفرق... © ثم يقول: «وليس لهم من دليل إلا مشاهدة حصول الاحتراق 
عند ملاقاة النار ؛ والمشاهدة تدل على الحصول عنده. ولا تدل على الحصول به. 
وأنه لا علة سواه , 
و اط طح سوم عه اسم عصفاو يزه أت لوف فطع ععاماماا؟ تمفدع.8 
(؟) انظر الحاشية )١(‏ ص 56 من هذا الكتاب. 


(؟) انظر ه تهافت الفلاسفة» ص 586. 
(؟) انظر ٠‏ تهافت الفلامفة» ص 55. 


نفهم من النصين السابقين إنكار الغزالي لقانون السببية في الطبيعة؛ هذه 
النتيجة توصل إليها الفيلسوف الانكليزي دافيد هيوم بعد الغزالي بستّائة 
وخمسين سنة تقريباء فقال: «لا توجد ضرورة عقلية على وجود علاقة حتمية 
بين السبب والمسبب. وإنما اعتيادنا مشاهدة التعاقب بين حادثتين بانتظام هو 
الذي جعلنا ندعي أن الحادثة الأولى علة الحادثة الثانية .٠‏ ولكن هيوم مع رفضه 
إرجاع قانون السيبية إلى ضرورة العقل. ظل متمسكا بهذا القانون لاعتاد العلوم 
بشكل كلى عليه. وهو في الحقيقة لم ينتقد إلا القول بالحتمية العقلية لهذا القانون. 
وقد سبقه الغزالي في هذه النقطة أيضاً» فقد أدرك أن إنكار السببية ينتهى بنا 
إلى ارتكاب محالات شنيعة حتى يجوز عندنا انقلاب الكتاب حيواناً, وجرة الماء 
شجرة تفاح. وغير ذلك27. فيجيب عن ذلك قائلاً : « إن الله تعالى خلق لنا 
علياً بأن هذه الممكنات لم يفعلها؛ ولم ندّع أن هذه الأمور واجبة. بل هي ممكنة 
يجوز أن تقع ويجوز أن لا تقع. واستمرار العادة بها مرة بعد أخرى ترسخ في 
أذهاننا جريانها على وفق العادة الماضية ترسخاً لا تنفك عنه أنه لم ينبت من 
الشعير حنطة ولا من بذر الكمثرى تفاح. ولكن من استقرأ عجائب العلوم لم 
يستبعد من قدرة الله ما يحكى من معجزات الأنبياء »2 . إذن فالسببية في نظر 
الغزالي ليس وراءها إلا الارادة الإلهية, ولا مجال هنا للتكلم عن ضرورة عقلية 
أو طبيعية لقانون السممية . فالله وحده هو الذي يجري الحوادث بإرادته. وهو 
الذي إذا شاء ‏ يقلب الموازين والقوانين؛ ففي قدرته أن يخلق شبعاً من غير 
أكل. وريّا من غير شرب. وشفاء من غير دواء. واحتراقاً من غير نار. 

ومن المسائل الفلسفية التي تعرض لا الغزالي وسبق بالنتائج التي توصل إليها 
غيره من الفلاسفة,. مسألة الزمان والمكان؛ فقد توصل إلى نتيجة مفادها أن 


.548 انظر و تهافت الفلاسفة؛» ص‎ )١( 
.58 انظر التهافت ص‎ )"( 


الزمان والمكان ها علاقة بين تصوراتناء فيقول: « كا أن البعد المكاني تابع 
للجسم . فالبعد الزماني تابع للحركة, فإنه امتداد الحركة, كبا أن ذاك امتداد 
اقطار الجسم . فلا فرق بين البعد الزماني الذي تنقسم العبارة عنه عند الاضافة إلى 
« قبل » وه« بعد » وبين البعد المكانٍ الذي تنقسم العبارة عنه عند الاإضافة إلى 
دفوق» وم تحت2)9, 

هذه النظرية تقترب كثيراً من نظرية الفيلسوف الألماني كانط الذي يقول: إن 
مقولتى الزمان والمكان هما صورتان قبليتان يخلقهها العقل. سابقتان للتجربة 
نشتعين جما غل: إذزاك العالم الخارجي, 

بالاضافة إلى ما قدمه الغزالي في ميدان الفلسفة والفقه والتصوف., وقد 
ذكرنا قسماً منهاء فقد كان له باع طويل في ميدان المنطق حيث وضع فيه كتباً 
أصيلة . مثل « معيار العام ؛ و« حك النظر » و «١‏ القسطاس المستقيم ». 

وكان له مساهمة كبيرة في الأخلاق. فألف في هذا العلم كتاب «ميزان 
العمل ؛ كما خصص لتهذيب الأخلاق صفحات كثيرة من موسوعته « إحياء 
علوم الدين». وقد درسه الدكتور زكي مبارك من زاويته الأخلاقية. وتقدم 
برسالة عنه هي ١‏ الأخلاق عند الغزالي ؛. 

ويعتبر الغزالي صاحب نظرية متكاملة في « عم الجهمال» وقد أودع نظريته هذه 
في كتاب: ٠‏ المحبة والشوق والأنس والرضا » من كتب ٠‏ الإحياء ». 

ويعتبر البعض الغزالي المؤسس الحقيقي لعام النفس الاإسلامي 2, للنظريات 
المبتكرة التي قدمها في هذا العام. وخالف فيها المنهج الذي اتبعه في ذلك فلاسفة 
اليونان . 
)١(‏ انظر التهافت ص 36 


(؟) انظر مقالة الدكتور أحمد فؤاد الأهواني « الغزاللي مؤسس عم النفس الإسلامي ٠‏ في مجلة العرلي 
الكويتية. العدد 65 . 


1١ 


ونستطيع تلخيص فلفة الغزاليي, في جميع الميادين التي تطرق إليهاء بقولنا 
إنها كانت صورة صادقة عن حياته الشخصية, فم يفصل بين فكره وحياته 
اليومية كبا فعل غيره من الفلاسفة والمفكرين من المسلمين وغير المسلمين. فكل ما 
قاله الغزالي.» وكل ما كتبه صب في النهاية في مجرى الشريعة والدين. فهدفه 
الأساسي كان الاصلاح الديني عبر هدم كل ما يناقضه من الآراء السابقة. وفي 
دفاعه عن العقيدة. ارتفع عن كل الفلاسفة الذين حاولوا جعل الدين عبارة عن 
مجموعة من الأحكام العقلية والمنطقية, فكان جل ما وصلوا إليه أن برروا العقيدة 
بالعقل وجعلوها تابعة له. ولم يتخل في الوقت نفسه عن العقل وأحكامه 
وقوانينه. ولكن جعل له ميدانا اخر هو ميدان العلم؛ فالعقل في النهاية خادم 
للدين وليس العكس . وفي كل ما قاله الغزاللي وكتبه كان مجدداً مبتكراً. ولم 
يكن مقلداً مكرراً؛ حتى في ميدان التصوف الذي اعتنقه بطريقة خاصة, يمكننا 
تسميتها بالطريقة الغزالية؛ هذه الطريقة الصوفية هي التي اعتنقها وتمذهب بها 
بعدما قابل الفرق بعضها ببعض . ووضعها في ميزان النقد , في كتابه «المنقذ من 
الضلال + الذي ألفه ف أواخر أيامه بعد عزلة دامت عشر سنوات سلك فيها 
طريقة الصوفية. فيمكننا بالتالي أن نعتبر هذا الكتاب خير مؤشر لا انتهى إليه 
لغزالي من عقيدة ومذهب . 

لا نجد في كتاب «المنقذ من الضلال» مذهباً فلسفيًا مستقلاً. أو نظرية 
متكاملة مجردة؛ بل هو عيارة عن وصف لخحالة المؤلف النفسية. والمعاناة التى 
كابدها حتى انتقل من مرحلة الشك إلى مرحلة اليقين الذي تمثل بالتصوف 
مذهباً وطريقة. ونفتقد في هذا الكتاب إلى الحجاج العقلي والبراهين المنطقية التي 
تحفل بها كتبه الأخرى ؛ وتغلب عليه اللهجة الخطابية , إلا في بعض المواضع عند 
مناقشته لآراء الفرق. ففلسفة الغزالي نجدها في « مقاصد الفلاسفة» و« تهافت 
الفلاسفة » وه إحياء علوم الدين » وغيرها من مؤلفاته الأخرى؛ ولا نجد في 
«المنقذ ‏ إلا القليل مما يعبر عن فلسفته وجدله. 


يبدأ الفزالي كتابه بجواب أخ له في الدين سأله عن «غاية العلوم وأسرارهاء 
وغائلة المذاهب وأغوارها» فيحكي له ما قاساه في سبيل الوصول إلى الحق بين 
اضطراب الفرق, وتباين المسالك والطرق. ويصف حالة الشك التي انتابته من 
جراء اختلاف هذه المذاهب وتنوعهاء وما أدى إليه هذا الشك من انحلال رابطة 
التقليد عنده, فيقول: و وقد كان التعطش إلى درك حقائق الأمور دأبي وديدني 
من أول أمري وريعان عمري., غريزة وفطرة من الله وضعتا في جبلتي. 
باختياري وحيلتي, حتى انحلت عني رابطة التقليد, وانكسرت على العقائد 
الموروثة على قرب عهد شرة الصبا؛ إذ رأيت صبيان النصارى لا يكون لهم نشوء 
إلا على التنصر . وصبيان اليهود لا نشوء هم إلا على التهود . وصبيان المسلمين لا 
نشوء لهم إلا على الإسلام. وسمعت الحديث المروي عن رسول الله بََلِلُمِ يقول: 
« كل مولود يولد على الفطرة. فأبواه يبودانه وينصرانه ويمجساته » فتحرك 
باطني إلى. حقيقة الفطرة الأصلية. وحقيقة العقائد العارضة بتقليد الوالدين 
والأستاذين , والتمبيز بين هذه التقليدات »7 . فيرى الغزالي أن التقليد لا يمكن 
أن يؤدي إلى اليقين, فالعم اليقيني لا يمكن أن يحصل إلا إذا انحلت رابطة 
التقليد» وخضع للبحث الحر المرتبط بالعقل. ولكن ما هو العلم اليقيني الذي 
يؤدي إلى كشف حقائق الأمور ؟ يحدد أبو حامد شرائط هذا العام فيقول: 
« العام اليقيني هو الذي يكشف فيه المعلوم انكشافا لا يبقى معه ريب . ولا يقارنه 
إمكان الغلط والوهم, ولا يتسع القلب لتقدير ذلك ؛ بل الأمان من الخطأ ينبغي 
أن يكون مقارناً لليقين مقارنة لو تحدى بإظهار بطلانه مثلاً من يقلب الحجر 
ذهباً والعصا ثعباناً. لم يورث ذلك شكًا وإنكاراً (2. بهذه العبارات الواضحة 
يضع الغزالي معيار العم. وشرطه في اليقين انكشاف المعلوم انكشافاً بديبيًا لا 


)١(‏ انظر ص 56 من هذا الكتاب. 
(؟)'انظر ص 55 من هذا الكتاب. 


يبقى معه ريب. هذا الشرط مشابه لما ستراه بعد قرون عند ديكارت من 
ووضوح الأفكار وبديهيتها ». 

بعد وضع الأسس والشروط , يبدأ الغزاللي في البحث عن علم موصوف بهذه 
الصفة؛ ولكنه لا يجد هذا العلم, لأن العام إما أن يكون بالحسيات, وإما أن 
يكون بالعقليات؛ والثقة بالمحسوسات معدومة, فأقواها حاسة البصر هوهي 
تنظر إلى الظل فتراه واقفاً غير متحرك. وتحكم بنفي الحركة, ثم بالتجربة 
والمشاهدة بعد ساعة تعرف انه متحرك واأنه لم يتحرك دفعة بغتة. بل على 
التدريج ذرة ذرة» حتى لم تكن له حالة وقوف. وتنظر إلى الكوكب فتراه صغيراً 
في مقدار الدينارء ثم الأدلة الهندسية تدل على أنه أكبر من الأرض في 
المقدار (2. والثقة بالعقليات معدومة أيضاً. لأن النائم يعتقد في النوم أموراً , 
ويتخيل أحوالاً . ويعتقد لها ثياتا واستقرارا. ولا يشك في تلك الحالة فيها ؛ ثم 
يستيقظ فيعام أنه لم يكن لجميع متخيلاته ومعتقداته أصل وطائل؛ فبم يأمن أن 
يكون جميع ما يعتقده في يقظته بحس أو عقل هو حق بالإضافة إلى حالته التي 
هو فيهاء لكن يمكن أن تطرأ عليه حالة تكون نسبتها إلى يقظته كنسبة يقظته 
إلى منامه . وتكون يقظته نوماً بالاضافة إليها ؟! فإذا وردت تلك الحالة تيقن أن 
جيع ما توهمه بعقله خيالات لا حاصل لها (". فالعقل يكذب اللإحساسء. 
والاحساس يكذب العقل . 

هذه النتيجة التي توصل إليها الغزالي أوقعته في حيرة دام عليها قريباً من 
شهرين وهو فيها ه على مذهب السفسطة بحكم الحال لا بحكم النطق والمقال: 29 . 
ولى يرجع إلى الإيمان بحكم الضروريات والبديبيات العقلية إلا بمساعدة إلهية 


)١(‏ انظر ص /ا؟ من هذا الكتاب. 
(؟) انظر ص58 من هذا الكتاب. 
(؟) انظر ص 56 من هذا الكتاب . 


خارجية « بنور قذفه الله تعالى في الصدر ,7( , 

هذا الكشف والنور الإلمي هو من أهم النقاط التي وردت في كتاب والمنقذ 
من الضلال؛ ونجد آثاره في كل سطر من سطور الكتاب. وهو يمثل الضمانة 
الوحيدة عند الغزالي للوثوق بالبديهيات العقلية. هذه الضمانة الاهية هي نفسها 
التي سنجدها فها بعد عند ديكارت بعد أزمة الشك التي عصفت به وجعلته يشك 
حتى بوجوده ذاته. وبالرغم من أن ضمانة ديكارت التي صرح بها هي وجوده 
ككائن مفكر, وهو ما يتمثل بمقولته الشهيرة «أنا أفكر إذن أنا موجود » فإن 
هذه البديبة نفسها تحتاج عنده إلى ضمان إلى 20 هو في النهاية نفسه «نور» 
الغزالي . 

إذن هذا النور هو مفتاح المعرفة عند الغزالي, ولا يمكننا أن نفهم فلسفته إلا 
بإدراكنا مدى ما تمثله هذه المسألة من أهمية ؛ فالعقل لا يمكن أن يكون مصدرا 
للعقيدة الدينية. ولا يكون له إلا دور لاحق 'يتمثل بتحقيق التطور العلمي . 
فالعقل لا يفسر الدين ولا يبرره. بل الدين هو الذي يعطي العقل مشر وعيته. 
فعلينا أن نفسر المباديء العقلية انطلاقاً من الدين, لا أن نفسر الدين تبعا 
العدل: ٠ ٠‏ 

بعد أن حدد الغزالي شرط اليقين الذي انقذه من دوامة الشك. انتقل 
للبحث في آراء الفرق والمذاهب . فحصرها في أربع : فرقة المتكلمين, والباطنية , 
والفلاسفة . والصوفية . فاطلع على اراء هذه الفرق واستقصى مذاهبها . متخذا في 
البداية موقفا حياديا من كل منها حتى يتبين له وجه الحق . 

م إنه ابتدأ بعلم الكلام. فحصله وعقله, وطالع كتب المحققين منهم . قال: 
فصادفته علا وافياً بمقصوده. غير واف بمقصودي6(). فمقصود عم الكلام 
(0 اتظرصية؟ 000000000 
(؟) انظر الحاشية )١(‏ ص 9؟. 
(؟) انظر ص9" . 


حراسة عقيدة أهل السنة من تشويش أهل البدعة. فقامت طائفة من المتكلمين 
بالنضال والذب عن العقيدة في وجه المبتبعة؛ « ولكنهم اعتمدوا في ذلك على 
مقدمات تسلموها من خصومهم. واضطرهم إلى تسليمها إما التقليد, أو إجماع 
الأمة. أو مجرد القبول من القرآن والأخبار » « وهذا قليل النفع في جنب من لا 
يسم سوى الضروريات شيئا أصلاً ‏ 9 . 

ثم إنه ابتدأ بعد الفراغ من عم الكلام بعام الفلسفة. فاطلع على كتبهم 
وعلومهم. فوجدهم على كثرة فرقهم واختلاف مذاهبهم ينقسمون إلى ثلاثة 
أقسام : الدهريون, والطبيعيون, والإلميون. والصنف الثاللث منهم. وهم 
الالفيونء ه ردوا على الصنفين الأولين من الدهرية والطبيعية, وأوردوا في 
الكشف عن فضائحهم ما أغنوا به غيرهم( دثم رد أرسطاطاليس على أفلاطون 
وسقراط ومن كان قبله من الإلهيين ردًا لم يقصر فيه حتى تبرأ من ججميعهم؛ إلا 
أنه استبقى أيضاً من رذائل كفرهم وبدعتهم بقايا لم يوفق للنزع منها, 9 . ثم 
حصر الغزالي فلسفة أرسطو ‏ حسب نقل ابن سينا والفاراني - في ثلاثة أقسام : 
قسم يجب التكفير به وقسم يجب التبديع به وقسم لا يجب إنكاره أصلاً . ومن 
هذا القسم الأخير الرياضيات والمنطق. فها لا علاقة ما بالدين حتى يجحدا 
وينكرا. ولكن مع ذلك تبقى لها آفات9) عظيمة يجب لأجلها زجر كل من 
يخوض فيها من غير المتمكنين. 

أما ما كفر به الغزالي الفلا سفة الالهيين فهو مسائل ثلاث خالفوا فيها كافة 
المسلمين : 


10( انظر ص”"” . 
(؟) انظر ص 5”#. 
(*) انظر ص56". 
(4) انظر ص8" وما بعدها. 


١‏ - قوهم إن الأجاد لا تحشر . وإنما المشاب والمعاقب هي الأرواح 
المجردة. والمثويات والعقويات روحائية لا جسمانية . 
؟ - وقوهم إن الله تغالى يعام الكليات دون الجزئيات . 


. "9 وقوهم بقدم العالم وأزليته‎ - ٠ 


ثم بعد أن فرغ الغزالي من تزييف ما يزيف من علم الفلسفة, انتقل إلى 
الطريقة التعليمية ( , فانتقدها وبين غائلتها . ولكنه لم يستطرد كثيراً فيانتقادهم في 
والمنقذ» فقد سبق له أن وضع كتبا خخسة في الرد على مذهبهم. وهي كتاب 
«المستظهري »؛ وكتاب و حجة الحق» وكتاب «مفصل الخلاف » وكتاب 
٠‏ الدرج ؛ وكتاب «٠‏ القسطاس المستقم 9 . 


ثم إن الغزالي لما فرغ من هذه الفرق أقبل بهمته على طريق الصوفية» وعم أن 
طريقتهم إنما تتم بعم وعمل» فابتدأ بتحصيل علمهم من مطالعة كتبهم. مثل 
قوت القلوب لأني طالب المكي . وكتب الحارث المحاسبي , والمتفرقات المأثورة 
عن الجنيد والشبلي وأبي يزيد البسطامي. حتى اطلع على كنه مقاصدهم العلمية. 
ثم ظهر له أن أخص خواصهم ما لا يمكن الوصول إليه بالتعام بل بالذوق والحال 
وتبدل الصفات7 ؛ لذلك أقبل على سلوك أحوالهم بالإعراض عن الدنيا والحرب 
من علائق الحياة2) ؛ ولكنه نظر إلى نفسه فوجدها منغمسة في العلائق, ولااحظ 
أعباله فوجدها غير نافعة في طريق الآخرة., وتفكر في نيته في التدريس فإذا هي 


)03( انظر ص17 . 
)١(‏ انظر الحاشية )١(‏ ص 48. 
(؟) انظر ص64. 
(1) انظر ص88 . 
(0) اتظر ص 69ة. 


غير خالصة لوجه الله تعالى. فتيقن أنه على شفا جرف هار 29 ء فأصابته أزمة 
نفسية حادة وصفها وصفاً بليغآ بعيداً عن التكلف والتصنع”" . 


ونحن نرى من خلال انتقاد الغزالي للفرق ما سبق وأشرنا إليه من إيمانه 
بقصور العقل عن إدراك كنه الحقائق الدينية» فوراء العقل حدس ديني هو 
وحده المؤهل للمعرفة الإلهية. يقول في معرض الكلام على أصناف الطالبين: 
وولما شفاني الله تعالى من هذا المرض بفضله وسعة جوده, انلحصرت أصناف 
الطالبين عندي في أربع فرق: المتكلمون, والباطنية» والفلاسفة» والصوفية. 
فقلت في نفسي : الحق لا يعدو عن هذه الأصناف الأربعة» فهؤلاء هم السالكون 
سبل طلب الحق فإن شذ الحق عنهم. فلا يبقى في درك الحق مطمع © ففي 
حصره الحق في هذه الأصناف الأربعة إشارة إلى تحديد نطاق العقل وحصر 
حدود المعرفة . وهو يصرح بهذا في موضع آخر من كتابه فيقول: « ووراء العقل 
طور آخر تنفتح فيه عين أخرى يبصر بها الغيب وما سيكون في المستقيل, 
وأموراً أخرى العقل معزول عنها 9 . 


في الفصل الأخير من كتابه. ينتقل الغزالي إلى الكلام عن حقيقة النبوة 
واضطرار كافة الخلق إليها؛ فيقرر أن جوهر الإنسان في أصل الفطرة خلق 
خالياً ساذجاً لا خبر معه عن عوالم الله تعالى , ثم إنه يطلع على هذه العوالم, وهي 
أجناس الموجودات, بواسطة الإدراك الذي يخلقه الله له. وهناك أربع مراتب 
للإدراك: أدناها قوة الحس التي تدرك عالم المحسوسات, ثم قوة التمييز التي 
تدرك أمورا زائدة على الحس. ثم العقل الذي يدرك الواجبات والجائزات 


)١(‏ انظر ص وهة. 
(؟) انظر ص 09 وما بعدها. 
(؟) انظر ص١".‏ 
(4) انظر ص355. 


والمتحيلات. ثم أعلاها ما وراء طور العقل. وهو قوة تدرك الغيب وما 
سيكون في المستقبل. وهذه الأخيرة هى مدركات النبوة؛ والبرهان عليها هو 
وجود معارف عند الإنان لا يمكن أن تتم له إلا بهذا النوع من الادراك» 
كالطب والنجوم ٠‏ فإن من بحث عنها علم بالضرورة أنها لا تدرك إلا بإلهام إلمي 
وتوفيق من جهة الله تعالى7) والنبي لا يعرف إلا بأحواله. وذلك إما 
بالمشاهدة أو بالتواتر والتسامع . وكا أن الانسان إذا عرف الطب أمكنه أن 
يعرف الأطباء بمشاهدة أحوالهم. فكذلك إذا فهم معنى النبوة. أمكنه أن 
يستدرك بها على شخص معين انه نبي ام لا. وذلك بمشاهدة احواله. وتحربة ما 
قاله في ألف أو ألفين وآلاف من الأحوال. حتى يحصل البقين القوي والإيمان 
العلمى . 


ويقرر الغزالي بأنه كما أن للبدن دواءه الخاص وطبيبه. فكذلك القلب له 
طبيبه الخاص ودواؤه ٠‏ فالأنبياء أطباء أمراض القلوب 070 والعبادات أدوية 
مختلفة في النوع والمقدار. ثم ينظر الغزاللي في أسباب فتور الاعتقادات في أصل 
النبوة. ثم في حقيقة النبوة. وفتور الخلق وضعف إيانهم. فيرى هذه الأسباب 
تنحصر في أربعة: الفلسفة. والتصوف. والتعليم. ومعاملة الموسومين بالعام بين 
الناس. فيفند هذه الأسباب واحدا واحداً. وينحى باللائمة على الفلاسفة 
الإهيين الذي يسرون غير ما يعلنون كالفاراني وابن سينا فيرى أن فضحهم 
أيسر عنده من شربة ماء لكثرة خوضه في علومهم وطرقهم؛ فيرفض العزلة 
وينصرف إلى إصلاح نفسه وإصلاح غيره وكأنه رسول بعث لاحياء الدين من 


كموته . 


)١(‏ انظر ص597. 
(؟) انظر ص77 


هذا مختصر لما اشتمل عليه كتاب ١‏ المنقذ من الضلال ». وهو بالرغم من قلة 
عدد صفحاته يعتبر كتاباً فريداً من نوعه بمنحاه وأسلوبه ومنهجه ووحدة 
غرضه. 

نشير هنا إلى أنه زيادة في الفائدة ألحقنا في نهاية كتاب المنقذ مؤْلّفِن 
للغزالي . أولهما كتاب المواعظ في الأحاديث القدسية. وثانيهها قانون التأويل. 

أما كتاب المواعظ. فقد أدرجه الدارسون في الثلاثينيات من هذا القرن 
ضمن مؤلفات الغزالي المفقودة. غير أن بروكلان تنبه إلى وجود مخطوطة هذا 
الكتاب محفوظة في مكتبة غوطا(). من هنا عمد الدكتور عبد الحميد صالح 
حدان إلى الحصول على ميكروفيم لهذه المخطوطة. فحققها ونشرها. حيث 
صدرت عن الدار المصرية اللبنانية في طبعتها الأولى سنة ١948‏ م. 

وقد شكك الدكتور عبد الرحمن بدوي في كتابه ٠‏ مؤلفات الغزالى 7٠‏ في 
صحة نسبة هذا الكتاب إلى الإمام. حيث أدرجه ضمن الكتب المرجح أنها 
ليست للغزالي » ومعظمها في السحر والطلممات والعلوم المستورة. ولكن الد كتور 
عبد الحميد صالح حمدان يميل إلى الاعتقاد بصحة نسبة هذا الكتاب إليه 
لاعتبارات ذكرها في مقدمته للطبعة الأولى 9 , 

وقد مهد الإمام الغزالي لهذا الكتاب بتقديم مقتضب جد يتمشى مع أسلوبه 
وبلاغته وطريقته في الكتابة» حيث يشير إلى أن قصده من جمعه وترتيبه لهذه 
الأحاديث القدسية. أن تكون «١‏ تذكرة للعباد . وتقوية للمتقين من المسلمين إلى 
العبادة 9 وهو ما يتفق مع ما أوقف عليه هذا الإمام الجليل جزءاً كبيراً من 
حياته في الدعوة إليه والمناداة به. 
(؟) مؤلفات الغزالي. القاهرة 21١97١‏ ص ه9ا؟. 
(؟) انظر كتاب المواعظ ‏ المقدمة ص 7 . 
(1) انظر ص وم من هذا الكتاب. 


ولن نطيل الكلام عن قصد الامام وهدفه من إيراد هذه الأحاديث, أو عن 
أسلوبه في جمعها وترتيبها ؛ ففي الصفحات التي بين أيدينا غنى عن ذلك . 

أما الكتاب الثالث الذي تضمنه هذا المجموع. فهو ه قانون التأويل ». وقد 
وضعه أبو حامد جواباً على سؤال طرح عليه حول بعض الآيات والأحاديث التي 
غمض معناها , أو تعارض مع المعروف من ظاهر الشرع أو العقل 29 . 

والتأويل في أصل اللغة هو بيان مآل ما يحتاج من القول إلى التدبر والتأمل» 
وتبيين ما يؤول الكلام إليه. وهو الترجيع والتفسير. يقال: أوّل الكلام» إذا 
فسره ورذه إلى الغاية المرجوة منه27. أما معنى التأويل في الشرع. فهو صرف 
اللفظ عن معناه الظاهر الى معنى يحتمله. إذا كان المحتمل الذي يراه موافقا 
بالكتاب والسنة, مثل قوله تعالى: # يخرج الحي من الميت © إن أراد به إخراج 
الطير من البيضة كان تفسيراً. وإن أراد إخراج المؤمن من الكافر أو العالم من 
الجاهل كان تأويلاً 9 , 

وقد أراد الغزالي في جوابه على السؤال الذي وجه إليه أن يضع قانوناً عاماً 
ومنهجاً سلياً يسير عليه الخائضون في مبحث التأويل. فبين أولاً أن بين المعقول 
والمنقول تصادم في أول النظر وظاهر الفكر. والخائضين فيه تحزبوا إلى مفرط 
بتجريد النظر إلى المنقول. وإلى مفرط بتجريد النظر إلى المعقول. وإلى متوسط 
طمع في الجمع والتلفيق . والمتوسطون انقسموا إلى من جعل المعقول أصلاً والمنقول 
تابعاًء فلم تشتد عنايتهم بالبحث عنه. وإلى من جعل كل واحد أصلا ويسعى في 
التأليف والتوفيق بينه| 2 . فهم إذن خس فرق. 


)١(‏ انظر قانون التأويل ص ١‏ أو ما بعدها. 
(؟) انظر المعجم الوسيط.. 

(؟) انظر كتاب التعريفات للجرجاني - ص 680 . 
(4) انظر ص ١59‏ 


1 


وقد شرح الاإمام الغزالي أحوال هذه الطوائف وأقوالهم. وبين قصور نظر من 
أفرط منهم ومن قرّط . ثم بين أن الفرقة المحقة من بينهم هي الفرقة المتوسطة 
الجامعة بين البحث عن المعقول والمنقول, الجاعلة كل واحد منهها أصلاً مهماً. 
المنكرة لتعارض العقل والشرع وكونه حقا 29 . 

وهؤلاء :هجوا منهجاً قوياً. إلا أنهم ارتقوا مرتقى صعباً. وطليوا مطلباً 
عظياً. وسلكوا سبيلاً شاقاً؛ فلقد تشوفوا إلى مطمع عصي وانتهجوا ملكاً 
وعراً. وذلك يسيرٌ في بعض الأمور . ولكن شاق عسير في الأكثر 9 . 

لذلك يوصى أبو حامد بثلاث وصايا نافعة» تنير طريق السالكين في التأويل , 
وتبين لهم لني القويم للخوض في هذه الأمون:01ام عه تشكل هذه الوصايا 
القانون الأسام في التأويل . 

وصفوة القول أن الإمام الغزاللي حقق بحث هذه المسألة تحقيقاً شافياً كافياً 
رافياً. بحيث لم يبق بعد بيانه مطلب لطالب أو حجة لمعترض . 

نفع الله بهذا العلم. وحقق به الخير على الدوام. والحمد لله رب العالمين, 
والصلاة والسلام على حبيبه مد وعلى اله وصحبه وسام. 


أحجد شمس الدين 
ببروت ”7 ذو القعدة ١1٠8‏ ه 
المرافق ؟؟ حزيران ١9448‏ م 


.١؟5ص انظر‎ )١( 
.١؟1ص (؟) انظر‎ 
(؟) انظر ص9/0155ا17.‎ 


ينا 


بسم الله ال حمن الرحمم 


[ المدخل] 


الحمد لله الذي يفتتح بحمده كل رسالة ومقالة. والصلاة على مد المصطفى 
صاحب النبوة والرسالة . وعلى آله وأصحابه الهادين من الضلالة . 

أما بعد: فقد مألتني أيها الأخ في الدين, أن أبث إليك غاية العلوم 
وأسرارها. وغائلة المذاهب وأغوارها. وأحكى لك ما قاسيته في استخلااص 
الحق من بين اضطراب الفرق» مع تباين المسالك والطرق» وما استجرأت عليه 
من الارتفاع عن حضيض التقليد إلى يفاع 27 الاستفسار. وما استفدته أولاً من 
عام الكلام وما اجتويته 9 ثانياً من طرق أهل التعليم 29 القاصرين لدرك الحق 
على تقليد الإمام. وما ازدريته ثالثاً من طرق التفلسف), وما ارتضيته آخراً 
من طريقة التصوف2. وما انجلى لي في تضاعيف تفتيشي عن أقاويل الخلق من 
لباب الحق. وما صرفني ) عن نشر العام ببغداد مع كثرة الطلبة؛ وما دعافي إلى 


)١(‏ اليفاع: المرتفع من كل شيء, يكون في المشرف من الأرض والجبل, والرمل وغيرها. 

(؟) يقال: اجتوى الطعام: كرهه. واجتوى البلد : كره المقام به. ويقال: اجتوى القوم: أبغضهم. 

(©) انظر فصل ٠‏ مذهب التعليم وغائلته » ص 48 . 

(4؛) انظر فصل «الفلسفة؛ ص 14". 

(6) انظر فصل «طريق الصوفية» ص81 . 

(1) انظر ص +7. 3892031 حيث يشير الغزالي إلى ما أصابه من مرض في بغداد . ثم مغادرته لها 
في ذي القعدة من منة 1444 ه. 


ذفا 


معاودتي نيسابور 7 بعد طول المدة 7" . فابتدرت لإجابتك إلى مطلبك يعد 
الوقوف على صدق رغبتك». وقلت مستعيئاً بالله ومتوكلاً عليه ومستوثقاً منه 
وملتجئاً إليه: 


اعلموا ‏ أحسن الله تعالى إرشادك, وألان للحق قيادم ‏ أن اختلاف الخلق 
في الأديان والملل, ثم اختلاف الأئمة في المذاهب على كثرة الفرق وتباين 
الطرق. بحر عميق غرق فيه الأكثرون, وما نا منه إلا الأقلون. وكل فريق 
يزعم أنه الناجي , و8 كل حزب بما لديهم فرحون» [الروم: 57 ] هو الذي 
وعدنا به سيد المرسلين. صلوات الله عليه. وهو الصادق الصدوق حيث قال: 
و ستفترق أمتى ثلاثاً وسبعين فرقة» الناجية منها واحدة: 7" فقد كان ما وعد أن 
يكون. 

ولم أزل في عنفوان شبابي. منذ راهقت البلوغ قبل بلوغ العشرين إلى الآن 
وقد أناف السن على الخمسين, أقتحم لجة هذا البحر العميق. وأخوض غمرته 
خوض الور لا خوض الجبان الحذور, وأتوغل في كل مظلمة, وأتهجم على 
كل مشكلة؛ وأتقحم كل ورطة, وأتفحص عن عقيدة كل فرقة» وأستكشف 
أسرار مذهب كل طائفة؛ لأميز بين محق ومبطل . ومتسئن ومبتدع”" لا أغادر 


)١(‏ نيسابور: مدينة كبيرة من أعمال خراسان. فتحها المسلمون أيام عثيان. نبغ منها عدد كبير من 
أئمة العم. وقد هاجمها التتر وهدموها عن آخرها .ولا تزال خراباً إلى اليوم . 

(؟) في منة ووع ه أقنع الوزير فخر الملك ابن نظام الملك الغزالي بالتدريس في نظامية نيسابور. 
ولكنه لم يلبث طويلاً. فبعد سنة أو نحو ذلك قتل الوزير فخر الملك فغادر الغزالي نيسابور إلى 
طوس ملازما بيته حتى مات منة 6٠86‏ ه. 

(؟) من حديث أبي هريرة. رواه أبو داود في السنة باب 2١‏ وابن ماجه في الفتن باب 17 » والإمام 
أحد: ج ؟ ص 566. والترمذي في الإيمان باب ١4‏ وصححه ولفظه عنده: ٠‏ تغرقت اليهود 
على إحدى وسبعين أو ائنتين وسبعين فرقة. والنصارى مثل ذلك. وتفترق أمتي على ثلاث 
وسبعين فرقة ». 

(1) مبتدع: معناه لغة مخترع. من البدعة وهي الاختراع, ثم غلب استعباله على المحدث المكروه في 


3 


باطنيًا إلا وأحب أن أطلع على بطانته 29 ولا ظاهرياً إلا وأريد أن أعلم حاصل 
ظهارته. ولا فلفيًا إلا وأقصد الوقرف على كته فلفته. ولا متكلاً إلا 
وأجتهد في الاطلاع على غاية كلامه وبجادلته. ولا صوفيًا إلا وأحرص على 
العثور على سر صوفيته, ولا متعبدا إلا واترصد ما يرجع إليه حاصل عبادثه 
ولا زنديقاً "© معطلا إلا وأتجسس وراءه للتنبه لأسباب جرأته في تعطيله 


وزندفته. 


وقد كان التعطش إلى درك حقائق الأمور دأبي وديدني من أول أمري 
وريعان عمري. غريزة وفطرة من الله وضعتا في جبلَتي .لا باختياري وحيلتي» 
حتى انحلت عني رابطة التقليد واتكسرت على العقائد الموروثة على قرب عهد 
شرة22 الصبا؛ إذ رأيت صبيان النصارى لا يكون لهم نشوء إلا على التنصرء 
وصبيان اليهود لا نشوء لهم إلا على التهود . وصبيان المسلمين لا نشوء لهم إلا على 
الإسلام. وسمعت الحديث المروي عن رسول الله ملت يقول: 


٠‏ كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه و جانه ؛(5) فتحرك 


> الدين. ولا يكاد يتعمل إلا في هذا المعنى. 

. البطانة : السريرة. والمراد هنا العقيدة الباطنة‎ )١( 

(؟) في لان العرب: الزنديق القائل ببقاء الدهر . معرب ٠‏ زندكر ٠‏ أي يقول ببقاء الدهر. 

(5) المعطل هو الذي ينكر صفات الخالق. فهر يقول مثلاً في قوله تعالى ظالرحمن على العرش 
استوى » أن لا عرش هناك ولا استواء فعلياً. ويحملون لفظ ٠‏ استوى» على معنى «استولى» 
وكذلك في سائر الصفات. 

)4( الشرة بكسر الشين المعجمة وفتح الراء المشددة: الحدة والنشاط . 

(6) من حديث أي هريرة. رواه البخاري في تفير سورة الروم بلفظ ما من مولود إلا يولد على 
الفطرة. فأبواه يبودانه أو ينصرانه أو يمجانه كبا تنتج البهيمة بهيمة ججعاء هل تحون فيها من 
جدعاء .٠‏ وبنحو هذا اللفظ رواه ملم في كتاب القدر حديث رقم 88, وأحمد في منده ج ؟ 
ص 25 1008. 69. وني لفظ لمم ( كتاب القدر. حديث 58): ه كل إنان تلده أمه 
على الفطرة وأبواه بعد يبودانه وينصرانه ويمجانه, فإن كانا مسلمين فمسلم. كل إنان تلده - 


>” 


باطني إلى حقيقة الفطرة الأصلية وحقيقة العقائد العارضة بتقليد الوالديين 
والأشاذين 01 رابسم بن هذ التقليدات . وأوائلها تلقينات . وفي تمييز الحق 
منها عن الباطل اختلافات. فقلت في نفسي: إنما مطلوبي العام بحقائق الأمور 
فلا بد من طلب حقيقة العام ما هي ؛ فظهر لي أن العام اليقيني هو الذي يكشف 
فيه المعلوم انكشافاً لا يبقى معه ريب. ولا يقارنه إمكان الغلط والوهم. ولا 
يتسع القلب لتقدير ذلك؛ بل الأمان من الخطأ ينبغي أن يكون مقارناً لليقين 
مقارنة لو تحدى بإظهار بطلانه مثلا من يقلب الحجر ذهبا والعصا ثعبانا لم 
يورث ذلك شكا وإنكارا ؛ فاني إذا علمت أن العشرة أكثر من الثلاثة, فلو قال 
لي قائل: لاء بل الثلاثة أكثر بدليل أني أقلب هذه العصا ثعباناً وقلبهاء 
وشاهدت ذلك منه. لم أشك بسببه في معرفتي, ولم يحصل لي منه إلا التعجب من 
كيفية قدرته عليه؛ فأما الشك فما علمته فلا . 

ثم علمت أن كل ما لا أعلمه على هذا الوجه ولا أتيقنه هذا النوع من اليقين 
فهو عم لا ثقة به ولا أمان معه. وكل عام لا أمان معه فليس بعلم يقيني . 


> أمه يلكزه الشيطان في حضيه إلا مريم وابنها ». 


375 


)١(‏ مداخل السفسطة () وجحد العلوم 


ثم فتشت عن علومي فوجدت نفسي عاطلاً من علم موصوف بهذه الصفة إلا 
في الحسيات والضروريات. قلت: الآن بعد حصول اليأس لا مطمع في اقتباس 
المشكلات إلا من الجليّات. وهي الحسيات والضروريات, فلا بد من إحكامها 
أولاً لأتيقن أثقتي بالمحسوسات وأماني من الغلط في الضروريات» من جنس 
أماني الذي كان من قبل في التقليديات. ومن جنس أماني أكثر الخلق في 
النظريات, أم هو أمان محقق لا غدر فيه ولا غائلة له؟ فأقبلت بجد بليغ أتأمل 
في المحسوسات والضروريات, وأنظر هل يمكنني أن أشكك نفسي فيهاء فانتهى 
في طول التشكيك إلى أن لم تسمح نفسي بتسلم الأمان في المحسوسات أيضاً؛ 
وأخذ يتسع هذا الشك فيها ويقول: من أين الثقة بالمحسوسات. وأقواها حاسة 
البصر؟ وهي تنظر إلى الظل فتراه واقفاً غير متحرك, وتحكم بنفي الحركة؛ عم 
بالتجربة والمشاهدة بعد ساعة تعرف أنه متحرك وأنه لم يتحرك دفعة بغتة بل 
على التدريج ذرة ذرة, حتى لم تكن له حالة وقوف. وتنظر إلى الكوكب فتراه 
صغيراً في مقدار الدينار عم الأدلة الهندسية تدل على أنه أكبر من الأرض في 
المقدار . وهذا وأمثاله من المحسوسات يحكم فيها حاك الحس بأحكامه, ويكذبه 


)١(‏ هناك رأي يرى أن هذه اللفظة منحوتة من وصوفياء وهي الحكمة و واسطس» وهي 
المموهة. أي «الحكمة المموهةه: ورأي آخر يرى أنها مشتقة من الكلمة اليونانية «سوفيزما 
#دوننامه5 ٠‏ أي المهارة في الأمور, ومنها اشتق ٠‏ سوفيسطس ©عاداطمه8 » اليوناني. أي الماهر في 
تدبير أموره. ولكن اللفظ أصبح علا فها بعد على الفلاسفة الوفسطائيين الذين امخذوا التعليم 
مهنة , وأخذوا يعلمون تلاميذهم كيف ينصرون آراءهم باستعرال الأقاويل الخلابة والمغالطات 
الكلامية دون أي اعتبار للحق والعدل. 


>37 


ل ا 

فقلت: قد بطلت الثقة بالمحسوسات أيضاً فلعله لا ثقة إلا بالعقليات التي 
هي من الأوليات كقولنا: العشرة أكثر من الثلاثة, والنفي والإثبات لا يجتمعان 
في الشيء الواحف » والشيء الواحد لا يكون حادثاً قدياً, موجوداً معذوما 
واجباً محالاً. فقالت المحسوسات: بم تأمن أن تكون ثقتك بالعقليات كثقتك 
بالمحسوسات وقد كنت واثقاً ني فجاء حا العقل فكذبني, ولولا حام العقل 
لكنت تستمر على تصديقي؟ فلعل وراء إدراك العقل حاكاً آخر. إذا تجللى 
كذب النثل في سكمدء كا تل جاع العتل فكلاب الس في كمه وعلدم 
تمل ذلك الإدراك لا يدل على استحالته. فتوقفت النفس في جواب ذلك 
قليلاً, وأيدت إشكاها بالمنام وقالت : : أما تراك تعتقد في النوم أموراً. وتتخيل 
أحوالاً. وتعتقد ها ثباتاً واستقراراً ولا تشك في تلك الحالة فيهاء ثم تستيقظ 
ل عد بو ا عر 
جميع ما تعتقده في يقظتك بحس أو عقل هو حق بالإضافة إلى حالتك التي أنت 
فيها ؛ لكن يمكن أن تطرأ عليك حالة تكون نسبتها إلى يقظتك كنسبة يقظتك 
إلى منامك, وتكون يقظتك نوما بالاضافة إليها!؟ فإذا وردت تلك الحالة 
تيقنت أن ججميع ما توهمت بعقلك خيالات لا حاصل لحاء ولعل تلك الحالة ما 
تدعيه الصوفية أنها حالتهم؛ إذ يزعمون أنهم يشاهدون في أحوالهم التي لهم . إذا 
غاصوا في أنفسهم وغابوا عن حواسهم, أحوالاً لا توافق هذه المعقولات ؛ ولعل 
تلك الحالة هي الموت إذ قال رسول الله يلم : « الناس نيام فإذا ماتوا 
انتبهوا 2 فلعل الحياة الدنيا نوم بالإضافة إلى الآخرة. فإذا مات ظهرت له 
الأشياء على خلاف ما يشاهده الآن. ويقال له عند ذلك؛: # فكشفنا عنك 


)١(‏ جاء في كتاب وأ منى المطالب في أحاديث مختلف المراتب ؛ أن هذا القول من كلام عل بن ألي 
طالب. 


18 


غطاءك فبصرك اليوم حديد# [ق: ؟5] فليا خطرت لي هذه الخواطر 
وانقدحت في النفس., حاولت لذلك علاجاً فلم يتيسرء إذ لم يكن دفعه إلا 
بالدليل» ولم يكن نصب دليل إلا من تركيب العلوم الأولية » فإذا لم تكن مسلمة 
لم يمكن ترتيب الدليل . فأعضل هذا الداء . ودام قريباً من شهرين أنا فيهها عل 
مذهب السفسطة بحكم الحال. لا بحكم النطق والمقال. حتى شفى الله تعالى من 
ذلك المرض وعادت النفس إلى الصحة والاعتدال ورجعت الضروريات العقلية 
مقبولة موثوقاً بها على أمن ويقين؛ ولم يكن ذلك بنظم دليل وترتيب كلام» بل 
بنور قذفه الله تعالى في الصدر 9 . وذلك النور هو مفتاح أكثر المعارف,. فمن 
ظن أن الكشف موقوف على الأدلة المحررة فقد ضيق رحمة الله تعالى الواسعة ؛ 
ولما سكل رسول الله يَلْتمِ عن ٠‏ الشرح » ومعناه في قوله تعالى : # فمن يرد الله أن 
مبديه يشرح صدره للإسلام » [ الأنعام: ١١6‏ ] قال: ٠‏ هو نور يقذفه الله تعالى 
في القلب ٠‏ فقيل : « وما علامته »؟ فقال: التجافيعندار الغرور والإناية إلى دار 


)١(‏ طريق الشك التى اتبعها الغزالي ليصل إلى اليقين, اتبعها فها بعد الفيلوف الفرنسي رينيه 
ديكارت في القرن السابع عشر الميلادي . والنتيجة التي توصل إليها الغزالي من ضرورة وجود 
مليات عقلية أولية ليست خاضعة للبرهان. هي نفها النتيجة التي توصل إليها ديكارت بعد 
شكه بالحسيات والعقليات حتى شك بوجوده ذاته. وضمانة الغزالي في وثوقه بهذه المليات هي 
النور الذي قذفه الله في القلب . بينا ضمانة ديكارت هي وجوده ذاته ككائن مفكر, إذ انطلق 
من مقولته الشهيرة «أنا أفكر إذن أنا موجوده (وهو ما يسمى بالكوجيتو) ليثبت بقية 
البديهيات الأخرى. ولكن هذه البديهة الأولية محتاجة عند ديكارت نفه إلى ضمان خارجي 
( إلهي) فهو يتماءل إن كان هناك شيطان ماكر شرير يعبث بعقله ويريه الباطل حقاً والحق 
باطلاً. فيصل إلى نتيجة أن ثقته بوجوده لا تكون صادقة إلا إذا ضمنها الله وحده الذي 
يعصمه من تضليل الشيطان. وهكذا نستطيع أن نقول إن الغزالي وديكارت اتفقا في المباديء 
والنتائج إلا في بعض التفاصيل؛ ولا عجب, إذ إن بعض الباحثين يرى أنه من المحتمل أن 
يكون ديكارت قد اطلع على بعض مؤلفات الغزالي لاتصاله الوثيق بطبقة الأكليروس في بلاده 
فرنساء حيث كانت هذه الطبقة في ذلك العهد هي حاملة لواء الثقافة والعلمء وكان في أديرتها 
الكثير من المؤلفات العربية المترجة, فلعل من بينها كان أيضاً كتاب الغزالي هذا . 


>39 


الخلود 07) وهو الذي قال عليه السلام فيه : ٠‏ إن الله تعالى خلق الخلق في ظلمة ثم 
رش عليهم من نوره» 7( فمن ذلك النور ينبغي أن يطلب الكشف. وذلك النور 
ينبجس من الجود الالمي في بعض الأحايين». ويجب الترصد له كما قال عليه 
السلام : ٠‏ إن لربكم في أيام دهري نفحات ألا فتعرضوا لهاع . 

والمقصود من هذه الحكاياتأنيعمل كال الجد في الطلب حتى ينتهي إلى 
طلب ما لا يطلب؛ فإن الأوليات ليست مطلوبة, فإنها حاضرة والخاضر إذا 
طلب فقد واختفى. ومن طلب ما لا يطلب فلا يتهم بالتقصير في طلب ما 
يطلب . 


)١(‏ ماق ابن كثير أسانيد هذا الحديث في تفسيره (ج * ص 984) ثم قال: ٠‏ فهذه طرق هذا 
الحديث مرسلة ومتصلة يشد بعضها بعضًا». 

(؟) من حديث عبدالله بن عمرو عن رمول الله مَظَِهِ . رواه الترمذي في الايمان باب 014 وأحد في 
المسند ج ” ص 113. لاوا والحاكم في المستدرك ج ١‏ ص 5١‏ بلفظ : ٠‏ إن الله عز وجل 
خلق خلقه في ظلمة, فألقى عليهم من نوره؛ فمن أصابه من ذلك النور اهتدى. ومن أخطأه 
ضل». 

(؟) معنى الحديث رواه ابن النجار عن ابن عمرء ورواه البيهقي وأبو نعيم عن أنس . وروا البيهقتي 
عن أبي هريرة بلفظ واطلبوا الخير دهركٌ كله وتعرصوا لنفحات رححة الله فإن له نفحات من 
رحمته .٠‏ وورد في الفتح الكبير لليوطي بالنص التالي : ٠‏ إن لربكم في أيام دهركم نفحات, 
فتعرضوا له. لعله أن يصيبكم نفحة منها فلا تشقون بعدها أبدا» رواه الطبراني عن جمد بن 
ملمة. 


القول في أصناف الطالبين 


ولما شفاني الله تعالى من هذا المرض بفضله وسعة جوده. انمحصرت أصناف 
الطالبين عندي في أربع فرق: 

١‏ - المتكلمون: وهم يدّعون أنهم أهل الرأي والنظر. 

" - الباطنية: وهم يزعمون أنهم أصحاب التعليم والمخصوصون بالاقتياس 
من الإمام المعصوم . 

" - الفلاسفة: وهم يزعمون أنهم أهل المنطق والبرهان. 

4 - الصوفية: وهو يدعون أنهم خواص الحضرة وأهل المشاهدة والمكاشفة. 

فقلت في نفسي: الحق لا يعدو عن هذه الأصناف الأربعة. فهؤلاء هم 
السالكون سبل طلب الحق. فإن شذ الحق عنهم. فلا يبقى في درك الحق مطمع . 
إذ لا مطمع في الرجوع إلى التقليد بعد مفارقته. إذ من شرط المقلد أن لا يعم 
أنه مقلد فإذا عام ذلك انكسرت زجاجة تقليده. وهو شعب() لا يرأب29, 
وشعث '" لا يلم بالتلفيق وبالتأليف, إلا أن يذاب بالنار ويستأنف لها صيغة 
اخرى مستجدة. 

فابتدرت لسلوك هذه الطرق. باستقصاء ما عند هذه الفرق. مبتدثاً بعلم 
الكلام . ومثنياً بطريق الفلسفة, ومثلشاً بتعلهات الباطنية. ومربعاً بطريق 
الصوفية . 
)١(‏ الشعب بكسر الشين المعجمة وسكون العين المهملة انفراج بين الجبلين. والمراد هنا شق . 
(؟) لا يصلح. 


(؟) الشعث بفتح الشين المعجمة والعين المهملة: ما تفرق من الأمور . 


7١ 


1 عام الكلام 
مقصوده وحاصله 


نم إني ابتدأت بعلم الكلام 29 ,» فحصلته وعقلته. وطالعت كتب المحققين 
منهم. وصنفت فيه ما أردت أن أصنف. فصادفته علا وافيا بمقصوده. غير 
واف بمقصودي؛ وإنما مقصوده حفظ عقيدة أهل السنة وحراستها عن تشويش 
أهل البدعة ؛ فقد ألقى الله تعالى إلى عباده على لسان رسوله عقيدة هي الحق على 
ما فيه صلاح دينهم ودنياهم. كا نطق بمعرفته القرآن والأخبارء ثم ألقى 
الشيطان في وساوس المبتدعة أموراً مخالفة للسنة؛ فلهجوا يها وكادوا يشوشون 
عقيدة الحق على أهلها. فأنشأ الله تعالى طائفة المتكلمين. وحرك دواعيهم لنصرة 
السنة بكلام مرتب, يكشف عن تلبيسات أهل البدعة المحدثة على خلاف السنة 
المأثورة؛ فمنه نشأ عام الكلام وأهله. فلقد قام طائفة منهم بما ندبهم الله تعالى 


)١(‏ نشأ علم الكلام في الإسلام في وقت متأخر نبياً وذلك بعد أن شعر العلماء بضرورة الدفاع عن 
العقائد الدينية بالأدلة العقلية والحجج والمناظرات المنطقية. وكانت أساليب هذا الدفاع في 
البداية تأخذ شكل الجدل ولمناظرات الكلامية فانحبت التمية بذلك على العم كله فدعي 
باسم هعم الكلام؛ ودعي العلاه الذين يبحثون في العقائد الدينية بحثاً عقلياً منطقياً ب 
« المتكلمين٠.‏ وقد امتخدم عم الكلام بشكل واسع في دفاع كل فرقة من الفرق الاسلامية 
الكلامية عن مذهبها كالمعتزلة والأشاعرة والمرجئة والقدرية وغيرهم من الفرق والمذاهب التي 
نشأت في هذا الجو. وربما كان من أهم أسباب تسمية علم الكلام أن من أهمالمواضيع التي دار 
حولها الجدل هو إثبات الكلام النفسي. وقد اقتصر هذا العام أخيراً على العلم الذي يتضمن 
بشكل رئيسي الرد بالحجج العقلية المنطقية على الخارجين عن مذاهب أهل السنة كما يشير إلى 
ذلك الغزالي هنا بعد أسطر. 

)١(‏ لهج بالأمر : أولع به فثابر عليه واعتاده. 


دنا 


إليه. فأحسنوا الذب عن السنة والنضال عن العقيدة المتلقاة بالقبول من النبوة 
والتغيير في وجه ما أحدث من البدعة؛ ولكنهم اعتمدوا في ذلك على مقدمات 
تسلموها من خصومهم. واضطرهم إلى تسليمها إما التقليد , أو إجماع الأمة أو 
جرد القبول من القرآن والأخبار. وكان أكثر خوضهم في استخراج مناقضات 
الخصوم. ومؤاخذتهم بلوازم مسلماتهم. وهذا قليل النفع في جنب من لا يسام 
سوى الضروريات شيئاً أصلاً ؛ فام يكن الكلام في حقي كافياً. ولا لدائي الذي 
كنت أشكوه شافياً. نعم, لما نشأت صنعة الكلام وكثر الخوض فيه وطالت 
المدة. تشوف المتكلمون إلى مجاوزة الذب عن السنة بالبحث عن حقائق الأمور, 
وخاضوا في البحث عن الجواهر والأعراض 7( وأحكامها ؛ ولكن ما لم يكن ذلك 
مقصود علمهم. لم يبلغ كلامهم فيه الغاية القصوى., فم يحصل منه ما يمحو 
بالكلية ظلمات الحيرة في اختلافات الخلق؛ ولا أبعد أن يكون قد حصل ذلك 
لغيري! بل لست أشك في حصول ذلك لطائفة ولكن حصولاً مشوباً بالتقليد 
ف بعض الأمور التي ليست من الأوليات. والغرض الآن حكاية حالي؛ لا 
الانكار على من اسفيى بهء فإن أدوية الشفاء تختلف باختلاف الداء» وم من 


دواء ينتفع به مريض ويستضر به آخر!. 


)١(‏ الجوهر في اللغة الأصل. واصطلاحاً : ماهية إذا وجدت في الأعيان كانت لا في موضوع. وهو 
منحصر في خسة: هيولى وصورة وجمم ونفس وعقل. 
والعرض هو الموجود الذي يحتاج في وجوده إلى موضع أي محل يقوم به. كاللون المحتاج في 
وجوده إلى جسم يحله ويقوم هو به. والأعراض عل نوعين: قار الذات. وهو الذي يجتمع 
أجزاؤه في الوجود كالبياض والسواد ؛ وغير قار الذات وهو الذي لا يجتمع أجزاؤه في الوجود 
كالحركة والكون. (انظر كتاب التعريفات للجرجاني). وقد قسم الأقدمون الأعراض إلى 
تسعة هي : الكم. والكيف. والإضافة, والأين. والمتى, والملك, والوضع . والفعل , والانفعال. 
وهي بالاضافة إلى الجوهر تسمى المقصولات العثر . 


© - الفلسفة 


- محصوفا. 

المذموم منها وما لا يذم. 

وما يكفر به قائله وما لا يكفر به. 

وما يبتدع فيه وما لا يبتدع. 

- وبيان ما سرقه الفلاسفة من كلام أهل الحق. 

- وبيان ما مزجوه بكلام أهل الحق لترويح باطلهم في درج ذلك . 

- وكيفية عدم قبول البشر وحصول نفرة النفوس من ذلك الحق الممزوج 
بالباطل . 

- وكيفية استخلاص الحق الخالص من الزيف والبهرج من جملة كلامهم. 

ثم إني ابتدأت بعد الفراغ من عم الكلام بعلم الفلسفة. وعلمت يقينا أنه لا 
يقف على فساد نوع من العلوم , من لا يقف على منتهى ذلك العلم, حتى يساوي 
أعلمهم في أصل العلم, ثم يزيد عليه ويجاوز درجتهء فيطلع على ما لم يطلع عليه 
صاحب العلم من غوره وغائله. فإذذاك يمكن أن يكون ما يدعيه من فساده 
حقا . ولم أر أحدا من علماء الإسلام صرف عنايته وهمته إلى ذلك . 


ولم يكن في كتب المتكلمين من كلامهم. حيث اشتغلوا بالرد عليهم إلا 
كلرات معقدة مسددة, ظاهرة التناقض والفساد . لا يظن الاغترار بها بغافل عامي 
فضلاً عمن يدعي دقائق العلوم. فعلمت أن رد المذهب قبل فهمه والاطلاع عل 
بمجرد المطالعة من غير استعانة بأستاذء وأقبلت على ذلك في أوقات فراغي من 


نا 


التصنيف والتدريس في العلوم الشرعية وأنا ممنو 20 بالتدريس والإفادة لثلائمائة 

فأطلعنى الله سبحانه وتعالى بمجرد المطالعة في هذه الأوقات المختلة على 
منتهى علومهم في أقل من سنتين. عم لم أزل أواظب على التفكر فيه بعد فهمه 
قريباً من سنة, أعاوده وأردده وأتفقد غوائله وأغواره, حتى اطلعت على ما فيه 
من خداع وتلبيس» وتحقيق وتخييل, اطلاعاً لم أشك فيه. 
علومهم أقساماً . وهم على كثرة أصنافهم يلزمهم سمة الكفر والإلحاد . وإن كان 
بين القدماء منهم والأقدمين, وبين الأواخر منهم والأوائل» تفاوت عظي في البعد 
عن الحق والقرب منه. 

اصناف الفلاسفة 
واتصاف كافتهم بالكفر 

اعلم أنهم على كثرة فرقهم واختلاف مذاهبهم. ينقسمون إلى ثلاثة أقسام : 
الدهريون , والطبيعيون. والالهيون. 

الصنف الأول: الدهريون: ‏ وهم طائفة من الأقدمين جحدوا الصانع 
المدبر ؛ العالم القادر. وزعموا أن العالم لم يزل موجوداً كذلك بنفسه لا بصانع . 
وم يزل الحيوان من النطفة, والنطفة من الحيوان كذلك كان. وكذلك يكون 
أبداً وهؤلاء هم الزنادقة . 

الصنف الثاني: الطبيعيون: ‏ وهم قوم أكثروا بحثهم عن عالم الطبيعة وعن 
عجائب الحيوان والنبات, وأكثروا الخوض في تشريح أعضاء الحيوانات, فرأوا 


)١(‏ نو بالتدريس: مبتلى به. يقال مُنِيَ بكذا : ابتلي به, ومُنِي لكذا : وق له. 


فيها من عجائب صنع الله تعالى وبدائع حكمته ما اضطروا معه إلى الاعتراف 
بقادر حكي. مطلع على غايات الأمور ومقاصدها. ولا يطالع التشريح وعجائب 
منافع الأعضاء مطالع , إلا ويحصل له هذا العام الغروري بكمال تدبير الباني لبنية 
الحيوان؛ لا سما بنية الإنسان. إلا ان هؤلاء لكثرة بحثهم عن الطبيعة , ظهر عنهم 
- لاعتدال المزاج - تأثير عظيم في قوام قوى الحيوان به فظنوا أن القوة العاقلة من 
الإنسان تابعة لمزاجه أيضاً . وأنها تبطل ببطلان مزاجه فينعدم, ثم إذا انعدم فلا 
يعقل إعادة المعدوم كما زعموا؛ فذهبوا إلى أن النفس تموت ولا تعودء 
فجحدوا الآخرة وأنكروا الجنة والنار» والحشر والنشر , والقيامة والحساب. فلم 
يبق عندهم للطاعة ثواب . ولا للمعصية عقاب» فا نحل عنهم اللجام . وانهمكوا 
في الشهوات انبراك الأنعام . 

وهؤلاء أيضاً زنادقة؛ لأن أصل الإيمان هو الإيمان بالله واليوم الآخرء 
وهؤلاء جحدوا اليوم الآخرء وإن آمنوا بالله وبصفاته. 

الصنف الثالث: الالهيون: ‏ وهم المتأخرون منهم. مثل سقراط وهو أستاذ 
أفلاطون, وأفلاطون أستاذ أرسطاطاليس. وأرسطاطاليس هو الذي رتب هم 
المنطق. وهذب طم العلوم. وحرر طم ما لم يكن محرراً من قبل وأنضج هم ما 
كان فجًا من علومهم. وهم بجملتهم ردوا على الصنفين الأولين من الدهرية 
والطبيعية» وأوردوا في الكشف عن فضائحهم ما أغنوا به غيرهم «إ وكفى الله 
المؤمنين القتال © بتقاتلهم. ثم رد أرسطاطاليس على أفلاطون وسقراط ومن كان 
قبله من الالهيين رذا لم يقصر فيه حتى تبرأ من جميعهم ؛ إلا انه استبقى أيضا من 
رذائل كفرهم وبدعتهم بقايا لم يوفق للنزع منها؛ فوجب تكفيرهم. وتكفير 
متبعيهم من المتفلسفة الإسلاميين, كاين سينا 2 والفارابي 29 وغيرهما . على أنه لم 


)00( ابن سينا (.لا؟ - 1584 ه) ويسميه الفرنج عممععامه . كان فيلوفاً عظلياً وطبيباً بارعا . 
وقد بقي كتابه « القانون؛ المرجع الرئيسي لدراسة الطب في أوروبا لقرون عديدة. وله من 


ها 


يقم بنقل عام أرسطاطاليس أحد من متفلسفة الإسلاميين كقيام هذين الرجلين؛ 


قف 


الكتب ٠‏ النجاة» و و الشفاء ه وغيرها من الكتب والرسائل الفلسفية. وتقرب فللفته من فليفة 
أرسطو. ولكن لما كان العالم عند أرسطو قدياً, وهذه النظرة لا تتفق مع النظرية الإسلامية في 
حدوث العالم. فلا اضطر ابن سينا إلى القول بقدم العالم حتى يجعل أفعال الله قديمة مثله. رأى 
أن يجعل الله متقدماً على أفعاله القديمة بالذات لا بالزمان, والزمان نفسه مع أنه قديم مخلوق 
ايضا تقدمه الواجب بالذات لا يزمان آخر, 

وفلسفة ابن سينا تشتمل أيضاً على بعض الأصول الأفلاطونية المحدثة وذلك في نظريته في 
الفيض فهر يقول إن العالم فاض عن الله بمحضص إرادته لا عن حاجة إلى ذلك, فكان عنه 
أولاً العقل الأول ومن صفات هذا العقل الأول أنه ممكن في ذاته واجب بعلته. ومن هذين 
الاعتبارين فيه بدأ التكثر في الوجود ففاض عن العقل الأول عقل ثان ونفس فلكية وجرم 
سماوي , وعن العقل الثاني فاض عقل ثالث ونفس فلكية وجرم مماوي... وهكذا حتى ينتهي 
الصدور إلى العقل العاشر وهو العقل الفعال في عالمنا هذا . ويختلف ابن سينا عن أرسطو في هذا 
الموضوع بأنه يرى أن العقل الأول هو المحرك الأول لا الله. وأرسطو يرى أن الله لا يعقل إلا 
ذاته ولا ينشغل بغيرهاء وهو يحرك الكائنات بالشوق. أما إله ابن سينا فلا يعقل ذاته فقط بل 
يعقل الكائنات كما يعقل الجزئيات ويحبط علمه بكل شيء٠.‏ 

ومن آراء ابن سينا الفلسفية أنه يرى أن عم الأنبياء أرفع العلوم على عكس الفاراني الذي يرى 
أن عم الفلاسفة أعلى درجة من علم الأنبياء . 

الفارابي ( 770 - 588 ه ) فارسي الأصل., رحل في صباه إلى بغداد, ثم التحق بحاشية سيف 
الدولة وبقي عنده إلى أن مات. وهو واحد من أكبر شارحي فلفة أرسطو وناقليها إلى 
العربية. وسمي لذلك ب «المعام الثاني ه لأن أرسطو معروف باسم و المعام الأول:. وقد عرف 
الفارابي باطلاعه الواسع في عام الموسيقى. والمشهور أنه هو الذي أخترع الآلة المعروفة بالقانون. 
نحا الفاراني في فللفته منحى التوفيق بين أرسطو وأفلاطون من جهة, والتوفيق بينها وبين 
العقائد الإسلامية من جهة ثانية. ولكن بالرغم من ذلك كانت له آراء رجت عن المعتقدات 
الإسلامية المعروفة, كقوله بارتفاع درجة الفيلسوف عن درجة النهي , وقوله بنظرية الفيض التي 
اقتبها من المذهب الأفلاطوني المحدث. وقوله بقدم العالم. وغيرها من النظريات التي لا نتفق 
مع ما هو معروف من العقيدة الاإسلامية . 

وقد عرض الفارابي فلسفته في قسم من مؤلفاته الخاصة. وأفرد القسم الآخر لشرح فلسفة 
أرسطو والتوفيق بينه وبين غيره من الفلاسفة. ولكن لم يصل من مؤلفاته إلا القليل. وقد نشر 
ديترشي (كتقم)ءن2 ) في لندن منة ٠م١1‏ ثماني رسائل معنونة ب و مباحث فلفية للفاراني» 


( لعودنللمسططة عطاعوتطمموملتطع و'نطوعع8 لى ) 


ا" 


وما نقله غيرهها ليس يخلو عن تخبيط وتخليط يتشوش فيه قلب المطالع حتى لا 
يفهم. وما لا يفهم كيف يرد أو يقبل؟ وجموع ما صح عندنا من فلسفة 
أرسطاطاليس » بحسب نقل هذين الرجلين, ينحصر في ثلاثة أقسام : 

-١‏ قسم يجب التكفير به. 

؟ دوقم يب الجدع يان 1 

؟ - وقسم لا يجب إنكاره أصلا . 


أقسام علومهم 


اعلم أن علومهم بالنسبة إلى الغرض الذي نطلبه ستة أقسام: رياضيةء. 
ومنطقية , وطبيعية , وإلهية. وسياسية . وخلقية. 

١‏ -أما الرياضية: فتتعلق بعلم الحساب والمندسة وعلم هيأة العلم. وليس 
يتعلق شيء منها بالأمور الدينية نفياً وإثباتاً. بل هي أمور برهانية لا سبيل إلى 
مجاحدتها بعد فهمها ومعرفتها. وقد تولدت منها آفتان: 


الأولى: من ينظر فيها يتعجب من دقائقها ومن ظهور براهينهاء فيحسن 
بسبب ذلك اعتقاده في الفلاسفة. ويحسب أن جميع علومهم في الوضوح ووثاقة 
البرهان كهذا العام. ثم يكون قد ممع من كفرهم وتعطيلهم وتهاونهم بالشرع ما 
تناولته الألسن. فيكفر بالتقليد المحض ويقول: لو كان الدين حقا لما اختفى 
على هؤلاء مع تدقيقهم في هذا العام! فإذا عرف بالتسامع كفرهم وجحدهم. 
فيستدل على أن الحق هو الجحد والإنكار للدين. وم رأيت ممن ضل عن الحق 
بهذا القدر ولا مستند له سواه! وإذا قيل له: الحاذق في صناعة واحدة ليس 
يلزم أن يكون حاذقاً في كل صناعة, فلا يلزم أن يكون الحاذق في الفقه 
والكلام حاذقاً في الطب. ولا أن يكون الجاهل بالعقليات جاهلا بالنحو. بل 


١ 


لكل صناعة أهل بلغوا فيها رتبة البراعة والسبق؛ وإن كان الحمق والجهل قد 
يلزمهم في غيرها . فكلام الأوائل في الرياضيات برهافي . وفي الإلهيات تخميني ‏ لا 
يعرف ذلك إلا من جربه وخاض فيه.ء فهذا إذا قرر على هذا الذي انخذ 
بالتقليد . لم يقع منه موقع القبول بل تحمله غلبة الموى. وشهوة البطالة» وحب 
التكايس , على أن يصر على تحسين الظن بهم في العلوم كلها . 

فهذه آفة عظيمة لأجلها يجب زجر كل من يخوض في تلك العلوم ءفإنهاوإن 
لم تتعلق بأمر الدين؛ لكن لما كانت من مبادىء علومهم. يسري إليه شرهم 
وشؤمهم. فقل من يخوض في آفة إلا وينخلع من الدين وينحل عن رأسه لجام 
التقوى . 

الآفة الثانية: نشأت من صديق للإسلام جاهل, ظن أن الدين ينبغي أن 
ينصر بإنكار كل عم منسوب إليهم. فأنكر جميع علومهم وادعى جهلهم فيهاء 
حتى أنكر قولهم في الكسوف والخسوف. وزعم أن ما قالوه على خلاف الشرع, 
فليا قرع ذلك سمع من عرف ذلك بالبرهان القاطع . لم يشك في برهانه. لكن 
اعتقد أن الإسلام مبني على الجهل وإنكار البرهان القاطع فيزداد للفلسفة حب 
وللإسلام بغضاً. ولقد عظم على الدين جناية من ظن أن الإسلام ينصر بإنكار 
هذه العلوم . وليس في الشرع تعرض هذه العلوم بالنفي والإثبات., ولا في هذه 
العلوم تعرض للأمور الدينية. وقوله عليه السلام : ؛ إن الشمس والقمر آيتان من 
آيات الله تعالى لا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته. فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى 
ذكر الله تعالى وإلى الصلاة:() وليس في هذا ما يوجب إنكار علم الحساب 
المعرف بمسير الشمس والقمر واجتاعه| أو مقابلتها على وجه مخصوص .أما قوله 
عليه السلام: ٠‏ لكن الله إذا تجى لشيء خضع له فليس توجد هذه الزيادة في 
الصحاح أصلاً . فهذا حكم الرياضيات وآفتها . 


)١(‏ هذا الحديث روي بأسانيد وطرق وألفاظ مختلفة. رواه البخاري في الكسوف باب١‏ من حديث 


7 


* - وأما المنطقيات: فلا يتعلق شيء منها بالدين نفياً وإثباتاً, بل هو النظر 
في طرق الأدلة() والمقاييس9) 00 مقدمات البرهان 07 وكيفية تركيبهاء 
وشروط الحد 9) الصحيح وكيفية ترتيبه. وأن العم إما تصور ) وسبيل معرفته 
الحد. وإما تصديق 207 وسبيل معرفته البرهان؛ وليس في هذا ما ينبغي أن ينكرء 
بل هو من جنس ما ذكره المتكلمون وأهل النظر في الأدلة وإنما يفارقونهم 
بالعبارات والااصطلاحات. وبزيادة الاستقصاء في التعريفات والتشعيبات . ومثال 
كلامهم فيها قوهم: إذا ثبت أن كل ١أ» ١‏ بء لزم أن بعضض «ب٠«أ:أي‏ 


- أني بكرة وألي مسعود وابن عمر والمغيرة بن شعبةء ورواه في الباب ؟ و1 و0 من حديث 
عائشة, وفي الباب ه من حديث ابن عباس. وفي الباب ١‏ من حديث ألي معود وعائفة. 
وفي الباب ١1‏ من حديث ألي بكرة. ورواه في كتاب النكاح باب 8م من حديث ابن عباس. 
ورواه ملم في كتاب الكسوف حديث رقم ١‏ و5 من حديث عائشة. وحديث رقم و من 
حديث جابر بن عبد الله وحديث رقم 74 من حديث ابن عمر. والحديث رواه أيضاً الإمام 
أحمد في مسنده ج ١‏ ص 104 وج ؟ ص 9ك رجا ص25 الاء 017484 504. 
والنسائي في الكوف باب 9*. 511١‏ 13 58. وابن ماجة في الإقامة باب ١07‏ ومالك في 
الكوف: .,70١‏ 

)١(‏ الدليل في اللغة هو المرشد وما به الإرشاد. وفي الاصطلاح: هو الذي يلزم العلم به العلم بشيه 
آخر. وحقيقة الدليل هو ثبوت الأوسط للأصغرء واندراج الأصغر تحت الأوسط. (انظر 
كتاب التعريفات للجرجاني ) . 

(؟) القياس في اللغة عبارة عن التقدير. وهو عبارة عن رذ الشيء إلى نظيره. وفي الاصطلاح 
المنطقي: قول مؤلف من قضايا إذا سلمت لزم عنها لذاتها قول آحفر. وفي الشريعة : عبارة عن 
المعنى المستنبط من النص لتعديه الحكم من المنصوص عليه إلى غيره. وهو الجمع بين الأصل 
والفرع في الحكم. 

(؟) البرهان: هو القياس المؤلف من اليقينيات سواء كانت ابتداء وهي الضروريات, أو بواسطة 
وهي النظريات . 

010 الحد في اللغة : المنع . وفي الااصطلاح : قول يشتمل على ما به الاشتراك وعلى ما به الامتياز. 

(0) التصور : هو إدراك الماهية من غير أن يحكم عليها بنفي أو إنبات. 

(1) التصديق: هو التصور الذي معه حكم. وهو إسناد أمر إلى آخر سلباً أو إيجاباً . 


إذا ثبت أن كل إنسان حيوان لزم أن بعض الحيوان إنسان. ويعبرون عن هذا 
بأن الموجبة الكلية تنعكس موجبة جزئية . وأي تعلق هذا بمههات الدين حتى 
يححد وينكر ؟ فإذا أنكر لم يحصل من إنكاره عند أهل المنطق إلا سوء الاعتقاد 
في عقل المنكرء بل في دينه الذي يزعم أنه موقوف على مثل هذا الإنكار . نعم, 
هم نوع من الظام في هذا العلمء وهو أنهم يجمعون للبرهان شروطأ يعام أنها تورث 
اليقين لا محالة» لكنهم عند الانتهاء إلى المقاصد الدينية ما أمكنهم الوفاء بتلك 
الشروط ء بل تساهلوا غاية التساهل؛ وربما ينظر في المنطق أيضاً من يستحسنه 
ويراه واضحاً فيظن أن ما ينقل عنهم من الكفريات مؤيدة بمثل تلك البراهين» 
فاستعجل بالكفر قبل الانتهاء إلى العلوم الالهية. 

فهذه الآفة أيضاً متطرقة إليه . 

© - وأما علم الطبيعيات: فهو يبحث عن عالم السموات وكواكبها وما 
تحتها من الأجسام المفردة: كالماء والهواء والتراب والنارء ومن الأجسام المركبة: 
كالحيوان والنبات والمعادن. وعن أسياب تغيرها واستحالتها وامتزاجها. وذلك 
يضاهي بحث الطبيب عن جسم الانسان وأعضائه الرئيسية والخادمة. وأسباب 
استحالة مزاجه. 

وكا أنه ليس من شرط الدين إنكار عم الطب» فليس من شرطه أيضاً 
إنكار ذلك العام إلا في مسائل معينة ذكرناها في كتاب « تهافت الفلاسفة » وما 


)١(‏ يشير الغزالي إلى تقسيم القضايا المعروف في المنطق الأرسطي . فقد قالوا ‏ القضية قول يصح أن 
يقال لقائله إنه صادق فيه أو كاذب » وقسموها قسمين: موجبة كقولنا «زيد عالم» وسالبة 
كقولنا «زيد ليس بعالم ». والموجبة تنقسم بدورها إلى جزئية كقولنا « بعض الحيوان إنسان» 
وإلى كلية كقولنا و كل إنان فان».. وكذلك السالبة تنقمم إلى جزئية كقولنا و بعض الناس 
ليس عالاً ٠‏ وإلى كلية كقولنا « ليس من إنسان خالد ه. فعل هذا تكون القضايا أربعة أقسام : 
-١‏ قضية موجبة كلية. ؟ - قضية موجية جزئية. * - قضية سالبة كلية. 4 - قضية سالبة 


جزئية. 


١ 


عداها مما يجب المخالفة فيها؛ فعند التأمل يتبين أنها مندرجة تحتها. وأصل 
جملتها : أن يعم أن الطبيعة مسخرة لله تعالى, لا تعمل بنفسهاء بل هي مستعملة 
من جهة فاطرها؛ والشمس والقمر والنجوم والطبائع مسخرات بأمره لا فعل 
لشيء منها بذاته. 

- وأما الالهيات: ففيها أكثر أغاليطهم. فما قدروا على الوفاء بالبراهين 
عل ما شرطوه ف المنطق؛ ولذلك كثر الاختلااف بينهم فيها. ولقد قرب 
أرسطاطاليس مذهبه فيها من مذاهب الإسلاميين. على ما نقله الفارابي وابن 
سينا. ولكن جموع ما غلطوا فيه يرجع إلى عشرين أصلاً. يجب تكفيرهم في 
ثلاثة منهاء وتبديعهم في سبعة عشر . وللابطال مذهبهم في هذه المسائل العشرين . 
صنفنا كتاب «التهافت ». 

أما المسائل الثلاث, فقد خالفوا فيها كافة المسلمين. وذلك في قوهم: 

-١‏ إن الأجساد لا تحشر وإغا الْمُتاب والمعاقب هي الأرواح المجردة, 
والمثوبات والعقوبات روحانية لا جسمانية (" , 

ولقد صدقوا في إثبات الروحانية, فإنها كائنة أيضاً . ولكن كذبوا في إنكار 
الجسمانية, و كفروا بالشريعة فما نطقوا به. 

* - ومن ذلك قوفم: ٠‏ إن الله تعالى يعم الكليات دون الجزئيات 7(" وهذا 
أيضاً كفر صريح. بل الحق أنه: لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السموات 
ولا في الأرض © [ سبأ: ” ]. 

- ومن ذلك قوهم بقدم العالم وأزليته؛ فام يذهب أحد من المسلمين إلى 
شىء من هذه المسائل . 

)١(‏ هذه العقيدة يدين بها أيضاً الكثير من المسيحيين. 
(؟) راجم الحاشية )١(‏ ص75 حيث أثرنا إلى أن ابن سينا قال بعلم الله الكليات والجزئيات 
أيضاً . وذلك خلافاً لمذهب أرسطو في ذلك . 


ود 


وأما ما وراء ذلك من نفيهم الصفات وقوهم إنه عليم بالذات, لا بعلم زائد 
على الذات وما يحري بحراه. فمذهبهم فيه قريب من مذهب المعتزلة7) ولا يحب 
تكفير المعتزلة بمثل ذلك. وقد ذكرنا في كتاب «١‏ فيصل التفرقة بين الإسلام 
والزندقة » ما يتبين فيه فساد رأي من يتسارع إلى التكفير في كل ما يخالف 
مل هية . 





)١(‏ المعتزلة من الفرق التي تركت أثراً عظباً في الإسلام وحياته العقلية والفكرية. وهناك آراء 
مختلفة في نشأة هذه الفرقة ذكرتها الكتب التي تبحث في الفرق الإسلامية, وتجدها في فجر 
الإسلام لأحد أمين. ومن أشهر الآراء في ظهور هذه الفرقة أن واصل بن عطاء كان يجلس في 
حلقة الحسن البصري , وقد اشترك واصل في النقاش الذي جرى بين الخوارج والجاعة في مسألة 
مرتكب الكبيرة. فقالت الجراعة بأنه مؤمن ولكنه فاسق. وقالت الخوارج بكفره؛ ولكن واصل 
خرج عن الفريقين بقوله « إن الفاسق من هذه الأمة لا مؤمن ولا كافر بل له منزلة بين 
المنزلتين » فخرج بقوله هذا من حلقة الحسن , واعتزل عنهء فانضم إليه عمرو بن عبيد فقيل لها 
ولأتباعهها ٠‏ معتزلون .٠‏ 
ويمكننا تلخيص تعالم المعتزلة بما يل : 

١‏ - القول بالمنزلة بين المنزلتين. 

؟ - القول بالقدر وعدم خلق الله لأفعال الناس وإنما هم الذين يخلقون أعبالهم. وهم لذلك 
يثابون ويعاقبون, ولأجل ذلك يوصف الله بالعدل. 

- القول بالتوحيد , فنفوا أن يكون لله تعالى صفات أزلية من عام وقدرة وحياة وسمع وبصر 
غير ذاته. بل الله عالم وقادر وحي وسميع وبصير بذاته, وليست هناك صفات زائدة على ذاته. 
والقول بوجود صفات قديمة قول بالتعدد , ولا كثرة في ذاته البتة. وهذا ما أشار إليه الغزالي. 
غ - قوطهم بقدرة العقل على التمييز بين الحسن والقبيح, ولو لم يرد با شرع, والششرع لم يجمل 
الشيء حسناً بأمره به, ولا القبيح قبيحاً بنهيه عنه, بل الشرع إنما أمر بالشيه الحسن ونهى عن 
الآخر لقبحه. 

وقد استفاد المعتزلة كثيراً من الفلسفة اليونانية؛ وصبغوها بالصبغة الاسلامية واستعانوا بها لي 
مناظراتهم وجدهم. وقد كان للمعتزلة دور مهم في عهد المأمون والمعتصم العباسيين اللذين 
تمذهبا رسمّا بمذهب الاعتزال, وحملا الناس على الأخذ بفكرة خلق القرآن. 

(انظر ٠‏ تاريخ الجهمية والمعتزلة » للقاسمي) . 


و 


د - وأما السياسيات: فجميع كلامهم فيها يرجع إلى الحكم المصلحية 
المتعلقة بالأمور الدنيوية والايالة السلطانية» وإنما أخذوها من كتب الله المنزلة 
على الأنبياء , ومن الحكم المأثور عن سلف الأنبياء . 

1 - وأما الخلقية: فجيمع كلامهم فيها يرجم إلى حصر صفات النفس 
وأخلاقهاء وذكر أجناسها وأنواعهاء وكيفية معالجتها ويجاهدتها ؛ وإنما أخذوها 
من كلام الصوفية , وهم المتألهون المثابرون على ذكر الله تعالى وعلى مخالفة الموى 
وسلوك الطريق إلى الله تعالى بالاعراض عن ملاذ الدنيا. وقد انكشف هم في 
مبجاهداتهم من أخلاق النفس وعيوبها وآفات أعالها ما صرحوا بباء فأخذها 
الفلاسفة ومزجوها بكلامهم. توسلاً بالتجمل بها إلى ترويج باطلهم . ولقد كان 
في عصرهم. بل في كل عصر جماعة من المتأهين. لا يخلي الله سبحانه الغالم 
عنهم. فإنهم أوتاد الأرضء ببركاتهم تنزل الرحمة إلى أهل الأرض كما ورد في 
الخبر حيث قال عليه السلام: « بهم تمطرون وبهم ترزقون, ومنهم كان أصحاب 
الكهف ». 

وكانوا في سالف الأزمنة, على ما نطق به القرآن» فتولد من مزجهم كلام 
النبوة وكلام الصوفية بكتبهم افتان: آفة في حق القابل» وآفة في حق الراد . 

١‏ - أما الآفة التي هي في حق الراد فعظيمة: إذ ظنت طائفة من الضعفاء 
أن ذلك الكلام إذا كان مدوناً في كتبهم. وممزوجاً بباطلهم ينبغي أن بجر 
ولا يذكرء بل ينكر على كل من يذكره؛ لأنهم إذ لم يسمعوه أولاً إلا منهم, 
فسبق إلى عقوهم الضعيفة أنه باطل لأن قائله مبطل. كالذي يسمع من 
النصراني قول ١لا‏ إله إلا الله عيسى رسول الله » فينكره ويقول: « هذا كلام 
النصراني». ولا يتوقف ريثا يتأمل أن النصراني كافر باعتبار هذا القول» أو 
باعتبار إنكاره نبوة مد عليه السلام ! فإن لم يكن كافراً إلا باعتبار إنكاره. فلا 
ينبغي أن يخالف في غير ما هو به كافر مما هو حق في نفسه. وإن كان أيضا حقا 


2 


.عنده. وهذه عادة ضعفاء العقول يعرفون الحق بالرجال, لا الرجال بالحق. 
والعاقل يقتدي بقول أمير المؤمنين على بن أي طالب رضي الله تعالى عنه حيث 
قال: ولا تعرف الحق بالرجال. بل اعرف الحق تعرف أهله ؛ والعاقل يعرف 
الحق. ثم ينظر في نفس القول. فإن كان حقًا قبله. سواء كان قائله مبطلاً أو 
محقّا. بل ربما يحرص على انتزاع الحق من أقاويل أهل الضلال عالماً بأن معدن 
الذهب الرغام 29. ولا بأس على الصراف إن أدخل يده في كيس القلاب "ا 
وانتزع الابريز الخالص من الزيف والبهرج, مهما كان واثقاً ببصيرته ؛ فإنما يزجر 
عن معاملة القلاب القروي. دون الصيرفي البصير؛ ويمنع من ساحل البحر 
الأخرق. دون السباح الحاذق؛ ويصد عن مس الحية الصبي, دون المعزم 9) 
البارع . 
ولعمري! لما غلب على أكثر الخلق ظنهم بأنفسهم الحذاقة والبراعة وكبال 
العقل وتمام الآلة في تمييز الحق عن الباطل. والهدى عن الضلالة» وجب حسم 
الاب في زجر الكافة عن مطالعة كتب أهل الضلالة ما أمكن, إذ لا يسلمون 
عن الآفة الثانية التي سنذكرها أصلاً . وإن سلموا عن هذه الآفة التي ذكرناها . 
ولقد اعترض على بعض الكلرمات المبثوثة في تصانيفنا في أسرار علوم الدين 
طائفة من الذين لم تستحكم في العلوم سرائرهم, ولم تنفتح إلى أقصى غايات 
المذاهب بصائرهم. وزعمت أن تلك الكلمات من كلام الأوائل, مع أن بعضها من 
مولدات الخواطر ولا يبعد أن يقع الحافر على الحافر» وبعضها يوجد في الكتب 
الشرعية, وأكثرها موجود معناه في كتب الصوفية. وهب أنها لم توجد إلا في 
(؟) القلاب: الرجل الذي تكون منه السقطة فيتداركها بأن يقلبها عن جهتها ويصرفها إلى غير 
معناها. هذا هو المعنى الأصلي للكلمة. ولعل الغزاللي يريد في تعبيره هنا مزيف النقود. فهو 
الظاهر من السياق. 
(؟) المعزم: الراقي. أي الذي يقرأ الرقى. 


5 


كتبهم. فإذا كان ذلك الكلام معقولاً في نفه. مؤيداً بالبرهان, ولم يكن على 
مخالفة الكتاب والسنة. فام ينبغي أن بهجر. ويترك؟ فلو فتحنا هذا الباب. 
وتطرقنا إلى أن هجر كل حق سبق إليه خاطر مبطل, للزمنا أن مهجر كثيراً من 
الحق. ولزمنا أن :هجر جملة آيات من آيات القرآن, وأخبار الرسول وحكايات 
السلف. وكلرات الحكباء والصوفية. لأن صاحب كتاب وإخوان الصفاء»() 
أوردها في كتابه مستشهداً بباء ومستدرجاً قلوب الحمقى بواسطتها إلى باطله. 
ويتداعى ذلك إلى أن يستخرج المبطلون الحق من أيدينا بإيداعهم إياه في كتبهم. 
وأقل درجات العالمء أن يتميز عن العامي الغمر2. فلا يعاف العسل. وإن 
وجده ني محجمة الحجام. ويتحقق أن المحجمة لا تغير ذات العسل., فإن نفرة 
الطبع منه مبنية على جهل عامي منشؤه أن المحجمة إنما صنعت للدم المستقذر , 
فيظن أن الدم مستقذر لكونه في المحجمة, ولا يدري أنه مستقذر لصفة في 
ذاته. فإذا عدمت هذه الصفة في العسل فكونه في ظرفه لا يكسيه تلك الصفة. 
فلا ينبغي أن يوجب له الاستقذار. وهذا وهم باطل. وهو غالب على أكثر 
الخلق. فمهه| نسبت الكلام وأسندته إلى قائل حسن فيه اعتقادهم قبلوه وإن كان 
(1) إخوان الصفاء وخلان الوفاء: نشأت في القرن الرابع المجري في البصرة في وقت كانت الفلسفة 
فيه لا تاوي بمفهومها إلا الزندقة والمروق من الدين. وكانت هذه الجمعية في أصل نشأتها 
سربة بالغ مؤسسوها في التستر والتخفي حفظاً لحياتهم من أعدائهم. وأساس مذهبهم يقوم على 
مزج الفلسفة اليونانية بالشريعة الإسلامية ليحصل الكبال. وقد اختلف المؤرخون في أسياء 
مؤسسي هذه الجراعة وأهدافهم الرئيسية من وراء ججعيتهم هذه. 
وفلسفة اخوان الصفاء جموعة في النتين وخسين رمالة تطرقوا فيها لذكر جيع العلوم والمعارف 
الطبيعية والرياضية و الفلفية والالهية والعقلية في كل هذه الرسائل, إلا الأخيرة وهي الرسالة 
الجامعة فقد أجملوا فيها خلاصة فللفتهم. وقد طبعت هذه الرسائل للمرة الأولى في 
الند سنة ١81١١‏ مءثم طبع المستشرق الألماني ديتريشي خلاصة عنها سنة 1881 في 
برلين. وفي منة ١974‏ ظهرت ها طبعة تامة في مصر . أما الرمالة الجامعة فقد حققها الد كتور 
جميل صليا ونشرها المجمع العلمي العربي بدمشق سنة ١9144‏ . 
(؟) الغمر ( بفتح الغين المعجمة ومكون المي ): الذي لم يرب الأمور . 


ا 


باطلاً. وإن أسندته إلى من ماء فيه اعتقادهم ردوه وإن كان حقًا. فأبداً 
يعرفون الرجال بالحق. وهو غاية الضلال! هذه آفة الراد . 

؟ - آفة القبول: فإن من نظر في كتبهم « كإخوان الصفا » وغيره. فرأى ما 
مزجوه بكلامهم من الحكم النبوية والكليات الصوفية. ربما استحسنها وقبلها. 
وحسن اعتقاده فيها . فيسارع إلى قبول باطلهم الممزوج به لحسن ظن حصل فيا 
راه واستحسنه وذلك نوع استدراج إلى الباطل . 

ولأجل هذه الآفة يجب الزجر عن مطالعة كتبهم لما فيها من الغدر والخطر. 
وكيا يجب صون من لا يحسن السباحة عن مزالق الشطوط . يجب صون الخلق عن 
مطالعة تلك الكتب. وكما يجب صون الصبيان عن مس الحيات». يجب صون 
الأسماع عن مختلط تلك الكلمات . وكا يجب على المعزم أن لا يمس الحية بين يدي 
ولده الطفل . إذا عم أنه سيقتدي به ويظن أنه مثله. بل يحب عليه أن يحذره: 
بأن يحذر هو في نفسه ولا يمسها بين يديه. فكذلك يجب على العالم الراسخ مثله. 
وكيا أن المعزم الحاذق إذا أخذ الحية وميز بين الترياق والسم. فاستخرج منه 
الترياق وأبطل السم. فليس له أن يشح بالترياق على المحتاج إليه. وكذلك 
الصراف الناقد البصير . إذا أدخل يده في كيس القلاب. وأخرج منه الابريز 
الخالص . واطرح الزيف والبهرج فليس له أن يشح بالجيد المرضي على من يحتاج 
إليه. كذلك العالم. وكما أن المحتاج الى الترياق: اذا اشمات نفسه من عي 
عام أنه مستخرج من الحية التي هي مركز السم. وجب تعريفه؛ والفقير المضطر 
إلى المال إذا نفر عن قبول الذهب المستخرج من كيس القلاب , وجب تنبيهه على 
أن نفرته جهل محض. وهو سبب حرمانه عن الفائدة التي هي مطلبه. وتحتم 
تعريفه أن قرب الجوار بينالزيف والجيد لا يجعل الجيد زيفاً كما لا يجعل الزيف 
جيداً ؛ فكذلك قرب الجوار بين الحق والباطل لا يجعل الحق باطلاً. كما لا يجعل 
الباطل حقًا . 

فهذا مقدار ما أردنا ذكره من آفة الفلسفة وعائلتها 


لوا 


* - القول في مذهب التعلم 2 وغائلته 


ثم إني لما فرغت من عم الفلسفة وتحصيله وتفهيمه وتزييف ما يزيف منه. 
علمت أن ذلك أيضاً غير واف بكمال الغرض. وأن العقل ليس مستقلاً 
بالإحاطة بجميع المطالبء ولا كاشفاً للغطاء عن جميع المعضلات. وكان قد 
نبغت نابغة التعليمية. وشاع بين الخلق تحدثهم بمعرفة معنى الأمور من جهة 
الإمام المعصوم القائم بالحق. عن لي أن أبحث عن مقالاتهم لأطلع على ما في 
كتبهم. ثم اتفق أن ورد علي أمر جازم من حضرة الخلافة» بتصنيف كتاب 
يكشف عن حقيقة مذهبهم. فلم يسعني مدافعته. وصار ذلك مستحثاً من 
خارج. ضميمة للباعث الأصلي من الباطن, فابتدأت بطلب كتبهم وجع 
مقالاتهم. وكان قد بلغني بعض كلاتهم المستحدثة التي ولدتها خواطر أهل 
العصر لا على المنهاج المعهود من سلفهم. فجمعت تلك الكلمات. ورتيتها ترتيبا 
محكاً مقارناً للتحقيق, واستوفيت الجواب عنها. حتى أنكر بعض أهل الحق مني 
مبالغتي في تقرير حجتهم. وقال: «هذا سعي طم. فإنهم كانوا يعجزون عن 


)١(‏ قال الشهرستاني في الملل والنحل ما ملخصه أن مذهب التعلع ويدعى الباطنية هو عقيدة فرقة 
تنسب نفها إلى إسماعيل بن جعفر الصادق. وقد ظهر هذا المذهب أول الأمر بشكل ديني 
بحض حيث قرر أن لكل ظاهر باطناً ولكل شرع تأويلاً. وعرف بأسياء عديدة منها: 
القرامطة. والمزدكية . والملحدة. ومن جملة ما قالوه في الله تعالى: « إنا لا نقول هو موجود. 
ولا لا موجود. ولا عالم. ولا جاهل...:اه ملخصاً. وإذا كان منشأ هذه الفرقة دينياً, إلا 
أنها نحت بعد ذلك منحى سياسياً واضحاً بإشاعتها فكرة الإمام المعصوم, مما دفع نظام الملك» 
بعد أن رأى خطرها على مركز الخلافة, إلى الامتعانة بالغزالي للرد عليهم. وقد ذكر الغزالي 
ذلك. ولم يناقشهم في هذا الفصل إلا في فكرة الإمام المعحصوم . 


م 


نصرة مذهبهم بمثل هذه الشبهات لولا تحقيقك لها وترتيبك إياها » وهذا الإنكار 
من وجه حق, فلقد أنكر أحمد بن حنيل على الحارث المحاسبي رحمها الله تصنيفه 
في الرد على المعتزلة . فقال الحارث: ١‏ الرد على البدعة فرض » فقال احمد ١‏ نعمء 
ولكن حكيت شبهتهم أولاً ثم أجبت عنهاء فبم تأمن أن يطالع الشبهة من يعلق 
ذلك بفهمه ولا يلتفت إلى الجواب, أو ينظر إلى الجواب. ولا يفهم كنهه؟ ١‏ . 

وما ذكره أحمد حق. ولكن في شبهة لم تنشر ولم تشتهر, فأما إذا انتشرت» 
فالجواب عنها واجب ولا يمكن الجواب عنها إلا بعدالحكاية.نعم. ينبغي الا 
يتكلف إيرادها, ولم أتكلف أنا ذلك. بل كنت قد سمعت تلك الشبهة من 
واحد من أصحالي المختلفين إل بعد أن كان قد التحق بهم وانتحل مذهبهم, 
وحكى أنهم يضحكون على تصانيف المصنفين في الرد عليهم بأنهم م يفهموا بعد 
حجتهم. وذكر تلك الحجة وحكاها عنهم. فلم أرض لنفسي أن يظن في الغفلة 
عن أصل حجتهم ؛ فلذلك أوردتها. ولا أن يظن بي أني وإن سمعتها مأفهمها ؛ 
فلذلك قررتما. 

والمقصود أني قررت شيهتهم إلى أقصى الامكان. ثم أظهرت فسادها بغاية 
الرهان. 

والحاصل : أنه لا حاصل عند هؤلاء. ولا طائل لكلامهم. ولولا سوء نصرة 
الصديق الجاهل., لما انتهت تلك البدعة ‏ مع ضعفها ‏ إلى هذه الدرجة؛ ولكن 
شدة التعصب. دعت الذابين عن الحق إلى تطويل النزاع معهم في مقدمات 
كلامهم. وإلى مجادلتهم في كل ما نطقوا به. فجادلوهم في دعواهم «الحاجة إلى 
التعليم والمعلم ؛ ودعواهم ٠لا‏ يصلح كل معلمء بل لا بد من معلم معصوم ,27 
10 دعوف مرزورة وسود الأنام الشنوم تربك عل سترونة وعد هذا الإمام في كل عصر ‏ 


بعد وفاة الني يِه - لارشاد العامة إلى جزئيات وتفصيلات التشريع الحادثة . ويرد الغزالي أنه 


: 


وظهرت حجتهم في إظهار الحاجة إلى التعليم وإلى المعام؛ وضعف قول المنكرين في 
مقابلتهم . فاغتر بذلك جماعة وظنوا أن ذلك من قوة مذهبهم. وضعف مذهب 
المخالفين لهم. ولم يفهموا أن ذلك لضعف ناصر الحق وجهله بطريقه؛ بل 
الصواب الاعتراف بالحاجة إلى المعلم, وأنه لا بد وأن يكون المعلم معصوماً؛ 
ولكن معلمنا المعصوم هو جمد عليه الصلاة والسلام, فإذا قالوا: وهو ميت» 
فنقول , ومعلمكم غائب ٠‏ فإذا قالوا: ‏ معلمنا قد بم الدعاة وبثهم في البلاد 
وهو ينتظر مراجعتهم إن اختلفوا أو أشكل عليهم مشكل .٠‏ فنقول: ٠‏ ومعلمنا 
قد علم الدعاة وبثهم في البلاد وأكمل التعلم إذ قال الله تعالى : «اليوم أكملت 
لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي © 7 وبعد كبال التعلم لا يضر موت المعلم كيا 

فبقي قوهم: ه كيف تحكمون فيا لم تسمعوه؟ أبالنص ولم تسمعوه. أم 
بالاجتهاد والرأي وهو مظنة الخلاف؟»: فنقول: نفعل ما فعله معاذ إذ بعثه 
رسول الله عَتَهِ إلى اليمن, إذ كان يحكم بالنص عند وجود النص وبالاجتهاد 
عند عذمه( ؛ بل كما يفعله دعاتهم إذا بعدوا عن الإمام إلى أقاصي البلاد ؛ إذ 
لا يمكنهم أن يحكموا بالنص . فإن النصوص المتناهية لا تستوعب الوقائع الغير 
المتناهية , ولا يمكنهم الرجوع في كل واقعة إلى بلدة الإمام. وإلى أن يقطع 
المسافة ويرجع فيكون المستفتي قد مات وفات الانتفاع بالرجوع. فمن أشكلت 


." سورةالمائدة, الآية‎ )١( 

(؟) في حديث معاذ بن جبل حين أراد رسول الله عَم أن يبعئه إلى اليمن قال له: ٠‏ كيف تقضي 
إذا عرض لك قضاء؟ قال: أقضي بكتاب الله. قال: فإن لم تجد في كتاب الله؟ قال: فيسنة 
رسول الله عَتَهِ . قال: فإن لم تجد في سنة رمول الله ولا في كتاب الله ؟ قال : أجتهد رأبي ولا 
آلو. فضرب رسول الله عَِْيّهِ صدره وقال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي 
رسول الله ». رواه أبو داود في كتاب الأقضية باب ١١‏ واللفظ له. والترمذي في الأحكام با 
والإمام اد ج 6 ص 59٠١‏ 27553 71417 


عليه القئلة ليس له طريق إلا أن يصلي بالاجتهاد . إذ لو سافر إلى بلدة الإمام 
لمعرفة القبلة. لفات وقت الصلاة. فإذن جازت الصلاة إلى غير القبلة بناء عل 
الظن. ويقال « إن المخطىء في الاجتهاد له أجر واحد وللمصيب أجران:07) 
فكذلك في جيع المجتهدات, وكذلك أمر صرف الزكاة إلى الفقير » وربما يظنه 
فقيراً باجتهاده وهو غنى باطناً بإخفاء ماله ولا يكون هو مؤاخذاً به وإن 
أخطأ. لأنه لم يؤاخذ إلا بموجب ظنه. فإن قال: وظن مخالفه كظنه » فنقول 
وهو مأمور باتباع ظن نفسه, كالمجتهد في القبلة يتبع ظن نفسه وإن خالفه 
غيره». فإن قال: ٠‏ فالمقلد يتبع أيا حنيفة أو الشافعي رجه الله أم غيرهها» 
فأقول: « فالمقلد في القبلة عند الاشتياه. إذا اختلف عليه المجتهدون كيف 
يصنع ٠؟.‏ فسيقول: وله مع نفسه اجتهاد في معرفته الأفضل الأعم بدلائل 
القبلة. فيتبع ذلك الاجتهاد , فكذلك في المذاهب ». 

فرد الخلق إلى الاجتهاد - ضرورة _الأنبياء والأئمة مع العم بأنهم قد 
يخطئون. بل قال رسول الله يِه : , أنا أحكم بالظاهر والله يتولى السرائر ‏ 9 
أي : أنا أحكم بغالب الظن الحاصل من قول الشهود وربما أخطيء فيه. ولا سييل 
إلى الأمن من الخطأ للأنبياء في مثل هذه المجتهدات فكيف نطمع في ذلك ؟. 

وهم ههنا سؤالان: أحدهها قوهم هذا: وإن صح في المجتهدات فلا يصح في 


)١(‏ في الحديث الشريف عن عمرو بن العاص أنه سمع رسول الله بَيقهِ قال: ٠‏ إذا حكم الحام 
فاجنهد ثم أصاب فله أجران. وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجره. أخرجه البخاري لي 
الاعتصام باب .8١‏ ومم في الأقضية حديث رقم 16., وأبو داود في الأقضية باب ؟. وابن 
ماجه في الأحكام باب . والامام أحمد: ج ؟ ص 480 وج 4 ص 5٠١00504198‏ وقد 
رواه أيضأ من حديث أبي هربرة الترمذي في الأحكام باب ؟. والنائي في آداب القضاء باب 
5 

(؟) هذا الحديث مرجود في المؤلفات الفقهية : وقد جزم العراقي بأنه لا أصل له. وكذلك أنكره 
المزني وغيره. 


اه 


قواعد العقائد. إذ المخطىء فيها غير معذور. فكيف السبيل إليه؟ فأقول: 
« قواعد العقائد يشتمل عليها الكتاب والسنة وما وراء ذلك من التفصيل» 
والمتنازع فيه يعرف الحق فيه بالوزن بالقسطاس المستقم . وهي الموازين التي ذ كرها 
الله تعالى في كتابه, وهي خمسة ذكرتها في كتاب القسطاس المستقم ». فإن قال: 
«خصومك يخالفونك في ذلك الميزان» فأقول: ولا يتصور 
أن يفهم ذلك الميزان ثم يخالف فيه, إذ لا يخالف فيه أهل التعلم, لأني 
استخرجته من القرآن وتعلمته منه. ولا يخالف فيه أهل المنطق, لأنه موافق لما 
شرطوه في المنطق غير مخالف له. ولا يخالف فيه المتكلم, لأنه موافق لما يذكره في 
أدلة النظريات, وبه يعرف الحق في الكلاميات ». فإن قال: « فإن كان في يدك 
مثل هذا الميزان, فام لا ترفع الخلاف بين الخلق؟» فأقول «لو أصغوا إل 
لرفعت الخلاف بينهم؛ وذكرت طريق رفع الخلاف في كتاب «القسطاس 
المستقيم » فتأمله لتعام أنه حق وأنه يرفع الخلاف قطعا لو أصغواء. ولا يصغون 
إليه بأجمعهم ! بل قد أصغى إل طائفة فرفعت الخلاف بينهم وإمامك يريد رفع 
الخلاف بينهم مع عدم إصغائهم فلم م يرفع إلى الآن؟ وم لم يرفع علي رضي الله 
عنه وهو رأس الأئمة؟ أو يدعي أنه يقدر على حمل كافتهم على الإصغاء قهراً. 
فل لم يحملهم إلى الآن؟ ولأي يوم أجله؟ وهل حصل بين الخلق بسبب دعوته 
إلا زيادة خلاف وزيادة مخالف؟ نعم! كان يخثى من الخلاف نوع من الضر لا 
ينتهي إلى سفك الدماء. وتخريب البلاد . وإيتام الأولاد. وقطع الطرق». 
والإغارة على الأموال. وقد حدث في العالم من بركات رفعكم الخلاف ما لم 
يكن بمثله عهد » فإن قال: «ادعيت أنك ترفع الخلاف بين الخلق ولكن المتحير 
بين أهل المذاهب المتعارضة والاختلافات المتقابلة لم يلزمه الإصغاء إليك دون 
خصمك وأكثر الخصوم يخالفونك ولا فرق بينك وبينهم ». 

وهذا هو سؤالحم الثاني فأقول: هذا أولاً ينقلب عليك, فإنك إذا دعوت 
هذا المتحير إلى نفسك فيقول المتحير : بم صرت أولى من مخالفيك وأكثر أهل 


؟ه 


العام يخالفونك ؟ فليت شعري بماذا تجيب! أتحجيب بأن تقول إمامي منصوص 
عليه ؟ فمن يصدقك في دعوى النص وهو لم يسمع النص من الرسول؟ وإنما لم 
يسمع دعواك مع تطابق أهل العلم على اختراعك وتكذيبك. ثم هب أنه سام لك 
النص. فإن كان متحيراً في أصل النبوة فقال: هب أن إمامك يدلي بمعجزة 
عيسى فيقول: الدليل على صدقي أني أحبي أباك., فأحياه. فناطقني بأنه محق, 
فماذا أعلاامند 53 ول :يعزرفت كانة الخلق مدق عيدي رده المفسرة ربل هليه تمن 
الأسئلة المشكلة ما لا يدفع إلا بدقيق النظر العقلي ؛ والنظر العقلي لا يوثق به 
عندك. ولا يعرف دلالة المعجزة على الصدق مالم يعرف السحر والتمييز بينة 
وبين المعجزة . وما لم يعرف أن الله لا يضل عباده وسؤال الإضلال وعسر تحرير 
الجواب عنه مشهور ‏ فباذا تذفع جميع ذلك ؟ ولم يكن إمامك أولى بالمتابعة من 
مخالفيه ! فيرجع إلى الأدلة النظرية التي تنكرهاء فخصمه يدلي بمثل تلك الأدلة 
وأوضح منها . 

وهذا السؤال قد انقلب عليهم انقلاباً عظياً » لو اجتمع أولهم وآخرهم على أن 
يحيبوا عنه جواباً لم يقدروا عليه. وإنما نشأ الفساد من جماعة من الضعفة ناظروهم 
فام يشتغلوا بالقلب بل بالجواب؛ وذلك مما يطول فيه الكلام. ولا يسبق سبريعا 
إلى الأفهام . فلا يصلح للإفحام. 

فإن قال قائل: ٠‏ فهذا هو القلب فهل عنه جواب؟»فأقول:نعم جوابه أن 
المتحير لو قال أنا متحير ولم يعين المسألة التي هو متحير فيهاء يقال له: أنت 
كمريض يقول أنا مريض , ولا يذكر عين مرضه, ويطلب علاجه. فيقال له: 
ليس في الوجود علاج للمرض المطلق. بل لمرض معين من صداع أو إسهال أو 
غيره) . فكذلك المتحير ينبغي أن يعين ما هو متحير فيه, فإن عين المسألة عرفته 
الحق فيها بالوزن بالموازين الخمسة التي لا يفهمها أحد إلا ويعترف بأنه الميزان 
الحق الذي يوثق بكل ما يوزن به فيفهم الميزان, ويفهم أيضاً صحة الوزن كما 
يفهم متعام الحساب نفس الحساب , وكون المحاسب المعام عالما بالحساب وصادقا 


07 


فيه. وقد أوضحت ذلك في كتاب ٠‏ القسطاس المستقيم» في مقدار عشرين 
ورقة؛ فليتأمل!. 3 

وليس المقصود الآن بيان فساد مذهبهم. فقد ذكرت ذلك في كتاب 
المستظهري أولاً , وفي كتاب حجة الحق ثانياً ؛ وهو جواب كلام لهم عرض عل 
بغداد. وفي كتاب «مفصل الخلاف» الذي هو اثنا عشر فصلا ثالثاً؛ وهو 
جواب كلام عرض علي بهمذان؛ وفي كتاب ١‏ الدرج» المرقوم بالجداول رابعاً, 
وهو من ركيك كلامهم الذي عرض على بطوس؛ وفي كتاب «القسطاس 
المستقيم ٠‏ خامساء. وهو كتاب مستقل بنفسه مقصوده بيان ميزان العلوم وإظهار 
الاستغناء عن الإمام المعصوم لمن احاط به. 

بل المقصود أن هؤلاء ليس معهم شيء من الشفاء المنجي من ظليمات الآراء . بل 
هم مع عجزهم عن إقامة البرهان على تعيين الامام . طال ما جاريناهم فصدقناهم 
في الحاجة إلى التعليم وإلى المعلم المعصوم , وانه الذي عينوه؛ ثم سالناهم عن العلم 
الذي تعلموه من هذا المعصوم. وعرضنا عليهم إشكالات فم يفهموها. فضلاً 
عن القيام بحلها ؛ فليا عجزوا احالوا على الإمام الغائب وقالوا: إنه لا بد من 
السفر إليه. والعجب أنهم ضيعوا عمرهم في طلب المعام وفي التبجح بالظفر به. 
وم يتعلموا منه شيئا أصلاً. كالمتضمخ (" بالنجاسة يتعب في طلب الماء حتى إذا 
وحده لم يستعمله وبقي متضمحا بالخبائث . 

ومنهم من ادعى شيئاً من علمهم. فكان حاصل ما ذككره شيئاً من ركيك 
فلسفة فيئاغورس!). وهو رجل من قدماء الأوائل. ومذهبه أرك مذاهب 


)١(‏ التضمخ: التلطخ. ويستعمل غالبا في الطيب. 

(؟) فيئاغورس: من أكبر فلاسفة اليونان. عاش بين القرنين السادس والخامس قبل المبلاد. وقد 
تركت فلفنته أثراً عظِياً في تطور الرياضيات فبا بعد . وترتكز فلغته ‏ كرا عرضها أرسطو 
عل الأعداد, فالأعداد هى أصل كل ثيء٠.‏ وعن العدد تنشأ جيم الموجودات . فعن العدد 
)0 أي الوحدة تنكأ الاثنينية . وعن الاثنينية ينشأ المثلث . وهكذا حتى نتكرن المناصر . ومن 


6 


الفلاسفة. وقد رد عليه أرسطاطاليس. بل استرك كلامه واسترذله؛ وهو 
المحكي في كتاب إخوان الصفاء. وهو على التحقيق حشو الفلسفة. 

فالعجب ممن يتعب طول العمر في طلب العام ثم يقنع بمثل ذللك العام الركيك 
المستغث . ويظن بأنه ظفر بأقصى مقاصد العلوم! فهؤلاء أيضاً جربناهم وسبرنا 
ظاهرهم وباطنهم. فرجع حاصلهم إلى استدراج العوام وضعفاء العقول ببيان 
الحاجة إلى المعلم. وتجادلتهم في إنكارهم الحاجة إلى التعليم بكلام قوي مفحم. 
حتى إذا ساعدهم على الحاجة إلى المعلم مساعد وقال: هات علمه وأفدنا من 
تعليمه! وقف وقال: الآن إذا سلمت لي هذا فاطلبه. فإنما غرضي هذا القدر 
فقط. إذ علم أنه لو زاد على ذلك لافتضح ولعجز عن حل أدنى الإشكالات ؛ 
بل عجز عن فهمه فضلاً عن جوابه. 


فهذه حقيقة حالهم فاخبرهم تَقْلَهِم 29 فلا خبرناهم نفضنا اليد عنهم أيضاً . 


هد العاصر تنشأ موجودات عالما. وقد كون الفيئاغوريون جماعة سياسية استلمت اللطة لفترة 
وجيزة في !إحدى المدن اليونانية . 
)١م‏ اخبرعم : أمتحتهم . وتقلهم : تبغضهم . من القلى وهو البغض. 


08 


؛ - طرق الصوفية 
نم إني لما فرغت من هذه العلوم أقبلت بهمتي على طريق الصوفية 0" وعلمت 


)١(‏ يعتبر هذا الفصل من الكتاب أهم فصل فيه. ولعله بالنسبة للغزاللي لب مؤلفه هذا والجوهر 
الذي معى للوصول إليه بعد أزمة الشك التي عصفت به. فبعد أن فرغ الغزالي من انتقاد آراء 
الفرق الأخرى في الفصول الابقة وفندها رأيا رأياً. أقبل بهمته على طريق الصوفية. فطالع 
كتبهم . واطلع على أقوالهم. فاطأن إليهم. ووجدهم أفضل اللالكين لطريق الله حتى قال فيهم 
(ص76): ١«علمت‏ يقيئاً أن الصوفية هم الابقون لطريق الله تعالى خاصة؛ وأن سيرتهم 
أحسن السير. وطريقهم أصوب الطرق. وأخلاقهم أزكى الأخلاق. بل لو جمع عقل العقلاء 
وحكمة الحكراء وعم الواقفين على أسرار الشرع من العلماء ليغيروا شيئاً من سيرهم وأخلاقهم 
ويبدلوه بما هو خير منه لم يجدوا إليه سبيلا ٠اها.‏ 
ولا عجب. فالنصوف واء أكان أخلاقاً. أو معرفة, أو سلوكاً. أو تصويراً لمناجاة. أو 
نذوقاً لنجليات, أو تحليقاً حول إشراقات. فهي مادة موصولة بالله. قائمة به ولهى فانية فيه 
سبحانه . يقول الصوفي أبو سلبان الداراني: ‏ القلب الصوفي قد رأى الله وكل شيء يرى الله 
لا يموت. فمن رأى الله فقد خلد .. ويقول الامام الجنيد في الفناء الصوفي: ٠‏ فتكون كل 
حركاته في موافقة الحق دون مخالفاته. فيكون فانياً عن المخالفات. باقياً في الموافقات» 
فالتصوف إذن استبدال خلق بشري بخلق رباني. وذلك ارتفاع بالبشرية لا نعرفه ولا تعرفه 
الدنيا لغير الصوفية الإسلامية. 
أما عن تتسميتهم بالصوفية. فقد نقل الكلاباذي في كتابه ٠‏ التعرف لمذهب أهل التصوف؛ ص 
١‏ الأقوال المختلفة في ذلك. فقالت طائفة: إنما سميت الصوفية صوفية لصفاء أسسرارها 
ونقاء آثارها. وقال بشر بن الحارث: الصونيٍ من صفا قله لله. وقال بعضهم: الصوني من 
صفت ننه معاملته. فصفت له من الله عز وجل كرامته. وقال قوم: إنما سموا صوفية لأنهم في 
الصف الأول بين بدي الله جل وعزء بارتفاع هممهم إليه. وإقبالهم بقلوبهم عليه. ووقوفهم 
بسرائرهم بين يدبه. وقال قوم: إنما موا صوفية لقرب أوصافهم من أوصاف أهل الصفة 
الذين كانوا على عهد رسول الله يََْْه . وقال قوم: إنما سموا صوفية للبسهم الصوف. اه. 


الك 


أن طريقتهم إنما تتم بعلم وعمل؛ وكان حاصل عملهم قطم عقبات النفس, 
والتنزه عن أخلاقها المذمومة وصفاتها الخبيثة. حتى يتوصل بها إلى تخلية القلب 
عن غير الله تعالى وتحليته بذكر الله . 


وكان العام أيسر عل من العمل . فابتدأت بتحصيل علمهم من مطالعة كتبهم 


مثل قوت القلوب لأبي طالب المكي () رحمه الله. وكتب الحارث المحاسبي 9 , 


(1) 


0 


فم 


)( 


والمتفرقات المأثورة عن الجنيد 9) والشبلى 10" وألي يزيد البسطامي (0) قدس الله 


أبو طالب المكي توفي سنة 588 ه. له مصنفات في التوحيد . قيل: إن رياضته الصوفية كانت 
عظيمة جداً, إذ أنه هجر الطعام زماناً. واقتصر على أكل الحشائش المباحة فاخضر جلده من 
كثرة تناوها! أما كتابه « قوت القلوب » فقد قالوا: ٠‏ إنه لم يصنف في الإسلام مثله في دقائق 
الطريقة الصوفية. ولمؤلفه كلام في هذه الملوم لم يسبق إلى مثله » ويمتاز الكتاب بحرص مؤلفه 
واحتياطه فيا يتعلق بمذاهب الصوفية وبجمال لغته. 

هو أبو عبدالله الحارث بن أسد المحاسبي. بصري الأصل., مات ببغداد سنة 51. قال أبو 
عبد الله بن خفيف: واقتدوا بخمة من شيوخنا والباقون سلموا لحم حالهم: الحارث بن أسد 
المحاسبي, والجنيد. وأبو جمد رويم. وأبو العباس بن عطاء. وعمرو بن عشان المكي. لأنهم 
جمعوا بين العلم والحقائق ؛ ومن أقوال المحاسبي: ه من صحح باطنه بالمراقبة والإخلاص» زين 
الله ظاهره بالمجاهدة واتباع السنة». أما عن مؤلفاته. فقد ذكر مترجوه أنه ألف في هذه العلوم 
(الحديث والفقه والكلام والتصوف) نحو مئتي كتاب. 

هو سيد هذه الطائفة وإمامهم حسيا يرى القشيري. أصله من نباوند, ومنشؤه ومولده 
بالعراق. وأبوه كان يبيع الزجاج فلذلك يقال له القواريري. كان فقيهاً على مذهب أل ثورء 
وكان يفتي بحضرته في حلقته وهو ابن عشرين سنة. صحب خاله السري والحارث المحاسبي 
ومد بن على القصاب . مات سنة /ا9ة؟ هل. 

أبو بكر الشبلي : بغدادي المولد والمنشأ. وأصله من أشروسنة. صحب الجنيد ومن في عصره. 
وكان شيخ عصره حالاً وظرفاً وعلراً. مالكي المذهب , عاش سبعاً ومانين سنة ومات سنة 81؟ 
وقبره ببغداد. كان الشيلى إذا دخل رمضان جد فوق جد من عاصره ويقول: «هذا شهر 
عليه رونا اولامن بلي 

أبو يزيد طيفور بن عيسى البسطامي: كان جده يجوميا أمام. وكانوا ثلائة إخوة: آدم وطيفور 
وعلي. وكلهم كانوا زهاداً عباداً. وأبو يزيد كان أجلهم حالاً. قيل مات سنة .57١‏ وقيل 
مله 7591. 


/اه 


أرواحهم. وغير ذلك من كلام مشايخهم. حتى اطلعت على كنه مقاصدهم 
العلمية . وحصلت ما يمكن أن يحصل من طريقها بالتعام والسماع. فظهر لي أن 
أخص خواصهم ما لا يمكن الوصول إليه بالتعام بل بالذوق ”7 والحال7 وتبدل 
الصنات. وى من الفرق بين أن يعلم حد !لصحة وحد الشبع وأسبابهها وشروطهها» 
وبين أن يكون صحيحاً وشبعاناً. وبين أن يعرف حد السكر وأنه عبارة عن 
حالة تحصل من استيلاء أبخرة تتصاعد من المعدة على معادن الفكر. وبين أن 
يكون سكراناً. بل السكران لا يعرف حد السكر ء وعلمه وهو سكران وما معه 
من علمه شيء . والصاحي يعرف حد السكر وأركانه وما معه من السكر شيء. 
والطبيب في حالة المرض يعرف حد الصحة وأسبابها وأدويتها وهو فاقد 
الصحة. فكذلك فرق بين أن تعرف حقيقة الزهد وشروطها" وأسبابهاء وبين 
أن يكون حالك الزهد وعزوف النفس عن الدنيا. 


)١(‏ عرف الجرجاني في ٠‏ كتاب التمريغات» الذوق في معرفة الله بأنه عبارة عن نور عرفاني يقذفه 
الحق بتجليه في قلوب أوليائه يغرقون به بين الحق والباطل من غير أن ينقلوا ذلك من كتاب أو 
غيره. 

(؟) الحال عند أهل الحق معنى يرد على القلب من غير تصنع ولا اجتلاب ولا اكتساب من طرب 
أو حزن أو قبض أو بسط أو هيئة. ويزول بظهور صفات النفس سواء يعقبه المثل أو لاء فوا 
دام وصار ملكا يسمى مقاماً. فالأحوال مواهب. والمقامات مكاسب., والأحوال تأتي من عين 
الجود . والمقامات تحصل ببذل المجهود . 

(؟) الزهد لغة: ترك الميل إلى الشيء. وفي اصطلاح أهل الحقيقة: هو بغض الدنيا والإعراضي 
عنها. وقد عرف الزهد عند جميع الأمم, ولكن غايته عندهم الابتعاد عن اللذات. يعكس 
التصوف الإسلامي الذي له مظاهر وريافات خاصة به لا يعرفها إلا أهلها. ويظهر الفرق بين 
الزهد والتصوف في تعريف الجرجاني التالي: ٠‏ التصوف مذهب كله جد فلا يخلطوه بشيء من 
امهزل. وقيل: تصفية القلب عن موافقة البرية. ومفارقة الأخلاق الطبعية, وإخاد صفات 
البشرية. وجانبة الدعاوى النفانية, ومنازلة الصفات الروحانية, والتعلق بعلوم الحقيقة» 
واستعمال ما هو أولى على السرمدية, والنصح لجميع الأمة. والوفاء لله تعالى على الحقيقة .واتباع 
رسوله ع في الشريعة. وقيل : ترك الاختيار. وقيل : بذل المجهود والأنس بالمعبود . وقيل: 


له 


فعلمت يقيناً أنهم أرباب الأحوال لا أصحاب الأقوال؛ وأن ما يمكن تحصيله 
بطريق العام فقد حصلته, ولم يبق إلا ما لا سبيل إليه بالسماع والتعام بل بالذوق 
والسلوك”" . وكان قد حصل معي من العلوم التي مارستها والمسالك التي سلكتها 
في التفتيش عن صنفي العلوم الشرعية والعقلية إيمان يقيني بالله تعالى وبالنبوة 
وباليوم الآخر. فهذه الأصول الثلاثئة من الإيمان كانت رسخت في نفسي لا 
بدليل معين محرر بل بأسباب وقرائن وتحاريب لا تدخل تحت الحصر تفاصيلها . 

وكان قد ظهر عندي أنه لا مطمع لي في سعادة الآخرة إلا بالتقوى وكف 
النفس عن الهوى . وأن رأس ذلك كله قطع علاقة القلب عن الدنيا بالتجاني عن 
دار الغرورء والانابة إلى دار الخلود. والاقبال بكنه الهمة على الله تعالى ؛ وأن 
ذلك لا يتم إلا باللإعراض عن الجاه والمال» والهرب من الشواغل والعلائق . 

ثم لاحظت أحوالي . فإذا أنا منغمس في العلائق وقد أحدقت بي من الجوانب» 
ولاحظت أعرالي وأحسنها التدريس والتعلم: فإذا أنا فيها مقبل على علوم 
غير مهمة ولا نافعة في طريق الآخرة. ثم تفكرت في نيتي في التدريس , فإذا هي 
غير خالصة لوجه الله تعالى. بل باعثها ومحركها طلب الجاه وانتشار الصيت» 
فتيقنت أني على شفا جرف هار, وأنيٍ قد أشفيت على النار إن لم أشتغل بتلافي 
الأحوال. 

فلم أزل أتفكر فيه مدة وأنا بعد على مقام الاختيار. أصمم العزم على 


حفظ حواسك من مراعاة أنقاسك. وقيل: الاعراض عن الاعتراض . وقيل : هو صفاء المعاملة 
مع الله تعالى. وأصله التفرغ عن الدنيا. وقيل: الصبر تحت الأمر والنهي. وقيل: خدمة 
التشرف. وترك التكلف, واستعمال التظرف. وقيل: الأخذ بالحقائق. والكلام بالدقائق, 
والاياس مما في أيدي الخلائق ». اه من كتاب التعريفات للجرجاني. 

)١(‏ الالك هو الذي مشى على المقامات بحاله لا بعلمه وتصوره, فكان العم الحاصل له عيناً يأبى 
من ورود الشبهة المضلة له. ( انظر المرجع السابق) . 


08 


الخروج من بغداد ومفارقة تلك الأحوال يوماً. وأحل العزم يوماً. وأقدم فيه 
رجلاً وأؤخر عنه أخرى, لا تصدق لي رغبة في طلب الآخرة بكرة إلا ويحمل 
عليها جند الهوى حملة فتفترها عشية. فصارت شهوات الدنيا تجاذبنى بسلاسلها 
إلى المقام » ومنادي الإيمان ينادي : الرحيل ! الرحيل! فلم يبق من العمر إلا قليل» 
وبين يديك السفر الطويل» وجميع ما أنت فيه من العام والعمل رياء وتخييل. فإن 
لم تستعد الآن للآخرة فمتى تستعد ؟ وإن لم تقطع الآن هذه العلائق فمتى تقطع ؟ 
فعند ذلك تنبعث الداعية, وينجزم العزم على ا مرب والفرار. 

ثم يعود الشيطان ويقول هذه حال عارضة إياك أن تطاوعهاء فإنها سريعة 
الزوال؛ فإن أذعنت لها وتركت هذا الجاه العريض . والشأن المنظوم الخالي عن 
التكدير والتنغيص , والأمن المسام الصافي عن منازعة الخصوم , ربما التفتت إليه 
نفسك ولا يتيسر لك المعاودة. 

فلم أزل أتردد بين تجاذب شهوات الدنيا ودواعي الآخرة قريباً من ستة 
أشهر . أولها رجب سنة تمان( وثمانين وأربعائة؛ وفي هذا الشهر جاوز الأمر 
حد الاختيار إلى الاضطرارء إذ أقفل الله على لساني حتى اعتقل عن التدريس» 
فكنت أجاهد نفسى أن أدرس يوماً واحداً تطييباً لقلوب المختلفين إليّ. فكان 
لا ينطق لساني بكلمة واحدة ولا أستطيعها البتة» حتى أورثت هذه العقلة في 
لساني حزناً في القلب بطلت معه قوة الهضم ومراءة الطعام والشراب, فكان لا 
ينساغ لي ثريد. ولا تنهضم لي لقمة؛ وتعدى إلى ضعف القوى., حتى قطع 
الأطباء طمعهم من العلاج» وقالوا : هذا أمر نزل بالقلب ومنه سرى إلى المزاج» 
فلا سبيل إليه بالعلاج. إلا يان يتروح السسر عن اهم المام. 

ثم لما أحسست بعجزي وسقط بالكلية اختياري» التجأت إلى الله تعالى التجاء 
المضطر الذي لا حيلة له فأجابني الذي يجيب المضطر إذا دعاه. وسهل على قلبي 


)1( في بعض النسخ و سنة ست 2. 


الإعراض عن الجاه والمال والأولاد والأصحاب. وأظهرت عزم الخروج إلى مكة 
وأنا أدبر في نفسبي سفر الشام حذرا أن يطلع الخليفة وجملة الأصحاب على 
عزمي في المقام بالشام ؛ فتلطفت بلطائف الحيل في الخروج من بغداد على عزم 
ألا أعاودها أبداً . واستهدفت لأئمة أهل العراق كافة, إذ لم يكن فيهم من يجوز 
أن يكون الإعراض عبا كنت فيه سبباً دينياً؛ إذ ظنوا أن ذلك هو المنصب 
الأعلى في الدين وكان ذلك مبلغهم من العام . 

ثم ارتبك الناس في الاستنباطات». وظن من بعد عن العراق أن ذلك كان 
لاستشعار من جهة الولاة؛ وأما من قرب من الولاة فكان يشاهد إلحاحهم في 
التعلق لي والانكباب على وإعراضي عنهم وعن الالتفات إلى قوهم. فيقولون: 
هذا أمر مماوي. وليس له سبب إلا عين أصابت أهل الإسلام وزمرة العام. 
ففارقت بغداد. وفرقت ما كان معي من المال, ولم أدخر إلا قدر الكفاف 
وقوت الأطفال. ترخصاً بأن مال العراق مرصد للمصالح لكونه وقفاً على 
المسلمين؛ فام أر في العالم مالا يأخذه العالم لعياله أصلح منه. 


م دخلت الشام وأقمت به قريباً من سنتين لا شغل لي إلا العزلة والخلوة 
والرياضة والمجاهدة, اشتغالاً بتزكية النفس وتهذيب الأخلاق وتصفية القلب 
لذكر الله تعالى. كبا كنت حصلته من عم الصوفية. وكنت أعتكف مدة في 
مسجد دمشق أصعد منارة المسجد طول النهار وأغلق بابها على نفسي . 

ثم رحلت منها إلى بيت المقدس. أدخل كل يوم الصخرة وأغلق بابها على 
نفسبي . نم تحركت ف داعية فريضة الحج والاستمداد من بركات مكة والمدينة, 


وزيارة رسول الله تعالى عليه السلام بعد الفراغ من زيارة الخليل صلوات الله 


ثم جذبتي الهمم ودعوات الأطفال إلى الوطن., فعاودته بعد أن كنت أبعد 


5١ 


الخلق عن الرجوع إليه؛ فآثرت العزلة به أيضاً حرصاً على الخلوة وتصفية القلب 
للذ كر . 

وكانت حوادث الزمان ومهمات العيال وضرورات المعاش تغير ؤ 
المرادء وتشوش صفوة الخلوة. وكان لا يصفولي الحال إلا في في أوقات متفرقة ؛ 
لكني مع ذلك لا أقطع طمعي منها. فتدفعني عنها العوائق وأعود إليها. فدمت 
على ذلك مقدار عشر سنين, وانكشف لي في أثناء هذه الخلوات أمور لا يمكن 
إحصاؤها واستقصاؤها. والقدر الذي أذكره لينتفع به: أني علمت يقيئاً أن 
الصوفية هم السابقون لطريق الله تعالى خاصة., وأن سيرتهم أحسن السيرء 
وطريقهم أصوب الطرق, وأخلاقهم أزكى الأخلاق؛ بل لو جمع عقل العقلاء » 
وحكمة الحكماء . وعم الواقفين على أسرار الشرع من العلماء . ليغيروا شيئاً من 
سيرهم وأخلاقهم ويبدلوه بما هو خير منه. لم يجدوا إليه سبيلاً؛ فإن جميع 
ح ركاتهم وسكناتهم . في ظاهرهم وباطنهم . مقتبسة من نور مشكاة النبوة؛ وليس 
وراء نور النبوة على وجه الأرض نور يستضاء به. 

وبالجملة فاذا يقول القائلون في طريق طهارتها - هي أول شروطها ‏ تطهير 
القلب بالكلية عا سوى الله تعالى , ومفتاحها الجاري منها مجرى التحريم من 
الصلاة استغراق القلب بالكلية يذكر الله207. وآخرها الفناء بالكلية في الله 
وهذا آخرها بالإضافة إلى ما لا يكاد يدخل تحت الاختيار والكسب من 
أوائلهاء وهي على التحقيق أول الطريقة. وما قبل ذلك كالدهليز للسالك إليه. 


. 
6 


)١(‏ كا أن أول شرط لصحة الصلاة هو طهارة الجسد وموضع الجود. كذلك فإن أول شرط 
لصحة سلوك طريق التصوف هو طهارة القلب بالكلية عا سوى الله تعالى. وكبا أن مفتاح 
الصلاة هو تكبيرة الأحرام التي يستغرق بعدها المصلي بصلاته. فيمتنع عن كل ما يلهيه عن 
ذكر الله. فكذلك مفتاح الطريقة هو استغراق القلب بالكلية بذكر الله. 


55 


ومن أول الطريقة تبتدىء المشاهدات والمكاشفات7" . حتى إنهم في بقظتهم 
يشاهدون الملائكة وأرواح الأنبياء . ويسمعون منهم أصواتاً ويقتبسون منهم 
فوائد . ثم يترقى الخال من مشاهدة الصور والأمثال إلى درجات يضيق عنها نطاق 
النطق . فلا يحاول معبر أن يعبر عنها إلا اشتمل لفظه على خطأ صريح لا يمكنه 
الاحتراز عنه. وعلى الجملة ينتهى الأهر إلى قرب( يكاد يتخيل منه طائفة 


)١(‏ المشاهدة: تطلق على رؤية الأشياء بدلائل التوحيد . وتطلق بإزائه على رؤية الحق في الأشياء» 
وذلك هو الوجه الذي له تعالى بحسب ظاهريته في كل شيء . والمكاشفة: هي حضور لا ينعت 
بالبيان. ( كتاب التعريفات للجرجاني ) . وقال الكلاباذي (التعرف لمذهب أهل التصوف ص 
::0١‏ «قال سهل: التجلي عل ثلاثة أحوال: تمل ذات وهي المكاشفة, وتبلي صفات الذات 
وهي موضع النور. وتَمِلٍ حكم الذات وهي الآخرة وما فيها. ومعنى قوله: مل ذات. هي 
المكاشفة. كشوف القلب في الدنياء كقول عبد الله بن عمر : كنا نتراءى الله في ذلك المكانة 
يعني ني الطواف. وقال النبي َيه : : اعبد الله كأنك تراه». وكشوف العيان في الآخرة » اه . 

)١(‏ مثئل السري السقطي عن-القرب فقال: هو الطاعة. وقال غيره: القرب أن يتدلل عليه ويتذلل 
له لقوله عز وجل طواسجد واقترب». ومثل رويم عن القرب فقال: إزالة كل معترضص. 
وسثئل غيره فقال: هو أن تشاهد أفعاله بك. معناه أن ترى صنائعه ومننه عليك وتغيب فيها 
عن رؤية أفعالك ومجاهداتك. وأخرى أن لا تراك فاعلاً لقرله عز وجل للنبي يه «وما 
رميت إذ رميت ولكن الله رمى » وقوله فم تقتلوهم ولكن الله قتلهم » وأنشدوا للنووي: 
أراني جممي في فنائي تقرّباً | وهيهات إلا مك عنك التقسبُ 
نغ علك لي صبرٌ ولا فيك حيلة | ولا منك لي بد ولا عنك مهرب 
نقرب قوم بالرجا فوصلْتَهُم ‏ فا لي بعيداً منك والكل يعطلب 
وأنشدوا له أيضاً: 
يا من أشاهده عني فأحبه مني قريباً وقد عَرَّتَ مطالبّهُ 
إذا سِلْتُ نفسي سلوةٌ عنه ردَّنيِ | إليه شهودً ليس تفنى عجائبّة 
(انظر التعرف لمذهب أهل التصوف للكلاباذي ص : )٠١8 5١17‏ 


3 


الحلول7) وطائفة الاتحاد ”© وطائفة الوصول29 وكل ذلك خطأ . وقد بينا وجه 

الخطأ في كتاب المقصد الأسنى. بل الذي لابسته تلك الحالة لا ينبغى أن يزيد 

على أن يقول: 

وكان ما كان مما لست أذكره فظن خيراً ولا تسأل عن الخبر 9)!! 
وبالجملة فمن لم يرزق منه شيئاً بالذوق» فليس يدرك من حقيقة النبوة إلا 

الاسم ؛ وكرامات الأولياء على التحقيق هي بدايات الأنبياء ؛ وكان ذلك أول 

حال رسول الله َيه حيث تبتل حين أقبل إلى جبل حراء حين كان يخلو فيه 

بربه ويتعبد. حتى قالت العرب « إن حمداً عشق ربه». وهذه حالة يتحققها 

بالذوق من سلك سبيلها. فمن لم يرزى الذوق فيتيقنها بالتجربة والتسامع إن 

أكثر معهم الصحبة, حتى يفهم ذلك بقرائن الأحوال يقينا. ومن جالسهم استفاد 

منهم هذا الايمان. فهم القوم لا يشقى جليسهم. ومن لم يرزق صححبتهم فليعم 

إمكان ذلك يقيناً بشواهد البرهان على ما ذكرناه في كتاب « عجائب القلب» 

من كتب « إحياء علوم الدين ». 

)١(‏ عرف أبو البقاء في ٠‏ الكليات٠‏ الحلول بقوله: ه هو أن يكون الشيء حاصلاً في الشيء ومختصاً 
به بحيث تكون الإشارة إلى أحدهما إشارة إلى الآخر تحقيقاً أو تقديراً ». 

(') الاتحاد: هو شهود الوجود الحق الواحد المطلق الذي الكل موجود بالحق. فيتحد به الكل من 
حيث كون كل شيء موجوداً به معدوماً بلنفه لا من حيث أن له وجوداً خاصاً اتحد به 
فإنه محال. وقيل : الاتحاد امتزاج الشيئين واختلاطهها حتى يصيرا شيئاً واحدأ. لاتصال نهايات 
الاتحاد . وقيل : الا نحاد هو القول من غير روية وفكر . (التعريفات للج رجافي). 

(؟) لعل الغزالي يعني بالوصول الاتصال بالمعنى الصوني. قال الكلاباذي: ٠‏ معنى الاتصال أن 
بنفصل بره عرا سوى الله. قلا يرى بسره بمعنى التعظيم غيره. ولا يسمع إلا منه. وقال 
النووي : الاتصال مكاشفات القلوب. وقال بعضهم: الاتصال وصول السسر إلى مقام الذهول؛ 
معناه أن يشغله تعظم الله عن تعظم من سواء. وقال بعض الكبار : الاتصال أن لا يشهد العبد 
غير خالقه. ولا بتصل بسره خاطر لغير صانعه ه اه. من التعرف لمذهب أهل التصوف ص 


م١٠١‏ 
(1) هذا البيت لابن المعتز . 


5 


والتحقيق بالبرهان علمء وملابسة عين تلك الحالة ذوق» والقبول من التسامح 
والتجربة بحسن الظن إيمان؛ فهذه ثلاث درجات 9إيرفع الله الذين آمنوا منكم 
والذين أوتوا العام درجات » [ المجادلة: ١١‏ ] ووراء هؤلاء قوم جهال. هم 
المنكرون لأصل ذلك. المتعجبون من هذا الكلام. يستمعون ويسخرون 
ويقولون: العجب ! !نهم كيف يهذون! وفيهم قال الله تعالى 9( ومنهم من يستمع 
إليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العام ماذا قال آنفا أولئك 
الذين طبع الله على قلوبهم واتبعوا أهواءهم» [ حمد: ]١1‏ فأصمهم وأعمى 
ابصار هم . 

ومما بان لي بالفرورة من ممارسة طريقتهم حقيقة النبوة وخاصيتها ولا بد 
من التنبيه على أصلها لشدة مسيس الحاجة إليها . 


50 


حقيقة النبوة واضطرار كافة الخلق إليها 


اعام أن جوهر الانسان في أصل الفطرة خلق خالياً ساذجاً لا خير معه عن 
عوالم الله تعالى. والعوالم كثيرة لا يحصيها إلا الله تعالى كما قال وما يعام جنود 
ربك إلا هو» [المدثر: ]8١‏ وإنما خبره عن العوالم بواسطة الإدراك. وكل 
إدراك من الاادراكات خلق ليطلع الانسان به على عالم من الموجودات. ونعني 
بالعوالم أجناس الموجودات. 

فأول ما يخلق في الإنسان حاسة اللمس » فيدرك بها أجناساً من الموجودات 
كالحرارة والبرودة. والرطوبة واليبومة , واللين والخشونة وغيرها. واللمس قاصر 
عن الألوان والأصوات قطعاً. بل هي كالمعدومة في حق اللمس . 

ثم تخلق له حاسة البصر. فيدرك بها الألوان والأشكال؛ وهو أوسع عوالم 
المحسوسات . 

© يتمع انيه الست و تيسمع الأعيواك والبغرات. 

ثم يخلق له الذوق. وكذلك إلى أن يجاوز عالم المحسوسات. فيخلق فيه 
التمييز وهو قريب من سبع سنين, وهو طور آخر من أطوار وجودهء فيدرك 
فيه أمورا زائدة على عالم المحسوسات. لا يوجد منها شيء في عالم الحس . 

ثم يترقى إلى طور آخرء فيخلق له العقل. فيدرك الواجبات والجائزات 
والمستحيلات. وأموراً لا توجد في الأطوار التي قبله. ووراء العقل طور آخر 
تنفتح فيه عين أخرى يبصر بها الغيب وما سيكون في المستقبل . وأموراً أخرى 
العقل معزول عنها كعزل قوة التمييز عن إدراك المعقوللات. وكعزل قوةالحس 
عن مدركات التمييز. وكيا أن المميز لو عرضت عليه مدركات العقل لأباها 


0 


واستبعدها. فكذلك بعض العقلاء أبى مدر كات النبوة واستبعدها ؛ وذلك عين 
الجهل. إذ لا مستند له إلا أنه طور لم يبلغه ولم يوجد في حقه. فيظن أنه غير 
موجود في نفه. والأكمه لو لم يعام بالتواتر والتسامع الألوان والأشكالء 
وحكي له ذلك ابتداء , لم يفهمها وم يقر بها . وقد قرب الله تعالى ذلك على خلقه 
بأن أعطاهم أنموذجاً من خاصية النبوة وهو النوم. إذ النائم يدرك ما سيكون 
من الغيب إما صريحا وإما في كسوة مثال يكشف عنه التعبير . وهذا لو لم يحربه 
الإنسان من نفسه وقيل له: ٠‏ إن من الناس من يسقط مغشياً عليه كالميت ويزول 
عنه إحساسه وسمعه وبصره فيدرك الغيب» لأنكره, وأقام البرهان على 
استحالته وقال: القوى الحساسة أسباب الادراك, فمن لا يدرك الأشياء مع 
وجودها وحضورهاء فبأن لا يدركها مع ركودها أولى وأحق. وهذا نوع قياس 
يكذبه الوجود والمشاهدة؛ فكما أن العقل طور من أطوار الآدمي يحصل فيه عين 
يبصر بها أنواعاً من المعقولات, والحواس معزولة عنهاء فالنبوة أيضاً عبارة عن 
طور يحصل فيه عين لها نور يظهر في نورها الغيب, وأمور لا يدركها العقل. 
والشك في النبوة إما أن يقع في إمكانها. أو في وجودها ووقوعهاء أو في 
حصوا لشخص معين. ودليل إمكانها وجودها, ودليل وجودها وجود معارف 
في العالم لا يتصور أن تنال بالعقل كعلمي الطب والنجوم ؛ فإن من بحث عنها علم 
بالضرورة أنها لا تدرك إلا بإلهام إلمي وتوفيق من جهة الله تعالى. ولا سبيل 
إليها بالتجربة؛ فمن الأحكام النجومية ما لا يقع إلا في كل ألف سنة مرةء 
فكيف ينال ذلك بالتجربة ؟ وكذلك خواص الأدوية. فتبين بهذا البرهان أن 
الإمكان وجود طريق لادراك هذه الأمور التى لا يدركها العقل؛ وهو المراد 
بالنبوة. لا أن النبوة عيارة عنها فقط. بل إدراك هذا الجنس الخارج عن 
مدركات العقل إحدى خواص النبوة, ولا خواص كثيرة سواها؛ وما ذكرناه 
قطرة من بحرها. وإنما ذكرناها لأن معك أنموذجاً منها وهو مدركاتك في 
النوم. ومعك علوم من جنسها في الطب والنجوم. وهي معجزات الأنبياء ولا 


04 


سبيل إليها للعقلاء ببضاعة العقل أصلاً . 

وأما ما عدا هذا من خواص النبوة إنما يدرك بالذوق من سلوك طريق 
التصوف؛ لأن هذا إنما فهمته بأنموذج رزقته وهو النوم. ولولاه لما صدقت به. 
فإن كان للنبي خاصة ليس لك منها أنموذج فلا تفهمها أصلاً. فكيف تصدق 
بها ؟ وإنما التصديق بعد الفهم؛ وذلك الأنموذج يحصل في أوائل طريق التصوف». 
فيحصل به نوع من الذوق بالقدر الحاصل. ونوع من التصديق بما لم يحصل 
بالقياس إليه. هذه الخاصية الواحدة تكفيك للإيمان بأصل النبوة. 

فإن وقع لك الشك في شخص معين أنه نبي أم لاء فلا يحصل اليقين إلا 
بمعرفة أحواله. إما بالمشاهدة أو بالتواتر والتسامع. فإنك إذا عرفت الطب 
والفقه يمكنك أن تعرف الفقهاء والأطباء بمشاهدة أحوالهم وسماع أقوالهم وإن لم 
تشاهدهم . ولا تعجز أيضاً عن معرفة كون الشافعي رحمه الله فقيه. وكون 
جالينوس ( طبيباً » معرفة بالحقيقة لا بالتقليد عن الغير . بل بأن تتعلم شيئاً من 
الفقه والطب وتطالع كتبهها وتصانيفههاء فيحصل لك عم ضروري مجاهما . 
فكذلك إذا فهمت معنى النبوة فأكثرت النظر في القرآن27 والأخبار يحصل لك 


)١(‏ ظهر جالينوس في حقبة كان الطب فيها في أيدي السفسطائيين الدجالين. فحاول إحباء طب 
أبقراط. ونجح بذلك نجاحاً كبيراً, مما أمن له شهرة عظيمة في عصره. وقد اهتم جالينوس - 
كأكثر الأطباء القدامى ‏ بالفلسفة وتعمق فيهاء فشرح كل مؤلفات أرسطو. وكان كاتباً 
خصياً, ألف في غير الطب ١56‏ كتاباً, منها ١10‏ في الفلسفة؛ ولككن معفظم كتبه لم تصلنا لأنها 
احترقت في أثناء حياته, ولم يصلنا منها سوى 7١‏ مؤلفاً في ججميع الفروع التي صنف فيها. 

(؟) هذا تصريح من الغزالي بما للقرآن والسنة من ثأن في الوصول إلى الله. وقد كتب محبي الدين 
ابن العربي في حضرة المهيمن من الفتوحات المكية عن القرآن وكيف أنه السبيل الوحيد إلى 
الاتصال بالحق سبحانه وتعالى. قال رضي الله عنه ما خلاصته ومعناه أن الاتصال بالحق سبحانه 
وتعالى إنما يكون عن قرب الانسان من المثل العليا التي خصها الله بالاصطفاء وجعلها محل 
رمالته ومكالمته. ومظهر حضرته وخلافته. ولا ريب أن المثل الأعلى الذي يحتذي ويتأهل 
الإنسان بمحاكاته لمحل القرب هو النبي يليه . واننبي يلم هو الصورة الكاملة من القرآن, فإنه 


1/6 


العلم الشروري بكونه عَِنَمِ على أعلى درجات النبوة» وعضد ذلك بتجرية ما قاله 
في العبادات وتأثيرها في تصفية القلوب. وكيف صدق في قوله: ومن عمل بما 
علم ورثه الله عام ما لم يعام »2 وكيف صدق في قوله: « من أعان ظالماً سلطه الله 
عليه »") وكيف صدق في قوله: « من أصبح وهمومه هم واحد كفاه الله تعالى 
هموم الدنيا والآخرة:9" فإذا جربت ذلك في ألف وألفين وآلاف حصل لك 
علم ضروري لا تتارى فيه . 

فمن هذا الطريق اطلب اليقين بالنبوة. لا من قلب العصا ثعباناً وشق القمرء 
فإن ذلك إذا نظرت إليه وحده ولم تنضم إليه القرائن الكثيرة الخارجة عن 
الحصر. ربما ظننت أنه سحر وتخييل. وأنه من الله إضلال فإنه #يضل من يشاء 
وعهدي من يشاء » [ فاطر : 8 ]. 

وترد عليك أسئلة المعجزات, فإن كان مستنداً إيمانك إلى كلام منظوم في 
وجه دلالة المعجزة. فينجزم إيمانك بكلام مرتب في وجه الاإشكال والشبهة 
عليها ؛ فليكن مثل هذه الخوارق إحدى الدلائل والقرائن في جملة نظرك » حتى 
يحصل لك عام ضروري لا يمكنك ذكر ممتنده على التعيين. كالذي يخبره جماعة 


> الما تخلق بأخلاق القرآن فقد تخلق بأخلاق الله وأصبح محل التجليات القرآنية. فإن أردت 
الاتصال بالله فتخلق بأخلاق القرآن تكن صورة حمدية, وعلى قدر عنايتك بالقرآن حفظا 
لجميع رواياته ودراسة لمعانيه ومعرفة لأحكامه حلاله وحرامه تنطبع فيك الصورة المحمدية» 
وعلى قدر مظهرك من هذه الصورة يكون قربك من الله. (حاشية الشيخ جمد جمد جابر 
والشيخ مد مصطفى أبو العلا في طبعة مكتبة الجندي لكتاب المنقذ من الضلال ص 85 ) 

١ )١(‏ أعثر على هذا الحديث في كتب الحديث المشهورة. 

(؟) رواهابن عاكر عن ابن مسعود . وهو حديث ضعيف كبا في الجامع الصغير . 

(+) من حديث عبدالله بن مسعود عن اللنبي عَفْنَهِ . رواه ابن ماجه في المقدمة باب 2.55 والزهد 
باب ؟ بلفظ ٠‏ من جعل الهموم هما واحداً. هم آخرته. كفاه الله هم دنياه. ومن تشعبت به 
الحموم في أحوال الدنيا لم يبال الله ني أي أوديتها هلك ». قال في الزوائد : إسناده ضعيفء فيه 
نشل بن معيد . قيل إنه يروي المناكير. وقيل بل الموضوعات. 


59 


بخبر متواتر لا يمكنه أن يذكر أن اليقين مستفاد من قول واحد معين بل من 
حيث لا يدريء ولا يخرج عن جملة ذلك ولا بتعيين الأحاد ؛ فهذا هو الإيمان 
القوي العلمى. وأما الذوق فهو كالمشاهدة والأخذ باليد. ولا يوجد إلا في 


طريق الصوفية. 
فهذا القدر من حقيقة النبوة كاف في الغرض الذي أقصده الآن,. وسأذكر 
وجه الحاجة إليه. 


سبب نشر العام بعد الاإعراض عنه 


م إفي لما واظبت على العزلة والخلوة قريباً من عشر سنين, وبان لي في أثناء 
ذلك على الضرورة من أسباب لا أحصيهاء مرة بالذوق. ومرة بالعام البرهاني. 
ومرة بالقبول الإيماني: أن الإنسان خلق من بدن وقلب. وأعني بالقلب حقيقة 
روحه التي هي حل معرفة الله دون اللحم والدم الذي يشارك فيه الميت 
والبهيمة. وان البدن له صحة بها سعادته ومرض فيها هلاكه. وأن القلب 
كذلك له صحة وسلامة, ولا ينجو 8 إلا من أتى الله بقلب سلم © [ الشعراء : 
] وله مرض فيه هلاكه الأبدي الأخروي. كما قال تعالى #8 في قلوبهم 
مرض 74(" وأن الجهل بالله مم مهلك. وأن معصية الله بمتابعة الموى داؤه 
الممرض. وأن معرفة الله تعالى ترياقه المحبى.وطاعته بمخالفة الحوى دواؤه 
الشاني. وأنه لا سبيل إلى معالجته بإزالة وه وكسب صححته إلا بأدوية. كما 
لا سبيل إلى معاجة البدن إلا بذلك. وكما أن أدوية البدن تؤثر في كسب الصحة 
بخاصية فيهاء لا يدركها العقلاء ببضاعة العقل. بل يجب فيها تقليد الأطباء 
الذين أخذوها من الأنبياء الذين اطلعوا بخاصية النبوة على خواص الأشياءء 
فكذلك بان لي . على الضرورة,. أن أدوية العبادات بحدودها ومقاديرها المحدودة 
المقدرة من جهة الأنبياء, لا يدرك وجه تأثيرها ببضاعة عقل العقلاء . بل يجب 
فيها تقليد الأنبياء الذين أدركوا تلك الخواص بنور النبوة لاببضاعة العقل . وكا 
أن الأدوية تركبت من أخلاط مختلفة, وبعضها ضعف البعض في الوزن 


.1١؟ والحج: عم والأحزاب:‎ » ١76 ولمائدة: ؟68. والأنفال: 4 والتوبة:‎ 2.٠١ البقرة:‎ )١( 
."١ ولمدثر:‎ 5١4.٠٠١ وجمد:‎ "٠ 


الا 


والمقدار. فلا يخلو اختلاف مقاديرها عن سير هو من قبيل الخواص. فكذلك 
العبادات التي هي أدوية داء القلوب. مركبة من أفعال مختلفة النوع والمقدار. 
حتى أن السجود ضعف الركوع. وصلاة الصبح نصف صلاة العصر في المقدار. 
ولا يخلو عن سر من الأسرار. هو من قبيل الخواص التي لا يطلع عليها إلا بنور 
النبوة. ولقد تحامق وتجاهل جد من أراد أن يستنبط بطريق العقل لها حكمة, أو 
ظن أنها ذكرت على سبيل الاتفاق» لا عن سر إلهي فيها يقتضيها بطريق 
الخاصية. وكا أن في الأدوية أصولاً هي أركانها. وزوائد هي متمماتها. لكل 
واحد منها خصوص تأثير في أعبال أصولهاء كذلك النوافل والسئن متممات 
لتكميل آثار أر كان العبادات. 

وعلى الجملة: فالأنبياء أطباء أمراض القلوب. وإنما فائدة العقل وتصرفه إن 
عرفنا ذلك. ويشهد للنبوة بالتصديق ولنفسه بالعجز عن درك ما يدرك بعين 
النبوة. وأخذ بأيدينا وسلمنا إليها تسلم العميان إلى القائدين. وتسلم المرضى 
المتحيرين إلى الأطياء المشفقين. وإلى ههنا مجرى العقل ومخطاه وهو معزول عما 
بعد ذلك. إلا عن تفهم ما يلقيه الطبيب إليه. فهذه أمور عرفتاها بالضرورة 
الجارية نجحرى المشاهدة, في مدة الخلوة والعزلة . 

ثم رأينا فتور الاعتقادات في أصل النبوة, ثم في حقيقة النبوة, ثم في العمل بما 
شرحته النبوة. وتحققنا شيوع ذلك بين الخلق ؛ فنظرت إلى اسباب فتور الخلق, 
وضعف إيانيم. فإذا هي اربعة: 

. سبب من الخائضين في عام الفلسفة‎ - ١ 

؟ - وسبب من الخائضين في طرق التصوف. 

؟ - وسبب من المنتسبين إلى دعوى التعل . 

- وسبب من معاملة الموسومين بالعام بين الناس . 


فإني تتبعت مدة أحاد الخلق , أسأل من يقصر منهم في متابعة الشرع , وأسأله 


8 


عن شبهته وأبحث عن عقيدته وسرهء وقلت له: و مالك تقصر فيها ؟ فإن كنت 
تؤمن بالآخرة ولست تستعد ها وتبيعها بالدنياء فهذه حماقة! فإنك لا تبيع 
الاثنين بواحد. فكيف تبيع ما لا نهاية له بأيام معدودة؟ وإن كنت لا تؤمن, 
فأنت كافرء فدبر نفسك في طلب الاإيمان, وانظر ما سبب كفرك الخفي الذي 
هو مذهبك باطناً. وهو سبب جرأتك ظاهراً. وإن كنت لا تصرح به تجملاً 
بالإيمان وتشرفاً بذكر الشرع!». 

فقائل يقول: هذا أمر لو وجبت المحافظة عليه, لكان العلياء أجدر بذلك. 
وفلان من المشاهير بين الفضلاء لا يصلى . وفلان يشرب الخمرء وفلان يأكل 
أموال الأوقاف وأموال اليتامى. وفلان يأكل إدرار السلطان ولا يحترز عن 
الحرام. وفلان يأخذ الرشوة على القضاء والشهادة! » وهام جرًا إلى أمثاله . . . 

وقائل ثان يدعي علم التصوف, ويزعم أنه قد بلغ مبلغاً ترقى عن الحاجة إلى 


العبادة. 
وقائل ثالث يتعلل بشبهة أخرى من شبهات أهل الإباحة ! وهؤلاء هم الذين 
ضلوا عن التصوف. 


وقائل رابع لقي أهل التعلم فيقول: ١‏ الحق مشكلء والطريق إليه منسد. 
والاختلاف فيه كثير. وليس بعض المذاهب أولى من بعض. وأدلة العقول 
متعارضة, فلا ثقة برأي أهل الرأي. والداعي إلى التعليم متحكم لا حجة له 
فكيف أدع اليقين بالشك ؟ ». 

وقائل خامس يقول: ٠‏ لست أفهل هذا تقليداً , ولكني قرأت عم الفلسفة, 
وأدركت حقيقة النبوة. وأن حاصلها يرجع إلى الحكمة والمصلحة, وأن المقصود 
من تعبداتها ضبط عوام الخلق وتقيدهم عن التقاتل والتنازع والاسترسال في 
الشهوات ؛ فما أنا من العوام الجهال حتى أدخل في حجر التكليف. وإنما أنا من 
الحكراء أتبع الحكمة وأنا بصير بها مستغن فيها عن التقليد !؟. 


هذا منتهى إيمان من قرأ مذهب فلسفة الإلهيين منهم, وتعلم ذلك من كتب 
ابن سينا وأبي نصر الفارابي. هؤلاء هم المتجملون بالإسلام. وربما ترى الواحد 
منهم يقرأ القرآن. ويحضر الجماعات والصلوات. ويعظم الشريعة بلسانه. ولكنه 
مع ذلك لا يترك شرب الخمر. وأنواعاً من الفسق والفجور! وإذا قيل له « إذا 
كانت النبوة غير صحيحة فم تصلى ؟» فربما يقول: « لرياضة الجسد , ولعادة 
أهل البلد .وحفظ امال والولد !» وربما قال « الشريعة صحيحة, والنبوة حق» 
فيقال: فلم تشرب الخمر؟ فيقول: إنما نبي عن الخمر لأنها تورث العداوة 
والبغضاء . وأنا بحكمتي محترز عن ذلك., وإني أقصد به تشحيذ خاطري ». حتى 
أن انك متنا تكن فى وسئنة له كسب :فتهان أبواسافة اتلد داق عل جنا ركذا ء 
وأن يعظم الأوضاع الشرعية, ولا يقصر في العبادات الدينية ولا يشرب تلهياً بل 
تداوياً وتشافياً. فكان منتهى حالته في صفاء الايمان والتزام العبادات. أن 
استثنى شرب الخمر لغرض التشافي . 


فهذا إيمان من يدعي اللإيمان منهم. وقد انخدع بهم جماعة. زادهم انخداعهم 
ضعف اعتراض المعتر ضين عليهم ' إذ اعترضوا بمجاحدة عم الهندسة والمنطق . 
وغير ذلك مما هو ضروري هم. على ما بينا علته من قبل . 


فليا رأيت أصناف الخلق قد ضعف إيمانهم إلى هذا الحد بهذه الأسباب. 
ورأيت نفسي لازمة مجتهدة ملبة 20 بكشف هذه الشبهة. حتى كان فضح هؤلاء 
أيسر عندي من شربة ماء لكثرة خوضي في علومهم وطرقهم؛ أعني طرق 
الصوفية والفلاسفة والتعلمية والمتوسمين من العلماء. انقدح في نفسي أن ذلك 
متعين في الوقت محتوم. فاذا تغنيك الخلوة والعزلة وقد عم الداء. ومرض 
الأطباء . وأشرف الخلق على الحلاك؟ ثم قلت في نفسي : متى تشتغل أنت بكشف 


)١(‏ ألب على الأمر : لزمه ولم يفارقه. 


7: 


هذه الغمة ومصادمة هذه الظلمة. والزمان زمان الفترة. والدور دور الباطل؟ 
ولو اشتغلت بدعوة الخلق عن طرقهم إلى الحق لعاداك أهل الزمان في جمعهم . 
وأنى تقاومهم. فكيف تعايشهم. ولا يتم ذلك إلا بزمان مساعد وسلطان متدين 
قاهر ؟ فترخصت بينى وبين الله تعالى بالاستمرار على العزلة, تعللا بالعجز عن 
إظهار الحق بالحجة؛ فقدر الله تعالى أن حرك داعية سلطان الوقت من نفه لا 
بتحريك من خارج؛ فأمر أمر إلزام بالنهوض إلى نيسابور لتدارك هذه الفتنة» 
وبلغ الإلزام حدا كاد ينتهي لو أصررت على الخلاف إلى حد الوحشة. فخطر 
لي أن سبب الرخصة قد ضعف, فلا ينبغي أن يكون باعثك على ملازمة العزلة 
الكسل والاستراحة. وطلب عز النفس وصونما عن أذى الخلق, ولم ترخص 
نفسك لعسر مقاساة الخلق» والله تعالى يقول: بسم الله الرحمن الرحيم #آلم 
أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمناوهملا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم 
فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين» [ العنكبوت: 21١‏ 727 ]. 


ويقول عز وجل لرسوله وهو أعز خلقه #ولقد كذبت رسل من قبلك 
فصبروا على ما كذيوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد 
جاءك من نبأ المرسلين © [ الأنعام: 4*] ويقول عز وجل: بسم الله الرحمن 
الرحيم ليس والقرآن الحكم. إنك لمن المرسلين؛ على صراط مستقم. تنزيل 
العزيز الرحم. لتنذر قوماً ما أنذر آباؤهم فهم غافلون, لقد حق القول على 
أكثرهم فهم لا يؤمنون. إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً فهي إلى الأذقان فهم 
مقمحون. وجعلنا من بين أيديهم سدًا ومن خلفهم سدًا فأغشيناهم فهم لا 
يبصرون, وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون, إنما تنذر من اتبع 
الذكر » [ يس: ]١١ - ١‏ فشاورت في ذلك ججماعة من أرباب القلوب 
والمشاهدات. فاتفقوا على الإشارة بترك العزلة والخروج من الزاوية. وانضاف 
إلى ذلك منامات من الصالحين كثيرة متواترة تشهد بأن هذه الحركة مبدأ خير 


ورشد. قدرها الله سبحانه على رأس هذه المائة» وقد وعد الله سبحانه بإحياء 
دينه على رأس كل مائة 20 ؛ فاستحكم الرجاء, وغلب حسن الظن بسبب هذه 
الشهادات, ويسر الله تعالى الحركة إلى نيسابور للقيام بهذا المهم في ذي القعدة 
سنة تسع وتسعين وأربععائة. وكان الخروج من بغداد في ذي القعدة سنة ثمان 
وثمانين وأريعائة » وبلغت مدة العزلة إحدى عششيرة سنة. وهذه حركة قدرها الله 
تعالى» وهي من عجائب تقديراته التي لم يكن لها انقداح في القلب في هذه 
العزلة » كما لم يكن الخروج من بغداد والنزوع عن تلك الأحوال مما يخطر إمكانه 
أصلاً بالبال والله تعالى مقلب القلوب والأحوال وه قلب المؤمن بين أصبعين من 
أصابع الرحمن:( وأنا أعام أفي وإن رجعت إلى نشر العام فما رجعت». فإن 
الرجوع عود إلى ما كان. وكنت في ذلك الزمان أنشر العام الذي يكسب الجاه, 
وأدعو إليه بقولي وعمليٍ. وكان ذلك قصدي ونيتي؛ وأما الآن فأدعو إلى العلم 
الذي به يترك الجاه. ويعرف به سقوط رتبة الجاه. 


)١(‏ يشير الغزالي إلى الحديث الذي رواه أبو داود في كتاب الملاحم باب ١ء‏ والحاكم في مستدركه ج 
4 ص 059., من حديث ألي هريرة عن رسول الله عَقْنهٍ قال: ٠‏ إن الله يبعث لهذه الأمة على 
رأس كل مائلة سنة من يجدد لها دينها ». 

(؟) روى مل في كتاب القدر حديث ١1ء‏ والإمام أحمد في مسنده (ج ١‏ ص 18) من حديث 
عبد الله بن عمرو بن العاص أنه سمع رسول الله يِه يقول: ه إن قلوب بني آدم كلها بين 
أصبعين من أصابع الر حمن. كقلب واحد يصرفه حيث يشاء ». وروى الترمذي في كتاب القدر 
باب لا عن أنس قال: ه كان رسول الله يه يكثر أن يقول: يا مقلب القلوب ثبت قلبي على 
دينك . فقلت: يا رمول الله. آمنا بك وبما جثت به. فهل مخاف علينا ؟ قال: نعم, إن القلوب 
بين أصبعين من أصابع الله يقلبها كيف يشاء ». وفي حديث أم سلمة قالت: ٠‏ قلت يا رسول الله 
ما أكثر دعاءك يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك؟ قال: يا أم سلمة إنه ليس آدمي إلا 
وقلبه بين أصيعين من أصابع الله فمن شاء أقام . ومن شاء أزاغ: رواه أحمد (ج5 ص )5١8‏ 
والترمذي في الدعوات باب 4ه . وف سنن ابن ماجه ( المقدمة باب 17 ) من حديث النواس بن 
سمعان الكلاني قال: ه سمعت رسول الله ييه يقول: ما من قلب إلا بين أصبعين من أصابع 
الر حمن , إن شاء أقامه. وإن شاء أزاغه . 


كلا 


هذا الآن هو نيتي وقصدي وأمنيتي. يعلم الله ذلك مني » وأنا أبغي أن أصلح 
نفسي وغيري. ولست أدري أأصل إلى مرادي., أم أخترم 20 دون غرضي؟ 
ولكني أومن إيمان يقين ومشاهدة أنه لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظي, 
وأني لم أتحرك لكنه حركني, وأني لم أعمل لكنه استعملني, فأسأله أن يصلحني 
أولاً» ثم يصلح بي ومهديني, ثم مهدي بي؛ وأن يريني الحق حقًا ويرزقني اتباعه, 
ويريني الباطل باطلاً ويرزقني اجتنابه. 

ونعود الآن إلى ما ذكرناه من أسباب ضعف الإيمان فيمن ذكر بذكر طريق 
إرشادهم وإنقاذهم من مهالكهم : 

أما الذين ادعوا الحيرة بما سمعوه من أهل التعليم. فعلاجه ما ذكرناه في 
كتاب ٠‏ القسطاس المستقيم » ولا نطول بذكره في هذه الرسالة. 

وأما ما توهمه أهل الإباحة. فقد حصرنا شبههم في سبعة أنواع وكشفناها في 
كتاب ١‏ كيمياء السعادة ». 

وأما من فسد إيمانه بطريق الفلسفة حتى أنكر أصل النبوة. فقد ذكرنا 
حقيقة النبوة ووجودها بالضرورة؛ بدليل وجود عم خواص الأدوية والنجوم 
وغيرهياء وإنما قدمنا هذه المقدمة لأجل ذلك . وإنما أوردنا الدليل من خواص 
الطب والنجوم لأنه من نفس علمهم. ونحن نبين لكل عالم بفن من العلوم » 
كالنجوم والطب والطبيعة والسحر والطلسمات7( مثلاً من نفس علمه برهان 
النبوة. 

وأما من أثبت النبوة بلسانه وسوى أوضاع الشرع على الحكمة. فهو على 
)١(‏ يقال: اخترمته المنية. أي أخذته. 
(؟) الطّْنمم في عم السحر: خطوط وأعداد يزعم كاتبها أنه يربط بها روحانيات الكواكب الملوية 


بالطبائع السفلية. لجلب محبوب أو دفع أذى. وهو لفظ يوناني لكل ما هو غامض مبهم 
كالألغاز والأحاجي . والشائع على الألنة طَلَْم كجعفر . ( انظر المعجم الوسيط). 


التحقيق كافر بالنبوة, مؤمن بحكم له طابع مخصوص. يقتضي طابعه أن يكون 
متبوعا؛ وليس هذا من النبوة في شيء . بل الإيمان بالنبوة أن يقر بإثبات طور 
وراء العقل تنفتح فيه عين يدرك بها مدركات خاصة والعقل معزول عنها. 
كعزل السمع عن إدراك الألوان» والبصر عن إدراك الأصوات. وجميع الحواس 
عن إدراك المعقولات؛ فإن لم يجوز هذاء فقد أقمنا البرهان على إمكانه بل على 
وجوده. وإن جوز هذاء فقد أثبت أن ههنا أموراً تسمى خواص لا يدور 
تصرف العقل حواليها أصلاً. بل يكاد العقل يكذبها ويقضي باستحالتها ؛ فإن 
وزن دانق ١‏ من الأفيون سم قاتل. لأنه يحمد الدم في العروق لفرط برودته. 
والذي يدعي عم الطبيعة. يزعم أن ما يبرد من المركبات إنما يبرد بعنصري الماء 
والتراب. فه] العنصران الباردان. ومعلوم أن أرطالا من الماء والتراب لا يبلغ 
تبريدها في الباطن إلى هذا الحد. فلو اخبر طبيعي بهذا ولم يحربه لقال: « هذا 
محال. والدليل على استحالته أن فيه نارية وهوائية والهوائية والنارية لا تزيد بها 
برودة» فنقدر الكل ماء وتراباً فلا يوجب هذا الإفراط بالتبريد , فإن انضم إليه 
حاران فبأن لا يوجب أولى ». ويقدر هذا برهاناً. وأكثر براهين الفلاسفة في 
الطبيعيات والالهيات مبني على هذا الجنس. فإنهم تصوروا الأمور على قدر ما 
وجدوه وعقلوه. ومالم يالفوه قدروا استحالته. ولو لم تكن الرؤيا الصادقة 
مألوفة . وادعى مدع أنه عند ركود الحواس يعم الغيب, لأنكره المتصفون بمثل 
هذه العقول. ولو قيل لواحد : « هل يجوز أن يكون في الدنيا شيء هو بمقدار 
حبة يوضع في بلدة ليأكل تلك البلدة بجملتها ثم يأكل نفسه. فلا يبقي شيئاً من 
البلدة وما فيها ولا يبقى هو في نفسهه؟ لقال: وهذا محال وهو من جملة 
الخرافات!؛ وهذه حالة النار ينكرها من لم ير النار إذا سمعها؛ وأكثر إنكار 
عجائب الآخرة هو من هذا القبيل. فنقول للطبيعي: قد اضطررت إلى أن 


)١(‏ الدائق ( بفتح النون وكسيرها): سدس الدرهم. 


2,4 


تقول: في الأفيون خاصية في التبريد ليس على قياس المعقول بالطبيعة. فلم لا 
يخوز أن يكون في الأوضاع الشرعية من الخواص في مداواة القلوب وتصفيتها ما 
لا يدرك بالحكمة العقلية. بل لا يبصر ذلك إلا بعين النبوة؟ » بل قد اعترفوا 
بخواص هي أعجب من هذا فيا أوردوه في كتبهم. وهي من الخواص العجيبة 
المجربة في معالجة الحامل التي عسر عليها الطلق بهذا الشكل : 





يكتب على خرقتين لم يصبههما ماء . وتنظر إليهما الحامل بعينها . وتضعههما تحت 
قدميها. فيسرع الولد في الحال إلى الخروج. وقد أقروا بإمكان ذلك وأوردوه في 
كتاب « عجائب الخواص » وهو شكل فيه تسعة بيوت يرقم فيهارقوم 
مخصوصة . يكون مجموع ما ني جدول واحد خمسة عشرء قرأته في طول الشكل أو 
في عرضه أو جوائيه. 

فياليت شعري! من يصدق بذلك ثم لا يتسع عقله للتصديق بأن تقدير 
صلاة الصبح بر كعتين, والظهر بأربع . والمغرب بثلاث., هي لخواص غير معلومة 
بنظر الحكمة؟ وسببها اختلاف هذه الأوقات؛ وإنما تدرك هذه الخواص بنور 
النبوة. والعج بأنا لو غيرنا العبارة إلى عيارة المنجمين لعللوا اختلاف هذه 
الأوقات. فنقول: «أليس يختلف الحكم في الطالع بأن تكون الشمس في وسط 
السماء. أو في الطالع أو في الغارب, حتى يبنوا على هذا في تسييراتهم اختلاف 
العلاج وتفاوت الأعمار والآجال. ولا فرق بين الزوال وبين كون الشمس في 
وسط السماء » وبين المغرب وبين كون الشمس في الغارب» فهل لتصديقه سبيل ؟ » 


,7/ 


إلا أن ذلك يسمعه بعبارة المنجم. لعله جرب كذبه مائة مرة؛ ولا يزال يعاود 
تصديقه , حتى لو قال المنجم له: إذا كانت الشمس في وسط السماء , ونظر إليها 
الكوكب الفلاني والطالع هو البرج الفلاني. فلبست ثوباً جديداً في ذلك 
الرقت, قتلت في ذلك الثوب! فإنه لا يلبس الثوب في ذلك الوقت. وربما 
يقامي فيه البرد الشديد . وربما سمعه من منجم وقد عرف كذبه مرات. 


فليت شعري! من يتسع عقله لقبول هذه البدائه ويضطر إلى الاعتراف بأنها 
خواص . معرفتها معجزة لبعض الأنبياء . فكيف ينكر مثل ذلك فيا يسمعه من 
قول نبي صادق مؤيد بالمعجزات لم يعرف قط بالكذب! فإن أنكر فلسفي 
إمكان هذه الخواص في أعداد الركعات ورمي الجار وعدد أركان الحج وسائر 
تعبدات الشرعء لم يجد بينها وبين خواص الأدوية والنجوم فرقاً أصلاً. فإن 
قال: « قد جربت شيئا من النجوم وشيئا من الطب. فوجدت بعضه صادقاء 
لراك الس وم بلي ا تر وز ارم 
أعام وجوده و تحقيقه إن أقررت بإمكانه ؟ » فأقول: : « إنك لا تقتصر على تصديق 
ما جربته. بل سمعت أخبار المجربين وقلدتهم. فاسمع أقوال الأنبياء فقد جربوا 
وشاهدوا الحق في جميع ما ورد به الشرع . واسلك سبيلهم تدرك بالمشاهدة بعض 
ذلك .٠‏ على أني أقول: وإن لم تجربه فيقضي عقلك بوجوب التصديق والاتباع 
قطعاً؛ فإنا لو فرضنا رجلاً بلغ وعقل ولم يرب المرض فمرض . وله والد مشفق 
حاذق بالطب» يسمع دعواه في معرفة الطب منذ عقل, فعجن له والده دواء 
فقال: هذا يصلح لمرضك. ويشفيك من سقمك » فاذا يقتضيه عقله. وإن 
كان الدواء مرا كريه المذاق., أيتناوله؟ أو يكذب 0 لا أعقل مناسبة 
هذا الدواء لتحصيل الشفاء , ولم أجربه ؟ فلا شك أنك 7 تستحمقه إن فعل ذلك ! 
وكذلك يستحمقك أهل البصائر في توقفك! فإن قلت: فبم أعرف * شفقة النبي 
عليه الصلاة والسلام ومعرفته بهذا الطب؟ فأقول: وبم عرفت شفقة أبيك وليس 


ذل كأمراً محسوساً ؟بل عرفتها بقرائن أحواله وشواهد أعباله في مصادره وموارده 
عليا ضروريا لا تتارى فيه. 


ومن نظر في أقوال رسول الله عليه الصلاة والسلام. وما ورد من الأخبار في 
اهتامه بإرشاد الخلق. وتلطفه في جر لناس بأنواع الرفق واللطف إلى تحسين 
الأخلاق وإصلاح ذات البين. وبالجملة إلى ما لاا يصلح إلا به دينهم ودنياهم. 
حصل له عام ضروري بأن شفقته على أمته أعظم من شفقة الوالد على ولده. وإذا 
نظر إلى عجائب ما ظهر عليه من الأفعال, وإلى عجائب الغيب الذي أخبر عنة 
القرآن على لسانه وني الأخبار. وإلى ما ذكره في آخر الزمان فظهر ذلك كيا 
ذكره. عم علياً ضروريّاً أنه بلغ الطور الذي وراء العقل, وانفتحت له العين التي 
يتكشف منها الغيب الذي لا يدركه إلا الخواص. والأمور التي لا تدركها 
العقول. فهذا هو منهاج تحصيل العام الضروري بتصديق النبي عليه الصلاة 
والسلام . فجرب وتأمل القرآن وطالع الأخبار تعرف ذلك بالعيان. 

وهذا القدر يكفى في تنبيه المتفلسفة, ذكرناه لشدة الحاجة إليه في هذا 
الزمان . ْ 

وأما السبب الرابع - وهو ضعف الإيمان بسبب سوء سيرة العلماء ‏ فيداوى 
هذا المرض بثلاثة أمور : 


أحدها: أن تقول إن العالم الذي تزعم أنه يأكل الحرام . معرفته بتحريم ذلك 
الحرام كمعرفتك بتحري الخمر ولحم الخنزير والرباء بل بتحريم الغيبة والكذب 
والنميمة. وأنت تعرف ذلك وتفعله لا لعدم إيمانك بأنه معصية. بل لشهواتك 
الغالبة عليك ؛ فشهواته كشهواتك. وقد غليته كبا غلبتك . فعلمه بمسائل وراء 
هذا يتميز به عنك . لا يناسبه زيادة زجر عن هذا المحظور المعين. وم من مؤمن 
بالطب لا يصبر عن الفاكهة وعن الماء البارد . وإن زجره الطبيب عنه! ولا يدل 


م١‎ 


على ذلك أنه غير ضار, أو على أن الإيمان بالطب غير صحيح, فهذا جمل 


الثاني: أن يقال للعامي : ينبغي أن تعتقد أن العالم اتخذ علمه ذخراً لنفسه في 
الآخرة. ويظن أن علمه ينجيه. ويكون شفيعاً له حتى يتساهل معه في أعباله 
لفضيلة علمه. وإن جاز أن يكون زيادة حجة عليهء فهو يجوز أن يكون زيادة 
درحة له وهو ممكن. فهو وإن ترك العمل يدلي بالعام. أما أنت أيها العامي إذا 
نظرت إليه. وتركت العمل وانت عن العلم عاطل. فتهلك لسوء عملك ولا 
شفيع لك . 

الثالث: وهو الحقيقة, أن العالم الحقيقى لا يصادف معصية إلا على سبيل 
الحفوة. ولا يكون مصراً على المعاصي أصلاً ؛ إذ العام الحقيقي ما يعرّف أن 
المعصية سم مهلك وأن الآخرة خير من الدنياء ومن عرف ذلك لا يبيع الخير 
ما هو أدنى منه. وهذا العام لا يحصل بأنواع العلوم التي يشتغل بها أكثر الناس ؛ 
فلذلك لا يزيدهم ذلك العام إلا جرأة على معصية الله تعالى. وأما العام الحقية 
فيزيد صاحيه خشية وخوفا ورجاء . وذلك يحول بينه وبين المعاصي ., إلا الهفوات 
التى لا ينفك عنها البشر في الفترات ؛ وذلك لا يدل على ضعف الايمان, فالمؤمن 
مفتن تواب. وهو بعيد عن الإصرار والا كباب. 

هذا ما أردت أن أذكره في ذم الفلسفة والتعليم وآفاتهياء وآفات من أنكر 
عليها لا بطريقة. 

ونسأل الله العظم أن يجعلنا من آثره واجتباه. وأرشده إلى الحق وهداهء 
وأهمه ذكره حتى لا ينساهء وعصمه عن شر نفسه حتى لم يؤثر عليه سواه 
واستخلصه لنفسه حتى لا يعبد إلا إياه. 


وصل الله على سيدنا مد وعلى آله وصحية . 
[ انتهى كتاب المنقذ من الضلال ويليه كتاب المواعظ في الأحاديث القدسية ] . 


ذه 


حجة الإسلام الامام الغزالي 
كتاب 
5 عِِ وده ه» 
المواعظ فى الأحاديث القدسية 


الذذا 


يسم الله الر حمن الرحيم 


الحمد لله تذكرة للعباد. وتقويه للمتقين من المسلمين إلى العبادة. والصلاة 
على صاحب الملَّةَ الطاهرة؛ والرضوان على آله وأصحابه وآهم, وعلى من تبعهم 
بإخسان, وعلياء الأمة في كل زمان. 


كتاب الموعظة فيه حسنه نافعةء نفعنا الله , 


6 


الموْعِظَةُ الأولى 

تقُول الله تَعَالَى: ظيَابْنَ آدَمَ! عَجِبْتَ لِمَن أَيْقَنَ الت كيف يَفْرَحُ, 
َعَجِبْتْ لِمَنْ أَيْقَنَ بالحتاب كنف يَجْمَمْ الْمَالَ, وَعَجِبْتَ لِمَنْ أَيْقَنَ بالْقَبْر 
أيْقَنَ بالدنيًا وَروَالهَا كيف يَطْمَئِنَ إِلَيْهَا. وَعَجِبْتَ لِمَنْ هُرَ عَالِمّ باللّتان 
اهل بالقلب, حجنت لمن يطو بالناء هوعد طهر بالقلبء وَعحنتَ 
لِمَنْ يَشْتَغْل بِعُيُوب التاس وَهُوَ غَافِل عَنَ عيوب تَفْسِهء أو لِمَن يَعْلَمٌ أن الله 
َعَالَى مُطَّلمّ عَلَيْهِ كَيْف يَعْصِيهء أَؤْ لِمَن يَعْلَمُ أنه يَمُوتَ وَحْدَهُ وَيَدْخْلَ الْقَبرَ 
لخد حاضيا شا 6 ام بالئّاس ع لا إله إلا أنا حَفَاء وَأنَ 


مُحَمَّداً عَبْدِي وَرَسُولِي © . 


الْمَوْعِظةٌ الاي 
م ع © 


تقول الله نَعَالَى: 8 شهدت نَفْسيء أن لا إله إلا أنا وَحْدِيء لا شَرِيك لي 
مُحَمِّد عَبْدِي وَرَسُولِي. من لَمْ يَرْض بقضائي, وَلَمْ يَصرْ عَلَى بَلآنيء وَلَمْ 
يَعْكَرْ عَلَى تَعْمائي. وَلَمْ بَقنعْ بعطائي. فَلْيَعْيَدْ ربا سرائي, وَمَن أطْبّح حزينا 
عَلَى الدّنيًا فَكَاَنَمَا أُصْبَحَ سَاخطاً عَلَيَّ وَمَن اشْتَكى عَلَى مُصِيبَة فَقَدْ شَكَانِي, 
وَمَنَ دَخَل عَلَى عَنَيّ قتواضع لَهُ مِن أجل تاه ذَهَبْ ثُلنَا دينه» ومَن لطم 
رَجْهَهُ عَلَى ميت فَكَأَنْمَا أَحَذَ رَئْحاً يُقَاتلنِي به. وَمَنْ كسَرَ عوداً عَلَى قَبْر 
َكَأنَهُ هدم باب كَمْبِي بيده وَسَنْ لم يبال مِنْ أي اب يأل ما يَُالِي من 
أي باب يُدْخِلَهُ الله تَعَالَى جَهَنْمء وَمَنْ لَمْ يَكُنَ في الزيَادَةِ في ديه فَهْرَ في 
النْقْصان . وَمَنْ كَانَ في التقصان فَالْمَوْتَ خَيْرٌ لَه وَمَنْ عَمِلَ بمَا عَلِمَ أَوْرَتَهُ 


عام هل » وو 


اللهُ تَعَالَى عَلْمَ مَا لَمْ يَعْلَمُ وَمَن أطَال أُمَلَهُ لَمْ يَخْلْصْ عَمَلّهُ 4 . 


/ام/ 


المؤعظة الثَّالئَه 


بَقُو و 


ل الله تَعَالَى : « يَابْن 1 اقْنعغْ تسلتغْن .واترك الْحَسَدَ تسترخ» 
٠ 2‏ الْحَرَامَ تَخْلِص ديتك, ومَن ترك الْعَيْبة ظَهَرَت لَه مَحَبّيء وَمَنٍ 
اعْتزْل النَّاسَ سلِمَ مهم وَمَنْ قل كَلآمهُ كمُلَ عق وَمَنْ رضي بالقليل فَقَد 
وَئْقَ بالله تَعالى . يَابْنَ آدَمَ! أنْت بمَا تَعْلَم لآ تغمل, فَكَيْفَ تَطْلْبْ علْمَ مَا لآ 
تَعْلَم؟ يَابْنَ آدَم! تَمْمَل في الدّنيًا كأنّكَ لا تَمُوت غداً. وَتَجْمَمْ الال كنك 
مُحَلّدٌ أبَداً. يا دُنيَا احرمي الحَرِيصعَلَيِكِء وَابْتَفِي الزّاهِدَ فيك. وَكُونِي 
عُلوَةَ في عَيْنِ الناظِرين » . 


الْمَوْعِظَةٌ الرّابعة 


الله تَعَالَى 
عا ل أبداء وَشْثْلاً لا َْرمٌ له أبدأء وَقَفراً لا ينال غنَى 
أبَداً. وَآمَالاً تَشْعْلَةُ أبّداً . يَائْن أدَم! تنقص كل يوم من عُمْرِكٍ تت 3 
تدْريء وآتيك كل يَوْم بِرِزْقِك نت لا تَحْمّد؛ قلا بالقبيل تقتم » ولا 


بالكثير تَشبَع. يَابْنَ آدَمَ! مَا مِن يَوْم إلا ويَأتِيك عدي ره 
لَيْلَهَ الأ وَيَأتي لي لتويك اين عندك بقل ببح ؛ َكل ررقي وتخصيني. 
وَأَنْت تذعوني ناشحية لكء وَخَيْرِي إِلَيْكَ تازل, وَشرّك إلَيّ واصيل؛ فَنِعْمَ 
الْمَؤْلَى أنَا لك ! وَبنْس العَبِدُ أنت لي! تسْتلَنِي ما أغطيك, وَأَسْترُ عَلَيِكَ سَؤْءَةٌ 
بَعْدَ سؤءة فَضِيحَةٌ, وأَنَا أملتخبي مِنك وأذت لا تشنتجي منيء تنساني وتَذْكرْ 


ياس اس 
٠.‏ 


غَيْرِيء وَتَخَاف التّاس وتأمَن مني تناف مَقَتهِمْ ‏ وتَأمَُ غضبي © . 


8/4 


يَقُولَ اله تعالَى: «يآبْن آدَمَ! لا تكن مِمَّنْ يُقَصّرٌ التَوْبَةَ وَيُطَوّلَ الأمل» 
وَيَرْجُو الآخرة بِغَيْرِ عَمَل ؛ يَقَول قَوْلَ العابدين وَيَعْمَل عَمَل الْمنَافِقِينَ. إن أعْطي 
لم َع إن مي لم يطبن َم باَْيْرٍ وَل يَمَلَه وى بالشر وم يه عنة. 
يحب بُح المتالحين ويس منهم وَيَتْض اماف وَهُوَ نهم . يَقُول مالآ يَفْعَلَء 
وَيَفْمَل ما لآ يُؤْسَرُ ويسنتوفي ولآ يُوفِي. َابْنَ آدَم! ما مِن يوم جَدِيدٍ إلا 
والأرض تُخَاطِبّكَ في قَوْلِهَا تقول لك: يَابْنَ آدمَ! تمْشي عَلَى ظَهْري. : 
تُخْرَنُ في بَطِي. وتأكُلْ الشَهوَاتِ عَلَى ظَهْرِي, وَبأكْنّكَ الدُودُ في بَطبي 5 


آدَمَ! أنَا بَئْتَ الوَحْشّة. وأنَا بَيْتَ الْمُسَاءَلّة. وأنَا بَيْتَ الوخدة, وأنا بَيِت 


الظّلْمّة , وَأَنَا بَْت الخيّات وَالْمَقَاربء فَاغْمُرْنَى ولا تَحَرَنْئِي ©. 


9 وه 5-5 و 
الموعظة السادسة 


ل الله تَعالَى: «ايَابْنَ آدَمَ! ما حَلَقَتَكُمْ لأستكثرَ بكم من قله وَلآ 
0 لأسْتمِينَ بكم على أثر عَجَرْتُ عل رآ 
لِجَلب مَنْفَعَة وَل يدق مَضرَّة بل ) اخَلَقتَكُمْ لبتبدري طَويلاً : وَتشْكرُوني 
كثيراًء وَتَسَبّحُونِي بُكْرةٌ وأصيلاً . يَابْن آذَمَ! لو أن أَوَلَكُم رآخركم, وَجِنْكُم 
وَنْسَكُمْء وَصفِيركُمْ وكبيركمْ» وَحُرَكُمْ وَعَبْدَكُمء اجْتَمَمُوا عَلَى طاغَتِي ما 
َادَ ذَلِكَ في مُلكي مِثْقَال ذَرَةِ. وَمَنْ جَاهد فَإنَمَا يُجَاهِدُ لِتلْيه إِنْ الله لمَنِي 
عن الْعَالَمِينَ. يَابْنَ آدَمْ! كُمَا تؤؤِي يُؤْذي بك, وَكَمَا تَعْمَلَ يُمْمَل يك» . 


14 


الْمَوْعَظَةٌ السَّابعَةٌ 


يَقُولَ الله تعالى: <يَابْنَ آدَمَ! يا عَبِيدَ الديتار وَالدَرَاهِم ! ني حَلَفْتَهُمَا 
لك لناكلوا هما ردقي + وتلترا بوما تيه الشخوني وتقاتري نم 
تَأَحْدُونَ كتابي وتَجْعَلُونَهُ وَرَاءَكُمء وَتَأَحْدُونَ الدّيئَارَ وَالدَرَاهِمَ وَتَجْعَلُونَها 
َؤقَ رُوْوسِكُمْ. وَرَقَعْتَم بيُوَكمْ وَحَفَضتَمْ بوتي قلا أنتم أخَيَار ول أنثم 
ار أنتم عَبِيدٌ الدنياء راطع ملِكم كمئلٍ القَبُور الْمُجَصّصّة. يرَى 
ظَاهِرهَا مَلِيحا وَبَاطِنْهَا قبِيحاً. وَكَذَا تُصلَحُونَ للناس وتُحَبُونَ إِلَنِهِمْ 
بسكم الحَلوَةٍ وأفَْالكُم الجميلة. وتبَاعُِونَ بَِلوبكُمْ القاسية وأحَوالِكم 
الحَبيئة. يَائْنَ آدَمْ! أخلص عَمَلَكَ وامألبي! فَإِنِي أغطيك أكْثَرَ مما يَطْلْبُ 
السّائُْونَ © . 


يَقُول الله نَعَالَى: ظيابْنَ آدمَ! ما َلَفُْكمْ عبَئأ. ولا خَلَفَْكُمْ سُدى, وما 
نا بقافل , وأني بِكُمْ حي . وَلَنَ تَنَانُوا ما عِنْدِي إلا بالصّبْر عَلَى مَا تَكْرَهُونَ 
في رضائي. والطْبر لَكَمْ على طعي أَيْسْرُ لَكُمْ من الصّبرٍ عَلَى مَعْصِيّتي» 
وَتَرْك الذنب أَيْسَرُ لَكُمْ من اْتَذَاري من حَرّ النَار وَعَذَابُ الدّنيَا أَيْسَرُ لَكُمْ مِن 
عَذَاب الآخرة, يَابْنَ آدَمْ! كُلّكُمْ ضال إلا مَنْ هَدَيئَهٌ وَكُلُكُمْ مُسِيء إلا مَنْ 
عَصّئْته, وُوبُوا إل أَرْحَمْكُمْ ولا تهْتكُوا أَسرَارَكُمْ عِنْدَ مَنْ لا يَخْفَى عَلَْه 


مركم 6. 


9 5 ِو 2 و 
الْمَوْعَظَة التاسعة 


يَقُولَ الله تَعَالَى: ظيَابْنَ آدَمَ! لا تَلْعَنُوا الْمَخْلُوقِينَ فَتْرَدَ اللَعنَهُ علَيْكُم . 
يَابْنَ آدَمَ! اسْتَقَامَت السّمَوات في الْهَوَاءِ بلآ عَمَدِ 00 اسم وَاحدٍ مِن أَسْمَائي» 
وَلَمْ تسل قم مُلوبكُمٍ بألف توعظة مِنْ تابي . يا أَيّهَا النَاس! كُمَا لا يَلينْ الحَجَرُ 
في الْمَاءء كَذَلِكَ لا نَؤْثَّرُ الْمَوْعظة ف في القلُوب القاسيّة . يَابْن بن أدَمّ! كيف 


٠. ممم‎ 


تشهّدون أنْكُمْ عِبَادٌ لَه توت ؟ ون أن المت حق وأندَ له 
كَارِهُونَ وَتَقُولُونَ بِالْسِنبكُمْ ما ليس لم به عِلْمْ وَتَحْتَبُونه هيْنا وَمْوَ عند 
الله عَظم ") © , 

الْمَوْعظَةٌ العتاشرَةٌ 


يَقُول الله تَعالَى: «يا يا لاس قد جَاء نكم 0 بك وَشِقَاه 
لما في الصدُور » 0 فلم لا نَحْمِنُونَ إل لِمَنْ أَحْسَن ِلَيِكُمْء ولآ تصِلُونَ إلا 
من وص كم ولا تَكَلَمُونَ إل من كُلمَكمْ ولا تُطِْمُونَ إل من أطَعمَكن 
َلآ تَكْرِمُونَ إلا مَن أكْرَمَكُمْ؟ وَلَئْسَ لأحَدٍ عَلَى أحَد فضلء إِنَمَا المؤيئون 
الّذِينَ آمَنوا بالله وَرَسُولِهء الّذِينَ يُحْسِنُونَ إلى مَنْ أسّاء لهم وبَصِلُونَ 02 


قَطْحَهُمْ . وَيَحْفُونَ عمّن حَرَمَهُمْ ‏ واتعنون سِ خانهم , وَيُكَلَُمُونَ صْ هجرهم ., 
وَيُكْرِمُونَ من أُهَانَهُمْ» وَإنّي بِكُمْ لَحَبِير 4 . 


)١(‏ في الآية ؟ من سورة الرعد: «#الله الذي رفع السموات بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش 
وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مَّى يدبر الأمر يفصل الآيات لعلكم بلقاء ربكم 
توقنون » وف الآية ٠١‏ من سورة لقمان: : #خلق السموات بغير عمد ترونها ». 

(؟) اقتباس من الآية ١6‏ من سورة النور: 8 إذ تلقونه بألسنتكم وتقؤلون بأفواهكم ما ليس لكم 
به علم وتحسبونه هيناً وهو عند الله عظيم» . 

©) سورة يونسء الآية /61 . 


4١ 


؟ره ِو 5-7 8م 
الموعظة الخادية عشرة 


يَقُول الله تَعَالَى: «ايا أيّهَا النّاس! إِنَّمَا الدَنيَا دار لِمَنْ لا ذَارَ له. وَمَالَ 
ِمَنْ لآ مَالَ له وَلَهَا يَحْمَمْ مَنْ لآ عَقْلَ لَه وَبِهَا يَفْرَحٌ مَنْ لآ فَهْمَ لَه وَعَلَيِها 
يَحْرِصُ مَنْ لا توكل لَهُ وَيَطْلْبْ شَهَوَاتَهَا مَنْ لا مَعْرِفَة لَه فَمَنْ أرَادَ نِعْمَة 
[اللة رحا للقطية :يتا طلم نت عفنا ربّه. ونسِي الآخرة وغرتة دياه 
وَأَرَادَ ظاهِرَ 0 وباطن هَذا . و إنَالَّذِينَيَكْسبُون الوم ميجزون بما كانوا 
يَقتَرِفُونَ9". يَابْنَ آدَمَ! رَاعُونِي وتاجروني ‏ ". وَعَامِنُونِي وَأَسْفلُونِي في 
رَبْحكم . عندي مَا لآ عَيْنَ رأتء ولآ أَذْنْ سَمِعَتَء ولآ خَطَرَ عَلَى قَلب 


5-7 


بغر" ولا تنفد خزائني وَلآ : تنقصء وأنَا الوَهّاب الْكَرِم © . 


)1( سورة الأنعام, الآية .١٠١‏ 

(؟) قال عز وجل في الآية ٠9‏ من سورة فاطر: إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة 
وأنفقوا مما رزقناهم سيرآ وعلانية يرجون تجارة لن تبور 6 . 

(؟) حديث قدمسي. رواه البخاري في التوحيد باب 0”, وبدء الخلق ياب 8. وتفسير سورة 55 
باب ١ء.وملم‏ في الايمان حديث رقم ؟١5.‏ والجنة حديث ؟_. “. 1. 6. «الترمذي في 
الجنة باب 21١60‏ وتفسير سورة 1" باب ”27 و05 باب .١‏ وابن ماجه في الزهد باب و", 
والدارمي في الرقاق باب 8ه . ٠١6‏ ., وأحمد بن حنبل: ؟ / 05118 1551458 146. 


47 


الْمَوْعْظَة الثّانَةَ عَسْرة 


تقول الله تَعَالَي : : ليَابْنَ آدَمَ! اذكْرُوا نغْمتي التي أَنْعَمْت عَلَيْكُمْ وَأَوْقُوا 
بِعَهْدِي أوف ِعَهْدِ كم وَإيّاي فَارهتون0) .كما لا توتدي السَّيل إل 
بدليل ٠‏ كَذَلِكَ لا طريق إلى الجَنةٍ إل يعمل ا 
بتصبء كَذَلِكَ لا تَدْخْلُونَ الجَنّة إلآ بالصّبر عَلَى عبّادتي. فَتَقرَبُوا إلى الله 
بالتَوَافل ٠‏ وَاطْلْبُوا رضائي برضا الْمَمَاكين عَنْكُمْ وَارْغبُوا إلى رَحْمَبِي 
بِمَجَالِس العْلَمَاهء فَإِنَ رَحْمَتِي لا رهم طَرْفَةَ غَيْن . قَالَ الله تَعَالَى: يا 
و اسمم ما أفُول» فَالْحَقَ أنه مَنَ تَكَبّرَ عَلَى مسكين ريه يوم القيّامَة 
عَلَى صُورَة الذّرّ ومن تواضع َه رَقَمتَهُ في النيا وَالآخرة» وَمَن تَعَرّض لِهَنْكِ 
سِرَ سلكين حَشرْتَةُ ايَوْمَ القيّامَة غَيْرَ سَنْتُور سيره وَمَنْ أهَان فقيراً فَقَد 
تاذرئ: بالمتارية »رقن بز بي صتافحتة الْمَلأَئكَةٌ في المَّليًا والآخرة » . 


الْمَوْعظَة الثَالِنَهَ عسْرَة 


يَقَول الله اَي ؛ : ليَابْنَ آدَم! كُمْ من راج قَدْ أَطْفَأنهُ ريح الى ؛ 
وَكُمْ من غَابدٍ قَدْ أَفْسَّدَهُ العُجْبُ. ٠‏ وَكُمْ من غَني أفستدة اناه وَكَمْ مين قَقير 
أفْسَدَهُ الْقَمْرُء وَكَمْ مِنْ صحيح أَفْسَدَنَهُ العافية, وَكُمْ من عَالِمٍ أَفْسَّدَهُ ْمل 
وَكَمْ مِنْ جاهل أُفْسَدَهُ الْجَهْل؛ فَلَؤْلاً مَشَاِيخْ ركم وَسَبَابُْ حُشّمٌ, وَأَطْفَالَ 
رْضمٌ وَبَهَائِمُ نّم لَجَعَلْت السَّمَاة مِنْ فَوْقِكُمْ حديداً, والأرْض صغْصفاً 
وَالتّرَابَ رَمَاداً وَلَمَا أَنْزّلت عَلَيْكُمْ مِنْ السَّمَاه قَطْرَةء وَلَمَا أنْيتت في الأرض 
من حَبّة, وَلَصبَبْت عَلَيِكُم العَذّاب صب . 


)١(‏ سورة البقرة, الآبة 4٠‏ وفيها فإيا بني إسرائيل اذكروا نعمتي 6 ... الآية 


0 


الْمَرْعِظَةٌ الرّابعة عَشْرَةَ 
يَقُول الله تَعَالَى: «يَابْنَ آدَمَ! اطْلْبُونِي بقذر حَاجَتَكُمْ لي ؛ وَاغصوني 
بقدر مركو عَلَى التارء وَل تَنظّرُوا إل آجَالِكُمْ 3 وَأَرْرَاقَكُمْ 
الْحَاضِرَةء وَذُنُوبِكُم الْمُستترة : وه كل شيء هَالك إل و وليه له لَهُ الحَكُم وَإلَيْه 


ُرْجَعُونَ ,400 , 


الْمَوْعِظَةٌ الخَامسَة عَسْرَة 


لمحم لا د لسلسم 1ه 
ام ترق تفل ويضبيء ٠‏ لس ء وأشرغ شا ف من لب 
قَإني لا أَجْمَمْ حُبّ الدّنيَا وَحْبّي في قَلْب وَاحد أَبَداء وَارْفق يتيك في جَمْع 
رّرق » فَإِنَ ارق مَفْسُومٌء والخريص مَحْرُومٌ وَلبَخِيلَ مَذْمُومٌ» والنْممة لا 
تدوم, وَالاسْتقصاء 9) شوم والأجل مَعْلُوم. وَالْحَقَ لوم وَخَيْرَ حكمة 
الله الحُشُوعٌ. وَخَيْرَ الغتاه الْقَناعَةٌ» وَخَيْرَ الرّادِ التَقْرَى22. وَخَيْرَ ما أتَى في 
القَلُوب اليّقِين. وخَيْرَ ما أَعْطِيُم العَافِيّة © . 


)١(‏ سورة القصص. الآبة 88 . وقال تعالى في الآبتين 77 . 77 من سورة الرحمن : 8 كل من عليها 
فان. ويبقى وجه ربك ذو الجلال والاكرام ». 

)١(‏ يقال: استقصى الأمرء أي بلغ أقصاه في البحث عنه. 

(؟) جاء في الآية 1817 من سورة البقرة: « ونزودوا فإن خير الزاد التقوى » . 


54 


الموعظة السّادسة عسرة 


7 تقول الله تَعَالَى : : #«يا أَيُهَا الّذِينَ آمنوا لِمَ تقولُونَ مَا لآ تَفْعَلُونَ, ” 
تُعولون وتخلفوت: وَكم َنَهَؤْنَ عَم لَسْتمْ عَنْهُ تنتهُون. وَكَمْ تأَمُرُونَ وَل 
02 وكم د َجَْمُون ما لآ تأكلون, وَكَمْ تَوَةٍ يَؤْما بد يوم رو 
غاماً مد عام كم لم نيوت أمِنْدكُمْ من الات أمَان؟ أُمْ بِيَدِكُمْ ثرّاءة أن 
الَّرِ؟ أم تَحَقَفتم الْمَوْرَ بالجتان ؟ أم بَنَكُمْ وبينَ الرخسن, 0-000 
انعم وَأَفْسَدَكُمْ الإِحْسَان, دَعَرَكُم من الدّنْيَا طول الأمل .الآ اتغتدمو 
الصحَّة والسّلامَة فَأَيَامَكُمْ مَعْلُومَة وَأَنْفَاسُكُمْ مَعْدُودَةٌء وَقَدمُوا اتيك ب: لما 
بتي في أيْدِيكُم. يَابْنَ آدمَ! نك تَقْدْمٌ عَلَى عَمَلِك. وَإِنّ كُلَ يَوْم يدم بن 
عُمْركء من يَوْم خَرَجْت مِن بَطنٍ مك وتَدئو كل يَوْم مِن قَبْرِكَ حَتى 
تَدْخلَهُ. يَابْنَ آدَمَ! لك في الدّنيًا كَمَتل الذبّاب» كلما وَقَم في الْعَسَّلٍ 
الْتَصَبَ2) فيهء فَكَذَلِكَ أنت, لا تكن كَالْحطب الَّذِي يَحْرُّق لَفْسَهُ لِغَيْره 


4 


)١(‏ سور ة الصف الآية ؟. 
(؟) اعتلق فيه. 


م6 


الْمَوْعِظَةٌ السّابعة عَشْرَةَ 

يَقُولَ الله تَعَالَى ؛ : لبَابْن دم | اغبل 5 مرك وَانته ما نَهَبْتَكَ عَنْهُ 
تل حَيّا لا تموت أبّداء وأنا حي لا أمُوت أبداً. وَإذَا قُلت لِلثيه كن 
فَيَكُونَ2". يَابْنَ آدَمَ! إن كان قَوْلُكَ مَلِيحاً. وَعَمَلْكَ قبيحاً فَأنت رئيس 
الْمُتافقنَ؛ وَاذَا كَانَ ظَاهِرَّك مَلِيحاً وَبَاطِنِكَ قبيحاً . فأنت سن لوالكي. 
يُحَادِعون الله وهو خَادِعُهُم 5 يَخْدَعُونَ إل أَنْفَهُمْ وَمَا يَشْعْرُونَ ”7 
يَابْنَ آدَمَ! لا يَدْخْلَ الْجِنْةَ إل من َوَاضم لِمَظمتي» وَقَطَم التّقار 9 
وكف نَفْسَهُ عن الشَّهَوات من أجلي ؛ فإني آوي الْمَرِيب وأؤمُن القَقِيرَ» وَأَكْرِمُ 
اليم وَأكُون لَهُ كالاب ٠‏ الرّحِي ٠‏ وللأرامل كَالروْج الْمَطُوف الشفُوق. فَمَنْ 
كَانَتَْ هذه صفتة كنت مُجِيباً لَه إِذَا دَعَانِي شَيْئاً أستجيبة» وإِذًا سألني 
أشتئة». 


. 6 إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون‎ 9 : 1٠ قال تعالى في سورة النحلء الآبة‎ )١( 
.9 (؟) سورة البقرة, الأية‎ 


45 


الْمَوْعِظَةٌ الثّامِنَة عَشْرَة 
يَقُول الله تعالَى: ليَابْنَ آدَمَ! إلى مَن تشكوني ليس لمثلي تشكو؟ 
إلى مَتى تنسؤني وَلَمْ أسلتؤجب م ذَلِك ؟ إلى مَتى تَكُثروني وَلَنت 
بظلام للْعَِدٍ 0) ؟ وَإلى متى تَجْحَدٌ نِعْمَتي؟ وَإلَى مَتَى تَْتخِف بكتابي » وَلمْ 
أكلْفْكَ ما لآ تطيق؟ وإلى مَتى تَجْفُوني؟ وإِلَى مَتى تَجِحَدُوني وَلَيْسَ لَكُمْ 
رب غَيْرِي ؟ وإِذَا مَرِضْكُمْ فأ طَبيب من دُوني يَشْفِيكُمْ 9 ؟ فَقَدْ شَكَوْتمُوني 
00 قعانيء. أن لي ا السّماء 00 رار 0 - بهذا 





.» قال تعالى في مورة ق. الآبة 78 : «وما أنا بظلام للعبيد‎ )١( 

(؟) قال تعالى في سورة الشعراء, الآية ١‏ : 8 وإذا مرضت فهو يشفين» . 

(؟) في حديث زيد بن خالد الجهني قال: صلَى بنا رسول الله مم صلاة الصبح بالحديبية في إثر 
السياء كانت من الليل. فليا انصرف أقبل عل الناس فقال: «هل تدرون ماذا قال ربكم؟» 
قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: « قال: أصبح من عبادي مؤمن في وكافرء فأما من قال مطرنا 
بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن لي كافر بالكوكب. وأما من قال مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك 
كافر بي مؤمن بالكوكب». رواه ملم في الإيمان حديث رقم 6؟١ء‏ والبخاري في الاستسقاء 
باب 58 . وأححمد ( ج14 ص )١١7‏ وأبو داود في الطب باب +؟ , والنسائي في الاستسقاء باب 
05 وأخرجه النسائي أيضاً برواية أخرى عن أي هريرة مختصرة عن رواية زيد بن خالد 
ولفظها : ٠‏ قال رسول الله ييه : قال الله عز وجل: ما أنعمت على عبادي من نعمة إلا أصبح 
فريق منهم بها كافرين يقولون الكوكب وبالكوكب». وروى الإمام أحمد (ج١‏ صصإاء 
)1١ 4‏ والترمذي في تفير سورة الواقعة عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله 
ع «وتجملرن رزقكم أنكم تكذبون# قال: شكرم تقرولون مطرنا بنوء كذا وكذا وبنجم 
كذا وكذا. 


/ا04 


الْمَوْعظَة التاسعة عَسْرَة 


َقُولَ الله تَعَالَى: 8 يَابْنَ آدَمَ! اصْبنُ وَتَوَاضَمْ أرْقنك, وَاشْكْرْنِي أزذك. 
َاسْتَغْفِرْنِي أَغْفْرْ لك, وإذَا دَعَوْتنِي أمتجيب لك, ونب إلى أتب عَلَيِْكَ 
وَاسْألني أغطك, وَتَصّدَقَ أَبَارك نك في رِزقك. وَصل رَحِمَك أزد في 
أَجَلِكَ. وَاطْنُبْ مني العَافِيَةَ بطُول الصّحَّة وَالسّلآمة في الْوَحْدَةء والإخلآص 

في الرَعْبَة» وَالْوَرَّع إلى الله في التَؤبّة» والغتاء في القتاعة. يَابْنَ آدَمَ! كيف تَطمم 
الماذة ع الحم ار طق لطب و بخ اللاي حي لقال كنف تلت 

في الحَؤف مَعَ خف الققر؟ وَكَيْف تَطْمَع في الدع َع احرص عَلَى الدّنيًا ؟ 
وَكيْف تَطْمعٌ في مَرْضاة الله بِغَيْرٍ الْمَسَاكين؟ وَكَيِف نَطْمَم في الرّضا مم 
البُخل ؟ ركف تطتع في الل مع حب لديا وتع الاح ؟ كيف قطتم ف 
السّعَادَة "'مَمَ قِلّة العلّم ؟» . 


)1١(‏ أي: سعادة الآخرة. 


44 


الْمَوْعِظَةٌ العشرون 
يَقُولَ الله تَعَالَى: «ايا أَيّهَا النَّسْ! لا عَيْشَ كَالتَدْبيرء َلآ وَرَعَ كَالْكَفْ 
الأذىء ولآ حُبّ أرق مِنَ الأدبء, ولآ شَفِيمَ كَالتَؤْيَة ولآ عِبَادَة 
كَالعلم . وَل صلاة كَالْحَشْيَة وَلآ ظَفْرَ كَالصّبْرِء وَلآ سَعَادَةَ كالتوفيق . ولآ 
زَيْنَ أزيّن مِن الْعَقل , ولا رفيقَ آنسُ من الحلم. يَابْنَ آدَم! تَفَرّعْ لعبادتي 
أئلأ فلك غنى. رَأَبَارِك في رِزقك, وَأحل في جيك رَاحَةٌ وَلآ تَغْقل عن 
وري إن خا غَقْلْت 0 لبك ا ردنك تك 00 ار 


قويت على طأقتي: وبتؤفيقي | ديت ريض دبرذقي, قوت على تنصيدي . 


وَفَعَدْت وَرَجَعت0 كلق اه رأمتخت. وف لمن منت . و3 نِعْمَتي 
تقلت . وبعَافيتي تَجَمَّلْت؛ م تَنْسَانِي وذ كر غَيْرِي», فلم لآ تؤدّي حَقي 
وشكْري ؟». 


44 


الْمَوْعظَة الخادية دِيَةٌ وَالعشرون 

َقُولَ الله تَعَالَى: 8يَابْنَ آدَمَ! الْمَوْتَ يكْشِف أسرارك, وَالَِْامهتَبِلُو 
أخْبَارَك, والْعَدَابُ يَهْتك أستارَك, فَإِذًا أذتبت ذنباً فلآ تَنظّر إلى صغرهء 
ولكن ال إلى سَنْ عَصَيِت, وَإذَا رَرِفْتَ رزقاآ قليلاً قلا تنا إلى ليه 
تكن انْظرْ إلى مَنْ رَرَقكَ؛ ولا تَخقِرٍ الب الصّفِيَ فَإنْكَ لا تَرِي بَأيَ 
ذُنْبٍ عَصبْتِهُ ؛ ولآ نان عن تاراق بيتوي أحتى جلدااي ذل التثل 
عَلَى الصا )في اللَيْلَهَ الْظلمة .يَابنَ ؤم هل عَصَيْتَنِي فَذَكَرْتَ غَضَبِي ؟ وَهَل 
نتهيْت عَمَّا نَهَْتك ؟ وَهَل أَدَيت فريضتِي كَمَا أَمَرْتك؟ وهل وَانَيْت 
الشتاكين من ماللك؟ وهل أختنت إلى مَنْ أساء إلتلك؟ وَهلْ عقوت عَمَنَ 
ظَلَمَكَ؟ وَهَل وَصلت مَنْ فَطَعَك؟ وَهَلَ أنصفت مَنْ خَانَكَ؟ وَهَل كُلَمْتَ 
مَنْ هَجَرَكَ؟ وَمَلَ أُذَبْتَ وَلَدَكَ؟ وَهَل أرْضيّت جيراتك؟ وَهَلَ سآلت 
العُلَمَاةَ عَن أُمْرٍ دينك ودُنَيَاك؟ فإني لا أَنظْرٌ إلى صِوَرِكُم. ولا إِلَى 


5 مم د 


تحَاسنِكُم, ولك أن" إلى لوم 29, وأرضى بهذ الجصالٍ يِنْكُم» . 


)١(‏ الصفا: الحجر الأملس أو الصخرة. 

(؟) في حديث أي هريرة عن رول الله ييه قال: وإن الله لا ينظر إلى أجسادم, ولا إلى 
صوركى. ولكن ينظر إلى قلوبكم». رواه مسم في كتاب البر والصلة حديث رقم +5. وابن' 
عاجه في الزهد باب 4 والإمام أحمد في مسنده ج ؟ ص 0780 6858 . 


الْمَوْعْظَةٌ الدَّانيَةَ والعشرون 


يَقُول الله تعالَى: 9 يَابْنَ آدَمَ! أَنْظَرْ إِلَى نفسك وَإِلَى جَمِيع خَلْقِيء فَإن 
جَذت أعر لبك بن نفيلك, قاصرفا عَرامَة إن ولا أخرم تفلت 
بالتوبّة وَالْعَمَل الصّالح إن كانت نفْسك عَلَيِك عزيزة. وَاذْكر نعْمَة الله 


#جنء 


عَلَيِكَ مياق أي وانَقكُمْ به . إِذْ قُلْتم سَمِعْنا وَأْطَعْنَا 29 واد تَقُوا الله قَبِلَ يَوْم 


الْقِيَامَة يو التغَابُنِ 3 يوم الحَاقّة , «يوم كان مِقَدَارهٌ حَمْسينْ ألف سَنّة»9) 
«يَؤْملا يَنْطِفُونَ وَلآ يُؤْدَن لَهُمْ فَيمْتَذِرُونَ»2. يَوْم الطّامّة. يَوْم الصّيْحَة 


و يما عَبوساً قَمطَريراً .0 زم لا تتلك لفن إنشس شيئا والأمرٌ يَوْمئٍ 
ف فك دم الدَيْمومّة , يوم الرَلَزلّة , يوم القارغَة . يوم قه رخفا 0 
الجبال 5 وحُلُولٍ التّكال » وتغجيلٍ الزّوَال يوم الصبحة وَالدّرَكء يُوْم فيه 


َشِيبُ الولدَان» وول تَكونُوا كَالّذِينَ قَالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (0) #, 


)110( في الآية /ا من سورة المائدة: « واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي وائقكم له إذ قلتم سمعنا 
وأطعنا واتقوا الله إن الله علي بذات الصدور » . 

(؟) سورةالمعارج. الآية . 

(؟) سورةالمرملات. الآيتان 6" و5". 

(14) سورة الإنسان, الآية .٠١‏ 

(6) سورة الانفطار , الآية .1١9‏ 

(1) سورة الأنفال, الآية 7١‏ . 


6١١ 


الْمَوْعظَة الثَّالتَهُ وَالعشرون 


يَقُول الله تعالى: «ويا أيهَا الّذِين آمَنْوا اذْكْرُوا الله ذكراً كثيراًء 


ددس مام مش]دة ومم 


وَسَبَحُوهُ بُكْرَة وَأصيلا 7". يا مُوسى بْن عمْرَانَء يَا صَاحب الْبَيَان , إسْمَعْ 
كلآمي ! أن الله الْمَلِكَ الدَيّانُء لَيْس بَْنِي وَبَيْنكَ تَرْجُمَانَء بَشْرْ آكل الرَبا 
بِعَضَب الرَحْمّن , وَمُضَعَّفَات النْيرانٍ :ابن لدم! إذا َجَدْتَ قت في لبك 
وَسَقاً في بَدَنِكء وَحِرْمَاناً في رزّقك, وَتَقِيصَةً في مَالِك ٠‏ فَاغلم بأنّك تَكُلَنتَ 
بها لذ يفيك انائن 1237:ذ سنت وبتك على :ينتفع الكالك »ولا ينلتق 
انك حَنَى تسْتخبيَ مِن رَبَّكَ. يَابْنَ آدَمَ! إذَا نظت في عيوب الثاس 
نيت عَبلكَ, فَقَد رصنت المَِطَانَ وأَغْضَبْت الرّخمن. يَابنَ آدَم! يساك 
سد إن أطْلفتهُ قتلَكَء فَهَلاَكُكَ في إطلآق لِسَانِكَ» . 


)١(‏ سورة الأحزاب. الآيتان 4١‏ و؟4. 


الْمَوْعِْظَةَ الرّابعَة وَالْعَسْرُونَ 

يَقُولَ الله تعالّى: ايا بني آدَمَ! ١إِنّ‏ الشَيْطان لَكُمْ عَدُرٌ فَاتَخِدُوهُ 
عَدُوًا 276. اعَلَمُوا اليَوْمَ الذي تُحْشَرُونَ فيه فَوجاً فَوْجاء وتَقُومُونَ بَيْنَ يدي 
الرّحْمّنٍ صَفًا صقا وَتَقْرَأُونَ الكتاب حَْفاً حَفاً» وتسْآلُون عَمّا عَمِلْتَم سر 
وَجَهراً. «يَوْمَ تحشر الْمتَقِينَ إلى الرّحْمَن وَفْداء وَنَسُوق الْمُجْرِمينَ إِلَى 
جَهَنَمَ ورداً »29 لَكُمْ وَعْدَّ وَوَعِيدء فَإِنِي أن الله لا شبية لي ع سُلْطَانُ 
كسْلطَانِي. مَن صامَ لي في دَهْره خَالِصاً أَفْطَرثه بألواني. وَمَنَ بَات في ليله 
فائي كَانَ لَه شأن مِنْ شَأنِيَ» وَمَن عض عَْنَهُ عَنْ مَحارِمي أمَمهُ من نيراني . 
َأنَا الوب فَاغْرِقُونِيء «أنَا الْمنْعِمٌ فاشْكرُوني, وَأنَا الحافظ فَاحْمَظُونِيء وأنا 
النْاصرٌ فَانْصرُوني, وأَنَا العَافِيُ فَاسْتَغْفِرُونِي » وَأنَا الْمَقَصُودُ فَاقُصِدوني. وَأنَا 
الْمُعْطِي فَاسْألُوني ‏ ونا الْمَعْبُودُ فَاعْبْدُونِيء وأنا العَالِمُ فَاحْذَرُون © . 


.5 سورة فاطرء الآية‎ )١( 
)؟) سورة مريم. الآبتان 8 وك86ق.‎ 


الْمَوْعِظَةٌ الحَامِسَةٌ وَالعشرونَ 

يَقُولَ الله تَعالَى: «يَابْنَ آدَمَ! ١‏ شَهدَ الله أنه لا إلة إلا هُوَ وَالْمَلائِكَةٌ 
راونا العلم ايا بالْقسْطء لا إلة إلا هُوَ العزيز الحَكيم» إن الدين عَنْدَ الله 
الإسلآمٌ72) « ومن يَبْتعْ غَيْرَ الإسلام دينا فلن يُقبل مِنهُ وَهُرَ في الآخرَة مِن 
الختبرين وتم عل عاو اح بيالح وض مرف الله خالا قاطاعة 
نَجَاء وَمَنْ عَرَف الشَيْطَانَ فَعَصَاهُ سَلِمَ, وَمَنْ غَرَف الْحَقّ فَانَِعَُ أمِنء وَمَنْ 
عَرَف الباطل فَانَقَاهُ فَاَ وَمَن عَرَف الشَيْطَانَ وَالدُنْيَا ثُمّ رَقَضَهُمَا سَعِدَء وَمَن 
عرف الآخرة ثم طَلَبَهَا هدي . وإن الله يَهْدِي مَن يَسَاء وليه َقْلَبُونَ. يَابْنَآدَمَ! 
إِذَا كان اللهُ تَعَالَى قَدْ تَكَمل لَك بالرّزق . فَطُولَ اهْتِمَامِكَ لِمَاذًا ؟ وَإذَا كَانَ 
الخلّف من الله فَالْبّخْلٌ لِمَاذًا ؟ وإذَا كان إِبْلِيسَ عَدُوَ الله تَعَالَى فَالْغْفْلَةٌ لِمَاذًا ؟ 
وَإِذَا كانت الْعُقُوبَةٌ بالنَارِء فَالاسْتِرَاحَةٌ لِمَاذًا؟ وإِذَا كَانَ تَرَابُ الله الجنّة» 
فَالْمَعْصِيَةٌ لِمَاذّاء وَإِذَا كان كل شَيْء بقضائي فَالْجَرْعٌ لِمَاذًا ؟ ؛ لِكَيْلا تأسَؤا 
عَلَى مَا فَانَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بمَا آتَاكُّم. وَاللهُ لا يُحِبُ كل مُختالٍ 
خُورٍ ,490 

الْمَوْعظَةَ السَّادسَةٌ وَالعشرون 

يَقُول الله تَعَالَى: طيَابْنَ آدَمَ! أَكْثِرُوا مِن الزّاد فَإِنَّ الطريق بَعِيد وَجَدّدِ 
اغنام افد :لشن اعمير .حتفو الشمل قإن المترائة ديين .رأ خاض 
لفل فَإِنَ النَاقِدَ بَصِي. فَمَهَرَاتكَ في الْجَنّة وَرَاحَتكَ إلى الآخرة, وَلَدَيْكَ 
الحُورٌ العين. وكن لي أكُن لَكء وَتَقَربْ إِلَىَّ في هَرَان الدّنيَا وَحُبْ الأَبْرَار» 
فَإِنَ الله لا يُضِيعْ أجْرَ الْمُحْسِنِينَ © . 1 
)١(‏ سورة آل عمران. الأآيتان م١‏ و9١‏ 
(؟) سورة ال عمران. الآية 8م. (؟) سورةالحديد. الآية ؟. 


6.6 


الْمَوْعِظَهُ السابعة 7 وَالعشرون 
يَقُول الله تعاتى؛ ٍ١يَننَ‏ م َيف تَنصُون َأنْتُمْ تَجِرَعُونَ مِنْ حر 
طَبَقة مِنها - ستثون آلف عنب من الثارء في حل هثب سَمُونَ الف قار زفي 
كل ذار سَبْعُونَ ألف بَْتَ. في كل بَنِتِ سَبْعُون ألف بثرء وفِي كل بثر 


حون آلف انوت من تار في كل لاتوت سبغون الف عفرب إن تارء 
6 تس 183 كيه سوم اه 


عَلَى كل تابوت سَبعُونَ ألف شَجَرَةٍ من رَقُوم (20. تخت كل شجرَة سَبعون 
ألف قَائدٍ من نارِء عَم كل قَائِدٍ سَبْعُونَ ألف مَلَكِ مِن نار وَسَبْعُونَ ألف 
تُعْبَان من ثارء طُول كل تُعْبَان ن, سبِعُونَ ألف ؤراع, مِنْ تار. في جوف كل تُعْبَانٍِ 
بَحْر مِن اسم الأسْوّد. وَلكل عَقْرَب ألف دنب طُوِلَ كل ذَنَب سلعون لف 
زداع » في كل نب سمو آلف رطل مِنَ الم الأخترء قبفي أخيف. 
« وَالطّور» وَكتاب مَسطور . ف زفق منشونب وَالبَيْتِ الْمَعْمُورٍ. والسقف 
المرْفُوع , وَالْبَْرِ المتخرر ار يَابْنَ آدَمٌ! 5 خَلَفْت النْيرَانَ إل لكل كَافِرٍء 
وَتَمّام . وَغَاقَ الْوَالِدَيْن , وَالْمُرَائي. وَمَانع الرَّكَاةِ مِن مَالِهء وَالرَانِيء كل 
الربًا. وَشَارب اْخْمْرِء وَظَالِمٍ لبتم » والأجير الغَادِر» وَالتائحّة. ولكل مُوّذِي 
الجيران . ٠‏ إلا مَنْ تاب وآمَن رَعَمِلَ عَمَلاَ صالحاً. فَأُولَئِك 0 
حَسَناتء وَكَانَ الله غَمُوراً رَحما 29. فَارْحَمُوا أَنْفْسَكُمْ يا عبادي!| فإن 

الأَبْدَانَ ضَعيفَةٌ, وَالسَّفَرَ بَعِيدٌ. وَالْحمْل تَقيلٌ. والصّراط دقيق, والتَاقَدَ 
تير وَالْقَاضِي رَبّ الْعَالَمِين » . 


)١(‏ قال تعالى في سورة الصافات, الآية ؟3: #أذلك خير نزلاً أم شجرة الزقوم © وقال في سورة 
الدخان , الآيتان 4 و44 : #إن شجرة الزقوم طعام الأثيم © وقال في سورة الواقعة, الآيتان 
0١‏ 088 : ثم إنكم أيها الضالون المكذبون لآكلون من شجر من زقوم ». 

(؟) سورة الطور؛ الآيات 1١‏ -3. (؟) سورة الفرقان, الآية .1١‏ 


الْمَوْعِظَة 0 وَالْعِشْرُونَ 

يَقُول الله تَعَالَى: ايا أَيْهَا الئاس 5 كيف رَغِيْم في ونيا قَانيَة َائَِة » وَحَيَاة 
منقطَِة ؟ قَإنَ للطائعينَ الجنان يلزن مِن أَبْوَابهَا التَمَانيَة» في كل جنة 
سَِعُونَ ألف رَوْضّةء في كُلَ رَوْضَةٍ سَبعُونَ ألف قمر من الياقوت. في كل 
قر سبمُونَ ألف ذار من المرُِء في كُلَّ ذارٍ سبمُونَ ألف بَيْت مِنَ اذهب 
الأخترء في كَل بَئْت سمُونَ ألف مَفْصورَةٍ مِن الفضة انيضام في كل 
مَقْصُورَةٍ سَبْعُونَ ألف مَائْدَةٍ مِنَ الغْبر 7 , عَلَى كل مَائْدَةٍ سَنِعُونَ ألف صَحْفَة 
مِنَ الْجَوَاهِر, في كل صَحفة سَبْعُونَ ألف لؤنٍ بن الأقام . حَوْلَ كل 
مَقْصُورَةٍ سَبْعُون لف سَرِيرٍ مِن الذّهَب الأحْمَرٍ عَلَى كُلَ سَرِير سَبْعُونَ ألف 
فراش مِن الحرير والإسْتلِرّق والدّيباج . حول كل سَرِيرٍ سَبْعُونَ ألف نَهْر 
مِنْ مَاء الْحَيّاة وَاللّّن والْعَل وَالْخَمْرِء في وَسط كل نهر سَبِعُونَ ألف لون 

مِنَ الما في كُلَ بيت سبِعُونَ لف خَيْمَةِ مِنَ الأْجَان . على كَل فراش 
جروا عن الطرو “لمن ين ينها حتموت الف" وصبيقة كانم افر 
000000 كُلُ قمر سَبِعُونَ ألف قَبّة في كُلَ قبّة ب سَبْعُونَ ألف هَديّة 
دا رشت 6ج الع رات اول أذن خمدت مزلا خط وى تنه قش 
«وفاكهة مِمًا يَتَخَبَّرُونَ وَلَخم طَيْر مما يَشْتَهُونَ. وحور عينْ كَأْسْتَال اللْؤْلو 
المَكُْون. جَرّاء بما كَانُوا يَعْمَلُونَه”22 لا يَمُونُونَ فِيها ول يعْرَمُونَ وَل 
يَحْرَئُونَ وَلةآ يَصُومُونَء وَلآ يصَنُونَ ول يَمْرَضُونَ, ولا يَبُونُونَ وَلآ 


. أي ذوات اللون الأغير كلون الغبار‎ )١( 
4؟.‎ - ٠٠١ (؟) سورة الواقعة: الآيات‎ 


يتَعْرَطُونَ 2, وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ7 . فَمَن طَلَبَهَا وَذَكر كراميي ‏ 
وَجوَاري وَنَعْمَتِيء فَلْيتقربْ إلي 0 والامتهاتة بالدنيّاء والْقناعة 


بالقبيل 4. 


الْمَوْعظَة التَاسعَةٌ قف وَالْعسْرُونَ 

يَقُول الله تَعَالَى: «يَابْنَ آدَمَ! الْمَالَ مَالِي وَأنت عَبْدِيء فَمَا لَك مِن 
مَالِي إلا ما أكلت تأفتيت. أؤ تبنت فأبليِت, أؤ تصدّقت فأبْقيِت. فأنا 
وأنت ثلاثة نام : فَوَاحِد ِي. وَوَاحِدٌ لَك وَوَاحِدٌ بَيْنِي وَبَِيك ؛ َأ الذي 
لي فَرُوحُك, وَأما الذي لك فَعَمَلْكَء وأمَا الذي بَيْنِي وَبَيتكء فمنك الدّعَاء 
دي الإجابً. يَائنَ آدم! نويع واقتخ قرتي. واعبني تصن إليّ. واطلئتي 
تجذني. يَابْنَ آدَمَ! إِذَا كنت مِثْل الأمَراء الّذِينَ دَخَلُوا الثَارَ بِالْفُجُورء 
وَالْعَرب ِالْمَعْصيَة وَالْعْلَمَاء ِالْحَسَدٍ َالتَجَارِ بالخبّانة. وَالْجَبْرِيّة الْجَهَالةٍ, 
وَالصّناع والْعْبّادِ بالرَيّام» وَالأغنيَا بالكترء وَالْقُمَرَاهِ بالْكَذِب» 0 سْ 
يَطْلْبْ الجنة؟ © . 





:4 انظر حديث ألي هريرة عن رسول الله عَِنّهُ في صحيح البخاري, كتاب بدء الخلق باب‎ )١( 
و17ء ومند الإمام‎ ١7و‎ ١6 وصحيح ممء كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها حديث رقم‎ 
أحد ج ؟ ص 2588 8508 811. ومئن الترمذي2, كتاب صفة الجنة باب 7. وسئن ابن‎ 
ماجة. كتاب الزهد باب 58. وانظر أيضاً حديث جابر بن عبدالله عن رسول الله عَللهُ لي‎ 
مسند أحمد ج " ص 15 2949 8584 0531 2584 ومند الدارمي. كتاب الرقاق باب‎ 
04 

(؟) من الآية 44 من سورة الحجر : «لا يمسهم فيها نصب وما هم منها بمخرجين 6 . 


٠6١او/‎ 


الْمَوْعْظَةٌ الثَّلآتُونَ 

يَقُول الله تَعَالَى: ««يَا أَيهَا الّذين آمَنوا انوا الله حَق ثقَاته وَل تَموتن 
إلا 5 م مُسْلِمُون» 0 . يَابْنَ آذَمَ! إِنَّمَا مَتل العم بلآ عَمَلِ كُمَتّل الْبَرق 
وَالرّعْدٍ بلآ مَطَرء وَمَمَلَ العمل بلآ عل كمئل شجَرَة بلا نَمَرَة مَل العاليو 
بلآ عمل كَمَتل قَوْس بلآ ور وَمَتلَ المال بلا زَكَاةٍ كَممل مَن يَزْرَعٌ اليلح 
َلى الفا وَمَلُ التزظة عِنْدَ الأختق َمل الدر واْجرامر عِند الَهائِو. 
مَل القابي مَمّ العلم كَمثل, حبر باق 1 وَمَكْل التؤظة. عند من لا 
يَرْعَبْ فيها كَمَمَل الْمِرْمَارٍ عَنْدَ الْقبُور2". وَمَتْلَ الصّدقَة مِنَ الحرام كَمَثْل 
مَنْ يَضيلُ ادر على تبه يتوله"© وَمَلُ الصّلآةٍ بلآ رَكَاةٍ مل جنةٍ بلآ 
وح » وَمَمَل العَالم بلا تَوْبَة كَمَتل البتاء بلآ أساس ء « أَقَأَمِنُوا مَكْرَ الله. قَلا 
يَأمَ من مَكْرَ الله إلا الْقَوْمُ الْحَاسيرُون, 429 , 


.٠١؟ سورة آل عمران. الآية‎ )١( 

)١(‏ أي مبلول بالماء. يقال: بَقِمَ المستقي : انتضح الما على بدنه فابتلت مواضع منه. والمقصود من 
التمثيل أن القاسي لا يؤثر فيه العم كما الحجر لا يؤثر فيه البلل. 

(؟) أي كبا لا يؤثر المزمار في الأموات. كذلك لا تؤثر الموعظة فيمن لا يرغب فيها . 

(1) كا أن الثوب القذر لا يطهره البول. كذلك امال الحرام لا تطهره الصدقة منه. 

(ه) سورة الأعراف» الآية 86 . 


١4م‎ 


و 


الْمَوْعظَةٌ الْحَادِيَةُ وَالثّلآنُونَ 


يَقُولَ الله تَعالَى: <بَابْنَ آدَمَ! بِقدْر مَيْلِكَ إلى الدنيَا وَمَحَبَتِي مِن 
قلبك 22 ., فَإني لا أَجْمَمْ حْبِيَ وَحُبّ الدّنيًا في قلب واحد أَبَداء يَابْنَ آدَم] 
توَرَعْ تَْرفْنِيء وَتَجَرّْ تراني, وَتَجَرَدْ لعِّادتي تَصل إلَي. وأخلص مِن الريّا 
عَمَلَكَ لبك مَحَبّتي وَتَفَرَعْ لزكري. أَذْكْرُكَ عند مَلاَنْكَتِي . يَابْنَ آدَمَ! 
في قليك غَيْرُ الله وَتَرْجُو غَيْرَ الله. إلى متى تقول الله تَعَالَى وَنَخَافَ غَيْرَ الله؟ 
وَلَوْ عَرَفْتَ حَفَا لَمَا هَمَّكَ غَيْرُ الله وَلَمْ تَحَفْ إلا الله وَلَمْ تَُثَرْ لِسَانك عَن 
ذِكْرٍ الله فَإِنَ الاسْتيْصّال عَنٍ الإصرار بتؤيّة الْكَاذْبِينَ. يَابْنَ آدَمَ! لَوْ خفت 
من النارٍ كَمَا خِفت من الفَقْرٍ لأغتيتك مِن حَبْثُ لم تَحتسبا. يَابْنَ آدَمَ! ولو 
رَعْبْتَ في الجَنة كَمَا تَرْغَبْ في الدّنيَاء أَسْعَدنك في الدَارَيْن » ولو ذَكَرتمُوني 
عبَادتي كما تُحِبُونَ الدّنْيًا لأكْرَمْتَكَمْ كَرَامَة الْمُرْسَلِينَ قلا تملأوا قُلُوبَكُمْ 
بحب الدنياء فَرَدالُهَا قَرِب». 


)١(‏ النير حنوف وتقديره: تكون مكانتك عندي. 


الْمَوْعْظَةٌ الثَّانيَةٌ وَالتّلآتَُونَ 

تقول الله تعاتى: طصِبْرّك عَلَى قليل من التنصية أن يْسَرُ عَلَيِكَ مِن 
صبْرك عَلَى كثير من عَذَابِ جَهْنْمَ. و إن عَذَابَهَا كَانَ اما 00 وَصلرّك 
عَلَى قَلِيل من الطّاعة 2 يليك راع بلرياة لها لحم ميم عبن آدم | علبك 
بالذقه ب عتبت لك كإل أن الم رفك لغارك «روارجد في الان مِن قَبْلٍِ 
أن أَزْهَدَ فيك. وَتَخَلْصْ مِن الشبهات قَبْل أن تَفْنى حَسَناتَكَ يَوْمَ الجتاب» 
وَاغْمُرْ قَلْبَكَ بذكرٍ الآخرة» فَلَئْسَ لَك سكن غَيْرُ القبْرٍ. يَابْنَ آدَمَ! مَنٍ 
اشتّاق إِلَى الْجَنّة سارّع إلى الْخَيْرَاتء وَمَنْ خَاف الثارَ كف عن الشرَّء وَمَن 
نَهَى نَفسَّه عن الشّهَّرَات تال الدّرجَات الْعْلّى. وَيَا مُوسَى بْن عِمْرَانَ! إذَا 
أصابَتك مُصِيبةَ وأنت عَلَى غَيْر طهَارة, فلآ تَلومَنَ إل تَفْسَك. يا مُوسى! 
المَقْرٌ مِنَ الْحَسَنات هُوَ الْمَوْتْ الأكُبَرٌ. يا مُوسى! مَن لَمْ يُشاورٌ نَدِم. ومَنٍِ 
اسْتَخَارَ لا يَنْدَمْ © . 


. 56 سورة الفرقان. الآية‎ )١( 


1١ 


الْمَوْعظّة الثَّالئَةٌ وَالتَّلآنُونَ 


بَقُولَ اله َعَاَى عت وجل طم طلب امم مله كان كََنْ ينل اماء 
عَلَى ظَهْرِهِ إلى الْجَبّل ‏ يَنالَهُ تعب وَالنَصَبُ ولآ يُقْبَلَ من عَمَلِهِ شَيْ#. وَكُلّمَا 
انَحَدَ بالْماء لآ يلين. يَابْنَ آدَمَ! اغَلَمْ أني لَمْ أَقْبَلَ مِن الْعَمَل إلا مَا كَانَ 
خَالِصاً لوَجهيء فَطُوبَى للْمُخْلِصِينَ! يَابْنَ آدَمَ! إِذَا رَأَيْت الْقَقْرَ مُقبلاً فقل: 
مَرْحَا بسعَائر الصّالحين » وَإذَا رأث الْغتى مقيلا فقل : ذُنُوبٌ عَجَلَتَ عُقَوبَةٌ 
وَإِذَا رَأَيْتَ الضف مَحْبُوساً هُنَاكَ فَقل: أَعُودُ بالله مِنْ الشَيْطَان الرّجِمٍ . يَابْنَ 
آدَمْ! الْمَالُ ِي» وَأُنْت عَبْدِيء وَالضَّئِفْ رَسُولِيء أمَا تَحْشَى أن أمْلبَك 
نِعْمَنِي ؟ الرّزق رزقيء والشّكْرٌ لَكء وَتَفْعَْة عَائِدَ عَلَيِكَء أقلآ تَحْمَدْنِي عَلَى 
مَا أَنْمَنْت عَلَيِْك؟ يَابْنَ آدَمَ! تلآث واجبّات عَلَيِْكَ: زَكَاةَ مَالِكَء وَصِلَة 
رَحِمِكَ, وَأمْرٌ عَائلَتِكَ وَأضيّافِك, فَإِذَا لَمْ تفعّل ما أُوْجَبْتَهُ عَلَيِْكَ جَعَلْتك 
نَكَالاً للْعَالمِينَ. آم إِذ َم تر حَقّ جارك عنما تع حَنّ تلك ل 
نظ إِلَئِكَء وَلَمْ أقبِل عَمَلَكَء وَلَمْ أتجب لِدعَائكَ. يَابْنَ آدَمَ! لا تتكل عَلَى 
00 مئلك فَأنْكلك إِلَيّْه ولا تَتَكَبّرْ عَلَى خَلْقِي فَإِنَّ ولك مِنْ تُطْفَة 
أي أخرَججتهر | بن تحرج البَوْل » مِن بين الصّلْب والتَرَائْب 20, ولآ تَنظر 
0-0 نت عَلَيِكَء فَإنّ الود أَوَل ما يَأكُلُ مِنْكَ عَيْنئِك؛ وَاغْلَمْ أنّك 


مَحَاسَب ب عَلَى النظرة وَالْمَحَبّة وَاذ كن مَقَامَكَ غدا بَيْنَ يَديّ. قَإني لا أغفل 
عَنَ سَرِيرَتِك طرفة عَيْن . إني عَلِيمٌ بذّات الصّدُورٍ © . 


)١(‏ قال تعالى في الآبتين 1 و/ من مورة الطارق: #خلق من ماء دافق. يخرج من بين الصلب 
والترائب » والترائب :عظام الصدر مما يل الترقوتين. الواحدة : تريبة . 


١1١ 


الْمَوْعظَهٌ الرَابِعَةٌ وَالتَلآَنُونَ 


يَقُولَ اله عر وَجَل: 8يَابِنَ آدَمَ! أُخْدّمني, فَإني أحِبْ مَنْ حَدَمَِيء 
وَأسْتَخْدمٌ لَهُ عبّادي, فَإِنَكَ لا تَدْري قَدْرَ ما عَصَيْتنِي فِيمَا مَضى من عُمْرِكَء 
وَل قَدْرَ ما تخصيني فِيمَا بَقِيَ منة؛ قلا تنتى ذكري. فَإِنَي فَمَّالَ لما أَرِيدٌ, 
َاعْبْنِي, فَإِنَْكَ عَبْدَ ذَلِيل وأنا رَبّ جليل. لَوْ أن إخوائك وَمُحِبِْيكَ مِن بَني 
آدَمّ وَجَدُوا رَائْحَةَ ذُنُوبك, واطَلَعُوا منك عَلَى ما أغلّمه منهاء لَمَا جَالَسُوكَ 
زلا قَاربُوك, فَحَبِف وَمِيَ في كُلَ يَوْمْ رَائِدَة وَعُمْرَكَ في كل يَرْم في 
نُقْصَان مُنْدْ وَلَدَئْك أُمُك! يَابْنَ آدَمْ! لَيْسَ مَن الْكَسَرَ مَرْكَبْهُ وَعَادَ عَلَى لَوْح 
مِنَ حَشَّبٍء وَأَحَاطَتْهُ الأمْرَاجُ في البخر بِأَعْظَمَ مُصيبة منك؛ فكن من ذَنُوبك 
على يقِين وَمِنْ عَمَلِكَ عَلَى خَطَرٍ. بَابْنَ آدم! إني أنْظْ إليْكَ بالْعَافية» وأستر 
عَلَنِكَ ذُنُوبّكء وأنا عن عَنكَ وأنت إِلَىَّ بِالْمَعَاصِي مَمّ حَاجِتِكَ إلي. يَابْنَ 
آدَمَ! ثداري إِلَى مَتى؟ تَعْمُرٌ الدّنْيًا وَهِي فَانية وَتَخْرُبُ الآخرة وهي بَاقِيْة. 
يَابْنَ آدَمَ! ثداري خَلْقِي وَتَحَافُهُمْ خَرْفاً مِنْ مَقْتِهِمْ. يَابْنَ آدَم! لَوْ أن أهل 
السسّمَوات والأرض اسْتَغْفَرُوا لَك لَكَانَ يَنبَني لَك أن تنِكي عَلَى ذُنُوبك, 
لأك لا تذري عَلَى أي حال تَلقانِي. يَا موسى بْنَ عِمْرَانَ! إسْمَعْ ما أقول. 
وَالْحَقَ أقُول: إِنَهُ لا يُؤِْنْ بي عَبْدَ مِن عتادي حَنَى يَأمَنَ النّاس مِن شر 
وَظُلْبِه وَكَيْدِهِ وَتَمِيمَتِه وَبَفْيِهِ وَحَسَّدِه. يَا مُوسَى» «وقل الْحَق مِنْ رَبَكُم قَمَنْ 
ثاة فلبؤين» ون شاه فيفر ,490 . 


. 59 سورة الكهف: الآية‎ )١( 


١11 


الْمَوْعِظَةَ الْخَامِسة وَالتثَّلانُون 


يَقُولَ الله عر وَجَلَ؛ : 9يابن آدع! نلك أسنبئت بين ينمتن » لا تاي 
أَيّهُمَا أعْظم ضدك. أذْنُوبُك الْمَستورةٌ عن النّاس 1 اعنام والْحْنْن عَلَيِك . 
وَلَوْ عَلِمَ الثاس منك ما أَعْلَمُهُ مَا سَلّمُوا عَلَيِكَء وَأَعْظم مِن ذَلِك الْعَافِيةً 
وَغْنَاكَ عَنْهُم وحَاجِتَهُمْ إِلَيِْكَ. وَكَفُ أَذَّاهُم عَنْكَ. فَاحْمَدْنِي وَاعرف قَدْرَ 


نغمتي عَلَِكَء وأخلص عمَلَكَ من الريّاءء وَتَرَرَدْ كَرَادِ الْمافِرٍ الْحَائف, 


وَاجْعَل خَيْرَك تخت عَْئيي . يَابْنَ آم ُلُوبكُمْ الْقَاسِيَةٌ تنكي من أَعْمَالِكُمْ. 
وَعْمَالكُمْ تنِكي مِن أَبْدَانِكُمْ داك تنكي من السنتِكم. وَآلْسِتَكْ تنكي 
0 21 مردى 


من أَغْيْنِكُمْ . يَابْن آدَمَ! حَرَائْني لا تَنْفَدَ أتداً» فبقدر ما ث: تنفق أنفق عَلَيِك, وَبِقَدْر 
ما تيك أنيك عَلَئِكَ, وإنّمَا ُحْنْكُ على الصتاكين بمَا رَرَفْتّكَ لِسُوه ظَنك 
َخَوفِكَ القفرء وَعدَم يق في لأني حقلت أمئل خَلقيكَ الاهتمام 
بالرزّق » إِذًا اهتسَمْت بالرزق, وَرَرْفْتَكَء فأنفق وَلآ تَبْخَل برِزْقِي على 
عبّادي. فَقَدْ فمنت لَك الْخَلَفْ, وَوَعَدْنَكَ الأَجْرَ فلم تَشْكُ في كتابي ؟ 
وَمَنْ لَمْ يُصَدّق بوَعْدِي , وَمَنْ لَمْ يُصَدّقَ بَأنْبيَائي , فَقَدْ جَحَد ربُوبيّتي. وَمَنْ 


لس شد بم اح 


جَحَدَ رَبُوبيتِي كَبَِتَهُ 20 في الثار عَلَى وَجْهه » . 


)١(‏ أو كببته. من كبا يكبوء أي : انكبّ وسقط على وجهه. 


١1 


فا 1 ودايدة 2 ل 0 2< 
الموعظة السادسة والثلاثون 
قَالَ الله تَعالَى: 9« يَابْنَ آدَمَ! أنَا الله لا إله إلا أنا فَاعْبدُونِي وَاشْكروا لي 
وَل تكفرون. يَابْنَ آدَمْ! مَنْ عَادَى لِي وليّاء فَقَدْ بَارَرَنِي بِالْمُحَارَبّة. وَاظْتَدَ 
عَضبِي عَلَى مَن ظَلَمَ مَنْ ليس لَهُ نامر غَيْرِي؛ مَنْ رَصِيَ بَمَا قَسَمْت له 
بَارَكْت لَهُ في رزقه, وَأَتنَهُ الدّنيًا رَاعْمَةَ وَإن كَانْ لا يُرِيدهَا ». 


الْمَوْعِظَةٌ السّابِعَةٌ وَالتَلانُونَ 


يَقُول الله عَرّ وَجَلُ: «يَابِنَ آدَمَ! ضع يَدَكَ عَلَى صرك قَمَا أحَببتة 
لتفيك. فَأحَبّهُ لِعَيْرِك. يَابْنَ آدم! جَسَدُكَ ضعيف, ولسانك خَفيف وَقَلْبْكَ 
ان آقم! غَايَتَكَ المؤت. فَاعْمَلَ آ لَه قَبِلَ أن يَأبِيك. يَابْنَ آدَمَ! لَمْ 
أخلّق عُضواً من أغضائك حَنَى خَلَقت لَه رزقا .ابن آدمَ! لو حَلَقَتَكَ أَبْكم”) 
لَتَحَسّرْت عَلَى البِصرء وَلَوْ خَلَقَئْكَ أصْمٌ لَتَحَمَّرْت عَلَى السَّمْم ؛ قاغرف قَدْرَ 
ممتي عَلَنِكَ, وَاشْكرْ لي ولا تَكْفُرْنِي. فَإلىّ الْمَصِيرٌ. يَابْنَ آدَمَ! ما قَسَمْيهُ للك 
فلا تَتَعَبْ في طبه ؛ وَكُل ما قَسَمْتَهُ لك فَهْوَ يَطْلَبَكَ حَنَّى تسلتوفية. يَابْنَ آدَم! 
لا تحلف بي كاذباًء فَمَنْ حَلَف بي كَاذِباً أُدْخَلْتَهُ الا . يَابْنَ 0 أكلت 
رْقِي» فَائعْ طَاغتِي يَبْنَ آذم! لا الي برق غَدٍ, فَإني لا أَطَالِبّكَ بِعَمَل 
غَدِ. يَابْنَ آدَم! رَضيت منك ِالْعَمَل القليل . وأنت لا ترْضى بالرّرق الك 
َاْنَ آدمَ! لَوْ تَركت النيا لأحد مِنْ عِبَاديء لَتَرَكْتهَا على أْبتائي حَتَى 
يَدْعُوا عبادي إلى طاعتي. وَإِلَى إقَامَة أمري. يَابْنَ آدَمَ! اغمّل لتفيك قبل 
رول المت بلك ولا َك اطي قن خلَى آثارها السَر"2. زلا تلك 


)200 الأبكم : العاجز عن الكلام خلقة ؛ وهو غير مناسب هنا . ولعله يريد و الأكمه؛ وهو الأعمي. 
(؟) السُفْر ( بفتح السين المعجمة وسكون الفاء): الأثر يبقى على الجلد . 


١1 


َحَبَاةٌ وَطُولَ الأمل عَن التَوْبة. فَإِنّكَ ننم على تأخيرها حين لا يَنْقَمْكَ 
لنّدّم. يَابْنَ آدَمَ! إذَا لَمْ تُخْرجٍ حَقَيّ مِن الْمال الذي رَرَفَْكَ إِيّاه وَمَتغت 
دم ! إن أرّذت رَحْمَتي قَالْرَمْ طَاعَتِي » وَإِنْ خشيت عَذَابِي فَاحْذَرٌ من 
مَعْصِيّتِي . يَابْنَ آدَمَ! إِذَا عَرَضت لك الدّنْيًا فاذكر الْمَوْتَء وَإِذَا هَمَمْتَ 
بالذئُوب فَاذْكر التَوْبَة وَإِذَا كَسَبْت الْمَالَ فَاذْكر الحسّاب, وإذا جَلَمْت عَلَى 
الطّمّام فَاذْكْر الجائم» وَإِذَا دَعَنْكَ نَفْسَكُ عَلَى الْقَدْرَة على الضّعيف فَاذْكرْ 
قدْرَةٌ الله عَلَيِكَء وَلَوْ شَاء لََلْطَهُ عَلَيِكَء وَإِذَا نَرْلَ بك تلآ فاستعن بلآ حَؤوْل 
وَل قُوَةَ إلا بالله الْعَلي العَظِم . وَإِذَا مَرضت فَمَالجَ نَفَْك امدق وَإِذَا 
أصابَنك مُصِيبَة فَقَل : إنَا له ونا إِلَنِْ رَاجمُونَ » . 


1١16 


هر عد رويك >5 سبوتيية م 
الموعظة الثامنة والتثلاثون 


يَقُولَ الله عر وَجَل: 9يَابْنَ آدَم! ْمل الخَر فَإِنَهُ مِفْاح الجنة ويَقُوهُ 
ِليْهَاء وَاجْتَبب الشرّ فَإِنَهُ مِفْمَاحٌ الثار وَيَقَودُ إِلَبْهَا. يَابْنَ آدَمَ! اعَلَمْ أن الذي 
بيه لِلْخَرَاب, أن عُمْرَكَ لِلْخَرَابِء وَجَسَدَكَ لِلتّرَاب, وَمَا جَمَمْتَهُ للْورتة؛ 
َالنْعِمْ لَِيْرِكَء وَالْحِنَابْ عَلَيِكَء وَلعِقَابُ لَك وَالنْدَمُ وَالصَّاحِبْ لَك في 
القَبْرٍ العَمَل؛ فَحَاسِبْ نَفْسَك قبل أن تحاتب, وَلْرَمْ طَاعَتِيء وَاحْذّر 
مَمْصِيّتِيء وَارْض بمًا اتَبتّك. وكن مِن الشاكرين. يَابْنَ آدَمَ! مَنْ أَذْنَب ذَنْبا 
رَهْرَ ضاحك. أَدْخَلْتهُ الثَارَ وَهُرَ بَاكِء وَمَنْ جَلَسَ باكياً مِنْ حَشْيتِي أُدْخَلبهُ 
الجَنةَ وَهْرَ ضاحك. يَابْنَ آدَمَ! كَمْ مِن عَني يَتمَنى الْفَقْرَ يَوْمَ حسابه. وكُمْ مِن 
جَبّارٍ أَذلَهُ الَؤت. وَكُمْ مِن خُلْوٍ مَرَرَه المّؤت, وَكْمْ مِن سَْرُورٍ بنعْمَيه 
كَدَرَهَا عَلَْهِ الْمَوتء وَكْمْ مِنْ فَرْحَة أُوْرَنَتَ حَزْناً طويلاً. يَابْنَ آدمَ! لَوْ تَعلَم 
البَْائِم ما تَعْلَمُونَ مِن الْمَوْتِء لآمتنعت مِن الأكل والشرْب حَنَى تَمُوت جوعاً 
وَعَطَشاً. يَابْنَ آدَمَ! لَوْ لَمْ يُقَدّرْ عَلَيِكَ إلا الْمَوْت وَشِدّته لَكَانَ يَجِبْ عَلَيِكُ 
أن لا تَهْدأ باللَّيْل , ولا تقر بالنهارء فَكَيْف وَمَا بَعْدهُ أَشَدّ من ؟ يَابْنَ آدم! 
الجمل سر بززاةك بمَا تال مِن النْعم في آخرتك. وَلْبَكُنَ أسَفْكَ عَلَى ما 
فاتك مِنها خَيْرَات. وَمَا آتيك من دُنْيَاكَ قلا تَفْرَحْ به. وَمَا فاتك مِنها قلا 
تأ عَلَيْهِ 9©. يَابْنَ آذَمَ! مِن الترَاب َلَقْتَكَء وَإِلَى الثرَاب أعِيدك, وَمِنَ 


الترّاب أَبْحَهُ بِعَنْكَء فَوَدّع الدنيًا وتَهيّا للْمَوت. وَعَلَمْ أنّي إذَا أحْبَيْت عَبْداً 


حرو ام مو #كل|) لا وى ر6ر م 0500017 و 78 0 ابو أت 
زوئت 9) عنه الدننا واستعملتة للآخرة » واريتة عيوب الدنيا فيتحذرهاء 
٠ 038‏ دعومو 


وَيَمْمَل بِعَمَل أهْل الْجَنّة قأذخلة الجن برَحْمَتم ؛ وَإذَا بَعْضْت عَيْداً أَسْعْلْتَه 


)١(‏ جاء في سورة الحديد , الآية +7 ٠‏ لكبلاً تَأمَوًا عَلَى ما فَانَكُمْ وَلآ تَهْرَحُوا بما آتاكُم». 
(؟) أي صرفتها ونحيتها. 


١15 


عَني بالدنيا وَاسْتَعْمَلْتَهُ بِعَمَلِهَا فَيكُون مِنْ أهل النَارٍ فََدْخْلَة الثار . ياب 
كل عُمْر فَان وَإِنْ طَالَ. والدنيًا كَفَىْء الطّلآل» [ يَمْكُتْ ] قليلاً 
قلا يَعُودُ إِلَنِك. يَابْنَ آدم! أنا الذي حَلَقْتَكَ وأنا الذي رزفتكء وأنا الَذْ 
أحَْيْتكَ, وأنا الّذِي أميئتك, وأنا الَذِي أَبْعتكَء وأنا الذي أَحَاسِبك, فَإِن 
الو ا ا اي 

. يَابْن أدَمْ! أطغني وَاخدمني وله تهتم م بالرزّق 3 فقَدْ : كَفَيْتَك مره وله 
5 يابن آدَمَ! كيف تخيل أمر شيو لَمْيُقَدٌ مت الك لَدَوَلَمْ 
تذركة, كَمَا أَنّكَ لَمْ تح تاب غمل. لم تشملة. بان 1237 من كان سيق 
الت فكَف يفرح بالدنيا؟ ومَنْ كان ينه القن ِف سه في به في قار 
اننبا ؟ َابْنَ آدّم1 رزق قليل وألت تاك عير ون كدير زوالت] غير شاكر. 
يَابْنَ آدَمَ ! خْيْرٌ مَالك ما قَدَمْتَهُ وش مَالِك ما خْلَفَةُ ف الدّنْيَاء ققدم لنفسك 
خَيْراً تَجِدهُ عندي قَبْلَ أن يَأَحْدَكَ اْمَوْت. يَابْنَ آدم! مَنْ كَانَ مَهْمُوماً» فَأنا 
الزي فَرَحْت هَمَّهُ وَمَنْ كان مُسْتَغْفِرآء فَأنَا الذي أَغْفْرُ لَهُء وَمَنْ كان تائياً, 
فَأنَا الّذي نَهِيتهُ وَمَنْ كان غَارِياً فَأنَا الّذي كُسَؤْنهُ. وَمَنْ كَانَ خَائفاً, فَأنَا 
الذي أمْنَ حَرْنَه وَمَنْ كان جَائماء فأنَا الذي أشْبمة. وَإذًا كَانَ عَبدِي عَلَى 


طاعتي وَأرْضى أمرئ: 2 ل لَه أمرَة وَشَدَدْت أزرة» وَشْرَحُت 0 يً 
مُوسَى ! سن فى وال الْفْقَرَاء واليتائي ا قد ته في الدّنيًا وَعَدَبنَهُ في 


مودو 


الآخرّة. وَمَنْ تَجِبّرَ على الفقراء والضتفاء عَْقَبت بتاءة الخرّاب. وأسكنتة 
النَآرَ ه إن هَذَا لَفي الصّحُفٍ الأولى, مد 00 


[ انتهى كتاب المواعظ في الأحاديث القدسية ويليه 
قانون التأويل ] 


)١(‏ سورة الأعلى, الآيتان م١‏ و18. 


1١ 1/ 


قانون التأويل 


لحيل 


يسم الله الرحمن الرحيم 


الحمد لله رب العالمين؛ والصلاة والسلام على سيدنا حمد المبعوث رحمة 
للعالمين, وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد : فقد سثل إلامام الزاهد أبو حامد عمد 
بن مد[ بن ممد] الغزالي الطوسي رحمه الله عن بيان معنى قول رسول الله عَته : 
« إن الشيطان يجري من أحدكى بجرى الدم20. هل هو ممازجة كالماء بالماء » أم 
هو مثل الااحاطة بالعود ؟ وهل هو مباشرته.للقلوب بتخايل من خارج تنقلها 
القلوب إلى الحواس فتثبت فيها فيكون منها الوسواس. أم يباشر جوهره جوهر 
القلوب ؟ وهل يمكن جمع بين ما رسمته النبوة من هذا الوصف . ومثله في ترائي 
الجن لبني آدم في صور الحيوانات, وفي أشكال سواها مختلفة. كترائي الملائكة 
عليهم الصلاة والسلام للأنبياء في صور بني آدم ؟ أم صورتهم على تلك الأمثلة 
فينكشف الغطاء عنها لمن قدر له رؤيتهاء ثم يحدث فيها كثافة جسمانية كبا 
أحدث في الملائكة ؟ . 

وهل من سبيل إلى الجمع بين هذا القول من الشرع في الجن والشياطين, وبين 
قول الفلاسفة إنها أمثلة وعبارة عن الأخلاط الأربعة التي في داخل الأجسام 
لتدبيرها . أم لا ؟ 


)١(‏ رواه البخاري في كتاب الاعتكاف. باب ١١‏ و١١‏ من حديث صفية أم المؤمنين عنه جاه 
بلفظ : « إن الشيطان يجري من الاإنسان مجرى الدم » وف لفظ له ه يجري من ابن آدم يحرى 
الدم ». ورواه مسم في كتاب السلام, حديث رقم 77 من حديث أنس رضي الله عنه عن النهي 
يكنم ولفظه فيه ٠‏ يجري من الإنسان» ورواه أيضاً بهذا اللفظ من حديث صفية, ورواه من 
حديث صفية أيضاً عن النبي عَِ بلفظ: ٠‏ يبلغ من الإنسان مبلغ الدم ». والحديث رواه أيضا 
أحد وأبو داود وابن ماجه والدارمي. 


1١1١ 


وما يظهر من المصروعين هل هو كلام الجني الذي يصرعه., أم هو لسان 
المصروع ببرسام يعتريه من شدة ما يناله منه؟ . 

وكيف إخبارهم بالغوائب التي في القوى ولم تخرج بعد إلى الفعل ؟ 
والطبيعيون يقولون في ذلك ما تعلمه من ثوران خلط السوداء وغلبته فيكون منه 
ذلك ويسمونه بخلط الريح . وهل بينهها علة جامعة أم لا ؟ 

وكيف امثل الذي أخبر به النبي لَه في إدبار الشيطان عند الأذان وله 
حصاص؛ هل أريد بذلك المثل كبا تقول العرب: مضرط الحجارة؛ وفلان 
يحدث من الشدة, أم يتصور في ذلك الوقت جسم يكون عنه الحصاص؟ فإن 
الشيطان بسيط على علمه لا يتغذى. فكيف يكون منه ما يكون من التغذي؟ 
وكيف يكون أيضاً الروث والعظم هم غذاء وقد يكون بالثم , والبسيط لا تصح 
فيه الحواس المركبة ؟ 

وكيف الحقيقة في البرزخ؟ وهل أهله من قبيل أهل الجنة, أم من قبيل أهل 
النار؟ فليس هناك منزلة تتصور إلا في الجنة والنار. وإن قيل إنه الفصل 
المشترك المعبر عنه بالسور الذي له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله 
العذاب, هل هو صحيح. أم هو غيره؟ 

ومن المستوجب للبرزخ؟ فإن من رجح ميزانه صار إلى الجنة ومن خف 
التوقيف إلى أن تنفذ له الكرامة, أو غلبته الشقاوة ؟ 
المعبر عنهم بالولدان أم الولدان صنف رابع غير الملائكة , وبني آدم والجن والحور 
العين نوع خامس . أم كيف همى وما صفتهم؟. 

وقد أفصح الكتاب أن عرض الجنة كعرض السماء والأرض. وفي هذا أيضاً 
ما يحتاج إلى النظر أن يكون السماء لها وعاء وظرف, ويزيد عرضها على عرضها . 


يفن 


وحوض رمول الله عَِِدّهِ هل هو في أرض الموقف أم هو في الجنة؟ والذي 
يظهر من الحديث أن من سبق له الفوز من النار شرب منه في شدائد الموقف قبل 
الفصل , وقبل الشفاعة ؛ وهل ماؤه من الجنة أو غيرها ؟ ولا يصح أن يكون من 
غيرها لقوله يِه : « من شرب منه شربة لم يظرأ بعدها أبداً »20 وهل يكون شيء 
من الجنة في الأرض؟ وهل لجميع الأنبياء عليهم السلام حياض.ء أم هو من 
خصائص نبينا عليه السلام مع الشفاعة ؟. 

فلينعم بالجواب المشروح عن هذه الأسئلة بطريق الاستيفاء , مثاباً متطولاً إن 
شاء الله تعالى . 

فقال يجيياً عنها : 

أسئلة أكره الخوض فيها والجواب. لأسباب عدة؛ لكن إذا تكررت المراجعة 
أذكر قانوناً كليًّا ينتفع به في هذا النمط وأقول: 

بين المعقول والمنقول تصادم في أول النظر وظاهر الفكر؛ والخائضون فيه 
تحزبوا إلى مفرط بتجريد النظر إلى المنقول. وإلى مفرط بتجريد النظر إلى 
المعقول. وإلى متوسط طمع في الجمع والتلفيق . 

والمتوسطون انقسموا إلى من جعل المعقول أصلاً. والمنقول تابعاً» فام تشتد 
عنايتهم بالبحث عنهء وإلى من جعل المنقول أصلا ء والمعقول تابعا. فلم تشتد 
عنايتهم بالبحث عنه. وإلى من جعل كل واحد أصلاً ويسعى في التأليف 
والتوفيق بينهه| . فهم إذن خمس فرق: 


)١(‏ جزء من حديث رواه الترمذي في صفة القيامة باب ١6‏ من حديث ثوبان عن النبي َه وأوله: 
ه حوضي من عدن إلى عبان البلقاء . مازه أشدّ بياضاًمن اللبن وأحلى من المل ٠»‏ الخ . قال 
الترمذي : هذا حديث غريب من هذا الوجه. ورواه الحاكم(ج 4 ص )١84‏ وقال: هذا حديث 
صحيح ولم يخرجاء. 


17 


الفرقة الأول : هم الذين جردوا النظر إلى المنقول؛ وهم الواقفون على المنزل 
الأول من منازل الطريق القانعون بما سبق إلى أفهامهم من ظاهر المسموع؛ فهؤلاء 
صدقوا بما جاء به النقل تفصيلاً وتأصيلاً. وإذا شوفهوا بإظهار تناقض في ظاهر 
المنقول وكلفوا تأويلاً امتنعوا وقالوا: إن الله قادر على كل شيء. فإذا قيل لهم 
مثلاً: كيف يرى شخص الشيطان في حالة واحدة في مكانين؛ وعلى صورتين 
مختلفتين؟ قالوا: إن ذلك ليس عجباً في قدرة الله, فإن الله قادر على كل شيء. 
وربما لم يتحاشوا أن يقولوا: إن كون الشخص الواحد في مكانين في حالة واحدة 
مقدور لله تعالى . 

والفرقة الثانية: تباعدوا عن هؤلاء إلى الطرف الأقصى المقابل لهم . وجردوا 
النظر إلى المعقول. ولم يكترثوا بالنقل. فإن سمعوا في الشرع ما يوافقهم قبلوه. 
وإن سمعوا ما يخالف عقوهم زعموا أن ذلك صوره الأنبياء . وأنه يجب عليهم 
النزول إلى حد العوام. وربما يحتاج أن يذكر الشيء على خلاف ما هو عليه. 
فكل ما لم يوافق عقولهم حملوه على هذا المحمل. فهؤلاء غلوا في المعقول حتى 
كفرواء إذ نسبوا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إلى الكذب لأجل المصلحة. 

ولا خلاف بين الأمة أن من جوز ذلك على الأنبياء صلوات الله عليهم يجب 
حر رقبته. وأما الأولون فإنهم قصروا طلباً للسلامة من خطر التأويل والبحث» 
فنزلوا بساحة الجهل. واطأنوا بها. إلا أن حال هؤلاء أقرب من حال أولئك» 
فإن تخلص هؤلاء عن المضايق بقوهم: إن الله على كل شيء قديرء ونحن لا نقف 
على كنه عجائب أمر الله؛ ومخلص أولئك بأن قالوا: إن النبي إنما ذكر ما ذكره 
على خلاف ما علمه للمصلحة. ولا يخفى ما بين المخلصين من الفرق في الخطر 
والسلامة . 0 

والفرقة الثالثة: جعلوا المعقول أصلاء فطال بحئهم عنه وضعف عنايتهم 
بالمنقول. فم تجتمع عندهم الظواهر المتعارضة المتصادمة في بادىء الرأي. وأول 
الفكر المخالفة للمعقول., فام يقعوا في غمرة الارشكال؛ لكن ما سمعوه من 


0 


الظواهر المخالفة للمعقول جحدوه وأنكروه وكذبوا راويه, إلا ما يتواتر عندهم 
كالقران, أو ما قرب تأويله من ألفاظ الحديث ؛ وما شق عليهم تأويله جحدوه 
حذراً من الابعاد في التأويل. فرأوا التوقف عن القبول أولى من الابعاد في 
التأويل. ولا يخفى ما في هذا الرأي من الخطر في رد الأحاديث الصحيحة 
المنقولة عن الثقات الذين بهم وصل الشرع إلينا . 

والفرقة الرابعة: جعلوا المنقول أصلاً. وطالت ممارستهم له فاجتمع عندهم 
الظواهر الكثيرة. وتطرفوا من المعقول ولم يغوصوا فيه. فظهر هم التصادم بين 
المنقول والظواهر في بعض أطراف المعقولات. ولكن لا لم يكثر خوضهم في 
المعقرل. ولم يغوصوا فيه لم يتبين عندهم المحالات العقلية؛ لأن المحالات 
بعضها يدرك بدقيق النظر وطويله الذي يتبني على مقدمات كثيرة متوالية. ثم 
انضاف إليه أمر آخر وهو: أن كل ما لم يعم استحالته حكموا بإمكانه. ولم 
يعلموا أن الأقسام ثلاثة: قسم علم استحالته بالدليل .وقسم عم إمكانه بالدليل» 
وقسم لم يعلم استحالته ولا إمكانه. وهذا القسم الثالث جرت عادتهم بالحكم 
بإمكانه إذ لم يظهر هم استحالته؛ وهذا خطأ. كمن يحكم باستحالته إذالم 
يظهر إمكانه؛ بل من الأقسام ما لم يعام إمكانه ولا استحالته. إما لأنه موقف 
العقل وليس في القوة البشرية الاحاطة به وإما لقصور هذا الناظر خاصة وعدم 
عثوره على دليله بنفسه وفقده لمن ينيهه عليه . 

ومثال الأول من حس البصر: قصور الحس البصري عن أن يعرف عده 
الكواكب أنه زوج أو فردء وأن يدرك عظم الكواكب مع بعدها على ما هي 
عليه. ١‏ 

ومثال الثاني. وهو القصور الخاص: قصور حس بعض الناس عن أن يدرك 
منازل القمرء وظهور أربع عشرة منها في كل حال. وخفاء أربع عشرة مقابل 
درج المنازل في الغروب والشروق, وغير ذلك مما وقف عليه بعض الناس بحس 
البصر دون بعض . كذلك يتطرق إلى إدراك العقل مثل هذا النوع من التفاوت . 


١” 


وهؤلاء لما قل خوضهم في المعقولات لم يكثر عندهم المحاللات. فكفوا مؤونة 
عظيمة في أكثر التأويلات, إذ لم ينتبهوا للحاجة إلى التأويل كالذي لم يظهر له 
أن كون الله بجهة محال, إذ استغنى عن تأويل الفوق والاستواء وكل ما يشير إلى 
الجهة . 


والفرقة الخامسة: هي الفرقة المتوسطة الجامعة بين البحث عن المعقول 
والمنقول. الجاعلة كل واحد منهما أصلاً مهمًا. المنكرة لتعارض العقل والشرع: 
وكونه حقا؛ ومن كذب العقل فقد كذب الشرع. إذ بالعقل عرف صدق 
الشرع؛ ولولا صدق دليل العقل لما عرفنا الفرق بين النبي والمتنبي؛ والصادق 
والكاذب؛ وكيف يكذب العقل بالشرع . وما ثبت الشرع إلا بالعقل . 


وهؤلاء هم الفرقة المحقة. وقد نبجوا منهجاً قوياً, إلا أنهم ارتقوا مرتقى 
صعباً. وطلبوا مطلباً عظياً. وسلكوا سبيلاً شاقاً؛ فلقد تشوفوا إلى مطمعما 
اعناف يز سيج بمسلكا با أدغرة .معزي الا ذلك دول يني ف بحن 
الأمور. ولكن شاق عسير في الأكثر . 


نعم. من طالت ممارسته للعلوم, وكثر خوضه فيهاء. يقدر على التلفيق بين 
المعقول والمنقول في الأكثر بتأويلات قريبة, ويبقى لا محالة عليه موضعان: 
موضع يضطر فيه إلى تأويلات بعيدة تكاد تنبو الأفهام عنها.ء وموضع آخر لا 
يتبين له فيه وجه التأويل أصلاًء فيكون ذلك مشكلاً عليه من جنس الحروف 
المذكورة في أول السور إذا لم يصح فيها معنى بالنقل. ومن ظن أنه سلم عن 
هذين الأمرين فهو إما لقصوره في المعقول وتباعده عن معرفة المحالات النظرية , 
فيرى ما لا يعرف استحالته ممكناً ؛ وإما لقصوره عن مطالعة الأخبار ليجتمع 
له من مغرداتها ما يكثر مباينتها للمعقول. فالذي أوصيه به ثلاثة أمور : 

أحدها: أن لا يطمع في الاطلاع على جميع ذلك؛ وإلى هذا الغرض كنت 


أسوق الكلام. فإن ذلك في غير مطمع . وليتل قوله تعالى : وما أوتيتم من العم 
إلا قليلاً» [الاسراء: 6 ]. 

ولا ينبغي أن يستبعد استتار بعض هذه الأمور على أكابر العلياء فضلاً عن 
المتوسطين. وليعام أن العالم الذي يدعي الاطلاع على مراد النبي عَلِنّهِ في جميع 
ذلك فدعواه لقصور عقله لا لوفوره. 

والوصية الثانية: أن لا يكذب برهان العقل أصلاً. فإن العقل لا يكذب, 
ولو كذب العقل فلعله كذب في إثبات الشرع., إذ به عرفنا الشرع. فكيف 
يعرف صدق الشاهد بتزكية المزكي الكاذب . والشرع شاهد بالتفاصيل . والعقل 
مزكي الشرع ؟ . 

وإذا لم يكن بد من تصديق العقل لم يمكنك أن تتارى في نفي الجهة عن الله 
ونفي الصورة. وإذا قيل لك ٠‏ إن الأعمال توزن» علمت أن الأعمال عرض لا 
يوزن فلا بد من تأويل. وإذا سمعت ٠‏ أن الموت يؤق به في صورة كبش أملح 
فيذبح ٠‏ علمت أنه مؤول؛ إذ الموت عرض لا يؤق به. إذ الاتيان انتقال ولا 
يجوز على العرض . ولا يكون له صورة كصورة كبش أملح؛ إذ الأعراضض لا 
تنقلب أجساماً . ولا يذبح الموت؛ إذ الذبح فصل الرقبة عن البدن, والموت ماله 
رقبة ولا بدن فإنه عرض أو عدم عند من يرى أنه عدم الحياة. فإذا لا بد مسن 
التأويل . 

والوصية الثالثة: أن يكف عن تعيين التأويل عند تعارض الاحتالات» فإن 
الحكم على مراد الله سبحانه, ومراد رسوله عَلتَهِ بالظن والتخمين خطر: فإنما 
تعلم مراد المتكام بإظهار مراده, فإذا لم يظهر فمن أين تعام مراده إلا أن تنحصر 
وجوه الاحتاللات ويبطل الجميع إلا واحدا فيتعين الواحد بالبرهان. 

ولكن وجوه الاحتالات في كلام العرب وطرق التوسع فيها كثير. فمتى 
ينحصر ذلك فالتوقف في التأويل أسام ؛ مثاله: إذا بان لك أن الأعبال لا توزن. 


١ / 


وورد الحديث بوزن الأعبال. ومعك لفظ الوزن, ولفظ العمل وأمكن أن 
المجاز لفظ العمل. وقد كنى به عن صحيفة العمل التي هي محله حتى توزن 
صحائف الأعبال. واحتمل أن يكون المجاز هو لفظ الوزن. وقد كنى به عن 
ثمرته وهو تعريف مقدار العمل إذ هو فائدة الوزن, والوزن والكيل أحد طرق 
التعريف؛ فحكمك الآن بأن المؤول لفظ العمل دون الوزن, أو الوزن دون 
العمل. من غير استرواح فيه إلى عقل أو نقل حكم على الله وعلى مراده 
بالتخمين. 


والتخمين والظشن جهل., وقد رخص فيه لضرورة العبادات والأعبال 
والتعبدات التي تدرك بالاجتهاد . وما لا يرتبط به عمل إنما هو من قبيل العلوم 
المجردة والاعتقادات, فمن أين يتجاسر فيها على الحكم بالظلن ؟ وأكثر ما قيل 
في التأويلات ظنون وتخمينات, والعقل فيه بين أن يحكم بالظن , وبين أن يقول: 
أعلم أن ظاهره غير مراد؛ إذ فيه تكذيب للعقل. وأما عين المراد فلا أدري ولا 
حاجة إلى أن أدري؛ إذ لا يتعلق به عمل ولا سبيل فيه إلى حقيقة الكشف 
واليقين؛ ولست أرى أن أحكم بالتخمين. 


وهذا أصوب وأسام عند كل عاقل. وأقرب إلى الأمن في القيامة؛ إذ لا 
يبعد أن يسأل في القيامة ويطالب ويقال: حكمت علينا بالظن» ولا يقال له ل لم 
تستنبط مرادنا الخفي الغامض الذي لم يؤمر فيه بعمل؟ وليس عليك فيه من 
الاعتقاد إلا الايمان المطلق. والتصديق المجمل. وهو أن تقول: #آمنا به كل 
من عند ربنا © [آل عمران: 7 ]. 


فهذه المطالبة في القيامة بعيدة. وإن كانت فالجواب عنها أسهل ؛ ولأجله قال 
الامام مالك رضى الله عنه لما سثل عن الاستواء : والاستواء معلوم . والكيف غير 
معقول. والايمان به واجب . والسؤال عته بدعة ». 


١78 


وبهذه الوصايا يستبين عذري في كراهيتي للجواب عن مثل هذه الأسئلة ؛ 
لكن مع هذا أوثر مساعدته في بعض ما أورده فأقول: 


أما قوله ينه : « إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم» فإشارة إلى 
سريان أثره في جميع باطن الإنسان كرا تجري أجزاء الدم وتسري في ججميع باطنه » 
وليس المراد أن جسمه يمازج جسم الانسان ممازجة الماء للباء ؛ وهذا قول عن 
تحقيق يطول شرح مقدماته وأدلتها عقلية. وأما كيفية مباشرته للقلوب فليس 
بتخايل يظهره الحسء فإني أصادف الوساوس في قلبي. ولست أتخيل شيئاً ولا 
أشاهده بعيني عند اختلاج الوساوس . وهذا الحكم مقدمات دليله أكثرها حسية ؛ 
بل الوسواس من الشيطان كالااهام من الملك . و نحن نصادف في قلوبنا خواطر 
مختلفة. إذ يدعو بعضها إلى اتباع الموى. وبعضها إلى مخالفته؛ وهذه خواطر 
مختلفة بدليل اختلاف مقتضياتها. وهي مفترقة إلى أسباب لأنها حادثة, 
والمختلفات أسبابها مختلفة, فسمى الشرع السبب الذي يحصل منه إهام ملكا 
والذي منه يحصل الوسواس شيطانا . والالهام عبارة عن الخاطر الباعث على الخير. 
والوسواس عبارة عن الباعث على الشر . والملك والشيطان عبارة عن أسيابها . 
وكا أن النار يستنير بها جوانب البيت ويسود بها أيضاً سقفه. فنعام أن النور 
يخالط السواد . ونعام ان سيبه مخالط لسبيه. وان سيب النور ضوء النار. وسيب 
السواد دخانه. فبذلك يعام أن سبب الوسواس غير سبب الاهام؛ نعم يبقى 
النظر في أن ذلك السبب عرض أو جوهر قائم بنفسه؛ وقد ظهر أنه ليس 
بعرض بل هو جوهرء فبقي النظر في أنه حي أو ليس بحي . وظهر أيضاً أنه حي 
بأدلة شرعية , وللعقل أيضاً فيه مدخل ما . 


فأما قول الفلاسفة والطبيعيين إنه الأخلاط. فهو جهل محض. لأن تأثير 
الأخلاط لا يعدو مقتضى الطبائع الأربع من الحرارة, والبرودة. والرطوبة. 
واليبوسة. والخواطر . والاعتقادات. والعلوم لا يحوز أن تكون من آثار الطبائع 


اخدل 


التي هي أعراض جمادات., بل هي نازلة من فوق الأرضيات بالرتبة؛ فينتج أنه 
جوهر غير متحيزء أو هو جسم متحيزء ويمنع أن يوجد غيره بحيث هو لطيف 
كالهواء , وكثيف كجسم آخر . وهذا النظر في الملك والجن, والشيطان؛ فذهبت 
طائفة إلى أن كل ما هو قائم بنفسه جسم. ووصفوا به.الخالق, تعالى الله عن 
قوهم. إذ لم يعقلوا إلا جسما. 

وقالت طائفة: كل قائم بنفسه جسم إلا الله تعالى. وأحالوا أن يكون في 
الوجود سواه جوهر قائم بدفه لا يتخيل. 

وقال قوم: إن الملك والجن والشيطان» كل هؤلاء جواهر حسية قائمة بنفسها 
وليست بأجسام ولا متحركات؛ وإنما استعمال النزول والانتقال والمجيء 
والذهاب عليها استعارة كما في حق الله؛ بل ثار هذا الخلاف بينهم أيضاً في 
الجوهر العالم المدرك من اللإنسان. فقال قوم: هو جزء لا يتجزا ولا يتحيز . فلا 
هو داخل البدن, ولا هو خارجه. ولا هو متصل. ولا هو منفصل ؛ بل لا يجوز 
عليه هذه الصفات. ولست أذكر ما انكشف لي فيه فإن الصورة المجملة لا 
تفيد كشفاً بل تقليداً ؛ ولست بالتقليد أولى من غيري, ولا منفعة في التقليد في 
المعقولات. وأما كشفه ففيه طول. ولو لم يطل أيضاً لكان الاقتداء برسول الله 
يَنهِ في الكف عن ذكره أولى . وأنه لم يذكر سر الروح وهذا بحث عنه. فلا 
ينبغي أن يزاد عليه في الإيضاح . 

وأما ما شاهده الأنبياء والأولياء من صورة الملائكة والشياطين فهي في الأكثر 
أمثلة تنافي معانيها وتقوم مقام مشاهدة عين المعاني. كما يرى الأنبياء في المنام 
ويستفاد منهم؛ وإنما المشاهد في المنام مثلهم. فأما أشخاصهم فم تنتقل عن 
مواضعهم . فذكرت تفصيل ذلك في كتاب و عجائب القلب 6. وكذلك القول 
في الجن ؛ ولذلك ترى صوراً مختلفة؛ إذ التمثيلات لا تنحصر وجوههاء كما أن 
من يرى النبي عَلِنَهِ لا يراه على صورة واحدة. إلا أن هذه التمثيلات تكون 


للأنبياء والأولياء في اليقظة. ولغيرهم تكون في المنام فقط . وفي الصحيح أن النبي 
عله م ير جبريل على صورته إلا مرتين 27 مع كثرة رؤيته له في كل حين. 
وأما الكلام المسموع من المصروع فهو كلامه, وقول القائل تكلم الجني بلسانه 
كلام غير معقول. نعم, الجن سبب لوقوع خواطر وتمثيلات وخيالات في قلبه, 
تنبعبثُ بسسه داعية الكلام والحركة؛ وكلامه مثل كلام النائم , والنائم هو المتكلم 
لا غيره. وأما إخبار المصروع بالغيب فسببه أن جميع ما كان وما يكون مسطور 
ثابت في شيء خلقه الله؛ تارة يسمى لوحأء وتارة إماماً. وتارة كتاباً. كما قال 
الله تعالى : 8 في كتاب مبين4» [ الأنعام: 09 يونس: 31 » هود : 1 ., النمل: 
0 سبأ: ©] وظ في إمام مبين» [[ يس: ١7‏ ]. وثبوت الأشياء فيه كثبوت 
القرآن في دماغ الحافظ للقرآن. وليس مثل الرقوم المكتوبة المرتبة في جسم متناه؛ 
لأن غير المتناهي لا يمكن أن يكتب في المتناهي كهذه الكتب الظاهرة. والقلب 
مثل مرآة. واللوح مثل مرآة. ولكن بينهما حجاب. فإذا ارتفع تراءى في القلب 
الصور التي في اللوح. والحجاب هو الشاغل, والقلب في الدنيا مشغول. وأكثر 
اشتغاله التفكر فيا يورده الحس عليه؛ فإنه من الحواس في شغل دائم. فإذا 
ركدت الحواس بالتوم أو الصرع. ولم يكن من فساد الأخلاط شاغل آخر في 
الباطن. ربما يرى القلب بعض تلك الصور المكتوبة في اللوح؛ ومحقيق هذ 
يطول. وقد أشرت إلى ملامح منه في كتاب وعجائب القلب:. وكذلك ما 
يظهر عند سكرات الموت حتى ينكشف للإنسان موضعه من الجنة فيكون 
يشرى. أو من النار والعياذ بالله فيكون نذيراً ؛ لأن الحواس تركد في مقدمات 
الموت قبل زهوق الروح. 
(1) عن عائفة رضي الله عنها أنها سألت رسول الله ينه عن الآيتين طش ولقد رآه في الأفق المبين» 
«ولقد رآه نزلة أخرى» فقال َه : إنما هو جبريل ل أره على صورته التي خلق عليها غير 


هاتين المرتين: رأيته منهبطاً من السباء ساذاً عظم خلقه ما بين السباء والأرغي». رواه مسلم في 
كتاب الإيمان, حديث رقم 7417 . 


ضرن 


وأما حديث غذاء الشيطان من العظم. وحصاصه, وحديث الحوض. والبرزخ 
فا عندي في تفصيل المراد به تحقيق؛ بل بعض ذلك مما أوصي بالكف فيه عن 
التأويل . وبعضه مدركه النقل المحض.ء وبضاعتي في عم الحديث مزجاة227 
فموضع الحوض لا يعرف إلا بمجرد النقل فليرجع فيه إلى الأحاديث. 
والبرزخ 7 يمكن أن يكون المراد به مرتبة بين الجنة والنار لمن ليست له حسنة ولا 
سيئة؛ كالمجنون, والذي لم تبلغه الدعوة. والحكم بأن المراد إحداههما هون 
الأخرى تخمين إلا أن يدل عليه النقل, والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب. 


[ انتهى ] 


. مزجاة: قليلة. وفي التنزيل العزيز : # وجثنا ببضاعة مزجاة»‎ )١( 

(؟) ورد لفظ البرزخ في الآية ٠٠١‏ من سورة ٠‏ المؤمنون»: «إومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعئون» 
وفي الآبة ٠٠١‏ من سورة الرحمن :فا بينها برزخ لا يبغيان» وفي الآية 8٠‏ من سورة الفرقان 
« وجعل بينهها برزخاً وحجراً محجوراً ». 


درن 


المنقذ من الضلال 
الموضوع 
تقدم 
المدخل 0000 
مداخل السفسطة وجحد العلوم اا ا ا 
القول في أصناف الطالبين ا 1 


أصناف الطالبين أربعة: المتكلمون والباطنية والفلاسفة والصوفية 
-١‏ عام الكلام : مقصوده وحاصله 


؟ - الفلسفة 1 1 110 
أصناف الفلاسفة واتصاف كافتهم بالكفر 11 1 5777011 
الصنف الأول : الدهريون 00000 
الصنف الثاني : الطبيعيون 0 


الصنف الثالث : الالهيون 


ا ا ا 1 1 ا ا الى لك 


فاوووو و ووه وم ف و فو هم ف وو ووو ووو م لوو اوه 


اوفقوو ووو وم وو ووو ووو وو ووو ويه ووو وله موه 


تفنيد حجتهم في الحاجة إلى مع 11[ 000000 


الرد على قولهم: كيف تحكمون فما لم تسمعوه از[ 00000 
سؤالان لحم والرد عليهها 010 ااا 
الكتب التي ذكر فيها الغزاللي فساد مذهبهم ب ما ا 
4 > طرق الصوفية 111[ [ز[ز[ [  [‏ [ 0000000 
تحصيل علمهم من مطالعة كتبهم لخ سام ل ما ا اه 
أخص خواصهم لا يمكن الوصول إليه بالتعام بل بالذوقو الحال 

وتبدل الصفات و1 ل و هه 
الصوفيون أرياب الأحوال لا أصحاب الأقوال 7 0000 
طرائق الصوفية 36-7 
حقيقة النبوة واضطرار كافة الخلق إليها لون و له 
الشك في النبوة إما أن يقع في إمكانها أو في وجودها ووقوعها أو في 

حصوها لشخص معين ااا 
النبوة لا تدرك إلا بإلهام إلى ولا سبيل إليها بالتجربة ل 
من خواص النبوة ما يدرك بالذوق من سلوك طريق التصوف 5 
سبب نشر العام بعد الاأعراض عنه للم م ل ا ا 371 
أسباب ضعف إيمان الخلق أربعة 7 


كتاب المواعظ في الأحاديث القدسية 


خطبة الكتاب 1 
الموعظة الأولى اا د تس الح نكم اس ا ا ا 2 
الموعظة الثانية ا 1 
الموعظة الثالئة 00 
الموعظة الرابعة م عطق أطخا ا عم طفق وه لا م ف ع ا ا ا رخ 


5 


الموعظة السادسة 0 0 000 0 0 23 
الموعظة السابعة و او ا و ا اي 


الموعظة الثامنة 000 


الموعظة العاشرة 008ظ 
الموعظة الحادية عشرة .... 
الموعظة الثانية عشرة 5 
الموعظة الثالثة عشرة 3 
الموعظة الرابعة عشرة .... 
الموعظة الخامسة عشرة ... 
الموعظة السادسة عشرة ... 


الموعظة العشرون 5 
الموعظة الحادية والعشرون 
الموعظة الثانية والعشرون . 
الموعظة الثالثة والغشرون . 
الموعظة الرايعة والعشرون 
الموعظة الخامسة والعشرون 
الموعظة السادسة والعشرون 
الموعظة السابعة والعشرون 
الموعظة الثامنة والعشرون 


ما واوفو وهو مو م وريه رم ووم ور هاوه للع ووو وه دوه وو دوو 


وففوار ةم ووم وموم ووو وو وو واااو ووو و5 


واف و ةا ملو وو وااو ووو وو وو وول ود و66 


لوفو فو موف وو ووم وو وهو واااو و ووه ووو و ةدو 6و6 


لمم فو مو ورموة نع وم و و وي ووو و نوم من ووو و ةو م وروم م ووم م موث مم5 


هوهو ةوقو وو وو وه ووه ووو ووه ووو ووو م ووه ونم ووو ووه 


مفوف م م وو ووو و ف ووو و ووو مو ولو ووو 


ووو فقو هو و ووه و الولو 50 
1111 ا ال ا ا الا ا ل لل للا لين كا 
قفومو مف وم واو اوم ووو مو واو ولع و5 


اا ا ا لل ل الل ل لي ا نا 


وفمفوقه ووو وو وو ووو ووو لع وو ووو ووو جولو و6 
ومو وام ة وو مه مو مم ووه ثم وو م ممه يه ف ومن ةو هايمو مو ةم مثو و وي نمه 
ا ا ا ا الل لل ل ااا ان 

واوفوهة فور مو م ومو ووو ووو ووو ووو ووو ووو و66 


1خ ا ا ا 1 1 ا 1 1 ااا الل نا 


مومهو وو وف ووو مو ووو وه ووو ووو ووه نحو ووو وو ون دو نوه 


واوه مه ووو فيه و ووم دوو ع ووو ووم ووو وو وو ووو ووو 


١م‎ 


الموعظة التاسعة والعشرون 11[ ا 0 


الموعظة الثلاثون ماح سن س6 سود اال ووو موا 
الموعظة الحادية والثلاثون طلخا ةنا نم لان لفان مام رو ود ا 
الموعظة الثانية والثلاثون 0 
الموعظة الثالثة والثلاثون اا 000 
الموعظة الرابعة والثلاثون جل 
الموعظة الخامسة والثلاثون السو و ال ١‏ 
الموعظة السادسة والثلاثون ع ا 
الموعظة السابعة والثلاثون 000000 ١11‏ 
الموعظة الثامنة والثلاثون 0 ا 
كتاب قانون التأويل 
انقسام الخائضينفي التأويل إلى خمس فرق ا ا 
الفرقة الأولى محا ارو ا و صو ار ا ا ١117‏ 
الفرقة الثانية ااا 
الفرقة الثالئة اتقو او جطاة اسيسي اعد ااا ا 111 
الفرقة الرابعة 11[ اا 
الفرقة الخامسة ا[ ا 
ثلاث وصايا للخائضينفي التأويل اش كيفنل 
تفصيل جوابه على بعض المسائل التي سئل عنها 1م1١‏ 
الفهرس 1 1 1[ 01 ااا 


وين